عبد الهادي الأعظمي الندوي
مقدمة
نشأ في شبه القارة الهندية كثير من الشعراء الذين قرضوا الشعر العربي الرصين، على الرغم من كونهم من الأعاجم، وبُعدهم عن بلاد العروبة، إلا أنهم لشغفهم بالآداب العربية وتضلعهم منها اقتحموا المجال الشعري أيضا، وخلفوا لنا آثارا بديعة في صورة دواوين شعرية رائعة. ومن هؤلاء الشعراء الكبار الأستاذ عبد الرحمن الكاشغري الندوي (1912-1971م)، ولم يكن هندي المولد، ولكنه يُعَدُّ من الشعراء الهنود، لأنه عاش في الهند وقضى أكثر حياته فيها. وقال الأستاذ مسعود عَالَم الندوي في مقدمته على ديوان الزهرات للكاشغري: “وإنما عددناه من بين شعراء الهند، مع كونه تركي المنبت، لأنه أصبح هنديا، بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من فكرة أدبية ومنزع قومي ونزعة سياسية. دخل الهند، وهو يافع، يطلب العلم، وانخرط في سلك دار العلوم التابعة لندوة العلماء، ومكث بها برهة من الزمن يلابس أهلها، يتشرب أفكارها ويستفيد من معلميها، حتى ملأ منها عينه، فملأ منها الأرض وأشاد بذكرها طربا، ثم ألقى بها عصاه يروي الطلاب من معين أدبه، ويسقيهم من منابع علمه، وأصبح لا يقدر على فراقها لطول العشرة، تمكن الألفة وملاءمة البيئة.”[i]
موجز عن سيرة عبد الرحمن الكاشغري الندوي
هو أبو الزبرقان عبد الرحمن الكاشغري الندوي بن المولوي عبد الهادي، كاتب وشاعر وأديب ولغوي. ولد بـ كاشغر (الواقعة الآن في الصين) في 15/سبتمبر سنة 1912م، وسافر إلى الهند والتحق بدار العلوم التابعة لندوة العلماء عام 1922م، وتخرج فيها سنة 1931م. كما حصل على شهادة الفاضل (في الأدب) من جامعة لكناؤ، وشهادة القراءات السبع من المدرسة الفرقانية بلكناؤ. وبعد إكمال دراسته، تولى مناصب عدة تعليمية وإدارية، فعين سنة 1931م مدرسا في دار العلوم لندوة العلماء، ودرّس فيها سبع سنوات. ثم عُيّن في 26/أبريل 1938م أستاذا في قسم الفقه وأصوله بالمدرسة العالية بكلكتا، وظل يدرس فيها إلى استقلال الهند عام 1947م. ولما انتقلت المدرسة العالية سنة 1947م إلى داكا (الواقعة آنذاك في باكستان الشرقية، والآن في بنغلاديش)، انتقل معها إلى داكا، واشتغل بالتدريس فيها، وتولى عدة مناصب إدارية فيها. توفي في داكا في أواخر مارس سنة 1971م، رحمه الله رحمة واسعة. وخلف دواوين ومؤلَّفات ورسائل رائعة في اللغة والأدب. وله إسهامات جليلة في اللغة العربية وآدابها في شبه القارة الهندية. ورثاه تلميذه الأديب اللغوي البارع الأستاذ أبو محفوظ الكريم المعصومي بقصيدة رائعة. [ii]
ومن آثاره المطبوعة[iii]:
(1) الزهرات. طبع سنة 1354هـ.
(2) المفيد (معجم مدرسي، الجزء الأول: عربي – أردو، والجزء الثاني: أردو – عربي).
ومما لم يطبع[iv]:
(1) المحبر في المؤنث والمذكر أو المجمهرات في المؤنثات والمذكرات.
(2) ديوان ابن مقبل العجلاني (تحقيق وتخريج الأبيات).
(3) إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء للشاه ولي الله الدهلوي (تعريب وتنقيح وتخريج).
(4) نقد الشعر لقدامة بن جعفر (تحقيق وتنقيح وتصحيح).
(5) أمثال اللغتين.
(6) الإلماع بما في كلام العرب من الإتباع.
(7-8-9) مجموعة ثلاث رسائل لغوية: (أ) كتاب الأسد وكناه (ب) كتاب الذئب وكناه للصغاني، (ج) نظام اللسد في أسماء الأسد للسيوطي (حقق نصوصها وعلق عليها).
(8) العبرات (ديوان شعره).
(9) الشذرات (ديوان شعره).
شعره:
كان الكاشغري شاعرا قادرا جيد القريحة، وله ثلاثة دواوين شعرية، وهي: الزهرات (مطبوع)، والشذرات (مخطوط)، والعبرات (مخطوط).
أما ديوانه “الزهرات” فقد طبع أول مرة في آخر سنة 1354هـ في لكناؤ، أيام كان الكاشغري معلما في دار العلوم لندوة العلماء، أهداه إلى العلامة السيد سليمان الندوي، وقدم له الأستاذ مسعود عالم الندوي مقدمة مسهَبة تحتوي على 25 صفحة، عرّف فيها أولا الشعر العربي، وسلط الضوء على أهميته ومكانته لدى العرب عبر العصور، وأن الشعر العربي ليس بخاص لبلد عربي أو منطقة جغرافية، ثم ذكر أن بلاد الهند “من جملة البلدان السعيدة التي وطأت أدميها أقدام المجاهدين والتجار من العرب، إلا أنهم لم يمتد بهم زمن حتى انصرم الحبل وانقطعت الصلة، فلم يكن للغة العربية المحل الذي كنا نتمناه، وما نبغ فيها من شعراء العربية المطبوعين إلا نزر قليل، وذلك في عهد العرب في السند، أما الأقطار التي ما دخلها العرب الغزاة واستولى عليها شعوب من المغول والترك والأفغان، فلا تسل عما كان فيها من نصيب لغة القرآن وانتكاس رايتها، وتقلص ظلها وتغلب الفارسية عليها، وأما الذين اشتغلوا بها في تلك الديار وثابروا على دراستها مع جفاء الزمان لهم وتسنى لهم أن يُنشئوا شيئا في اللغة العربية، فلم تكن كتابتهم إلا كما قال الشاعر:
سرت لوثة الإعجام فيها كما سرى – لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة – مشكّلة الألوان مختلفات”[v]
ثم استثنى منهم “بعض الأفذاذ الذين أرادوا أن يلجوا الدار من أبوابها، فسافروا إلى بلاد العرب وانكبوا على دراسة هذه اللغة الكريمة، حتى برعوا فيها، وتضلعوا منها، وكان لهم الشِّقْص الأوفر فيها، كالسيد مرتضى الزبيدي البلگرامي، والشاه ولي الله الدهلوي، ونحوهما إن كان لهما نحو.”[vi]
ثم ذكر أنه إذا كان ذلك حال الكتابة النثرية، فماذا عسى أن يكون عليه شعرهم، “فكل ما تعثر عليه من شعر هؤلاء ومنظوم كلامهم، لا تجد شيئا منه يتعدى وزنا وتفعيلا وتقفية، ولا يقع نظرك على شيء أسمى طبقة من البدائع والمحسنات اللفظية.”[vii] وذكر نماذج من شعر الشعراء الهنود، أمثال مسعود بن سعد بن سلمان، وعبد المقتدر الشريحي الدهلوي، وأحمد التانيسري، وعبد الجليل البلكرامي، وطفيل بن شكر الله الحسيني، والشاه ولي الله الدهلوي، وغلام علي آزاد البلكرامي، وفضل حق الخير آبادي، وفيض الحسين السهارنفوري. ثم ذكر أسفه على أن الهند “قد حرمت أقدامَ الناطقين بالضاد واستولت عليها أخلاطٌ من أقوام شتى، فلم يرتفع فيها للعربية شأن، ونزلت الآداب العربية من الانحطاط والتقهقر منزلةً، لم يتمكن للمصلحين النهوضُ بها للآن، مع جهودهم المتتابعة منذ نصف قرن.” [viii]
ثم ذكر أن الآداب العربية في الهند ما زالت خافضة الرؤوس ناكسة الأعلام وذلك لتهاون الحكومات الإسلامية في أمرها، وانصراف الهمم إلى لغة الفرس، ولكن في آخر القرن التاسع عشر والعشرين قامت جماعات لإحياء الآداب العربية في الهند -وفي طليعتها “ندوة العلماء” – وبدأت تثمر جهودهم الآن. ثم تحدث عن الكاشغري وشعره، وذكر أنه مع كونه تركي المنبت، جدير بأن يُعَدّ من الشعراء الهنود لأنه أصبح هنديا بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من فكرة أدبية ومنزع قومي ونزعة سياسية، وأنه دخل الهند وهو يافع، يطلب العلم، ثم ألقى بها عصاه.
ثم ذكر الأمور التي ساعدت في تكوين شخصية الكاشغري قائلا: “الكاشغري تركي المنبت، ينزع به عرق إلى القواد الذين دوّخوا العالم وقهروا الأرض، وحكموا على بلاد العالم ما شاء الله أن يحكموا، ونشأ في بلاد لا تزال مستمسكة بمبادئ الإسلام، معتزة بمآثره و مفتخرة بأمجاد السالفين، متطلعة إلى استرداد العز الغابر والمجد التالد، واتصل برجال من أعلام الجهاد الإسلامي في الهند ولبسهم برهة من الزمن واقتطف من أفكارهم فاتقدت نفسه الشاعرة غيرة على دينه وقومه وآدابه القومية، ونضجت أفكاره، وأضف إلى كل ذلك بيئتَه الخاصة التي ترعرع في مهدها، وتربى في حضنها، ونشأ في ظلالها، فقد أمضى فيها من عمره خمسة عشر عاما، يسمع أنين البائسين، وشكوى المنكوبين، ويدرس أحوال الأمة ويطلع على أخبار الشعوب الإسلامية، فنشأ الكاشغري بطبيعة الحال مفطورا على حب الإسلام، غيورا على بقايا أمجاد السلف، ناقما على المعتدين عدوانهم، متوجعا لآلام المسلمين، متمنيا لهم الفوز والاستقلال، وترى نفَسَه ظاهرا في كل لفظة نطق بها وفي كل كلمة فاضت بها قريحته.”[ix]
ثم قام الأستاذ مسعود عَالَم الندوي بنقد وتحليل بعض قصائد الكاشغري وشخصيته وأفكاره، ونوه ببعض أعماله العلمية الجليلة التي لا تزال مخطوطة، واعترف بفضله في مجال اللغة والأدب.
*******
ويحتوي ديوانه “الزهرات” على 110 صفحة، وفيه عشرون قصيدة، اثنتان منها “إلى شباب العالم المحمدي” و”جبل همالا” عبر فيهما عن أفكار الشاعر محمد إقبال، وثلاث منها في مدح العلامة السيد سليمان الندوي رحمه الله، والقصائد الأخرى قيلت في مناسبات مختلفة كالترحيب بالضيوف والوفود، وحفلات وأحداث ووقائع مختلفة، أكثرها سبق نشرها في مجلة الضياء الشهرية التي كان يصدرها الأستاذ مسعود عَالَم الندوي من ندوة العلماء.
أما “الشذرات” و”العبرات” فلم أعثر عليهما.
أما بالنسبة لآراء كبار الكتاب والناقدين في شعره، فقال الأستاذ أبو محفوظ الكريم المعصومي (1931-2009م):
إذا قرض الشعر الرصين حسبته – أخا بحتر يشدو بأروع مسهب[x]
وقال الأستاذ مسعود عَالَم الندوي (1910-1954م) في مقدمته على ديوان “الزهرات”:
«أما لغة الشاعر، فنقية محكمة، لا تشوبها عجمة ولا ركاكة، وذلك أنه حفظ في عهد الطلب ألوفا من أبيات الشعر العربي القديم وكلام العرب الخُلص، ولذلك تجد في شعره مسحة من البلاغة العربية ووشيا من الطراز القديم.» [xi]
وقال أيضا:
«فإن له شعرا رصينا نقيا في العربية، نزاعا إلى القومية، طموحا إلى المجد، وذلك مما ينبئ عن مستقبل حسن للغة القرآن في الهند.» [xii]
أغراض شعره ونماذج منه:
ونراه يتفنن في القول تفننا، ويقرض الشعر في كل من الفخر والمدح والنسيب، والحنين إلى الوطن وغيره. وفيما يلي أبيات من قصيدة “إلى شباب العالم المحمدي” التي عبر فيها عن أفكار الشاعر محمد إقبال(1877-1938م)، وهي من أروع قصائده، وتدل على قوة بيانه وقدرته على التعبير:
ألا فاسمعوا رنات خل مصادق — سليم دواعي الصدر غير مماذق
وأحلف بالله الذي هو خالقي — أنكب عن فعل المكور المسارق
لقد علموا أن جاب شعري مواطنا — أذكر فيها أنني جِد صادق
إذا قلت شعرا طار صيتا وسمعة — من الهند حتى حف جل الخلائق
جدير بأن يروى ويتلى على الذي — تقاعس عن مجرى المذاكي السوابق
فما الشعر إلا لفظة بعد لفظة — وأجزاء صوت لا يساوى بدانق
إذا لم يكن في طيه نور حكمة — يبين في الظلماء أهدى الطرائق([xiii])
ويردف قائلا:
نصيبك ملأعمال يا أيها الفتى — مقال بلا جدوى وهدر الشقاشق
دع القول واعمل، واجهد النفس وانتبه — من الرقدة الكبرى التي لم تفارق
وأسلافنا الماضون قد نصبوا لنا — منار النجاح في المدى المتضائق
تأسّ بهم والفرق باد وظاهر — كما بين أنجاد الفلا والشواهق[xiv]
ثم يقول:
ألهفي لقد ضاعت مآثر جمة — يبكي عليها كل قال ووامق
وأنزلنا الدهرُ الغشوم بحكمه — على مضجع ذي قضة لم يوافق
وهبت على آثار عمرو وخالد — أعاصير قد أودت بأجبال طارق
فلا تسأل الدولات أين مقرها — تفانت بما تقضي قوانين خالق
ولكن أوربا حوت كل نافع — بما كتبت أيدي الكرام الأصادق
فذلك هم باهظ آلف الحشى — إذا ما رآه ناظِرَا كلِّ حاذق[xv]
الحنين إلى الوطن: كان الكاشغري – كما سبق ذكره – تركي المنبت، ولد في كاشغر بتركستان الشرقية، ثم هاجر إلى الهند، وعاش فيها منعزلا عن أسرته، ولا ندري أنه عاد إلى وطنه فيما بعد، فكان يسمع ويقرأ ما أصيبت به كاشغر من مصائب وبلايا على أيدي القوات الصينية، فيضطرب قلبه ويقلق، وربما فاضت قريحته بالشعر الرصين مرتجلا، فمن شعره في الحنين إلى وطنه:
إلى منبت الأتراك غُر السلاهب — إلى معقل الأبطال حُمر القواضب
إلى مصرع الفادين للدين والعلا — وللمكرمات الباقيات الرغائب
إلى حيث ألقت رحمةُ الرب رحلها — فدرّتْ عليه الفتحَ در السحائب
سحائب أيد تنهر الفتقَ ربُّها — وتضرب هبرًا هامَ إلبٍ كناثب
إلى جنة الدنيا مصيفا ومربعا — ومجتمعا للأكرمين الأطائب
إلى (كشغرٍ) أرقى البلاد ثقافة — ولو كان في أقطارها ألف راسب
أيا راكبي طيارة فيلوذية — بقمة هملايا الكثير العجائب
ألا عرّجا يوما فبوحا لأهلها — بألآم منبتّ هوى في مصائب
يسائلي عما أعاني مصاحبي — ولو كنتُ هشَّ الوجه عند التخاطب
فذلك مني عادة عبقرية — وسنة آباء كرام مناجب
وللخلق أبقى للحياة وطيبها — وأقبح بوجه في الدنى وجه غاضب
ينبئكم ما في حشائي من الأسى — وبيُّوت همٍ قاتلِ المرع ناصب
أنيني إذا ما عسعس الليل وانبرت — تضيء ظلام الكون نار الحباحب
وتسكاب عيني أحمر اللون قانئا — حذارِ الردى من قبل نيل المآرب
أمن بعد عشرِ هيّج الشوق نازعا — نزيحا عن الأوطان إلف المتاعب
أجل إن من أمسى بعيدا عن الذي — يمد يد الإسعاد عند النوائب
لتذكر عهدا قد تَقَضّى ومعشرا — يذودون عن أحواضهم بالكتائب
كتائب تورانية چنگزية — تخر لها الأقوام قبل التحارب
تجول بها ما بين (أقصو) و(كشغرِ) — جياد عليها كل أشوس غالب
تخشعت الصين الغشوم لمجدها — فأرجعت الأملاكَ إرجاع غاصب
فلي وطن بُعْدَ الثريا عن الثرى — بعيد عن المستعمرين الأجانب[xvi]
وفي قصيدته “خواطر” نراه يبكي لحال بلاد الهند التي جعلها وطنا له ثانيا:
رباه إن العيش أصبح منكَرا — واغبر وجه حياتنا فتنكرا
تتحلق الأقوام حيث تضمهم — حفلاتهم في الهند أو إنكلترا
يتباحثون فلا أرى من باحث — يبغي الحقيقة والمآل الأطهرا
يلقون في الجمع الكثير خطابهم — وهو المقال المحض قيل كما انبرى
كل يدافع عن حياض بلاده — أما الهنود فنائمون بلا امترا
هل ينفع الأقوامَ حسنُ مقالهم — ما لم يصدقه فعالٌ يا تُرى؟
الله يعلم كل ناد في الدنى — ملته نفسي حيث قام وأسفرا
هل يستطيب المرءُ غزلانَ الربى — وكواعبا بيضا وطرفا أحورا
إن كان نار غرامه في قلبه — خمدت، فأصبح لا يحب المعشرا[xvii]
في الغربة: وكان يكابد ما يكابد من آلام الغربة والنوى في الهند، ويرى أنه ليس هناك إنسانٌ كابد مثل ما كابده هو في حياته من الغربة والفرقة والنوى، وعبر عن هذا الشعور في كثير من قصائده، متفننا في بيانه، فمنه ما قال في قصيدته “مطارح الغربة”:
أتغتالني غض الشباب مَنيتي — ولم أحظ من تيك الأماني بِمُنية
فما هي إلا أن أرى من أُحبّه — ولو في كرى يغضي الجفونَ بغضوة
ولم أر إنسانا يكابد مثل ما — أكابد من بؤس الحياة لمدة
كفى حزنا أن لا أبوح بكربة — تساورني طول الليالي وشدة
كفى حزنا لم آل جُهدا لدفعها — فما إن أرى إلا ازديادا بِنَكبتي
إلى الله أشكو كل شيء لأنه — هو المشتكى في غمرة بعد غمرة
فما أنا إلا ساقط متضعضع — أموت، ولكن في مطارح غربتي
ذروني أفتش في الحياة عن الذي — يمد يد الإسعاد عند بليتي
فيا عجبا للنائبات ينشني — ويمضغن عظمي قبل إزهاق مهجتي
يباغتني سهم من الهم مصمت — يقطع أحناء الضلوع برمية
برمية رام رابط الجأش بارع — ومتخذ المصطاد بين المجرة
فإنك لم تُرزق حياةً سعيدةً — يجف بها جند العلى والتجلة
فسلِّمْ عليها من بعيد ولا تكن — تقابلها من بعد هذي القطيعة
فما حسن للمرء يبدي بشاشة — ويضمر أحقادا لخبث الطوية
جُبِلْتُ على الإخلاص في القول تارة — وفي الفعلة الحسناء عند الحفيظة[xviii]
وقال مخاطبا “الحمامة” ومتحدثا إليها عما أصاب بلده تركستان الشرقية:
فرقت ما بين جفني والكرى — نبأة تقرع أذني بالصفا
عن أباة الضيم أبطال الوغى — مستنيري الفكر أرباب الحجى
إن تركستان أمست مهبطا — للدواهي الدهم من كر العدى
يا حمام الأيك زدني رافعا —صوتك المبكي أناشيد الجوى
يا إله الأرض يا رب السما — يا من استعلى وأسمى مِن سما
يا بديع الأنجم الزهر وما — في العلا من شمسها حتى السهى
عونَك اللهم عونا كافلا — ذائدا عنها البلايا والأذى
يا حمام الأيك غرِّدْ عندما — يهجم الأحزان من طول النوى
دمعتي أشبه شيء باليوا — قيت لما اساقطت نحو الثرى
دمعتي هذه فلا من لوعة — أو غرام في سويداء الحشى
أو لتذكار الصبا أو عهده — أو لذكرى وصل معسول اللمى
يا حمام الأيك أنشد كلما — هاجنا المأوى أغاني المنى
ويح نفسي أصبحت ممقوتة — ويح بختي أصبح الآن ضنى
أي يوم ريتموني ضاحكا — مشمخرا بين أزهار الحمى
طالما أصبحت في أحبولة — ما زهى المحيا ولا عيشي صفا
يا حمام الأيك هل من راحم — بائسا جم الأسى أشقى الورى
ذقتُ من طعم الأسى ما لم يذق — أحد بعدي ولا ممن مضى
غمرتي لا تنجلي لا تنجلي — كيف يحيا من به داء عيا
اسع واجهد، دم على سعي تفز — ليس للإنسان إلا ما سعى
يا حمام الأيك زرني واعلمن — إن كل الصيد في جوف الفرى[xix]
في المدح: أهدى الكاشغري ديوانه إلى العلامة السيد سليمان الندوي، وبالإضافة إلى ذلك، فيه ثلاث قصائد في مدحه، فمما قال في مدحه قصيدة بعنوان “سيدنا” وهي تحتوي على 36 بيتا، وهي ثاني أكبر قصيدة في الديوان، ونرى فيها شيئا من الوشي القديم، بدأها بالتشبيب، وبيان التشبيب فيها أنه ذكر محبوبته أولا وما أصابه عند فراقها، ثم وصف محاسنها، وشببها بقضيب البان، ووصف قدها، ووجناتها، وجسمها، ثم التمس منها أن لا تقتله بالفراق والنوى:
نعق ابن داية بالفراق المؤلم — بفراق ذات الخال ريا المعصم
نعق الغراب ببين من أحببتُه — تبًّا وتعسًا للغراب الأسحم
وَيْلُمِّ لذّاتِ التغازل بالدمى — فعمي صباحا يا كُلَيْثَمُ وانعمي
ثكلتك أمك يا كليثم فارحمي — رحما لمختلس الرقاد متيَّم
نضو الصبابة حائس جرع الأسى — دنفٍ كئيبٍ مستهام مغرَم
عيناه تستبقان دمعا مثل ما — تجدين من لون اللمى والمبسم
أما الدموع فكالمداد وقلبه — رق، وأما جسمه كالمرقم
كيف السلوّ عن الحبيبة إذ سرت — كالبدر في ليل بهيم أدهم
أين القنا من قدها والبدر من — وجناتها والشهد من ريق الفم
تحكي قضيب البان إلا أنها — تنساب تيها كانسياب الأرقم
ولعمر من شرع الهوى دينا لنا — دينا نُقِرُّ له كدين قيّم
لا تقتليني يا كليثم بالنوى — فالقاتلات معذَّبات في الدم
قاسيت من ألم الفراق شدائدا — ودواهيا دجنا كليل مظلم
والعشق آونة لذيذ طعمه — يشفي غليل فؤاد أعطش أهيم
وإذا اشمأزت أو تولت أنه — مر المذاق وطعمه كالعلقم[xx]
ثم يستطرد إلى الغرض الأصلي للقصيدة، وهو مدح العلامة السيد سليمان الندوي:
يا حر أكباد وجمرة فرقة — بين الجوانح والحشى والأعظم
أشكو إلى الغوث الصريخ مؤلِّف — أشتاتَ قلب الواله المتندم
فإذا دهتك مصيبة فاقصد بها — كشاف يوم كريهة المتظلم
رأس الكماة الصيد في جيش العدى — ألفيته كالليث بين الأغنم
أسد من الآساد إلا أنه — يحمي فريسته بعضب مخذم
سباق غايات أشد بسالة — في البأس من إسفنديار ورستم
هذا الذي اجتاح الأعادي كلهم — في بطش مقتدر وصولة ضيغم
وإذا رأيت مع الأحبة خلته — قمرا يشع النور بين الأنجم
فيمينه مزن وسيب فيضه — مطر من الدينار أو من درهم
يا حبذا المستنجدون نواله — إن الكريم وماله كالمغنم
يا أمنا الدنيا الدنية بادري — سحّابةً ذيلَ المفاخر تنتم
رجل أغر مؤسس شرف السنا — ومجدد للسؤدد المتقدم
حاوي المكارم والمحامد والعلى — هادي الرجال إلى سبيل المسلم
السيد القرم الحلاحل عالم — بالآي من متشابه أو محكم
بحر لأصناف العلوم ومن يفق — بالعلم أبناءَ الزمان يكرَّم
يا ابن الكرام الغر سُدْتَ فلا تزل — مترقيا رتب الكرامة فيهم
كم من مكايد للزمان وأهله — نصبوا إليك بحالة لم تعلم
فحذار ثم حذار واعمل أنه— عمل إذا عاملته لم تندم
ولقد أتيتك والمفاوز دوننا — ووجدت دارك في المحل الأعظم
فخفضت أجنحة التعطف رحمة — وتخذت كالولد الحفي المرأم
عش حيث كنت معظما ومكرما — ما أنّ نجمٌ من ذكاء ومرزم[xxi]
في مناسبات مختلفة: كان الكاشغري شاعر الندوة أيام إقامته بدار العلوم لندوة العلماء، فكلما زارها وفد أو عَلَمٌ من الأعلام، قرض قصيدة بتلك المناسبة وقرأها مرتجلا في الحفلة، فمنها ما قاله بمناسبة زيارة العالم الرباني الشيخ المجاهد حسين أحمد المدني رحمه الله سنة 1928م لندوة العلماء بدعوة من طلبتها:
يا دار أعطيت ما أعطيت من ظفر — وسؤل نفس مدى الأيام مستتر
يا دار بوحي بما أضمرت من ضجر — ومن شقاء أليم فادح نكر
يا دار حوشيت مما تحذرين به — وهل تصاب ارتياعا دارة القمر
باليمن والسعد والإقبال قاطبة — والعز طورا وطورا بالعلا افتخري
يا ما أُعيظم دارا أنت قادمها — يا مرجع الناس في الأهوال والذعر
يا حبذا الدار دار المجد ندوتنا — وحبذا القادم الميمون من سفر
وحبذا أنت يا عف الشمائل يا — من رأيه اليوم كالصمصامة الذكر
إليك يا طيب الأخبار أعبقها — شكاتنا وإلى الإشكاء فابتدر
سقيت من زمن شتى البلاد وما —- يدريك أن لنا حقا من المطر
جد بالغزار لروضات تعهدها — تثمرك بالثمر المنضوج والزهر
إن الرياض وإن كانت سواسية — في الطرز والشكل والهندام والصور
منها تعلة قلب بالأسى قلق — كأنه صبغة الحرباء من حذر
وروضة أنف خضر خمائلها — فما قضى حاجة منها ذووا الوطر
إياك إياك والخضراء يا سندي — حذار والله من غصن بلا ثمر
أفنيت عمرك في تأبير نخلة من — يقتات لحمك بعد العين والأثر
ونعمة لك في الإحسان سابغة — على عواتق أهل البدو الحضر
إن جاملوك فهذي شيمة لهم — وإن أساؤوا فهذا ديدن البشر
من يشكر الجود يحمد في عواقبه — إن الكنود غدا مأواه في سقر
يا درة التاج فخرا أرؤس البشر — عش طول دهرك معصوما من الضرر
نجل قدرك أن ندعوك سيدنا — وأن نقول عظيم القدر والخطر
أتطرب الشمس أسماء نبوح بها — لا والذي أنزل الآيات والسور
فقت الأوائل والباقين كلهم — بالفضل زينا وبالشورى وبالفكر
ألقاك ربك محسودا بعافية — وصفو عيش بلا رنق ولا كدر
سقاك ربك من عين الخلود ولا — تنتابكم نائبات الشيب والكبر
يا آخذا بكتاب الله والأثر — ويا خليفة هادٍ صادقِ الخبر
أحييت سنة من أعيت خصائله — مع اختصار بطون الكتب والسير
داويت صدرا بداء الحقد منغمسا — وكم فؤادا مئوفا من أذى الخور
هذى الحقائق لا الإطراء ويحكم — هلا بصرتم بنور القلب لا البصر
ما يوم وصل بذات الجيد خرعبة — غريرة كطلا الآرام والعفر
أحلى وأعذب من يوم يبشرنا — من حظنا بهلال العيد في صفر
نحن التلاميذ يا ضيفان معهدنا — نثني عليكم تمام الدهر والعمر[xxii]
ومما قال بمناسبة دخول مجلة الضياء الشهرية في عامها الثاني بعنوان” الضياء في عامها الثاني”:
أتت الضياء بملأ معلوماتها — وبشكلها الموموق بين لداتها
جاءت تحدث بالجوائب تارة — وبما حوته غضون محتوياتها
تركت بلاد الله بعد طلوعها — تتخطف الأضواءً من مشكاتها
ولها دوي في الدنى لا سيما — في أرض مصر لأنها بلغاتها
فدمشق عارفةٌ بأن مجلةً — هندية رجحت على أخواتها
فالمجمع العلمي يشهد أنها — بالهند من آي البلاغة ذاتها
ولقد رأيت جرائدا عربية — تثني على كتابها ورواتها
عاذت بمرحمة الذي تبرعوا — كعياذها بجوار خير بناتها
أما الغطارفة الكرام فأصبحوا —يسعون في تمهيد طرق حياتها
بالله أيتها الضياء تبرجي — كتبرج الزهرات في جناتها
ما أنت إلا طاقة قد أودعت — فيها الطبائع مخبآت قواتها
لله در معاهد دينية — سمحت بجدواها على علاتها
أفدى بأكرم ما حبيتُ تعلة — دار العلوم ومن على جنباتها[xxiii]
وخلاصة القول: إن الأستاذ عبد الرحمن الكاشغري الندوي كان من كبار شعراء العربية في شبه القارة الهندية، وشعره يفيض بالروح والعاطفة والوجدان، ويتصف بجزالة التعبير وقوة البيان ودقة الوصف، ويستحق كل عناية وتقدير من الناقدين والباحثين.
المصادر والمراجع:
- -عبد الستار: تاريخ مدرسة عالية. دهاكه: مدرسة عالية. 1959م.
- -الندوي، عبد الرحمن الكاشغري: الزهرات. لكناؤ. 1354هـ.
- -صحيفة الرائد، لكناؤ، السنة 13، العدد 23، 01/يونيو 1972م.
- -مجلة الضياء، لكناؤ، أعداد 1353-1354هـ.
- -مجلة المجمع العلمي الهندي، علي كره، العدد الممتاز عن العلامة الأستاذ عبد العزيز الميمني بمناسبة مرور مئة عام على ميلاده، المجلد العاشر، العدد المزدوج 1-2، يونيو 1985م.
- عبد الرحمن الكاشغري الندوي: الزهرات (مقدمة الأستاذ مسعود عالم الندوي) ص 15-16.
- انظر: ذكرى العلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي، لأبي محفوظ الكريم المعصومي (مجلة المجمع العلمي الهندي، علي كره، العدد الممتاز عن العلامة الأستاذ عبد العزيز الميمني بمناسبة مرور مئة عام على ميلاده، المجلد العاشر، العدد المزدوج 1-2، يونيو 1985م، الصفحة 338-340)، ومقدمة الأستاذ مسعود عالم الندوي على ديوان الزهرات للكاشغري: ص 15-29؛ وتاريخ مدرسه عاليه لـ عبد الستار، 2/198-201.
- نفس المصادر والمراجع.
- نفس المصادر والمراجع.
- الزهرات، ص 9-10.
- نفس المصدر، ص 10.
- نفس المصدر، ص 10-11.
- نفس المصدر، ص 13.
- نفس المصدر، ص 17-18.
- صحيفة الرائد، لكناؤ، السنة 13، العدد 23، 01/يونيو 1972م، صفحة 7.
- الزهرات، ص 21.
- نفس المصدر، ص 15.
- نفس المصدر، ص 33-34.
- نفس المصدر، ص 38.
- نفس المصدر، ص 39.
- نفس المصدر، ص 40-43.
- 17. نفس المصدر، ص 64-65.
- نفس المصدر، ص 79-81.
- نفس المصدر، ص 47-50.
- نفس المصدر، ص 82-84.
- نفس المصدر، ص 84-88.
- نفس المصدر، ص 95-100.
- 23. نفس المصدر، ص 60-62.