أحمد راجع
قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء هي مقطوعة مفتوحة مستقلة لا تلتزم بقافية أو وزن تحوي الكثير من الإيحاءات، والصور الشعرية، متحررة من الوزن والقافية في بنية حية وبناء شعوري متكامل ومتنام، وعمل فكري نشط، ففيها الإشارات والإيماءات، والإلهامات، والتلميحات التي تؤثر في فكر القارئ إلى حد التقبل والرّضى، وقد تجلت مظاهر شعريتها في أسلوب تكرار البنيات اللغوية، والحشد اللفظي تحت سلطة النحو، والتراكم المعنوي، والغموض الذي يشكل انزياحا شعوريا وظاهرة فنية بنائية.
الكلمات المفتاحية:
بناء متكامل – التكثيف – التكرار – الشعرية – الغموض – قصيدة النثر.
مقدمة:
تقوم هذه الدراسة على الكشف عن بعض مظاهر الشعرية في قصيدة النثر أو ما سمي بالقصيدة الخرساء، للوصول إلى مميزات هذا النص الشعري الجديد، وتقوم إشكالية الدراسة على السؤال الآتي: أين تكمن شعرية هذه التجربة اللغوية المنسوبة إلى الشعر؟
وتهدف الدراسة إلى إثبات بعض صفات الشعرية في نماذج من قصائد شعراء قصيدة النثر بالمنهج التحليلي الوصفي.
وقد تناولت الدراسة الآتي:
أولا-معنى قصيدة النثر وصفتها.
ثانيا-قصيدة بضرورة تخالف القاعدة الشعرية.
ثالثا-قصيدة النّثر المُوقَّع.
رابعا-مشروع الكتابة الشعرية الجديدة.
خامسا-التنامي الداخلي في قصيدة النثر.
سادسا-ظاهرة التكرار في قصيدة النثر.
سابعا-ظاهرة الحشد اللفظي في قصيدة النثر.
ثامنا-التكثيف في قصيدة النثر.
تاسعا-تلاشي الفكرة في قصيدة النثر.
عاشرا-الغموض في قصيدة النثر.
حادي عشر-حركية الصورة وأسلوبية التّخييل في قصيدة النثر.
خاتمة الدراسة.
1-معنى قصيدة النثر وصفتها:
وانه شاع لدى النقاد أنّ قصيدة النثر مقطوعة مفتوحة مستقلة لا تلتزم بقافية أو وزن، فهي كلام غير مقفّى يعتمد على الصور الشعرية الفنية، والبناء الموسيقي الداخلي، تحتوي الكثير من الإيحاءات، والصور الشعرية لتعوض انعدام الوزن في قصيدتها، واشتهر الشعراء العرب بكتابة مثل هذه القصائد في بدايات القرن العشرين.
ومن أطلق اسم قصيدة النثر يريد «التمييز بين الشعر والوزن ، أو بين الشعر والنظم والفصل بينهما، فالشعر مستقل بنفسه يمكن أن يكون منظوما أو منثورا ، فالقصيدة يمكن أن تكون قصيدة نثر كما يمكن أن تكون قصيدة وزن ، وإن قصيدة النثر تأليف بين نقيضين لم يأتلفا من قبل، وهما الشعر والنثر، والشعر بأدواته التي يعتبرونها قيودا، والنثر بتحرره أو بافتقاره إلى هذه الأدوات، رغم أن نصوص اللغة تؤلف بين النثر والشعر، ولما بقيت أشكال الشعر الموروثة في تلك القواعد التي صارت قيودا شكلية يقول فيها شاعر نظّام مقلد جاءت قصيدة النثر متمردة على تلك القواعد تحاول القبض على الشعر من منطلق الحرية، فالوزن ليس ضروريا والموسيقى يمكن أن تتجدد في القصيدة غير الموزونة، ويمكن القول أنها تتصف بأنها: لا تُعرَف ولا تُنقَد، وتتحكم فيها حساسية الفرد ، هي رواية مكثفة، هي الشكل الطبيعي للإلهام، بها اللغة الشعرية والوصف والإيقاع. » ([1])
فقصيدة النثر شكل أدبي ينتمي إلى الأدب وإلى الشعرية، ذلك «لأنه نشاط لغوي مبدع، يعبر عن رؤية، مستخدما الوسائل الأدبية من تصوير وتخييل وخلافه ، وقد انقسم النقاد إلى ثلاثة اتجاهات: اتجاه مندفع في التأييد، واتجاه متوسط في الحكم واتجاه متزمت في الرفض، واعتمد الاتجاه مندفع في التأييد على مناصرة التيار الغربي واستلهام تجاربه في الإبداع والنقد عن طريق الترجمة، وعلى رأس هؤلاء أدونيس وأنسي الحاج، وكمال أبو ديب ورفعت سلام وفخري صالح أما الاتجاه المتوسط في الحكم فقد حاول التوفيق بين الرؤى الغربية والبيئة العربية ، ومن هؤلاء إدوارد الخراط وصلاح السروي وصلاح فضل وتأسس الرفض المتزمت لقصيدة النثر على رفض تسميتها ، ومن ثم رفض مفهومها ومعناها وشكلها وشعريتها فلا يجتمع الشعر والنثر في قرينة واحدة ولا هي شعر رفيع ولا هي نثر فني، فهي شعر الحياة اليومية الذي يتميز بالركاكة وإفساد الذوق ، ومن هؤلاء علي عشرى زايدوكما نشأت وأحمد درويش. » ([2])
2-قصيدة تخالف القاعدة الشعرية:
الشعر في جوهره وحقيقته تجربة لغوية ترقى فوق التجربة اللغوية النثرية وفوق التجربة اللغوية التي تلبي حاجات المتخاطبين في تعبيرهم البسيط، «أي أن اللغة الشاعرة أو التجربة اللغوية الشعرية هي مستوى من الرقي اللغوي يأتي دونها مستويان: أحدهما بالآداب النثرية، ثم يليه مستوى لغة التعبير البسيط الفصيح فالشعر فن وسيلته اللغة وقد ظل على مدى العصور النبع الأساسي لحياة اللغة واستمرارها وتجددها منذ قدم صوره التراثية ولهذا نرى الشاعر حريصا على الصياغة والصنعة اللفظية حتى لو أوقعه ذلك في تجاوزات سماها القدماء “الضرورة الشعرية “حينا ، وأطلق عليها الأسلوبين المحدثون “الخروج عن القاعدة” وعدوا ذلك مقدرة فنية بديعة لدى الأديب أي ليست عيبا لغويا كما اعتبرها الأقدمون([3])»وقصيدة النثر عمل لغوي فني متكامل رغم أنه خارج عن القاعدة، تتجلى فيه مقدرة الأديب في الغوص بالألفاظ ، والتصوير الجديد للمعاني للوصول إلى تذوق اللغة وحصول المتعة الفنية في الإدراك العقلي.
3-قصيدة النّثر المُوقَّع:
لقد أطلقت تسميات عدة لهذا الإبداع الأدبي انطلاقا مما أثير من قضايا نقدية «فقضية الوزن بين الشعر والنثر عند “أرسطو” وانتقلت إلى العرب حيث استقرّ عندهم أنّ الوزن من خاصيات الشعر وأن النثر لا يجب أن تلتجئ إليه ويقصد به الوزن العروضي المعهود، وقد بنى العرب أسلوب النثر على إيقاع تتساوى فيه من حيث الطول والقصر وفي عدد الكلمات، وتناسب من حيث الصيغ الصرفية وتتناسب في المقاطع المقصورة والممدودة وتتناسب الجمل من حيث الحركات، ويدخل السجع ضمن حالات إيقاع النثر بسبب غناه اللفظي. أما الشعر فيخيّل ويحاكى باللحن المؤثر في النفس، وبالكلام نفسه، وبالوزن، وقد تفهم القصيدة كرسالة توصيلية وتوجه إلى مخاطب محدد، وقد تستعير بعض صيغ الرسالة النثرية. » ([4])
وفي قصيدة النثر نستمع إلى نثر «منظم إيقاعي يستخدم مثل الشعر لعبة متغيرة من النبرات والمؤثرات الصوتية كالتكرار والمتجانسات الصوتية والسجع لكن هذا النثر الموقّع المتميّز موضوع بدوره في مكان من سلم يتدرج من النثر إلى الشعر العروضي دون قطع في تنظيم شكلي له كيانه الفني» ([5])
فتأمّل قول محمد الماغوط:
«أريدُ أن أهزّ جسدي كالسّلكِ
في إحدى المقابر النائيةِ
أن أسقط في بئر عميقَة
من الوحوش والأمّهات والأساوِرِ
لقد نسيت شكل الملعقة وطعم الملحِ
نسيت ضوء القمر ورائحةِ الأطفال
إنّ أحشائي مليئة بالقهْوة الباردةِ» ([6])
4-مشروع الكتابة الشعرية الجديدة:
تمتلك القصيدة الشعرية الجديدة دلالة شعرية يحدد فيها المبدع مكان لغته، إنه يدرك الواقع الموصوف ليعوضه بخطاب حي من مادته الخاصة، «ينمحي الموضوع شيئا فشيئا أمام ما يصلح التعبير عنه، ويتجلى الإبداع في مظهره الحقيقي حينما نسلم بأنه يعبر عن نفسه باللفظ، ويوجهه مشروع في ذلك، فاللفظ وحده هو الذي يعبئ الوسائل، ويحدد التقنية، ويحقق الأثر، فالقصيدة مناطق سطحية تنظم فيها أصوات الألفاظ، فهي تتكون من أنوية متراصة، ومراحل عليا لخطاب يخلق الحركة التي تكسبه الحياة، هذه الأنوية والقطع المتقنة، ولحظات الكثافة اللفظية، تستدعي جميعها استعمال ثراء لغوي بارع، وتعبئ صنافة من الوسائل الأسلوبية» ([7])
فهذا محمد عفيفي مطر يبدع قطَعه المتقنة قائلا:
«وجهُ البلاد المفطور في الرُّؤيا
اشتباك الطيرِ في عصْفِ الغمامْ
والنّهر يعلو.. ضفتاهُ مِن
سَابغ النوم، السواقي لا تنامْ
إلاّ على جُرح ونزْف يسكن الصلصالَ
والموّالَ في خبز الفطامْ» ([8]).
5-التنامي الداخلي في قصيدة النثر:
يرى الدارسون أنّ قصيدة النثر «بنية حية وبناء متكامل، وعمل فكري وشعوري متكامل ومتنامي، وليست خواطر مبعثرة أو أفكاراً متفرّقة، تتشكل من مقاطع، وتنقسم المقاطع إلى وحدات صغرى تسمى أبياتاً، وكلّ بيت يستكمل ما قبله، وهو مقدّمة لما بعده، وهي تجسّد بذلك إحساساً متّصلاً، وفكراً مترابطاً، وأبرز سمات قصيدة النثر الانسجام والتوازن، ووظيفية الأعضاء، والتنامي الداخلي، ووحدة المناخ والشعور والموضوع والرؤيا، وهو ما يطلق عليه بالوحدة العضوية، لكن القصيدة لا تتقدم نحو غاية أو هدف كالقصة والرواية والمسرح أو المقالة بل تعرض نفسها ككتلة لا زمنية، ففيها الإشارات والإيماءات، والإلهامات، والتلميحات التي تؤثر في فكر القارئ إلى حد التقبل والرّضى. »([9])
فإذا نظرت في قول المَاغوط:
«إنّني أكثر من نجمة صغيرة في الأفقْ
أسيرُ بقدمين جريحَتين
والفرحُ ينبض من مفاصِلي
إنّني أسير على قلبِ أمّه. »([10])
وجدتَ اتصال الأسطر الشعرية واتحادها، وتنامي الصورة لدى المتكلم، فلازم الفرحُ النابضُ السائرَ على قدميه.
6-ظاهرة التكرار في قصيدة النثر:
لم يكن استخدام أسلوب التكرار مقصورا على شعر الأدب العربي بل عرفته أشعار كثيرة ، فقد تميّز به «شعر كبار شعراء الانجليزية بدءا من “شكسبير” وحتى “إليوت” ، فعدوا التكرار في بعض صوره لونا من ألوان التجديد في الشعر، ويحتوي أسلوب التكرار على كل ما يتضمنه أي أسلوب آخر من إمكانيات تعبيرية ، والقاعدة الأولية في التكرار أن اللفظ المكرر ينبغي أن يكون وثيق الصلة بالمعنى العام ، وإلا كان لفظة متكلفة لا سبيل إلى قبولها إلا إذا بررت وجودها بجماليات خاصة ، كما أنه لابد أن يخضع له الشعر عموما من قواعد ذوقيه وجمالية وبيانية ، فليس من المقبول مثلا أن يكرر الشاعر لفظا ضعيف الارتباط بما حوله ، أو لفظا ينفر منه السامع إلا إذا كان لغرض يتعلق بهيكل القصيدة العام، فالتكرار يكشف عن اهتمام المتكلم بما كرر ، وله دلالة نفسية لدراسة الأثر ، وتحليل نفسية كاتبه، ويسعى التكرار إلى أن يكون الموضوع حاضرا في ذهن القارئ ، وقد استمده الشعر الحديث من أصول فن الموسيقى ، وعلم الجمال الحديث ، فيعتمد الشعراء تكرار أجزاء القصيدة ، ويتخذون من هذا التكرار مادة فاعلة في بنية القصيدة ، والتكرار إما تكرار دلالة أو تكرار بنية . »([11])
فتكرار دلالة من خلال تكرار بنيتها، تظهر في قول محمد عفيفي مطر:
«وأنت استقام البكاء لصوتكَ
لم يستقمْ لي بكائِي
فهم أكْثرون
شتاء تكاشَفه الشمس فالنّمل يسعَى،
الضّحى كان صحوا، ويملأ وجه ممالكه القشّ
والسّقط المتجمّع من كسر وطحين من الصّخر والقمحِ
وأنت استقام البكاء لصوتكَ
لم يستقمْ لي بكائِي. » ([12])
فهذا التكرار صنع للنص جماله وذوقه، وثبّت الدلالة في الذهن، وقد قصد إليه القائل ليبيّن الفرق بين الاثنين في استقامة البكاء.
وأما تكرار البنيات من الحرف إلى الكلمة إلى العبارة فكثير في قصيدة النثر، فهذا أنسي الحاج يقول:
«اتّخذتُ اللّيل فأطفأتُه والنّهار فأسلمته
اتّخذتُ الأكاليل فاحْتقَرتها
اتّخذتُ الحُبَّ فكسرته
اتّخذتُ الجَمال وكرجل أفقرتُه. »([13])
فهذا نوع من التكرار يعد دعامة من دعامات السياق الموسيقي للعبارة الشعرية، لما تستلزمه تلك الموسيقى من وجود في أجزاء العمل الأدبي.
6-1-تكرار النّمط النحوي:
ويقصد به «تركيب لغوي يتكرر بوزنه لا بلفظه غالبا وقد سمّاه الدارسون القدماء بأسماء مختلفة، فسموه “حسن التقسيم والترصيع والازدواج، ولا يشترط أن يكون الحرف الأخير في كل تركيب مكرر واحدا، ويكفي اتساق الفواصل لأجل الإيقاع، وفي هذه الظاهرة اللغوية شواهد من الشعر العربي والقرآن الكريم والحديث الشريف، وهو لون إيقاعي محبّب إلى نفس العربي. ([14])
ففي قول أنسي الحاج:
«في قصص الكبار للصغار
ذئب يكون دائما
وراءَ أحجارْ
وراء أسفارْ
وراء أشجارْ
وراء بستان من الأزهارْ» ([15])
تركيب لغوي يتكرر بوزنه لا بلفظه، فقد كرر شبه الجملة، وفيه الحرف الأخير “الراء”، لينشأ إيقاع موسيقي محبوب من اتساق هذه الفواصل.
7-ظاهرة الحشد اللفظي في قصيدة النثر:
الحشد في اللغة الاجتماع ، وفي الشعر هو «مجموعة من المقدمات المتتالية التي هدفها التوصل إلى نتيجة ما ويكون في القصيدة الحديثة على هيئة مبررات متلاحقة ، أو مجموعة من الجمل الإخبارية التي تنتهي بنتيجة إما تراتبية وإمّا مبنية حسب مقدمات ، وهي نتيجة منطقية لتلك المقدمات أو انقلابية ، والنتيجة الانقلابية هي تلك النتيجة التي تأتي على خلاف التوقعات بشكل غير محتمل منطقيا بالنظر إلى المقدمات المطروحة ، ففي حالة الحشد الترابي تكثر في القصيدة أو المقطع الدوال المترابطة بنائيا أو معجميا أو نفسيا، وهذا الترابط يفرض سلطته على كل أجزاء المنطقة المحتشدة ، سواء أكانت سلطته هذه سلطة نحوية أو غير نحوية» ([16]).
يقول محمد عفيفي مطر:
«هذي المدينة موبوءة.. يترجل وحش جميل
التقاطيع ما بين همهمة الفقهاء ودفء الفراش
المبلل بالنّوم والموت، ما بين وشوشة القصر بالمخمَل
أنا ملك، والمدينة تحتي تلف عصائبها، بين تاجي
وعرشي تساقط الشمس دامية، يخلق الليل
تحت هشاشته حيوان الوسامة والرعب» ([17])
فقد حشد أنواعا مختلفة من الكلمات (اسم الإشارة والضمير)، وأنواعا من الجمل (الاسمية والفعلية)، وشبه الجملة في نتائج لمقدمات ومقاطع مترابطة يتحدث فيها عن مدينة الملك.
8-التراكم في قصيدة النثر:
التراكم هو «القيمة البلاغية والمظهر الجمالي للخبرة التاريخية للمبدع ، ولكي ندرك مفهوم التراكم ودور الخبرة فيه على المستويين الإنتاجي والجمالي ، يجب أن نحدد القيمة الإبداعية للخبرة ودورها في نتاج المبدع، فللخبرة الإنسانية مجموعة من الأسس النفسية التي ترافق المراحل الخبرية ، منذ بداية وعي الإنسان بالتجربة غير أنّ بعض هذه الأسس يبقى في الظل هامشا غير جدير بالاهتمام ، لكنه يملك دور المحفز والمساند لخبرات إنسانية تتصدى لاحتلال بؤرة الفعل الإبداعي عند تجربة استخدام مخزون هذه الخبرة ، فتطفو إلى سطح الصدارة أسس نفسية فعّالة ومؤثرة في المعرفة والإدراك وبلورة الأفكار ، وهذه المرحلة التي يتحكم فيها الإطار الاجتماعي للفرد وظروف هذه البيئة مناخيا وجغرافيا ، بل ووضع الفرد الانتسابي والعائلي في هذا المجتمع المحيط به ، ثم تندرج تلك الخبرات حتى يكتنزها صاحبها للاتجاه في طريق محدد ، هذا الطريق هو الذي يحدد قيمة الخبرات المكتسبة ويميز بين الجوهري الأساسي منها والهاشمي، فتصير لدى الفرد خبرات تخصيصية، وبقدر تغلغل هاتين المرحلتين في نفس الإنسان منذ البدء يكون حجم الإبداع وقيمته، وتتجنب القصيدة الاستطرادات والإيضاح والشروح وكل ما يقودها إلي الأنواع النثرية الأخرى. » ([18])
فقد حلّت ظروف اجتماعية بالمجتمع العربي جعلت شبابه يحس ويتأثر، ويعبر عن هذا الإحساس بما يراه مناسبا، فابتدع قصيدة النثر لأنه يعيش الحرية، ويعيش التحرر من قيود القديم، وفي الوقت نفسه يحاول المبدع أن يجمع ما أمكن من أجزاء الصور النفسية والفكرية في مجتمع الحداثة انطلاقا من خبرته المعقّدة، فهذا أنسي الحاج يقول مكثّفا:
«صِرنا نفتّش عما نقول، حتى بعد حين نصير مرتبطين
وكلّما تنفّسنا خنقَتنا الكلمات
قريبا يكون الذين آلمتهم بعيدين لا أقدر أن أشرح لهمْ
وسَوف أسْهر على وجهي.
صَنعت حربي فكم أود أن أصنع سَلامي.
أفظَع ما شاهدت في عيونهم عصافير هاربة تعني أني خيّبتهم
صَنعت شوقي فكيف أوصل حبّي
صَنعت حبي فكيف أعطي عطائي» ([19]).
9-تلاشي الفكرة في القصيدة:
ظاهرة التلاشي هي الوجه العكسي للتراكم اللفظي ، ومعنى التلاشي «أن يأتي المبدع في النص بمتشابهات في الجذر أو في الصياغة أو في الفكرة ، لكنّه بعد ذلك يتخلص من تلك المتراكمات تدريجيا ليعود مرة أخرى إلى البسيط الذي منه بدأ ، أو ربما ليتلاشى كلية » ([20])، ولعلّ أبرز مثال على هذا ما نجده في قول محمد عفيفي مطر:
«غموضُ دمِ هاربِ يتقلّب في صفحةِ الوجه،
يخبو وينبضُ،
خيطانُ من طائف الشّك يشتبكان
التواريخ تمحُو التواريخ
نمْل من الذِّكَر الباهَتة
يُدحرج ما لم يكن في ترابِ الذي ربّما كان،
كوب من الشاي يطفو على سطْحه ورق “العطر”
…وصيْد الكلام يفرّ ويدنُو
وأنت تفتّش في نبْرة الصّوت
.. بين عمَاء دم، وترى طائف الشكّ.» ([21])
فقد تلاشت فكرة “النمل “مع “الدم” المتحرك، ليعود إلى الفكرة المعنى وهي الشك والغموض.
10-الغموض في قصيدة النثر:
الغموض في اللغة «ضد الوضوح ، والغموض والغامض المطمئن المنخفض من الأرض ، وقد غَمض المكان أي خفي ، وكل ما لم يتّجه إليك من الأمور فقد غمض عليك، والغامض من الكلام خلاف الواضح وأغمض النظر إذا أحسن النظر أو جاء برأي جيد وأغمض في الرأي وأصاب» ([22])، وقد عُني النقاد العرب بدراسة الغموض عناية فائقة محاولين الكشف عن طبيعته ، ودراستهم له أمر بالغ الأهمية لاسيما أن الدراسات الحديثة للنقد تستهدي بما خلفوه لنا من توجيهات لا يمكن إغفالها ، «وقد ظهر الغموض بوصفه ظاهرة فنية بنائية في صورة ثورة ضد الجمود والنمطية المعهودين وقتئذ ، فقد مرت اللغة العربية في العصر العباسي بمرحلة النمطية ومن هنا رأى النقاد في الشاعر أبي تمام ( ت 231ه) خارجا على المألوف من أصول الشعر ، وعلى الرغم من أننا نقرأ شعره الآن فلا نجد ما كانوا يقولون ، فقد وجدوا في ذلك الوقت أن في شعره انزياحا لغويا غريبا، لأن النمط الشعوري العام ينحصر فيما رسمته العادة.»([23])
و تدعو فلسفة بناء القصيدة الحديثة إلى «الغموض وعدم التجلي وإلى الرؤيا والحلم، فلا تحديد لموضوع وغرض القصيدة الواحدة، بل يعمد الشاعر إلى الإخفاء، ثم إن المعاني الجزئية والمضمون من منطوق ومفهوم للتركيب لا ضابط لها، ولا قبض عليها، إنما القصيدة سراب يُغري بالجري فيهلك الإنسان قبل أن يرتوي، وذلك أن الشاعر يرى أن داعي الغموض هو ما تتسم به القصيدة من البعد المعرفي، ففلسفته تقوم على تحطيم اللغة ومدلولاتها ومعيارية النحو، وتفريغ اللفظة والتراكيب مما تحمله من دلالات متتابعة عبر العصور، فلا يصرح أو يبوح اللفظ أو التركيب بشيء حسي أو معنوي، فالمعرفة تحصل من الشيء العقلي الذهني الثابت، وقد يتأتى الغموض من تكاثف العناصر الفنية التي تغلب على تكوين النص الفني، من حيث الألفاظ ودلالاتها وإيحاؤها الموسيقي، والتصويري، بعيدا عن أسلوب المحاكاة لتجنب عقد مشابهة توجيهية تقريرية، حيث يعتمد الشاعر على النسيج البنائي للقصيدة وما به من تفاعلات داخل ألفاظها ، وقدراتها على فتح مجاهيل التلويحات والإيماءات مما يعطي تخصبا في عملية الإدراك.»([24])
فانظر إلى قول محمد الماغوط إذ أغمض في الفكرة وأصاب:
«معلّقا تعاستي في مسَامير الحَائط
غارسَا عيني في الشّرفات البعيدةِ
والأنْهار العَائدة من الأسْر
رأيتُهم جميعا تحت السّماء الصفراءِ
أغنياء ومسالمينْ
فقراء ووحوشْ
ملايين الأسنان تصطَدم في الشارعِ.» ([25])
11-حركية الصورة وأسلوبية التّخييل:
تزخر قصيدة النثر «بعنصر التوتّر القائم على الهدم وعدم التقيد بسياق مرجعي محدد، فتحررت بذلك الصورة الشعرية من كل إطار مسبق في القصيدة التقليدية ومالت إلى الاهتمام بالتكثيف والانزياحات البعيدة، ولعبت لعبة الغموض الدلالي، ووقعت خارج التصوّر المألوف وهدمت الواقع بالتخيّل، فجرت فيها اللغة الشعرية لتضفي على الصور نوعا من الإشراق والتجلي، وتكسب الإيقاع ضربا من التدفق والفيض.» ([26])
ففي هذا يقول محمد الماغوط:
«مخْذول أنا لا أهْل ولا حبيَبه
أتسكّع كالضّباب المتلاشِي
كمدينة تحترِق في اللّيل
والحنين يلسَع منكبَي الهزِيلين
كالرّياح الجمِيلة، والغبَار الأعْمى
فالطّريق طويلَة
والغَابة تبتعد كالرّمحِ
مُدّي ذراعيك يا أمّي. »([27])
الخاتمة:
ونختم بالقول:
- قصيدة النثر عمل لغوي فني متكامل رغم أنه خارج عن القاعدة، تتجلى فيه مقدرة الأديب في الغوص بالألفاظ، والتصوير الجديد للمعاني للوصول إلى تذوق اللغة، وحصول المتعة الفنية في الإدراك العقلي.
- كما في قصائد “محمد الماغوط”.
- في قصيدة النثر قطعا متقنة، ولحظات الكثافة اللفظية، تستدعي جميعها استعمال ثراء لغوي بارع، وتعبئ صنافة من الوسائل الأسلوبية كما في قصائد “محمد عفيفي مطر”.
- في قصيدة النثر اتصال الأسطر الشعرية واتحادها، وتنامي الصورة لدى المتكلم.
- كما في قصائد “أنسي الحاج”.
- شعراء التفعيلة يهتمون بالتكثيف والانزياحات البعيدة، ولعبة الغموض الدلالي، والخروج عن التصوّر المألوف وتهديم الواقع بالتخيّل.
ومهما يكن فقد تجلت شعرية قصيدة النثر في التكرار تكرار الدلالة أو تكرار البنية، والتكرار النحوي الذي هو تركيب لغوي يتكرر بوزنه لا بلفظه غالبا، وفي ظاهرة الحشد اللفظي، وفي ظاهرة التكثيف والتراكم بفعل الخبرة المكتسبة لدى المبدع، وظاهرة التلاشي في أفكار القصيدة، وظاهرة الغموض بوصفه ظاهرة فينة بنائية، وعدم التجلي والرؤيا والحلم.
(أحمد راجع، قسم اللغة والأدب العربي كلية الآداب واللغات بجامعة أدرار، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية.)
المصادر والمراجع
[1] -ينظر: أحمد عبد المعطي حجازي، قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء، (2008م)، ط1 ،دار الصدى، دبي، الإمارات العربية المتحدة، ص 19-30.
[2] -ينظر: محمود إبراهيم الضبع ،قصيدة النثر وتحولات الشعرية،(2003م)، ط1،الشركة الدولية للطباعة، القاهرة،مصر،
ص290 ،301.
[3] -يوسف حسن نوفل،(1995م)، أصوات النص الشعري، الشركة المصرية العالمية للنشر، الجيزة، مصر،،ط1،
ص21-22.
[4] – رشيد يحياوي،(1991م)،الشعرية العربية، الأنواع والأغراض، دار إفريقيا الشرق،ط1، ،الدار البيضاء، المغرب،
،ص122-128.
[5] – سوزان برنار، تر زهير مجيد مغامس وعلي جواد الطاهر، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، (1993م)،ط2 ،دار المأمون،بغداد،العراق،ص119-120.
[6] – محمد الماغوط، الأعمال الشعرية ، ص80.
[7] – جمال الدين بن الشيخ،(1996م)،الشعرية العربية، جمال الدين بن الشيخ، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،المغرب،ط1،ص 176-177.
[8] – محمد عفيفي مطر، (1998م)، احتفالات المومياء المتوحشة، ط1، دار الشرق،القاهرة،مصر،ص176-177.
[9] -ينظر: خليل موسى، مفهوم الوحدة العضوية في القصيدة العربية الحديثة،(1982م)،جامعة دمشق ،سوريا
،ص41.
[10] – محمد الماغوط،(2006م)،الأعمال الشعرية ،دار المدى للثقافة والنشر،دمشق،سورية،ط1،ص41.
[11] -ينظر: علاء الدين رمضان،(1996م)، ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث،اتحاد الكتاب العرب،سوريا،ط1،
ص 71-73.
[12] -محمد عفيفي مطر، احتفالات المومياء المتوحشة، ص260.
[13] -أنسي الحاج، ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة، (1994م)، دارالجديد،ط2 ،بيروت، لبنان، ص19.
[14] -ينظر : سيد خضر،(1998م)،التكرار الإيقاعي في اللغة العربية، دار الهدى للكتاب، كفر الشيخ، القاهرة، مصر،ط1 ،ص61-69.
[15] -أنسي الحاج، ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة، ص112.
[16] – ينظر: علاء الدين رمضان ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث، ص95.
[17] – محمد عفيفي مطر، احتفالات المومياء المتوحشة، ص126.
[18] – ينظر: علاء الدين رمضان، ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث، ص109.
[19] – أنسي الحاج، ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة، ص139.
[20] – ينظر: علاء الدين رمضان ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث، ص115.
[21] – محمد عفيفي مطر، احتفالات المومياء المتوحشة، ص442.
[22] -ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، مادة “غمض”.
[23] – ينظر: علاء الدين رمضان، ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث، ص129.
[24] -ينظر: مسعد بن عيد العطوي، الغموض في الشعر العربي، (1420ه)، ط2 ،تبوك ، المملكة العربية السعودية
، ص164-175.
[25] – محمد الماغوط، الأعمال الشعرية، ص81.
[26] – إيمان ناصر، قصيدة النثر. التغاير والاختلاف، (2003م)، دار الانتشار العربي، مملكة البحرين، ص109- 110.
[27] – محمد الماغوط، الأعمال الشعرية، ص 42.