عبد الرحيم آيت معاد
ملخص البحث:
أحدث التطور التكنولوجي ثورة رقمية ضخمة، وانتشرت المعرفة بشكل كبير، وتوفرت أدوات وتقنيات جديدة للبحث والتطبيق، وإن أكثر الأشياء إثارة في هذا العصر هو تطور مجالات الذكاء الاصطناعي، وقد أثار هذا الزخم المعرفي الجديد فضولا معرفيا في عقل الإنسان، إن تلك البيانات الضخمة التي يمتلكها الحاسوب بفعل تراكم المعارف وتعدد التجارب التي يقوم بها الباحثون في عدة مجالات، وهذا ما دفع الباحثين والمهمتمين باللغويات واللسانيات إلى توجيه النظر إلى هذا العلم الحديث، باعتباره مكسبا مهما من المكاسب التي يمكن للجامعات العربية على وجه الخصوص أن تستفيد منه، لخدمة اللغة العربية وإدماجها داخل عوالم التكنولوجيا والاستفادة مما تقدمه هذه التقنيات التكنولوجيا، ولكي تواكب اللغة العربية الركب الحضاري، علينا حوسبتها وبرمجة علومها داخل تطبيقات الذكاء الاصطناعي.الكلمات المفاحتية: الذكاء الاصطناعي، اللغة العربية، اللسانيات الحاسوبية، المعالجة اللغوية

مقدمة:
لقد شهدت البشرية تحولات كبيرة في جلّ المجالات على مر العصور، وخصوصا في منتصف القرن العشرين، حيث ازدادت التخصصات العلمية، وظهرت مجالات جديدة مثل الفيزياء النووية وعلوم الحاسوب، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والبرمجة العصبية للغات، وأحدث هذا التطور التكنولوجي ثورة رقمية ضخمة، وانتشرت المعرفة بشكل كبير، وتوفرت أدوات وتقنيات جديدة للبحث والتطبيق، وإن أكثر الأشياء إثارة في هذا العصر هو تطور مجالات الذكاء الاصطناعي، وقد أثار هذا الزخم المعرفي الجديد فضولا معرفيا في عقل الإنسان، مما دفعه إلى البحث عن سبل جديدة لحوسبة اللغة وتطويرها كي تتناسب مع خصائص الذكاء الاصطناعي وتنسجم مع الواقع الجديد، وحتى تواكب اللغة العربية تطورات العصر لابد من حوسبتها وإقحامها ضمن العالم الرقمي، بغية خدمة جلّ الميادين التي ينشط فيها الإنسان، وفتح آفاق البحث ودراسة قضايا الإنسان واللغة وفق الذكاء الاصطناعي؛ لأن تقنية الذكاء الاصطناعي ستساعد البشرية في تجاوز معيقات التواصل، وتوليد طرق جديدة للتعلم والتحكم في العديد من المجالات.
تتمركز أهمية هذه الورقة العلمية في بيان القيمة المضافة لتقنية الذكاء الاصطناعي في دراسة اللغة العربية، وسنحاول من خلالها بيان مدى توافق خصائص اللغة العربية والذكاء الاصطناعي؟ وأهمية توظيفه لخدمة هذه اللغة، وذلك من خلال التفكير في الإمكانيات التي ستزودنا بها ربوتات الذكاء الاصطناعي لحوسبة اللغة العربية وتطويرها. ولبلوغ النتائج المتوخاة من هذا البحث سنتخذ المنهج التفسيري التحليلي منهجا علميا نضيء به عوالم البحث، ووفقه سنحاول الإجابة عن الأسئلة التالي:
كيف يمكننا تطبيق الذكاء الاصطناعي في حوسبة اللغة العربية؟ وإلى أي حد ستستفيد اللغة العربية من الذكاء الاصطناعي في معالجة مستوياتها وحوسبتها؟ ثم ما مدى ملاءمة الذكاء الاصطناعي خصائص القواعد النحوية الكلية والقضايا اللغوية؟
تمهيد :
لقد تم تطبيق الذكاء الاصطناعي في بعض الدول الغربية في مجال دراسة اللغة وحوسبتها، وأعطى نتائج مميزة، بحيث انسجم مع خصائص الملكة اللغوية التي يمتلكها مستعمل اللغة، والقواعد النحوية الكلية التي تنظم حركات اللغة وسكناتها، كما أنهم وظفوه في الترجمة الآلية وصناعة تطبيقات مفيدة لخدمة اللغة وتسهيل تعلّمها، وساعدهم أيضا في تطوير تطبيقات التعلم الآلي وتنويع الاختبارات والأنشطة الأخرى، وذلك من أجل وضع الثروة اللغوية داخل نظام من القوانين التكنولوجية، قصد صيانتها وحفظها وتطويرها، لتوافق اهتمامات الإنسان المعاصر، ومعالجة القضايا الفكرية التي تواجه الإنسان في هذا العصر. وقد أتاح الذكاء الاصطناعي العديد من المميزات المفيدة، والمختلفة في التطبيقات والبرامج الدقيقة التي تهتم بمجالات اللغة. وعليه فمن واجبنا نحن الباحثون العرب أن نقتحم هذا المجال قبل فوات الآوان، وننفتح على هذا العالم الذكي كي نستفيد منه في جميع المجالات وتطويرها، مثل دراسة أنظمة لغتنا ومعالجتها من خلال البرامج الآلية والتطبيقات الرقمية، وكذا تطبيقه في ميادين التعليم والخدمات والسياسة والصناعة…
1ـ ) المحور الأول: الذكاء الاصطناعي وخصائص اللغة العربية
قبل الشروع في مداخل هذه الورقة العلمية، لابد من سبر أغوار البحث في خبايا الذكاء الاصطناعي، وتقديم بعض تعاريفه وبيان خصائصه، ولو بإعطاء لمحة خفيفة لهذا المفهوم الجديد. منطلقين من مسلمة أن أي حقل معرفي مؤسس وفق نظام من المصطلحات والمفاهيم والمبادئ والعناصر، يؤدي بها وظائفه وأغراضه، فمعرفة مفاهيم المجال الذي نريد الاشتغال به يعد مدخلا مهما لفتح أقفاله المعرفية؛ لأن المفاهيم هي التي تجهز أرضية خصبة للبحث، بحيث إنها تخصص المجال وتحدد تحركاته ومساراته الفكرية والمعرفية، وهي قيد للبحث. فما الذكاء الاصطناعي؟ وما وظيفته؟
يمكن تلخيص بوادر ظهور الذكاء الاصطناعي في بضعة أسطر موجزة دون ذكر جميع التعاريف التي قدمت له. إن عمر الذكاء الاصطناعي لا يتجاوز ستين (60) عاما، منذ ظهوره لأول مرة، وقد ارتبط استعماله بالعديد من المجالات، كالعلوم الكونية التجريبية والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحاسوب، وكذا العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم اللغويات/ اللسانيات…، إلا أن بوادر ظهوره كانت في الحرب العالمية الثانية، وذلك “عندما قام رائد علم الحاسوب آلان تورينج بفك شفرة آلة إنجما Enygma لاعتراض الاتصالات النازية، وهي نموذج حاسوبي ذكي مثالي يطور نظرية الأوتوماتا Automata Theory (نظرية التشغيل الذاتي)”[1]
1ـ1) تعريف الذكاء الاصطناعي
عرف هذا المفهوم العديد من التحديدات اختلفت باختلاف زوايا نظر الباحثين ومنطلقاتهم الفكرية. عموما فهو فرع من علم الحاسوب يقوم بـ” دراسة وتصميم العملاء الأذكياء” والعميل الذكي هو نظام يستوعب بيئته ويتخذ المواقف التي تزيد من فرصته في النجاح في تحقيق مهمتــه أو مهمة فريقه”[2]. إن هذا التعريف غير شامل، لأنه ارتبط بتصميم العملاء الأذكياء فقط، غير أن الذكاء الاصطناعي يتسع للقيام بالعديد من الخدمات، كالتعلم الذاتي والترجمة والبرمجة والإحصاء وتدريس اللغويات وصناعة الخرائط ودراستها… وقد عرَّفه عالم الحاسوب جو مكارثي بأنه: “علم وهندسة صنع الآلات الذكية”[3]. كما يعرّفه أندرياس كابلان ومايكل هاينلين بأنه: “قدرة النظام على تفسير البيانات الخارجية بشكل صحيح، والتعلم من هذه البيانات، واستخدام تلك المعرفة لتحقيق أهداف ومهام محددة من خلال التكيّف المرن”[4].
وقد تأسس الذكاء الاصطناعي “على افتراض أن مَلَكة الذكاء يمكن وصفها بدقة بدرجة تمكن الآلة من محاكاتها”[5]. وهذا الأمر يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل الذكاء الطبيعي (الإنساني)، حيث إذا استطاع الذكاء الاصطناعي محاكاة كل الأشياء في واقعنا، والتصرف في كل الأشياء التي من مهام العقل البشري، مثل تحديد القرارات وصياغة الأفكار وتحديد المناهج الدراسية والعلمية واختيار الأذواق والتصرف كالبشر في كل شيء… فماذا سيحل بذكاء الإنسان؟ هنا يكمن عمق الإشكال والتساؤل الفلسفي حول غوامض هذا العلم، والمستقبل هو من سيجيبنا عن هذا السؤال، ثم سنعلم هل الذكاء الاصطناعي سينهي مهمة الإنسان ودوره في هذا الوجود؟ أم أن سلطة العقل البشري ستستمر في فرض قوتها وتحكمها في الحياة.
وقد عرّفه أيضا أحد الباحثين بأنه تقنية تركز على “مدى قدرة الآلات الذكية على محاكاة السلوك الإنساني أو العقل البشري”[6]. وهناك من أضفى على هذا العلم تعريفا أكثر دقة وبيانا، حيث اعتبر أن تقنيات الذكاء الاصطناعي ” لا تقتصر على محاكاة البشر، بل تشمل أنظمة مستوحاة من الكائنات الحية الأخرى من خلال بناء نماذج افتراضية تحاكي سلوك أنواع مختلفة من الحيوانات الأليفة أو الفيروسات”[7]. وهذا في نظرنا هو التعريف الدقيق، لأنه لم يقصر الذكاء الاصطناعي على محاكاة الإنسان فقط، بل وسعّ من دائرته ليشمل الكائنات الحية، وإن لم يتحقق تطبيقه على جميع الكائنات فإنه قد يتحقق في المستقبل، لأن ما سيأتي في قادم الأيام سيكون أكثر مما يتصوره العقل البشري. فقد يتحكم الذكاء الاصطناعي في كل شيء في هذا الوجود، حتى في اتخاذ القرارات الشخصية، والأمور النفسية والذوقية للإنسان. والآن أصبحنا نلمس هذه الأشياء في واقعنا، إذ أضحت المواقع الافتراضية تنقل كل ما هو حاصل في الواقع سواء بإرادة، أو بغير إرادة، وذلك عندما نتصفح آلة إلكترونية متصلة بالإنترنيت، نتصادف منذ الوهلة الأولى مع تلك الأشياء التي نفكر فيها مع أنفسنا قبل أن نحكي تفاصيلها للغير، وإن هذه الأمور ليست صدفة، بل إنها مدورسة من جهة معينة؛ لأن تلك الأجهزة الذكية أصبحت مزودة بخورزميات وربوتات وتقنيات دقيقة، دورها هو فك شفرات كل ما يتلفظ به البشر أو يفكر فيه، بل حتى ما يشعر به، فهي تقوم بترجمة ذلك الشعور إلى لغة حاسوبية، فيصبح ذلك الجهاز هو الجاسوس الذي يمد عالم المواقع الافتراضية بمعلومات عن البشر، وعندما نتصفح الإنترنت نجد تلك الأمور النفسية الذوقية، والتي نفكر فيها تمر أمامنا في صيغة الإشهار دون البحث عنها، وهذه تقنية متطورة، أصبحت الشركات التجارية تعتمدها لغرض تسويقي ربحي، فأصبحنا نحن غير نحن في عالم الإنترنت وعالم الذكاء الاصطناعي.
وعليه يمكننا أن نعرّف الذكاء الاصطناعي على أنه تقنية ذكية مليئة بالبيانات الضخمة التي تساعده على محاكاة سلوكات المخلوقات الحية، وبالتالي فهو عقل الإنسان الثاني الذي تكوّن منه ونشأ فأصبح عقلا مستقلا بنفسه وذاته. وبما أننا في صدد الحديث عن تطور اللغة وتعلّمها أمكننا أن نطرح التساؤلات التالية: ما مدى ملاءمة الذكاء الاصطناعي خصائص القواعد النحوية الكلية والقضايا اللغوية؟
2ـ 1) الذكاء الاصطناعي وخصائص اللغة العربية
إن تلك البيانات الضخمة التي يمتلكها الحاسوب بفعل تراكم المعارف وتعدد التجارب التي يقوم بها الباحثون في عدة مجالات، دفعت الباحثين والمهمتمين باللغويات واللسانيات إلى توجيه النظر إلى هذا العلم الحديث، باعتباره مكسبا مهما من المكاسب التي يمكن للجامعات العربية على وجه الخصوص أن تستفيد منه، لخدمة اللغة العربية وإدماجها داخل عوالم التكنولوجيا والاستفادة مما تقدمه هذه التقنيات التكنولوجيا؛ لأن هذه التنقيات الذكية مفيدة جدا لتوظيفها في العديد من المجالات، ولكي تواكب اللغة العربية الركب الحضاري، علينا حوسبتها وبرمجة علومها داخل تطبيقات الذكاء الاصطناعي. سنوجه تيار الحديث في هذا المحور حول خصائص اللغة العربية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، ونرى هل اللغة العربية تستجيب لهذه التقنية؟ أم أن خصائصها مخالفة لها؟
فلا شك أن اللغة العربية ستتوافق مع هذه التقنيات الذكية، لأنها لغة حية تسري فيها الحياة مثلها مثل الكائنات الحية، حيث تستطيع التكيّف مع المحيط الخارجي، وبما أن اللغة العربية استطاعت أن تتعايش مع كل العصور بمختلف خصائصها وتطوراتها، فمات أهلها الأصليون واللغة العربية باقية مستمرة في هذا الكون بحصائصها ومميزاتها، فإنها ستتكيف مع خصائص هذا العصر. معلوم أن القرآن الكريم هو من حفظ لها هذا البقاء والاستمرار على مرّ العصور، إذ حملت معانيه التي لا تموت ولا تفنى إلا بفناء الكون، ثم إن الله تعالى جعل في خصائصها بعضا من خصائص الاستمرار في هذا الوجود، وهي الصبغة البيولوجية، التي تجعلها تتوالد وتتكاثر كالمخلوقات الحية، وهذه الخاصية يمثلها جانب الاشتقاق في اللغة، إذ يعتبر الرحم الولود للغة العربية، ومن خلاله يستمر نسلها وجيناتها في كل العصور. أما إذا نظرنا إلى جهاز القواعد النحوية والصرفية التي تعتبر العمود الفقري للغة العربية، فإن هذا الجهاز شبيه بآلة حاسوبية مبنية على ميكانيزمات وتقنيات رياضية ذكية، كأن اللغة تحمل في داخلها ذكاء اصطناعيا يتحكم في نظامها الداخلي؛ لأن معظم قواعد اللغة العربية مثل الفاعلية والمفعولية والظرفية… مبنية وفق منطق رياضي رقمي دقيق، لذلك نقول إن العلاقة التي تجمع بين القواعد النحوية والمنطق التكنولوجي الرقمي علاقة تشابه، حيث إن القواعد الكلية للغة فيها من العلاقات الترابطية والأنظمة ما يشبه شكبة تكنولوجية تحكم مداخلها ومخارجها علاقات منطقية واحدة تدل على الأخرى.
فإذا كانت الخورزميات هي التي تنظم شبكات الإنترنت ومواقع التواصل والتقنيات الذكية ذات طابع آلي حاسوبي تكنولوجي، فإن اللغة العربية فيها أيضا مثل هذه التقنيات العلائقية المنطقية التي تنظم تحركاتها وسكناتها، إذ العلاقات الدلالية والوظيفية بين الكلمات والتراكيب هي البنية الأساسية للغة، فحتى نجعل من اللغة منظومة متكاملة، فلابد أن تكون لقواعدها علاقات منطقية تنظم بين ألفاظها وتراكيبها باعتبارها الجسد الحامل للمعنى ودلالاتها ووظيفتها ومقاصدها بكونها الروح/ المعنى، لأن العلاقات المترابطة هي منطق اللغة، أو بلغة الذكاء الاصطناعي هي الخورزميات التي تنظم بين العناصر وتعطيها قيمة ووظيفة.
وإذا تصورنا اللغة بدون قواعد خالية من العلاقات المنطقية الحجاجية والدلالية والتداولية… فإننا سنكون أمام ركام من المفردات البالية التي لا قيمة لها؛ لأن اللغة بهذا التصور لن تصبح لغة أصلا. وقيمة اللغة وغايتها هي تأدية وظائفها التواصلية وغيرها، وهذه الوظائف تكون نتيجة علاقات تجمع بين الأصوات والدلالات… وإن خلوَ اللغة من تلك العلاقات ستغدو كبركة مياهها راكدة أو مجرد تعابير وأساليب خالية من المنطق، وإن الذي يجعل من اللغة فكرا ومنطقا هي تلك النُظم والعلاقات المنطقية بين عناصرها ومستوياتها، والشيء نفسه يقال عن تقنيات الذكاء الاصطناعي أو الأجهزة الالكترونية بصفة عامة، وتكمن قيمة هذه التقنيات وأهميتها في الخورزميات التي تنظم العلاقات بين العناصر وتعطي لكل واحدة وظيفتها المنوطة بها.
إذن؛ فالقواعد هي الجهاز الذي من خلاله تكتسب اللغة أسسها ونظامها، والعلاقات التي تجمع بين الكلمات هي علاقات منطقية بحيث إن مفردة تستدعي مفردة تناسب السياق المقامي والمقالي، ومثال عن ذلك نقول: عندما تكون الجملة متصدرة بفعل (قرأت الكتاب ـ نشرت مقالا) فحتما إن الفاعل أو ما يقوم مقامه هو المفردة التي ستستدعيها البنية اللغوية والدلالية لإتمام العلاقة الوظيفية بين المفردات، ولا يمكن للمعنى أن يكتمل إلا باستحضار ذلك العنصر بذاته، وإن حضور البعد المنطقي في اللغة العربية قد جعل منها صرحا معرفيا رياضيا دقيقا، وليس ركاما معرفيا متكونا من ألفاظ وجمل منعزلة، بل إنها فكر إبداعي منطقي فريد يضاهي علوم الكون، كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة… ولذلك يجب أن نتعامل مع اللغة العربية كتعاملنا مع العلوم الرياضية (الكونية) لأنها تشتغل بمبدأ رياضي منطقي حاسوبي وراءه علاقات دقيقة، واللغة لا تختلف كثيرا عن العلوم التقنية الأخرى خاصة في قواعدها القياسية؛ لأن قواعدها تعتمد على المنطق الرياضي.
وإذا كانت تلك التقنيات تنطلق من فرضيات لإثبات نتيجة ما، فإن مستعمل اللغة ينتقل أيضا من فرضيات ذهنية حتى يعرف صحة منطلقه ثم يتلفظ بما يريد إصاله، فلنفترض مثلا أننا في درس تعلم اللغة، يقوم الأستاذ بتدريس طلابه قواعد اللغة، ثم اختبرهم بإعطائهم بعض الأمثلة من قبيل ‘الجو بارد’ قصد التعرف على طبيعة هذه الجملة وبنيتها، فلتفكيك أجزاء هذه الجملة ومعرفة نوعها، سيعتمد لمتعلم مبدأ الفرضيات ويبدأ بتجريبها، فيضع علامات الفعل على هذه العبارة، فإن استقامت معها فإن العبارة تدل على جملة فعلية، وإن لم تستقم تلك العلامات، سيجرب علامات الاسم، فإن بدا له توافقا بين العلامات والعبارة، سيثبت أن فرضيته التي تقول إن العبارة مكونة من خبر ومبتدأ، إذن فهي جملة اسمية، وهكذا مع جميع القواعد اللغوية.
والجميل في هذه اللغة أنها تتخذ من الأسس المنطقية والأساليب الرياضية نظاما لها، وهذا الأمر جلي في العلاقات التي تربط بين الألفاظ والمعاني عندما تكون داخل سياج الخطاب، الذي بدوره يتكون من علاقات نصية نتاجها تفاعلات نحوية، ودلالية، ووظيفية، بين المفردات، والراوبط، والجمل، والتراكيب، والأساليب، وبما أن قواعد اللغة قياسية، فإن النحوي يستخدم القياس باعتباره ميزانا منطقيا يحصر القواعد رغم كثرتها ويدرك دلالات الكلمات رغم تنوعها. وهذا ما دعى إليه تشومسكي حيث ” كان يهدف إلى إقامة نظرية كلية للغات البشرية قاطبة صادرة عن اتجاه عقلي، فهذه النظرية العقلية التي تبناها تشومسكي تنبني في جوهرها العام على ما يمكن تسميته بلا نهائية اللغة، فهو يرى أن كل لغة تتكون من مجموعة محدودة من الأصوات ومجموعة محدودة من الرموز الكتابية، مما جعلها تولد أو تنتج عددا من الجمل التي لا نهاية لها”[8]. فمثلا إذا أردنا استيعاب كل الأفعال كيف ما كان نوعها، فهذا أمر لا يطاق لكثرته وتشعبه، ولكن بمجرد تقييد الفعل بقواعد محصية معدودة محصورة (علامات الفعل) يسهل علينا التمييز بين الاسم والفعل والحرف حتى وإن لم نسمع بذلك الفعل من ذي قبل، ومرد هذا هو أن اللغة تنتظم في الدماغ البشري بطريقة حاسوبية دقيقة، وما الكلام المتلفظ إلا مرآة وترجمان لما يوجد داخل الذهن /الدماغ، لذلك فإن اللغة تترتب في الذهن على شكل رموز وأرقام وعلامات… تنظمها علاقات منطقية، وهذا شبيه بالحاسوب؛ لأن ذهن الحاسوب لا يستطيع قراءة اللغة ومعرفتها بتلك الكلمات والتراكيب التي نستعلمها في واقعنا، إذ اللغة مبرمجة في داخله على شكل رموز وأرقام، وأمّا ما نراه على شاشة الحاسوب من حروف وكلمات هو خرج وتحقيق وترجمة لما هو مُحَوسب في ذهنه.
وبما أن الذكاء البشري هو مَنْ صَنَعَ الذكاء الاصطناعي، فإنه حاول محاكاة الطريقة التي يشتغل بها دماغه وأخرج ذكاء يحاكي ذكاءه في طريقة تفكيره ونظامه الداخلي. يقول الفاسي الفهري في هذا الصدد: ” فإذا كان الإنسان، بخلاف غيره من المخلوقات، يستطيع الوصول إلى معرفة للغة مثل الإنجليزية أو اليبانية أو العربية، فإن من المعقول أن تعد هذه المعرفة حالة واقعية للذهن/ الدماغ، أو عضوا له بنيته وخصائصه المييزة”[9]. وهذا ينفي النظرية السلوكية التي تقول إن اللغة قائمة على ما يعرف بالمثيرات الداخلية والاستجابات الخارجية؛ لأن “تشومسكي نظر إلى اللغة باعتبارها قدرة خلاّقة فعّالة غريزية وفطرية”[10] والذهن هو المسؤول عن إنتاج اللغة بطريقته الخاصة، يدخل اللغة والمعارف عن طريق مهارة الاستماع ثم يعطي لكل كلمة وحرف وتركيب… رمزا خاصا به، ويستعمله عندما يستدعي الأمر ذلك، ومن خلال تلك الدراسات التي قام بها تشومسكي أثبت أن هناك نحوا كليا شاملا لجميع الألسن الطبيعية؛ لأن نظريته ” تسعى إلى معرفة الظواهر الكلية في كل اللغات”[11]. ووصل إلى هذه النتيجة بعد ما قام بتشريح الدماغ البشري وعرف كيف يتم إنتاج اللغة داخله، ثم اصطلح على تلك المسألة بالقدرة اللغوية أو الملكة الذهنية؛ أي أن الإنسان يُزَود بملكة لغوية فطرية تخوّل له إنتاج اللغة وفهمها بطريقة حاسوبية ذكية، وهذا يدلنا على أن اللغة تشترك مع العلوم التقنية المعرفية الدقيقة من حيث إن الدماغ يشتغل كآلة حاسوبية لإنتاج المعرفة. قال تشومسكي :” وتُشاطر النظرية اللسانية العلوم المعرفية الأخرى في الإقرار بأن عددا من مييزات الذهن/ الدماغ يمكن مقاربتها على شاكلة أنساق حاسوبية معقدة، تُكَوِّن التمثيلات وتغير فيها، وتُستعمل في تنفيذ الأفعال أو التأويل”[12]. فالذهن هو الذي يقوم بإنتاج اللغة وهو المتصرف فيها، ولو كان عضوا آخر كاللسان هو المسؤول عن إنتاج اللغة لمّا وصلنا إلى المشترك أو النحو الكلي للغات، فهذه التقنية الحاسوبية التي يتشغل بها الذهن هي التي تسهّل على المتعلم تعلم اللغة، فما عليه هو معرفة المشترك أو القاعدة العامة الكلية ويقوم بتطبيقها، وذلك بالاعتماد على مبدأ القياس؛ أي قياس القواعد على المعطيات، وعليه فإن مبدأ القياس وحده كفيل بأن نقول إن اللغة العربية لغة قياسية لها نظام منطقي رياضي حاسوبي بامتياز، لأن القياس تقنية منطقية دقيقة تشتغل بنظام رياضي آلي.
إن مبدأ الفرضيات مبدأ مهم لمعرفة الثابت والمتحول من اللغة، فعندما أراد العلماء التقعيد للغة انطلقوا من فرضيات، حتى وصلوا إلى ما نحن عليه، إذ بالفرضيات والتجارب أثبتوا الثابت من المتغير، وهذا ينطبق على تقنيات الذكاء الاصطناعي فهي أيضا مبنية على عدة تقنيات (لوجسيالات) تعتمد على ما يسمى بالفرضيات، مثل تقنية ALGORETMو JAVA SKREPT ــ HTML، كما أن هناك تطبيقات تهتم بالمعالجة الآلية للغة تقوم على مبدأ الفرضيات مثل تطبيق (NLP) معالجة اللغة الطبيعية، وغير ذلك من التقنيات التي تعتمد على خاصية الفرضيات، إذ بتلك الفرضيات تحدد العلاقات الجزئية والكلية بين المعطيات. وعليه فإن العلوم التكنووجيا علوم برهانية منطقية دقيقة، تقوم على التطابق بين المعطيات، كما أن القواعد النحوية تعتمد على نظام علمي رياضي أساسه المنطق، “فالصناعة المنطقية شبيهة بالصناعة النحوية”[13].
وبما أن اللغة العربية تتميز بخاصية الاستمرار والقدرة على التكيّف مع المحيط والتحولات العصرية، حيث مكّنتها تلك الخصائص الاستفادة من خورزميات الذكاء الاصطناعي، لحوسبتها وتطويرها في جميع المجالات وتسهيل تعلّمها، فحتى تستطيع اللغة مواكبة العصر علينا أن نقحمها داخل مجال التكنولوجيا. فكيف يمكننا الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لحوسبة اللغة العربية وتطويرها؟
المحور الثاني: الذكاء الاصطناعي واللغة العربية الواقع والآفاق
1ـ) واقع اللغة العربية في ظل الذكاء الاصطناعي
لقد استفادت اللغة العربية من الوسائل التكنولوجية الحديثة، وخصوصا ما له علاقة بتقنية الذكاء الاصطناعي، الذي غزى العالم الافتراضي والواقعي بشكل مذهل، وبات يحيط بالعديد من المجالات التي ينشط فيها الفكر الإنساني. وبإمكاننا اليوم الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتجويد العديد من الخدمات كالتدريس وإدارة الأعمال والتسير… وخير شاهد على ذلك ما عاشه العالم جراء فيروس كرونا، وهي تجربة اسثنائية حتمت علينا تغيير نمط التعلم، حيث انتقلنا من التدريس الحضوري إلى التدريس عن بعد، أو ما يسمى بمنصات التعليم الالكتروني الذي يعتمد على شبكة الإنترنيت وعلى تقنيات تكنولوجية حاسوبية ذكية، وقد أسهمت هذه الأنظمة الحاسوبية ـ التي اعتُمد عليها في عملية التعليم والتعلم في فترة كرونا ـ في التفكير في وضع تطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي للقيام بهذا المهام، ولم تتوقف تلك التقنية عن العمل، بل أصبحت تُعتمد في العديد من الجامعات العربية لتقديم الدروس والبرامج التعليمية لمن يستعصي عليهم الحضور، إذ يستطيع الطالب أن يتلقى الدروس بشكل إلكتروني ويقوم بطرح الأسئلة ومحاورة الأستاذ بالصوت والصورة، ويتم الإجابة عنها ومناقشة الدرس وكأنه حاضر مع الأستاذ في الواقع. كما أن فترة كرونا أسمهت بشكل كبير في تغيير طريقة الاشغتال في العديد من المجالات، كالتسويق وتقديم الأعمال للوكالات، كالإدارات العمومية والخصوصية التي بدورها اتجهت إلى اعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتطوير العمل الإداري وتقديم الخدمات الضرورية للمواطن، إذ انتقلت مباشرة من الاعتماد على ملفات ورقية إلى ملفات رقمية، حيث يواكب المواطن خدماته من خلال تطبيقات إلكترونية دون الحاجة إلى اللجوء إلى مكان الإدارة.
نشاهد في عصرنا الحالي تطور الأنظمة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بحيث يمكن الاعتماد عليها في العديد من الميادين، مثل الطب والتسويق والتعليم… إذ يمكن للطبيب فحص مريضه وتحليل أعراضه، ووصف الدواء الذي يناسب حالته المرضية، ومواكب حالته من خلال الاعتماد على تطبيقات ذكية، وإجراء العمليات الجراحية عبر تقنية الذكاء الاصطناعي. وهناك بعض التطبيقات التي صنعت لهذا المهام، وهي: الطب الذكي ت (Smart Healthcare): تعتمد هذه التقنية على فرضيات تقول بإمكننا اليوم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين مجال الطب، وتشخيص الأمراض وتوجيه العلاج بدقة. أما ما يتعلق بالمجال التسويقي والتجاري، فإننا أصبحنا نشاهد إعلانات مصنعة بالذكاء الاصطناعي تقدم منتوجات متنوعة بلغة عربية فصيحة. وغير ذلك من المجالات التي أصبحت تعتمد على الذكاء الاصطناعي. وبما أن موضوعنا يتصل بالمعالجة الآلية للغة العربية وفق الذكاء الاصطناعي، علينا أن نتساءل عن موقع هذا الفرع العلمي الذي يهتم بدراسة اللغات الطبيعية/ اللسانيات.
يندرج هذا الفرع التكنولوجي ضمن اللسانيات عامة، واللسانيات الحاسوبية خاصة، وإن “ميدان البحوث النظرية والتطبيقية التي تهتم بالمعالجة الآلية للغات الطبيعية هو فرع علمي تابع للسانيات الحاسوبية (Computational Linguistics.CL) وهو الذي بدوره فرع من الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence. AL) بشكل عام”[14] وهذا العلم يهتم بمجال الهندسة اللغوية، أو المعالجة اللغوية للغات الطبيعية من كل الجوانب كالترجمة الآلية أو إعداد قواميس رقمية معجمية ودلالية، تعمتد على دراسة ذهنية حاسوبية، أو الاشتغال على استقراء الآراء والأفكار والنصوص التي على المدونات الرقمية… وغير ذلك من الاهتمامات الخاصة باللغة، وهذا الأمر يتطلب من الباحث دراية بالحاسوب؛ لأنه يعتمد على المعدات التنكولوجية كالحاسوب وغيرها من الأنظمة التي تقوم بهذا الدور ولها علاقة بمجال الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على الشكبة العصبية لدراسة الأنظمة اللغوية اللسانية، وهذه الشكبة العصبية هي “تقنيات حسابية مصممة لمحاكاة الطريقة التي يؤدي بها الدماغ البشري مهمّة معينة، وذلك عن طريق معالجة ضخمة موزّعة على التوازي، ومكوّنة من وحدات معالجة بسيطة، هذه الوحدات ما هي إلا عناصر حسابية تسمى عصبونات ( Nodes)، والتي لها خاصية عصبية من حيث إنها تقوم بتخزين المعرفة العلمية والمعلومات التجريبية لتجعلها متاحة للمستخدم، وذلك عن طريق ضبط الأوزان”[15]. كما أن لابد للباحث معرفة دقيقة بعلم اللسانيات؛ لأن الباحث يقوم باستقراء النصوص ودراستها دراسة لسانية تقوم على مبدأ التفسير والتأويل، ثم يقوم بإخضاع تلك القضايا اللغوية ومعالجتها آليا.
إن اعتماد اللغة العربية على تطبيقات الذكاء الاصطناعي سيساعدنا في تطوريها بحيث ستنتشر في العالم ويسهل تعلمها من طرف الناطقين بغيرها، والآن بدأنا نلامس بعض استعمالات اللغة العربية وفق تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة، كالمجال البنكي الذي سهّل على الزبناء مواكبة حساباتهم البنكية عن طريق تطبيقات ذكية تشتغل بالهاتف. كما أن اللغة العربية أُقحمت داخل مجال التواصل الرقمي بشكل كبير سواء في الدردشة باستخدام تطبيقات آلية ذات صنع عربي بلغة عربية ومصطلحات عربية مزودة بالشكل التام. كما نلاحظ في الآونة الأخيرة اعتماد الذكاء الاصطناعي في مجال الإعلام، حيث يتم تقديم الأخبار 24 ساعة على 24 ساعة دون توقف، وذلك بفعل شخصيات رقمية وهمية تحاكي شخصيات واقعية صنعت بالذكاء الاصطناعي، تتكلم بكلام يكاد يكون بصوت طبيعي وبلامح طبيعية وحركات الوجه تتماشى مع النطق، وبلغة عربية سليمة. وشخصيا قمت بهذه التجربة، حيث صنعت شخصية وهمية تتحدث بلغة عربية فصيحة، وهذا الأمر يقوم به برنامج النظم الخبيرة، وهو نظام ذكي يعتبر من أهم نظم الذكاء الاصطناعي، ” يقوم بتصميم معلومات تعمل على استقبال المدخلات ومعالجتها للتوصّل إلى مخرجات تساعد في اتخاذ القرارات، وتستخدم وتطّبق خبرات سابقة في معالجة البيانات بدلا من تطبيق معادلات رياضية أو خورزميات للوصول إلى الحلول”[16] وإن هذا التطور الكبير في مجال الرقمنة وعالم الذكاء الأصطناعي، سيزيد بالبحث العلمي للأمام، ويعطي للغة العربية مكانة بارزة ومهمة في العالم الرقمي، بحيث ستصبح رائجة في المواقع التواصلية الذكية، وهذه طفرة نوعية في مجال حوسبة اللغة وإقحامها في عالم الذكاء الاصطناعي، ومنطلق مهم لتطوير اللغة العربية وآفاق البحث في القضايا اللغوية بشكل كلي.
2ـ) آفاق اللغة العربية وحوسبتها في ظل تطورات الذكاء الاصطناعي
لا شك أن الإنترنيت غزى العالم وأدى إلى استعمار العقل البشري، فلم تعد البشرية تقوم بشيء دون الاعتماد عليه، باستثناء بعض الأمور التقليدية القليلة، وقد أصبح الإنترنيت من الضروريات البشرية، إذ أضحت حياة الإنسان رهينة عالم التكنولوجية والرقمنة، وكلما تطورت التكنولوجية الرقمية كلما ازداد الإنسان تشبثا وارتباطا بعالم الإنترنت، ولذلك على الإنسان العربي أن يطوي صفحات الماضي وأن لا يركز كثيرا في مجال البحث على الطرق التقليدية، ويفتح صفحات جديدة مع عالم الرقمنة والذكاء الاصطناعي[17]، لأن العالم أمسى يسير وفق هذا النمط، وأي تأخر ومماطلة من طرف الباحثين في مجال اللغة العربية خصوصا، ومجالات أخرى عموما، فإنه سيكون ضربة موجعة في المستقبل، لأن السير الحضاري ينحى منحى التكنولوجيا بغية رقمنة اللغة وكل ما يحيط بها، بل رقمنة كل شيء، لذلك ندعو الجهات المختصة تكثيف الجهود وتوفير المستلزمات الضرورية لخوض غمار البحث في عوالم الرقمنة والذكاء الاصطناعي.
يقوم الباحث في مجال حوسبة اللغة بأخذ اللغة من الكتب وإقحامها ضمن الآليات الرقمية الحاسوبية؛ أي ينقل اللغة من محضنها الطبيعي التي كانت عليه، إلى بيئة أخرى جديدة، وهي بيئة رقمية، تعتمد على عالم التكنولوجية بصفة كلية، وعلينا أن نفهم اللغة وندرسها ونستخدمها في الحياة اليومية لقضاء أغراض تواصلية أو تعليمية أو تجارية أو صحية… استخداما آليا يتماشى مع متطلبات العصر؛ لأن العالم بأسره بات يعتمد على كل ما هو رقمي في العديد من المجالات التي ينشط فيها الإنسان. ولبناء حضارة لغوية وفكرية ومعرفية وسياسية واقتصادية… في المستقبل لابد للعقل البشري أن يشتغل على ما هو تكنولوجي صناعي له صلة بالذكاء الاصطناعي، لأن تطور الأمم رهين بالاشتغال وفق تطور مجال الذكاء الاصطناعي.
وبما أن اللغة البشرية ظاهرة كونية يشترك فيها جنس البشر، وهي الآلة التي تحرك جميع المجالات، لأنها أداة لتحقيق الأغراض التواصلية وغيرها، فمن الضروري والمؤكد إقحام اللغة العربية داخل مجال الذكاء الاصطناعي، بغية حوسبتها ودراسة قضاياها وقضايا الإنسان المعاصر وفق تقنيياته. وبالاشتغال وفق هذه التقنية نستطيع مواكبة تطورات العصر، ونصل باللغة العربية إلى ما وصلت إليه بعض اللغات التي أُقحمت منذ زمن في مجال الرقمنة والحوسبة، ووصلت إلى النضج الرقمي وبعضها بلغ أوج الازدهار في هذا المجال، كاللغة الإنجليزية التي شهدت استعمالا مذهلا وانشتارا كبيرا في مجال الذكاء الاصطناعي.
انطلاقا من هذا التطور السريع في مجال الرقمنة والحوسبة وصناعة التطبيقات الذكية وتطويرها بالذكاء الاصطناعي، لنا أن نفكر بصوت مرتفع حول االلغة العربية، ونتساءل عن حالها في ظل هذه الثورة الرقمية الهائلة، ومستقبلها في مجال هذا العالم الرقمي الجديد، فكيف يمكننا حوسبة اللغة العربية في ظل هذه الثورة الرقمية؟
وبما أن اللغة تتكون من عدة مستويات لسانية مهمة، فلابد من حوسبتها من جميع مستوياتها، بدءا من المستوى الصوتي وصولا إلى المستوى الدلالي والتداولي. نسعى من خلال هذا العمل بناء قواعد معلوماتية رقمية تساعدنا على تنظيم الثروة اللغوية وفق نظام الذكاء الاصطناعي الذي سيسهم في تخزين الثروة اللغوية بشكل دقيق ومنظم، كما نهدف من هذه البيانات المعلوماتية “بناء موسوعة إلكترونية للغة العربية تساعد على إخضاعها لمنهجية العلم المضبوط ومطالب المعالجة الآلية الدقيقة، كما تساعد على تصميم برامج صحيحة للترجمة الآلية، تراعي خصوصيات اللغة العربية”[18]. ولا يمكننا القيام بحوسبة مستويات اللغة العربية إلا بجعلها تنسجم مع خورزميات الذكاء الاصطناعي؛ بمعنى أن نجعل اللغة العربية مبرمجة وفق خطوات دقيقة تحاكي خورزميات الذكاء الاصطناعي، التي تشكل”مجموعة خطوات مرتّبة وواضحة، قابلة للتنفيذ لعمل محدد له نهاية”[19] وتلك القوانين والقواعد توضع لحل مسألة تقنية حسابية وتحويل تلك المدخلات إلى مخرجات، وتعتمد على البيانات المنظمة على شكل رموز وصور مهيكلة وفق نظام دقيق، وكل ذلك لتحقيق نتجية معينة.
المعالجة الآلية للمستوى الأصواتي: تمر عملية المعالجة الآلية لأصوات اللغات الطبيعية بعدة أمور تقنية، تخضع لنظام حاسوبي رياضي دقيق، حيث سيقوم البرنامج الخاص بدراسة الأصوات دراسة شافية، بحيث يتم إحصاء الأصوات، ومعالجتها معالجة آلية، والتعرف على مميزاتها وسيماتها، وخصاصئها النطقية والسمعية والفزيائية، ودراسة الجهاز النطقي، ومعرفة التذبذات الصوتية، مع القيام بالتحليل الدلالي للصوت؛ أي بيان مميزات الأصوات والتفاعلات والتعالقات الدلالية الحاصلة بينها.
ولتحقيق الغاية والهدف المنشود من المعالجة الآلية للأصوات، نأمل أن يكون هناك برنامج آلي يقوم بهذه المهمة، ونقوم بتزويده بالبيانات الدقيقة والمعلومات التي تتصل بالأصوات سواء أثناء عملية إنتاج الكلام أو بعد العلمية، ومن هذه الخصائص المتعلقة بالمستوى الأصواتي نذكر مايلي:
ـ دراسة الأصوات النطقية، من حيث الجهاز التنفسي والجهاز التصويتي والجهاز النطقي.
ـ دراسة الأصوات من حيث النظام الفيزيائي والذي يراعى فيه دارسة الأبعاد الفزيائية والمادية للصوت أثناء مرحلته الانتقالية من فم المتكلم إلى أذن السامع؛ أي دراسة المرحلة الانتقالية للصوت، وهي التي تمثل حركة التموجات الصوتية أثناء النطق بها وتسربها في الهواء.
ـ الدراسة الاستقبالية للأصوات، أي دراسة القدرة السمعية التي تميز بين الأصوات وتنظم التذبذبات الصوتية التي تلتقطها أذن السامع، وهذه العلمية تسمى ما بعد النطق، وإن الدماغ وحركة الأعصاب هي التي تقوم بتوجيه السمع إلى التقاط الأصوات وترجمتها.
ـ مراعاة الجانب الإنتاجي للأصوات، الذي يسهم في إنتاج الأصوات الكلامية والعمليات التي تصاحبها في عملية إنتاج الكلام، وهذا ما يسمى بالجانب الفيسيولوجيا. وستكون نتائج المستوى الأصواتي دخلا للمستوى المعجمي والصرفي.
المعالجة الآلية للمستوى المعجمي: يراعى في معالجة المستوى المعجمي ضبط المفردات ضبطا آليا وتصنيف الكلمات حسب ورودها اللغوي ومعناها المعجمي، كما نحتاج إلى صناعة قواميس معجمية على شكل تقنيات حاسوبية؛ لأن وجود هذه المعاجم الحاسوبية تعني وجود ذخيرة لغوية رقمية، تساعد اللغة على التأقلم مع الواقع الجديد الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في معالجة اللغات الطبيعية.
وللاندماج والانخراط في عالم الذكاء الاصنطاعي، لابد لنا من صناعة برامج آلية تقوم بتصنيف وتوصيف الكلمات اللغوية ووضعها داخل قواميس معجمية آلية، وذلك بنقل المعطيات اللغوية الموجودة في الكتب والمعاجم اللغوية الورقية، ومعالجتها وتصنيفها داخل معاجم ذهنية رقمية، تتماشى وخصائص العصر التكنولوجي الواقع والمأمول، وإعادة تصنيفها وتوصيفها في معاجم رقمية دقيقة، حيث نقوم بتزويد تلك البرامج الآلية بالمعطيات والبيانيات المعجمية المهمة. ستقوم هذه البرامج بتحليل المعطيات تحليلا لغويا، بمعنى إعطاء المدار العام للمعاني اللغوية التي تدل عليها كل مفردة، ومن خلال هذا العمل نتسطيع تقديم مادة معجمية رقمية محوسبة في تطبيقات ذكية، سهلة الاستخدام والتوظيف، تساعد مستعمل اللغة على معرفة ما يبحث عنه دون جهد بالغ كما أنها توفر الوقت والجهد، وعليه فإن وجود معاجم لغوية ذهنية محوسبة شيء مهم يدفع باللغة العربية إلى الاندماج داخل عالم الرقمنة، وهي خطوة مهمة لتطوير اللغة العربية.
وسيكون هذا البرنامج الآلي مزودا بالمعطيات المعجمية الكافية في مجال معين، مثلا يمكننا صناعة قواميس آلية متعددة خاصة بمجالات معينة كالتعليم والصحة والسياسة والفلاحة والصناعة والرياضة وغير ذلك من المجالات الممكنة، وفيها تُدرج كل المعطيات المعجمية الخاصة بالمجال المنوطة به، والتي لها استعمال كبير، دون إدراج المعطيات المهملة التي لا تستعمل، وتكون هذه البرامج قابلة لزيادة المفردات الجديدة التي يولدها الاستعمال اللغوي بفعل الاحتكاك الثقافي أو الفكري وغير ذلك من الأسباب التي تولد مفردات جديدة. ويكون خرج المستوى المعجمي دخلا للمستوى الصرفي.
المعالجة الآلية للمستوى الصرفي: يخضع المستوى الصرفي إلى عدة قواعد صرفية تتحكم في الوحدة اللغوية المدروسة من طرف المحلل الصرفي، حيث يقوم المحلل الصرفي بتحليل كلمة معينة وبيان بنيتها الصرفية، وعناصرها المكونة لبنيتها، بعدة أمور تقنية، هي:
ـ التعرف على الوحدات اللغوية داخل الكلمة.
ـ تصنيف الكلمة وفق خصائصها ومميزاتها.
ـ تجريد الكلمة من السوابق واللواحق المتصلة بها.
ـ تحديد الأوزان الصرفية للكلمات المناسبة لبنيتها.
ـ بيان العلاقات الصرفية والنحوية الموجودة بين الكلمات داخل الجملة، وذلك من خلال دراسة مواقع الكلمة طبقا للقواعد النحوية التي تحدد وظيفتها.
وللتدقيق أكثر في دراسة أبعاد الكلمة نقترح أن تكون تقنية ذكية تقوم بهذا الأمر، بحيث تقوم بدراسة العناصر الأساسية المكونة لبنية الكلمة في اللغات الطبيعية، تكون مزودة بثلاثة وظائف أساسية هي: التحليل والتوليد والتأويل.
وظيفة التحليل: تقوم هذه الوظيفة بتحليل مكونات الكلمة، التي تتكون من الجذر والجذع والفرع والسوابق واللواحق، بمعنى أن نضع محللا آليا يقوم بهذه المهمة نزوده بالمدخلات لنحصل على المخرجات، مثل أن نعطيه كلمة معينة: (يتسابقون) فيقوم بتحليل هذه الكلمة وتجزيئها إلى مكونات صغرى، فنحصل على النتيجة التالية:
الجذر | الجذع | الفرع | السابق | اللاحق |
س ـ ب ـ ق | يسابق | سابق | س | و ـ ن |
فكلما كانت الكلمة تامة من حيث الوزن الصرفي والشكل، تكون الاحتمالات الواردة ضئيلة، مقارنة مع كلمة غير مضبوطة من حيث الشكل والبنية، ولذلك يجب أن تزود هذه التقنية الصرفية ببيانات واحتمالات كثيرة، حتى تصيب الهدف، وعلينا أن “نقوم بتوجيه الآلة إلى دلالات الكلمات المجرّدة من الضبط. وترتيب احتمالات معالجة الوحدات الصرفية بحسب دورانها في مواقع اللغة.”[20] وهنا ننظر إلى الكلمة وهي مجردة؛ أي أنها مادة كامنة في الدماغ قبل التحقق النطقي، فالدماغ هو الآلة التي توجد بها القواعد والبيانات التي تضبط المعطيات اللسانية، والتي تبني وفقها الآلة الصرفية الخورزميات التي تضبط اللغة وتتحكم فيها. وإن الوظيفة التحليلية خرج للوظيفة التوليدية والتأولية.
الوظيفة التوليدية: تنقلنا هذه الوظيفة من عملية تحليل المعطيات اللسانية المجردة التي تكون على شكل رموز وصور وميكانيزمات (لغة البرمجة)، إلى عملية إنتاج اللغة عن طريق جارحة اللسان. وبذلك ننتقل من الرموز إلى صور المفردات والكلمات…
تقوم وظيفة التوليد الصرفي، بتوليد ما يمكن توليده من الجذر اللغوي، أي توليد كل المشتقات التي لها صلة بيولوجية بالجذر اللغوي، سواء كانت هذه المعطيات قياسية أو سماعية، وكل أنواع الكلمة العربية من حيث نوع الكلمة الثلاثية والرباعية والخماسية، أو من حيث الزيادة والتجريد أو من حيث الصحة والاعتلال… وبعد إضافة كل ما يتصل بالكلمة من سوابق ولاواحق وإضافة مورفيمات الزيادة والحركات الإعرابية، مباشرة يأتي دور التأويل الصرفي.
وظيفة التأويل الصرفي: تقوم هذه الوظيفة بتأويل تلك المفردات داخل النص اللغوي؛ أي داخل سياقها مع لواسقها (السوابق واللاوحق) وبذلك تنتقل ببنية الجذر اللغوي من المستوى التجريدي الذهني إلى المستوى الحسي المنطوق، لإعطائها تأويلا مناسبا داخل سياج النص، لنحصل في الأخير على كلمات تامات من حيث البنية الصرفية والمعنى.
المعالجة الآلية للمستوى النحوي: يعد المستوى الصرفي دخلا للمستوى النحوي، الذي يقوم بمعالجة البنى التركيبية النحوية داخل النسق النصي. ولمعالجة هذا المستوى نأمل أن يكون البرنامج الآلي الخاص بدراسة هذا المستوى مزودا بآلية تحليلية تقوم بتحليل القواعد النحوية تحليلا منطقيا ينسجم مع منطق القواعد النحوية الكلية، وهذا الأمر لا يتم إلا بعد تزويد البرنامج الذكي ببيانات ومعطيات نحوية تركيبية كافية للقيام بهذا المهام؛ بمعنى أن يكون لهذا التطبيق الآلي ذاكرة تقوم بتخزين المعطيات النحوية لكل مفردة داخل السياق التواصلي. وكلما قام بتحليل معطيات ما، يخزّنها ويسترجعها إذا اقتضى الأمر ذلك. وإن عملية التحرير تكون عبر المراحل التالية:
ـ تزويد البرنامج بجميع القواعد النحوية الكلية للغة العربية.
ـ اعتماد نظام التدقيق الإملائي والقواعدي للتراكيب النحوية، بحيث يزودنا البرنامج بنص سليم نحويا وإعرابيا.
ـ إخضاع التراكيب النحوية ذات حالات اسثنائية أو متغيرة إلى قواعد خاصة تتغير بتغير السياق، مثل قضية البناء لغير الفاعل، أو الجمل ذات التعدد الدلالي من حيث المفاعيل، مثل الفاعل النحوي والفاعل الدلالي، كقولنا ‘مات الرجل’ جاءت المنية، ‘استيقظ الضمير’ أي تزويد الآلة بالقواعد النحوية ومن خلالها يقوم بتحليل دلالي يتسطيع التميز بين مختلف البنى.
ـ مرعاة الترتيب الأصلي للجمل كما هو في العربية (فعل فاعل مفعول) وكذا الترتيب الفرعي (فاعل فعل ـ مفعول). أو (مفعول ـ فعل ـ فاعل)…
ـ مراعاة تركيب الجمل أو أشباه الجمل من حيث الذكر والحذف والإضمار والنيابة الصفات والموصوفات…
بعد الفراغ من هذه المرحلة، ودراسة العلاقات النحوية وتطبيق القواعد على المعطيات اللسانية التركيبية، نمر إلى التحليل الدلالي للتراكيب النحوية، حيث يتم في هذه المرحلة بيان بعض الدلالات المبهمة للجملة وبيان بعض خصائصها حتى لا نقع في اللبس الدلالي، وبالوصول إلى المستوى الدلالي نقوم بالتحليل الدلالي للجمل والتراكيب وفيه يتم تعميق البحث عن دلالة المفردات والجمل داخل النص.
المعالجة الآلية للمستوى الدلالي: سيعتمد هذا النظام الدلالي على محرك البحث الدلالي الذي يوضع في البرنامج الآلي الخاص بدراسة المستويات اللسانية متكاملة، ويشتغل هذا المستوى بعد الانتهاء من المستويات الصورية (الأصوات المعجم ـ الصرف ـ النحو) وهدفه هو دراسة معاني الوحدات الصوتية والمعجمية والصرفية والنحوية، سواء كانت منعزلة عن النص، أو واردة داخل سياق النص؛ أي دراسة الترابطات والعلاقات الكامنة بين الكلمات فيما بينها، كما يهتم بدراسة طرق التعبير التي يستخدمها مستعمل اللغة في التواصل، وبيان دلالة الأساليب المستعملة في النص.
يقوم المستعمل بالبحث عن معاني المفرادات والجمل داخل سياقتها واستعمالاتها وفق أيقونة البحث التي ستكون موجودة في البرنامج الذكي، ويقدم له محرك البحث كل الخيارات المناسبة للمعارف والمعلومات المبحوث عنها، فيختار ما يناسبه ويقوم بنسخها والإحالة عنها إن تطلب الأمر ذلك، ومثل هذه الأعمال البحثية القائمة على الذكاء الاصطناعي أصبحنا نراها في الساحة المعرفية الإلكترونية، إلا أنها لا تزال فتية وتحتاج مزيدا من العمل والبحث والتطبيق، وقد “تمكنت اللغة العربية من استخدام محركات بحثية عربية”[21].
وللتعرف على معاني المفردات منعزلة ومقحمة داخل السياق لابد من التعرف على خصائصها الدلالية، وهذه العلمية تتم وفق دراسة شبكات العلاقات الدلالية التي تربط العناصر فيما بينها، وكذا دراسة السيمات المميزة للمفردات، وهذه العملية تسهل على المستعمل التمييز بين مكونات اللغة من حيث التحقق والتجريد؛ بمعنى التمييز بين الكلمات الفيزيائية الملموسة مثل الإنسان والحيوان والجماد، وبين الكلمات المجردة، ذات المعاني غير المحسوسة كالحب والعقل والملائكة والجن…
كما يستطيع التمييز بين الأشياء الفزيائية الحية كالنبات والحيوان والإنسان، وبين الأشياء الجامدة، كالحجر والتراب…
فمن خلال هذه السمات الدلالية يمكن لمستعمل اللغة العربية ولو كان أجنبيا التمييز بين العناصر كيفما كانت طبيعتها.
كما يمكننا صناعة قواميس دلالية آلية، بجعل الدلالة محوسبة في تطبيقات ذكية، وهذا لا يعني عزل القواميس اللغوية عن الصرفية والنحوية والدلالية؛ وإنما ستشتغل متكاملة فيما بينها، وستمكّن هذه القواميس الآلية مستعمل اللغة معرفة دلالة كل ما يقوم بدراسته أو ترجمته أو البحث عنه. ولكي تعطي هذه المسوتيات للباحث صورة واضحة يجب أن تشتغل وفق نظام التكامل والتضافر، لا بنظام التجزيء والتفريق، وقد فرقنا بين هذه المستويات في هذه الدراسة لتوضيحها فقط.
المعالجة الآلية للمستوى التداولي: يعتبر المستوى التداولي من أهم المستويات التي أصبحت تعنى بالدراسة، لأنها ترتبط بالاستعمال اللغوي عند المتكلم. ولحوسبة هذا المستوى، نفترض برنامجا آليا يقوم بدراسة مقاصد المتكلمين وأهدافهم وفك شفرات الخطاب، بعمنى حوسبة الجانب التداولي والاستعمالي للغة، وهذا الأمر يحتاج تعميق البحث، لأنه لم يُدرس إلا دراسات قليلة، ويرجع السبب في ذلك إلى صعوبة الأمر، لأن الباحث يتعامل مع شيء مجرد، لأنه هو شعور داخلي وتفكير فردي يتعلق بمستعمل اللغة، ويختلف الاستعمال اللغوي التداولي من متكلم لآخر، حسب مقاصد المتكلمين، يتفاوت بتفاوت مدارك العقول وطريقة التفكير، وهناك بعض التقنيات التي حاولت إدراك طريقة الإنسان في التفكير ومعرفة منطلقاته الفكرية، وتسمى هذه التقنية بنظم المنطق الضبابي الغامض/ المبهم (Fuzyy Logic Systeme) وهي “طريقة معينة في الإدراك تحاكي طريقة إدراك الإنسان لتقدير القيم وما يرتبط بها من مرجعيات ومن خلال بيانات غير تامة أو بيانات ضبابية (Fuzyy Data ) ، فبدلا من الاستناد على التصنيف الزوجي العددي (نعم، لا) يميل المنطق الضبابي إلى استخدام عدّة تصنيفات احتمالية بين كلمة نعم وكلمة لا”[22] ولكن بعد التطوير من الذكاء الاصطناعي والوصول إلى الذكاء الخارق، (A. Super. I) الذي تنبأ به العلماء والذي يسعى إلى تجاوز الذكاء البشري في كل المجالات التي يتحكم فيها الذكاء الطبيعي (البشري) تجاوزا تاما، إذ يستطيع القيام بمهامات الإنسان الدقيقة بشكل جيد مثل اتخاذ القرارات ودراسة الشعور والأحاسيس البشرية، ويتقن التواصل والتفاعل دون برمجته، وذلك من خلال التعلم الذاتي، بعد هذه المرحلة يمكن للباحث صناعة تطبيقات وبرامج ذكية تقوم بحوسبة الجانب التداولي والاستعمالي للغة عند الإنسان حوسبة دقيقة.
خاتمة
اعتبارا لما سبق نستنتج أن دراسة اللغة العربية وفق الإمكانيات والآليات المتاحة في هذا العصر أمر ضروري ومؤكد؛ لأن تطور اللغة العربية رهين بإقحامها داخل عالم الرقمنة والحوسبة (الذكاء الاصطناعي) والذي سيساعدنا في بناء أفق معرفي رحب يتجاوز الطرق التلقيدية المعتادة، إلى النفاذ إلى عوالم تكنولوجيا فريدة، التي ستمكننا من آليات جديدة لها القدرة على تطوير العديد من المجالات التي ينشط فيها الفكر الإنساني بصفة عامة واللغة العربية بصفة خاصة.
كلما أدراجنا فكرنا ولغتنا (نحوا وصرفا وبلاغة…) داخل خورزميات هذا العالم الذكي (الذكاء الاصطناعي) في هذا الوقت بالذات سيجعل اللغة العربية تواكب الركب الحضاري والتقدم المعرفي الذي يشاهده العالم في كل المجالات، وكلما تأخرنا في الانفتاح على عالم الذكاء الاصطناعي كلما ازدادت الفجوة العلمية التكنولوجية بين اللغة العربية وباقي اللغات الطبيعية التي بلغت أوج الازدهار في عالم الرقمنة والحوسبة.
وقد أسفرت هذه الورقة العلمية على عدة نتائج نوردها في مايلي:
إن الهدف من اعتماد الذكاء الاصطناعي هو ملء الفجوة العلمية التي يمر منها البحث العلمي في حميع المجالات، ونأمل من خلال حوسبة اللغة العربية وفق الذكاء الاصطناعي إلى تنظيم الثروة اللغوية الهائلة تنظيما آليا وبناء قواعد تكنولوجية تساعدنا في الحفاظ على موروثنا اللغوي، كما نسعى من خلال هذه الورقة العلمية محاولة تقديم مقترحات جديدة لدراسة اللغة العربية وفق تقنية الذكاء الاصطناعي.
كشفت هذه الدراسة بأن خصائص الذكاء الاصطناعي تنسجم مع خصائص اللغة العربية، من حيث العلاقات المنطقية التي تشتغل وفقها اللغة العربية والذكاء الاصطناعي، وهذا الأمر سيحدث تحولا معرفيا مهما في دراسة الفكر الإنساني عامة واللغوي خاصة، وذلك بتحويل مسارنا البحثي من الاشتغال بآليات تقليدية معقدة، إلى الاهتمام بآليات حديثة مبتكرة سهلة تتماشى مع خصائص الذهن البشري، وترجع أهمية تطبيق الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي إلى فهم طرق التفكير الإنساني وفق محاكاة دماغه، ومعالجة القضايا اللغوية والفكرية معالجة حاسوبية متخصصة تحاكي السلوك الإنساني.
وعلى الرغم من تلك الخدمات الإيجابية التي تزودنا بها تقنيات الذكاء الاصطناعي، إلا أن هناك إكراهات في توظيفها، من بينها أنها تنطوي على سلبيات يجب علينا التعامل معها بحذر. ولمسايرة هذه التحدياث والإكراهات لابد من العمل على بناء بنية تحتية تكنولوجيا رقمية قوية، والعمل على تكوين باحثين لسانيين وتكنولوجين متخصصين في مجال الذكاء الاصطناعي، يستطعون خوض غمار البحث في بحر هذه العلوم الحديثة لمواكبة تطورات العصر. وكذلك فتح شعب وتكوينات داخل الجامعات المغربية خاصة بتدريس مجال الرقمنة والذكاء الاصطناعي.
عبد الرحيم آيت معاد ) قطب الدكتوراه بجامعة السلطان مولاي سليمان كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال ـ المغرب(
هوامش:
[1] Thomas J Barth and Eddy Arnold, “Artificial intelligence and administrative discretion: implications for public administration”, The American Review of Public Administration, , pp:332–333
[2] حنام مهدي، الذكاء الاصطناعي والصراع الإمبريالي. Alaan Publishing Co. ISBN:978- 9923-13-309-5. مؤرشف من الأصل في 2023-04-18.
[3] جون مكارثي، “ما هو الذكاء الاصطناعي؟” نسخة محفوظة 22 سبتمبر 2017 على موقع واي باك مشين.
[4] Andreas Kaplan; Michael Haenlein (2019) Siri, Siri in my Hand, who’s the Fairest in the Land? On the Interpretations, Illustrations and Implications of Artificial Intelligence, Business Horizons, 62(1), 15-25 نسخة محفوظة 24 فبراير 2019 على موقع واي باك مشين.
[5] أطروحة دارتموث: McCarthy et al. 1955
[6] Elaine Rich and Kevin Knight, “Artificial Intelligence.
[7] Dario Floreano and Claudio Mattiussi,”Bio-inspired artificial intelligence: Theories, methods, and
[8] محمود فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة ص. 113-114.
[9] الفاسي الفهري، البناء الموازي نظرية في بناء الكلمة وبناء الجملة، ص 18.
[10] مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث. 115.
[11] فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة 118.
[12] أنظر تشومسكي (1986أ) و(1989 ب).
[13] “يقول الفرابي ” صناعة المنطق تناسب صناعة النحو، وذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ. فكلّ ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات” انظر إحصاء العلوم، لأبي نصر الفرابي، ص 12.
[14] عبد الله بن محمد الحميداني: مفاهيم أساسية في الترجمة الآلية، المترجم العدد 12 جوليه ديسمبر 2005.
[15] قصي حبيب الحسني: في الشبكات العصبية الاصطناعية، جامعة الإمام جعفر الصادق، العراق، ص3.
[16] مصعب الدويك: أثر استخدام الأنظمة الخبيرية في تطوير الأداء في التدقيق الخارجي، بحث مقدّم لاستكمال مساق حلقة البحث العلمي في المحاسبة، جامعة عمان العربية، الأردن، 2013، ص26.
[17] وهذا لا يعني أنني أنتصر للحداثة على التراث، وأنادي بالقطيعة الكلية بين التراث القديم والفكر الحديث، بل أسعى إلى معالجة القضايا اللسانية والإنسانية بطرق توافق العقل المعاصر. فالتراث هو النواة التي انبثقت منه الحضارة، ولا يمكننا الاستغناء عنه، ولكن لا يجب علينا في الوقت الراهن أن نفكر بعقول القدماء، فهؤلاء سخروا عقولهم وكل ما يملكون من قوة، لدراسة قضاياهم وفهم لغتهم وحل الإشكالات التي يفرضها عليهم عصرهم، ولنا أيضا أن نعتمد على عقولنا ونشغلها في دراسة قضايا الإنسان المعاصر بطرقنا ومناهجنا وآلياتنا المتاحة في عصرنا، حتى نتمكن من دراسة إشكالتنا وقضايانا التي يقدف بها العصر علينا.
[18] سنام منعم: اللسانيات الحاسوبية والترجمة الآلية ـ بعض الثوابت النرية والإجرائية ـ، عالم الكتاب احديث، الأردن، ط1، 2015، ص181.
[19] محمّد دالي: مقدمة في علم الحاسب، جامعة الكامل، 2019، ص4.
[20] محمد عطية وآخرون، العربية والذكاء الاصطناعي، إصدارات مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، السعودية، 2019. ص103.
[21] أنظر: أعمال مجدي وليد وإمام أسامة، استرجاع الملعومات، ضمن كتاب: المعالجة الآلية للنصوص العربية، الرياض، منشورات مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، ص15 ـ53، 2019.
[22] سعد غالب ياسين: نظم مساندة القرارات، دار المناهج النشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2017، ص194.
قائمة المصادر والمراجع
مراجع باللغة العربية
- أبو نصر الفرابي، إحصاء العلوم، شرح وتقديم على بولمحم، مكتبة الهلال بيروت، الطبعة الأولى 1996.
- مجدي وليد وإمام أسامة، استرجاع الملعومات، ضمن كتاب: المعالجة الآلية للنصوص العربية، الرياض، منشورات مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، الطبعة الأولى 2019.
- جون مكارثي، “ما هو الذكاء الاصطناعي؟” نسخة محفوظة 22 سبتمبر 2017 على موقع واي باك مشين.
- حنام مهدي . الذكاء الاصطناعي والصراع الإمبريالي. Alaan Publishing Co. ISBN:978- 9923-13-309-5. مؤرشف من الأصل في 2023-04-18.
- سنام منعم، اللسانيات الحاسوبية والترجمة الآلية ـ بعض الثوابت النرية والإجرائية ـ، عالم الكتاب احديث، الأردن، الطبعة الأولى، 2015.
- سعد غالب ياسين: نظم مساندة القرارات، دار المناهج النشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2017.
- عبد الله بن محمد الحميداني: مفاهيم أساسية في الترجمة الآلية، المترجم العدد 12 جوليه ديسمبر، الطبعة الأولى 2005.
- الفاسي الفهري، البناء الموازي نظرية في بناء الكلمة وبناء الجملة، دار توبقال للنشر، بالدار البيضاء 05 المغرب, الطبعة الأولى 1990.
- قصي حبيب الحسني، في الشبكات العصبية الاصطناعية، جامعة الإمام جعفر الصادق، العراق.
- مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث، دار طلاس، دمشق۔ سوريا، الطبعة الأولى، سنة 1988م.
- محمد دالي: مقدمة في علم الحاسب، منشور بجامعة الكامل، الطبعة الأولى، 2019.
- محمد عطية وآخرون، العربية والذكاء الاصطناعي، إصدارات مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، السعودية، الطبعة الأولى 2019.
- محمود فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة، الدار المصرية السعودية، للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة- مصر، الطبعة الرابعة، 2006.
- مصعب الدويك: أثر استخدام الأنظمة الخبيرية في تطوير الأداء في التدقيق الخارجي، بحث مقدّم لاستكمال مساق حلقة البحث العلمي في المحاسبة، جامعة عمان العربية، الأردن، الطبعة الأولى، 2013.
