فضاء الغواية والموت في رواية: “ثلاثة أيام في كازابلانكا” لإسماعيل غزالي نموذجا.

 د. سعيد بوعيطة

ملخص:

تعمل النصوص الإبداعية/السردية على إعادة تشكيل العالم باللغة. بمعنى أن الكاتب يسعى من خلال هذا النتاج الأدبي، إلى بعث عالم خاص، عبر المادّة اللغوية من فقرات وجمل وكلمات…الخ. يشكل الروائي من خلال هذا العالم رؤيته للكون وللمجتمع والحياة عامة. فقد شكل الموت جزءا أساسيا من هذه الحياة، حتّى لو بدا للوهلة الأولى نقيضا لها،  فإنه الوجه الجانبي للحياة، باعتبار فكرة الثنائيات المتباينة التي تمنح الإنسان قيمة الأشياء في بعد تجريدي شبه مطلق  . ذلك أن أهمية الحياة، تكمن في كونها ضد الموت. في هذا الإطار، تتنزّل راوية” ثلاثة أيام في كازابلانكا” للروائي المغربي إسماعيل غزالي، باعتبارها تشكّلا للحياة أو على الأقل جزءا منها. ففي هذا النص الروائي يكمن الموت كما تكمن الحياة في فضاء ضاج بالحركة والحيوية(مدينة الدار البيضاء). لكن الموت عند إسماعيل يحمل أبعادا فلسفية، من خلال دلالاته الإستيتقية والجمالية.                                                                                 

الكلمات المفتاحية: الدار البيضاء، الغواية، الموت، الفضاء

Summary:                            

Creative/narrative texts reshape the world with language. In the sense that the writer seeks, through this literary production, to create a special world, through the linguistic material of paragraphs, sentences, words. Through this world, the novelist forms his vision of the universe, society, and life in general. Death has formed an essential part of this life, even if it appears at first glance to be its opposite, as it is the side aspect of life, given the idea of disparate dualities that give man the value of things in an abstract, almost absolute dimension. Because the importance of life, lies in the fact that it is against death. In this context, the narrator of “Three Days in Casablanca” by the Moroccan novelist Ismail Ghazali descends as a formation of life, or at least part of it. In this fictional text, death lies just as life lies in a space bustling with movement and vitality (the city of Casablanca). But death, according to Ismail, carries philosophical dimensions, through its aesthetic and aesthetic connotations.

Keywords: Casablanca, seduction, death, space

مقدمة:

     قليلة هي الدراسات النقدية أو التحليلية المكرسة لمعالجة الفضاء في الرواية بشكل شمولي، على الرغم أهمية هذا المكون السردي في نسيج النص الروائي. ذلك أنه يشغل مساحات قارة من الإيحاءات والرموز الذهنية المشكلة لمختلف الأبعاد الفنية للنص السردي. خاصة النصوص السردية التي تتقاطع مع مختلف تمفصلات تيار الرواية الجديدة. هذا الأخير الذي يحايت الفضاء فيه سوادا مطلقا حسب ميشيل رايمون([1]). مما يؤكد في هذا السياق، أنه إذا نحينا جانبا السرد والشخصيات، فإن الفضاء يظل قائما. يستمد أهميته من كون الروائي يعمل على بناء فضائه قبل شروعه في بناء عوالمه السردية. بمعنى، أنه لا يقوم بالسرد إلا على بساط الفضاء الذي يقدمه. يبدو هذا التمثيل موائما للنص السردي الذي تسعى هذه المقاربة تناوله. والمتجلي في رواية”ثلاثة أيام في كازابلانكا” للروائي المغربي إسماعيل غزالي. حيث عمل على توظيف الفضاء باعتباره بناءا معماريا. نظمه ورسمه السارد(الروائي) من خلال جانبين اثنين. تجلى الأول في كونه فضاء مرجعيا. يقود إلى فضاءات موجودة واقعا(الدار البيضاء، طنجة…الخ)أو منشودة حلما(أوربا/الحلم). تعمل بدورها على تشكيل فضاءات ثانوية(الحانات،الشوارع،المقاهي. .الخ تشكل في توليفها الشمولي رموزا فضائية دالة. تعمل باعتبارها محركا محوريا لنسيج النص. لكن على الرغم من كونها تتقارب أحيانا وتتعارض أحايين أخرى، فإنها تتدرج لتخلق سلسلة مكملة بعضها البعض. مما يستلزم تفحصا لتلك العلاقة المشتركة لكل فضاء مع الآخر الذي يلازمه أو يوازيه أو يتناقض معه. من خلال العلاقة بين الفضاء وأبعاده المرجعية، والفضاء المكتسب. علاقة بين فضاء المدن المعمدة في النص و الموصولة ببقاع غير منسجمة معها وغريبة عنها(مدن إفريقيا). أما الجانب الثاني، فيعمل على تحديد مختلف للدلالات الرمزية للأمكنة المستحضرة في هذا النص السردي. سواء المنغلقة منها أ والمنفتحة/المنكشفة. ستحدد بالضرورة مسارات الشخصيات الحياتية. فقد شكل فضاء نص”ثلاثة أيام في كازابلانكا” المتجلي في فضاء مدينة الدار البيضاء، نوعا من الغواية لمختلف شخصيات هذا النص. لكن سرعان ما تتحول هذه الغواية إلى شرنقة للموت /الفناء بالنسبة للشخصية. اعتمادا على هذه العناصر الاستهلالية، سنحاول مقاربة رواية(ثلاثة أيام في كازابلانكا) للروائي المغربي إسماعيل غزالي. حاول هذا الأخير، غرز فضاء مدينة عملاقة/الدار البيضاء في عوالم هذا النص السردي. الذي شكل فضاء للصراع من جهة، وفضاء للغواية المفضية للموت/الاندثار من جهة أخرى .               

 1. فضاء الاتصال والانفصال

     استعار الجيرداس غريماس/Greimas مصطلحي الانفصال/الاتصال من المنطق الرياضي. وبرهن على أن كل من المستويين، يحدث في مجال الشخصية والفضاء([2]) . حيث اعتبر أن وظائف الرحيل/لانطلاق(الانتقال) ترتبط بالانفصال.  أما وظيفة العودة فاعتبارها شكلا للاتصال بين الشخصية والفضاء. لكن بالمقابل، يؤكد باختين على نفي العلاقة العضوية بين الفضاء والزمان واعتبرها مجرد علاقة تقنية ميكانيكية([3]). يمكننا عند ذلك،أن نستنتج أن الاتصال والانفصال، يمكن أن يحدثا في آن واحد عبر حذف الزمن. إن الرحيل من إثيوبيا بالنسبة لشخصية الزنجي بيكيلا إلى المدينة الشرنقة(الدار البيضاء)، لا يقابل العودة من المدينة الشرنقة(الدار البيضاء) إلى الفضاء الأصلي(إثيوبيا). ذلك أن كل هذا خاضع لاعتبار أي الفضاءين يمكن أن يشكل المكان البؤرة في النص. في محاولة للاقتراب من قانوني الطاقة السردية العزلة /العلاقة،من خلال مفهومين شكليين هما الانفصال/الاتصال، إثيوبيا /الدار البيضاء أو طنجة، إلى فضاء إيحائي.  يتجلى في العزلة / الانفصال عن العالم(بين العالمين)الاتصال بالفضاء. ذلك أن قيام الوظيفتين في آن واحد (بشكل مزدوج)، يؤدي إلى اختراق التضاد الواقعي لهما. كما تحصل الأشياء على شعريتها وهي تملأ مجالها بالتأثير. كما قد يتوحد هذان القانونان بالغموض الذي يتجه نحو الفضاء، والغموض الذي عرفه مفهوم الشخصية. فإذا كانت مدينة الدار البيضاء، مسرحا للكشف،فبالمقابل كان زمن الرواية مسرحا للتوقع. مما يجعل المتلقي يجيب(بشكل ضمني) عن تساؤلات إسماعيل غزالي الضمنية: هل يكتب الروائي عن الفضاء المرئي، أم يكتب عن فضاء آخر (خفي، إستعاري)؟ هل تسعى الشخصية للعيش فيه، أم يجب أن تحلم لكي تعيش فيه؟ وإذا كان المبدع يحيا في الفردوس الخفي، في اللامكان، فما هي طبيعة هذا الملكوت؟ و أين يتموقع هذا اللامكان، في رقعة الوجود المرئي؟ هل لهذا المكان ملامح الوجود في عالم المحسوس، أم مكانه الحقيقي في العالم الذي يقع وراء المكان، ووراء الوجود المحسوس؟([4]). بهذه الرؤيا، يحيك إسماعيل غزالي نسيجه النصي الهجين مرورا بإراثة الأماكن رسما ووصفا(الحقيقة المرعبة واحدة هي اختفاء كازابلانكا عما قريب من خارطة المغرب،من شمال إفريقيا، من العالم) تقول شخصية السائق المنمش في الصفحة:24. إنه يبحر في تيهه الصدع، ولا ينفك يبرح  فضاء  بيضاويا، حتى يعانق آخر وسط فضاء إشكالي غني بالألوان والمفارقات. يمتزج فيه: الماضي بالحاضر، المقدس بالمدنس، الحضري بالبدوي. لهذا،فإن السرد في النص الغزالي، يرسم شوارع المدينة التي تحملها الشخصيات السردية معها في حلها وترحالها (شخصية شاب البيتزا). بهذا، تمنح المدينة نفسها للقراءة في النص الذي تكتبه. كما أن تكرار رموزها، يرسم بيان الرحلة المحرض للكتابة في التواتر وفي التوارد، بصمة المدينة تمهر زوايا كل صفحة  من النص. متحسسة خط طوافها و طواف الكاتب المتعهد بنسخها([5]). قبل مناولة الفضاءات الغزالية(نسبة إلى إسماعيل غزالي) بالتحليل، نجد من الأهمية التذكير بأن عمله الروائي يرتاد المجتمع المغربي المعاصر. من هذا المنطلق،فإن وجه المدينة العتيق،لا يتجلى إلا كبناء محفور في ذاكرة الماضي (فندق لينكولن)أو اللوحات الفنية التي تزين غاليرهات أطلنتيك المملوك لشخصية السيد عدنان،أو جدران مكتبه  .تصوغ هامشا مختلفا للحداثة  .كما تشكل العالم الروائي الحقيقي والمتخيل للفضاء الحضري  .كل مواقع الانقطاع والتيه والعزلة تنبثق عن قالب النشوء البدئي  .كما أن كل آفاق البحث عن الذات المهمومة بالتماس الفضاء الطوباوي، هي أصيلة لبؤر مؤمكنة. لذلك يعتبر الفضاء المديني، فضاء(التمثيل المركب  .المدينة فيه ما هي إلا صدى لمدن أخرى،وهي لا تحيا إلا إذا تنفست حضورها الكلي الذي يميزها عن مكانها الوجودي)([6]).                                            

  مما يجعل تلك الشخصيات الزنجية(بيكيلا، كيسيا، كاماريا، ساساندرا) تمخر عباب الصحراء بحرية مطلقة في طريق بحثها عن الفردوس المفقودة. تتبع مسيرها الأسطوري بين عدة فضاءات منارية مفتوحة على الحلم،استدعاء الشمال(تلك الخطة العملية والعلمية التي سيجندون لها حشدا من الزنوج الأفارقة المشردين في طنجة بانتظار عبور المتوسط إلى إسبانيا) تقول شخصية فدوى(الساردة)الصفحة:281. يعبق الفضاء عند إسماعيل غزالي، بسحر ينغلق على إنكفاءة متوحدة. لا يفك طلسمه وسط خباء الرمال المقفر الذي تتشكل منه تضاريس مائعة نتيجة صيرورة تكيف لم تفتأ تتواصل على مدى زمني بعيد. تتراكم خبرتها الإنسانية من حيث المعيش وسط مناخ جهم. إنه فضاء لا حدود مكانية ولا زمانية له على مستوى النص والخطاب على السواء(يحمل ملامح خاصة كرسته طرحا اعتباريا، وجعلته يتصدر واجهة السرد. لكونه تجلي لبؤرة تشع منها أنساق المادة الروائية. إنه يبحث عن خلود الحرية، وحرية الخلود. البحث عن ذلك الفضاء المفقود هو الذي جعل الدار البيضاء كما تقول الساردة(شخصية كيسيا السينغالية) قد(خلقت عزيزي، لتكون ملاذ القارة) الصفحة :19

                                                                                                          الفضاء وتشكيل مسارات الشخصيات

   إذا كان فضاء المدينة يمثل للسارد /الشخصية فضاء طمأنينة واستقرار وبناء حياة أفضل،فإن فضاء الدار البيضاء يمثل له فضاء المتاهة المعقدة التي يتعذر الارتكان إليها والاستقرار فيها مع نوع من التوازن النفسي و الوجداني. إنه فضاء يقع في الواجهة المقابلة لفضاء المدن الأخرى البسيط. فضاء معقد بحضارته ومدنيته وازدحامه. يستحضره السارد/شخصية شاب البيدزا، من خلال لحظتين مختلفتين. تتجلى الأولى حين عانق السارد فضاء الدار البيضاء لأول مرة أثناء رحلته عند وفاة والده والتحاقه بأمه(شخصية إيزة)(يتذكر أول مرة قدم فيها إلى الدار البيضاء من قرية أطلسية مغمورة  .فقد جاء إلى كازابلانكا ملتحقا بأمه إيزة بعد أن توفي زوجها(…) ورث عنه شاب البيتزا دراجته النارية. كان الشاب يطمح من قدومه إلى البيضاء أن يتحول إلى لاعب كرة قدم. هداف ضمن فريق كبير من فرقها الشهيرة(ها قد تحول بقدرة قادر إلى لاعب آخر. يخيط شوارع كازابلانكا بدراجته طولا وعرضا مستهدفا عناوين الشقق)الصفحة:213  .أما الثانية،فترتبط بدخول هذا الطفل الحالم فضاء الدار البيضاء وهو يرى فيه فضاء الحضارة المتجدد التي يحول الإنسان من الفقر إلى الغنى. يقدم له حياة السعادة. فإلى أي حد ستتحقق هذه الصورة الذهنية على الواقع الفعلي؟ وصل السارد /الشخصية إلى الدار البيضاء. لكن حين تنقل فيها مشيا على الأقدام عبر شوارعها وأزقتها. اكتشف من خلال هذه الرحلة، ثلاثة عوالم مختلفة(متناقضة). يحتضنها هذا الفضاء الشبح الذي يحدد ويرسم مسارات الشخصيات و حيواتهم الجديدة. من خلال العلائق التي تربطهم بباقي الشخصيات. يمكن تحديد مسارات الشخصيات المحورية في فضاء النص السردي من خلال العوالم  التي تتشكل كالتالي:

مسارات الشخصيات

                                                       ↓

     

        مسار(1)        مسار(2)          مسار(3)         مسار(4)            مسار(5)            مسار(6)

      شخصية عدنان   شخصية كمال    شخصية مراد    شخصية  الأندلسي      شخصية العميد         الأفارقة

                         الصياد                                                 (الملقب المكسيكي)

          ↓               ↓                 ↓                   ↓                     ↓                  ↓    

       (عالم الفن)     (عالم الإعلام)    (عالم الفن)         (عالم المال)        (عالم السلطة)      (عالم هامشي)

      سلطة الفن        سلطة الإعلام     سلطة الفن       سلطة المال             السلطة المادية      صورة الآخر  

     على الرغم من هذا التعدد على مستوى العوالم و المسارات الحياتية،فإنها لا تخرج عن عالمين. تتجلى  في عالمين: عالم السلطة بمختلف تجلياتها شخصياتها(السيد عدنان، كمال الصياد،الأندلسي، عميد الشرطة)، وعالم شخصيات الهامش/ الثانوي(الزنوج الأفارقة، فاسكا/صاحب الكشك، الهندي/السائق،شاب البيتزا، السائق/الهندي). أشار كلود ليفي ستراوش /Claude  Lévi-Strauss إلى أن الشخصية في تغيرها وتحولها المستمرين، تمنحنا على عكس ما ذهب إليه فلاديمير بروب، فرصة ثمينة لإدراك المضمون الحقيقي للحكاية، تلوينها الثقافي والأيديولوجي. ذلك أن إسناد فعل(وظيفة) في التحديد البروبي لشخصية معينة، لا يعني الاهتمام فقط بما يصدر عن هذه الشخصية، وإغفال كينونتها وبعدها الثقافي. يشتغل كل عنصر  كسند لوظيفة ما، له موقع داخل ثقافة معينة. وإذا لم نأخذ هذا البعد الثقافي بعين الاعتبار في تعاملنا مع الشخصية، فسنبقى في حدود تحليل شكلي لا طائل من ورائه([7]). إن الديناميكية في حركة الشخصيات وفي حركة الفضاء، هي نتاج تفجير الثنائيات الدلالية المتموضعة في مقولات دلالية جاهزة. تتخذ أبعادا مشخصة من خلال الفعل الصادر عن الشخصية. تخترق الحدود المسيجة للحقل الدلالي على حد تعبير لوتمان([8]). فإذا كانت العلاقات داخل البنية الدلالية تتميز بالسكون، فإن عملية تشخيص هذه البنية(إعطائها بعد تصويريا)، تقتضي تحريك العلاقة وتحويلها إلى عمليات. هكذا تبدو العلاقة واضحة بين الثنائيات الدلالية وبين حركة الشخصيات داخل الفضاء السردي. إن تجسيد هذه الثنائيات وإعطائها بعدا تصويريا، يمر عبر بناء أفعال. تستند إلى كائنات تتحرك داخل فضاء جديد. ما دامت حركة الشخصيات المحورية داخل الفضاء المخصص لها، لا تشكل حدثا معينا. بمعنى أن الانتقال من النسق الأول إلى النسق الثاني(الذي يعيد تشكيل مسارها الحياتي) ليس انتقالا سكونيا. يكتفي فقط بتحويل ما هو مكثف داخل البنية الأولى، إلى ما هو مفصل داخل البنية الثانية(من صورة كونية تضم داخلها سلسلة من الثنائيات على شكل قيم عامة، إلى أشكال خاصة). إنه على العكس من ذلك، انتقال ديناميكي/صدامي كما يرى  لوتمان([9]). ذلك أن المضمون الأول، يغتني من خلال التحققات الخاصة. إذ أن كل تحقق(خلق نصي)، يضيف لهذا الشكل أو ذاك، قيمة جديدة أو معدلة إلى المضمون الأول. فصورة السلطة المادية، كحدات داخل مقولة معنية تامة(الغنى مقابل الفقر)، تغتني بفعل إدراج الوضعيات الإنسانية المتنوعة كأشكال ثقافية. تتضافر فيها عناصر عدة:علاقات مشبوهة بين شخصيات المستوى الأول، المصلحة المشتركة، تزاوج سلطة المال و السلطة السياسية، إيديولوجية. قصد بناء عوالمها الجديدة.                                                                                                                                                                                    

        بهذا، تحدد مسارات الشخصيات الروائية وعوالمها السردية، الوجه الخفي لفضاء الدار البيضاء. فهذا الفضاء،ليس كما تردد الأناشيد(العامة): الدار البيضاء تغني المزلوط . بل يزيده فقرا وأزمة وانكسارا. أما العالم الثالث الذي يكشف عنه سارد” ثلاثة أيام في كازابلانكا”،فيتجلى في فضاء الدار البيضاء الآيل للسقوط والتصدع(فندق لينكولن). يوازي تصدع عوالم أخرى رمزية. سواء على مستوى السلوك أو الوضع الاجتماعي. أو العلاقات بين شخصيات الرواية المبنية على سلطة المال. تنكشف سلبيات هذا العالم لأول وهلة، حين يصف السارد كازابلانكا بأنها(مدينة أشباح، خراب عظيم، لا حياة في رمادها المستفحل، الحياة فيها مجرد خيط سديم هزيل ومخجل)الصفحة:146. من خلال هذا الموقف، سيبني السارد تصورات مسبقة عن هذا الفضاء. يتمنى أن يغادره في أقرب وقت ممكن وألا يعود إليه أبدا حتى لا يغرق فيه. تقول شخصية مروان مستهزئة: (كازابلانكا نفسها هي مثلث برمودا، الثقب الأسود الأعظم على طول فراسخ الأطلسي، أيها الأخرق)،الصفحة:242. حيث كسرت هذه العوالم(مسارات الشخصيات)الصورة الجميلة التي كان يكونها السارد وهو طفل حول فضاء الدار البيضاء. ليعيد تأسيس صورة جديدة مبنية من الواقع المعيش. قوامها أن المدينة عبارة عن فضاء التناقضات والمتاهات المعقدة و اللاتجانس. من خلال مختلف عوالمها(الحانات،الشوارع،العمارات،..الخ)،وكذا مختلف شخصياتها التي اكتشف السارد عدم تجانسها. إنه الوعي الجديد الذي شكلته كذلك شخصية الهندي، بعد سنوات خلت وبعدــ أن كبرت لتعيش في هذا الفضاء من جديد. فكانت هذه العودة إلى الدار البيضاء تقسم كيانها بين الخوف و الفرح، رغبة في العثور على حلمها المنشود. لكنها اصطدمت بهذا الواقع. يقول السارد(شخصية الهندي) في الصفحة 201: (أتساءل يوميا ماذا أفعل هنا؟جئتك، يا بيضاء كي أكون ممثلا سينمائيا، انتهى بي الأمر بشكل كاريكاتوري سائقا لكاميونيت شركة الإنتاج . سائق معتوه صالح لمآرب أخرى مشبوهة. يديرها السيد مراد كما لو كان رئيس عصابة)  .يدخل السارد هذا الفضاء، ليكتشف أن التحول لحق(فندق لينكولن) رمز المدينة وأصالتها(وجوه نزلاء الفندق جميعهم، الذين ارتادوه منذ تشييده سنة 1917 حتى لحظة إقفاله سنة 1989تطل محتشدة، وهي تومئ إليه بملء الغضب والإدانة والشجب، كما لو كان هو نفسه مهندس النزل الفرنسي المدعو هيبير بريد) الصفحة،24. إلا أن هذا الفضاء الذي تغيرت ملامحه عبر الزمن، وازداد ترسخا في المدينة، تأقلمت معه الشخصية. سواء من خلال علاقاتها بباقي الشخصيات أو في وظيفتها. فكان عزاؤها الوحيد في هذا الفضاء هو تحقيق الحلم المستحيل(أضع رأسي على الوسادة بعد أن يتعتعني السكر، وأهمس: ستأتي لحظتك  .كل شيء بأوانه…مضحك…مرت عشر سنوات،ولم تزهر اللحظة بعد…هل فاتك القطار أيها الهندي؟) الصفحة:201 . تراوده هذه الأحلام بين الحين والآخر. لتخفف عنه بعض الآلام التي يعاني منها في وحدته. بالمقارنة بين الفضاءين: الدار البيضاء و طنجة(مدينة العبور إلى الحلم) يقول: (إن لامس جسدك بحر المتوسط في طنجة، سيستيقظ من كابوس الأغنية أو يتحرر من قدر كازابلانكا الذي يطوقه بسلسلة، وإن كانت مصنوعة من سديم. فهي أشد بأسا من الحديد) الصفحة:170. نلاحظ أن الفضاء الثاني/طنجة، يمثل بالفعل الفضاء الذي يطمئن إليه السارد/ الشخصية. إنه الفضاء الذي يشكل بداية الحرية والاستئناس بعوالمه المفتوحة(أمثلة الفضاءات الثانوية)  .في المقابل، نجد فضاء الدار البيضاء، يمثل بالنسبة إليه الفضاء الأكثر تعقيدا. إنه لا يحتوي إلا على ملامح بسيطة من الأصالة. وما عدا ذلك، فكل شيء أصبح مشوها في هذا الفضاء.                                                   فضاء الغواية و الموت                                                                            

     يرى الناقد جان ييف تادييه أن الرواية، عبارة عن إعادة تشكيل للعالم باللغة([10]). بمعنى أن الكاتب يسعى من خلال العمل الأدبي والفني إلى خلق عوالم خاصة به بواسطة التراكيب والجمل والكلمات. عالم تختلف قدرات الكتاب في تشكيله وهندسة تمظهره. فقد تطور الأدب باختلاف نظرياته ابتداءً من أفلاطون الذي يرى أن الأدب محاكاة للواقع المحسوس، مرورا بالرمزية والتجريدية والواقعية،وصولا إلى النظريات الحداثية وما بعدها. بيد أن الثابت في هذه النظريات كلِّها، كونها جزءا أساسيا من حركة الحياة التي يعيشها الإنسان  .تمتح منها أدواتها وتبني أشكالها من موادها الأولية. يعد الموت جزء أساسي من الحياة. وإن بدا في هذه الصورة المباشرة نقيضا لها. الموت هو الوجه الآخر للحياة  .حين ننطلق من فكرة الثنائيات المتقابلة التي تمنحنا قيمة الأشياء،فقيمة الحياة هي أنها ضد الموت. إن الراوية باعتبارها تشكيلا للحياة أو جزء منها،فأن الموت حاضر في هذا التشكيل بقوة. على الرغم من كونه يختلف في تمظهره من نص روائي إلى آخر  .بهذا،فإن براعة المبدع، تكمن في قدرته على تشكيل هذه الحياة، من حيث الفضاء والزمان، استكشاف الأحداث، وتركيب الشخصيات وحركاتها، وبث الحياة في تفاصيلها، وتركيب المنظور الذي يتخللها ويهندس مشاهدها. يصنع الكاتب كل ذلك ثم يضع لها حياتها وموتها. بيد أن القارئ يكون مشدودا في كل التفاصيل بعرى الحياة.يكون الموت استثناء من ذلك.  لكن يمكن للمتلقي أن يجد أن الموت قد يحضر هو الآخر، باعتباره عنصرا بارزا في تشكيل الحياة. بل قد يكون شخصية من شخصيات هذا العالم الروائي أو حاملا مركزيا لعدد من الدوال التي تستكمل فيها صورة الحياة ومن منظورات مختلفة.  هل يشكل الكاتب الموت بوعي داخل الرواية، أم أنه حاضر في النص بفعل الحياة ذاتها؟ الحقيقة أن قارئ الرواية يجد أن هناك الكثير من الكتابات الروائية تستحضر الموت بوصفه هنا جزءا فاعلا في العالم الروائي. فيغدو في كثير من الأحيان بمثابة الثيمة الرئيسة والمهيمنة كما هو الشأن في رواية”ثلاثة أيام في كازابلانكا”. حيث ارتبطت ثيمة الموت بفضاء هذه المدينة. ذلك أن فضاء الحياة في هذه المدينة/الفضاء، يتصل بشكل مباشر بفضاء الحياة ذاتها. حيث يتم بناء حيوات الشخصيات وعلاقاتهم مع واقع هذا الفضاء بأدوات الموات. شأن الكثير من الروايات التي تستدعي الموت و بتشكلات مختلفة. إما بامتداده في مختلف أجزاء المتن،أو بتشكله بصورة مباشرة لشخصية وزمان ومكان وأحداث.                               1. فضاء الغواية                                                                                                                

     تستمد فضاءات رواية”ثلاثة أيام في كازابلانكا”غوايتها من رغبة الشخصيات وأحلامها المتقدة. وذلك من خلال استحضار الدلالة الخلفية التي تشكّل بها عوالمها المختلفة المرتبطة بالسفر و التغيير. ذلك أن حركية السرد،وغوايته، تتوسّل برغبة الشخصية من أجل تثوير السياق الذهني للقارئ. على هذا الأساس يعتبر غريماس(أن العالم المسمّى «محسوسا»،هو عالم البحث عن الدلالة. يتمظهر،باعتباره فقط إمكانية لبناء المعنى. لكن لكي يكتمل معناه، لا بد من أن يخضع لشكل معين. فالدلالة يمكنها أن تتوارى وراء كل المظاهر المحسوسة وغير المحسوسة. إنّها توجد خلف تلك الأصوات والصور والروائح، غير أنّها ليست في الأصوات أو الصور،باعتبارها مدركات)([11]).إن غواية الأغنية هي التي أدت إلى موت أب شخصية الزنجي بيكيلا(قالت له:أيها الوغد من أين أتيت بهذا الصوت الجميل؟… بل أين عرفت هذه الأغنية الأثيرة؟(…)لم يدم طقس الإعجاب طويلا حين داهمهم السيد البريطاني الفظ،وأفرغ في جسده رصاصات مسدسه الثلاث)الصفحة:162،163. لتتحول لعنة هذه الأغنية التي ارتبطت بفيلم”كازابلانكا”. هذا الأخير الذي جعل شخصية الزنجي بيكيلا(ومنذ تلك اللحظة الفارقة والفيلم يغوي خياله، ويسطو على ذهنه. كيف يراه،كيف؟ الأمر شبيه بالمستحيل في إثيوبيا في تلك الفترة)الصفحة:165. وحين وصلت شخصية بيكيلا إلى فضاء الدار البيضاء يقول عنها السارد(ها قد اكتشفت كازابلانكا التي سكنت خيالك منذ الطفولة، يا بيكيلا، وآن الأوان كي تمضي إلى شمال البلاد، إلى مدينة طنجة، الحافة المنشودة. كي تحلق بجناحيك إلى فردوس أوربا)الصفحة:170. لكن فضاء الغواية/(كازابلانكا)، لا تنفلت منه الشخصية إلا وهي تتجه نحو حتفها/موتها المحقق. لأن الشخصيات المحورية(السيد عدنان، كمال الصياد، عميد الشرطة، الأندلسي، إدريس الكولومبي)التي أغواها هذا الفضاء على المستوى المادي(التجارة، الأموال، السلطة)، والمعنوي (العلاقات المشبوهة). قادتها كذلك إلى التصادم والقتل  .بالإضافة إلى تلك الشخصيات الحالمة والمهووسة بالحياة  .تقودها غوايتها نحو نهايتها/ موتها. نبين بعض هذه النماذج الأخيرة من خلال الجدول التالي: 

الصفحةالشخصيةحافز الغوايةالنتيجة
18 162 169 213       موحى الطنجاوي أب الزنجي  الزنجي بيكيلا شاب البيتزا  السفر إلى إفريقيا أغنية فيلم كازابلانكا فيلم كازابلانكا لاعب كرة القدم مشهورسقوط الطائرة القتل الموت الموت على الجسر

     لعل هذا ما جعل مناحي البحث والمساءلة والحوار التي انتهجها الروائي إسماعيل غزالي،تنطلق من الرغبة التي يمنحها فضاء الغواية،قصد العبور إلى الموت غير الإختياري. لكنه خلاصي بالنسبة للمسار السردي. كأنه يرسم  ضمن فسيفساء هذا الفضاء، ملامح وجودية لشخصياته. فتتحقّق رغبة التشكيل، ومتعة الابتهاج حين تستجيب لنداء الفضاء وغواياته المتعددة. لكنها تحافظ، على الرغم من ذلك،على تلك المسافة الفاصلة بين فضاء الغواية وفضاء الموت لإثارة المتلقي، وإبقائه ضمن تلك العوالم المرغوب فيها. إنها الأكثر ترميزا  .تساعد على استقطاب الأبعاد الدلالية، مثلما تتميّز بسحر الملاحقة، وتوطيد الجسور بين السارد والمسرود له. يتحول فضاء الغواية في النص السردي لإسماعيل غزالي، من فضاء للغواية إلى شكل هلامي. يمدّ النص بفيض لا شعوري من الدلالات. بحيث يغيب و لا يتلاشى، ويعاود حركته الاستئنافية، بين مدّ وجزر. متّخذا من اللغة قناعا في كيفية تقديم هذا الفضاء. إن هذا الأخير، هو طاقة النص التخييلية في الرواية. حيث يسمح بتبادل الأدوار والوظائف، كما يسمح  في الوقت نفسه بحركية المشاعر والهواجس والأفكار. تدبّ في اللغة، وتمتلك مواقعها، وتفعّل طاقتها،داخل الفضاء النصي. لعل هذا ما وظّفه  إسماعيل غزالي، حين اتّخذ من الفضاء مطيّة للبحث والتساؤل والمراجعة. مما جعله يخرج عن الانسياق، والتقليد في التعامل مع الفضاء بشكل نمطي. باعتباره معيارا أوّليا، وقيمة فنيّة. يستطيع المتلقي من خلاله، تكثيف حركية الرؤيا الإبداعية، بعيدا عن النسخ والتكرار.   

                                                                                       2. فضاء الموت                                                                                                                                                             

  تلمح ثيمة الموت في النص السردي”ثلاثة أيام في كازابلانكا”، بدءا من المفتتح. حيث تجلت في الحوار بين شخصية السيد عدنان وشخصية الكاتب موحى الطنجاوي:(رأيت في منام غفوتي على المقعد هناك، بأن طائرة الرحلة رقم 107 ستسقط في صحراء مجهولة، ويموت ركابها جميعهم عن آخرهم)الصفحة:12. ليتحقق هذا الحلم في الصفحة: 136. يقول السارد:(على الطرف الآخر،يبادره ثملا بالتحية السيد الأشعث عدنان مدير مؤسسة غاليرهات أطلنتيك، في الطريق إلى البيت  .هل من خدمة؟يرد كمال الصياد. هل خبر سقوط الطائرة ذات الرحلة رقم 107 صحيح؟ يسأله الأشعث عدنان باضطراب. للأسف الخبر مؤكد، وقعت الحادثة بعد منتصف الظهيرة بتوقيت المغرب). لتتوالى صور الموت (جثة الإفريقي المتشرد، صريع أنقاض نزل لينكولن أجدر بهذا النرجس)الصفحة:20. في سرد شخصية زهيرة لحادث موت شخصية الإفريقي المتشرد بيكيلا. لتتشعب على أكثر من اتجاه في بواطن النص حضورا مباشرا، وغير مباشر  . إنه يحرك الأحداث حينا(موت الزنجي بيكيلا مثلا وما ترتب عنه من أحداث فرعية) من الصفحة 153 إلى الصفحة 173(قبر بلا شاهدة). يسكتها الموت حينا،ويحول برنامجها السردي أحايين أخرى. يخرج شخصيات من مسار السرد. ويدخل أخرى لتساهم في تشكيل الحدث  .كما يحرك سؤالا مركزيا عن البعد الوجودي للحياة في هذا الفضاء وكذا تشكلاته، ووظائفه داخل النص السردي. كما جاء على لسان السارد(التبغ هو ترجمان تسعين بالمائة من النفوس الميتة في هذه المدينة الغول. علاقتي بالعالم لا تنفصل عن رائحة التبغ  .تكفي رشفة واحدة من سيجارة لتقول ما لا يستطيع علم النفس قوله)الصفحة:98. فهل الموت داخل النص السردي ضرورة روائية؟ أم هو امتداد للحياة الروائية التي يصنعها الكاتب؟ هل يكون المكون شخصية ضمن الشخصيات الفاعلة في النص؟ هل هو فاعل أم وظيفة؟ تسعى هذه الأسئلة وغيرها استكشاف الأهمية الفنية التي يمثلها هذا المكون داخل النص. لينكشف أن للموت أكثر من وظيفة داخل رواية” ثلاثة أيام في كازابلانكا”. بيد أننا سنركز في  هذا السياق على أهم الوظائف التي تم ضبطها داخل الرواية التي بين يدينا. حيث تتجلى في ثلاث وظائف أساسية: وظيفة استهلالية، وظيفة التحويل، والوظيفة الرمزية:                                                                                       1. الوظيفة الاستهلالية                                                                                                  

    حدد فيلاديمير بروب وظيفة الاستهلال باعتبارها واحدة من الوظائف الأساسية للنص. بيد أن في هذه الجزئية  نجد الموت بوصفه فاعلا يقوم بوظيفة الاستهلال السردي أو بالأصح الاستهلال الروائي. إنه قلب فكري. يحدث صدمة لدى المتلقي. ويدعوه  للبحث عن مظاهر الحياة(الوجه الآخر للموت). في رواية ”ثلاثة أيام في كازابلانكا، نجد أن الموت يتشكل في الاستهلال منذ اليوم الأول من الأيام الثلاثة التي عاشها السارد في هذا الفضاء. وذلك من خلال حالتين أساسيتين. تتجلى الأولى في اليوم الأول من الرواية(مصادفات عشوائية على ما يبدو)من خلال الحوار القائم بين شخصية الكاتب موحي الطنجاوي(الملقب بماثيو إكس وايت) وبين شخصية السيد عدنان(صاحب غاليرهات أطلنتيك) حول رحلتهما المشتركة إلى أبوجا النيجيرية. أما الثاني، ففي اليوم الأول كذلك من الرواية(زقاق مظلم تتحاشى الشمس إضاءته) حيث يقدم السارد صورة عن جثة الزنجي المتشرد(شخصية بيكيلا)(سدد بصره نحو الجمهرة المتحلقة حول جثة المتشرد الإفريقي في أنقاض النزل،في النوافد المهجورة المتداعية) الصفحة:24. يعد موت هذا الزنجي،ذلك المعادل الموضوعي لاندثار وانهدام معلمة تاريخية بفضاء كازابلانكا(فندق لينكولن).يقول السارد في الصفحة24:(تطل محتشدة، وهي تومئ بملء الغضب والإدانة والشجب، كما لو كان هو نفسه مهندس النزل، الفرنسي المدعو هيبير بريد). ليشكل كذلك هذا الاندثار، صورة للموت والفناء. تجسد هذه المؤشرات المركزية الثلاث(سقوط الطائرة، موت المتشرد الزنجي، انهدام فندق لينكولن)صور الموت والاندثار. تجعل متلقي هذه الصور في مختلف هذه المداخل الثلاث المتوالية، مشدودا لولوج أحداث الحياة الروائية من بوابة الموت.

                                                                                                                2. وظيفة تحويل المسار السردي                                                                                           

     يحضر الموت يحضر بوصفه تقنية فنية. يوظفها الروائي من أجل إحداث تحولات في المسار السردي لأحداث الرواية، أو في حصول أحداث عميقة في الذات أو في الشخصيات. من خلال مجموعة تغيرات داخلية. قد تنعكس بعد ذلك على مستوى السلوك. في رواية”ثلاثة أيام في كازابلانكا” وبعد المشهد الافتتاحي، تتوالى صور الصراع الذي يقود إلى الموت والفجيعة. خاصة حين يوشك المسار السردي على نهايته. تموت الزنجية ساساندرا بطعنة سكين من الزنجي /شخصية أبراي(طفقت تبكي وتنشج وهي تنعي له خبر الحالة الحرجة لصديقتها ساساندرا في غرفة الإنعاش بعد أن طعنها الزنجي أبراي بالسكين على الرصيف… تطلب منه متضرعة المجيء إلى مستشفى حدائق أنفا المعلقة) الصفحة :218. تتوالي بعدها صور الموت والصدام الدموي مع انكشاف الوجه الآخر/الخفي للشخصيات المحورية في النص السردي(السيد عدنان، كمال الصياد، الأندلسي، عميد الشرطة)المبنية مند البداية على الخديعة والاستغلال و الجنس و القوة و الخضوع، إنها حياة القلق والخوف. كما أنها حياة المؤامرات و الدسائس. نبين ذلك من خلال الجدول التالي:

الصفحةصورة الموتالحدث الرئيسي
174 175 256 265 268 268 269 276 383  احتراق كشك  التبغ مقتل إدريس الكولومبي  مقتل شاب البيتزا مقتل شخصية الأندلسي مقتل السيد عدنان مقتل كمال الصياد مقتل عميد الشرطة موت الزنجية ساساندرا موت شخصية زليخة  احتراق كشك شخصية فاسكا مقتل إدريس بحانة السفينة سيارة فورد،تدهسه على الجسر عدنان يسدد رصاصة إلى جبهة الأندلسي سدد السيد كمال الصياد إلى قلب عدنان السيد مراد يطلق النار على كمال الصياد شخصية زارا تهشم جمجمة العميد  . تموت بعد أن طعنها الزنجي أبراي شخصية زليخة تتيه في الصحراء/الموت    

    لعل صور الموت المتلاحقة من الصفحة 174 إلى الصفحة 383، هو ما أوصل شخصيات فضاء كازابلانكا إلى نهايتها المحتومة. إنه امتلاء دلالي يجعل الشخصيات الأخرى تبحث عن فضاء آخر/ مغاير. تقول شخصية عمران:( دقت ساعة  الخروج من جحيم كازابلانكا)الصفحة،276. يأخذ الموت في هذا الإطار بعدا فنيا. إنه الحد الذي يعمل على تحويل الموت إلى حياة. حين يأتي الموت،سيكون بداية لحياة أخرى هي الحياة الروائية. على أن الروية في كل مفاصلها لا تخلو من هذا التجسيد لوظيفة التحويل. فقد يكون تحويلا إيجابيا وقد يكون سلبيا على مستوى الشخصيات أيضا. إن الصراع مثلا، هو الذي يمثل الموت على امتداد الرواية. مما يجعلها السبب الرئيس في الكثير من التحولات السلبية التي مست حياة أغلب الشخصيات الروائية. خاصة تلك التي تشكل مسارات حياتها، المسار السردي الأساسي للرواية(السيد عدنان، السيد كمال السياد، عميد الشرطة، الأندلسي، فاسكا).

                                                                                                                                             3. الوظيفة الرمزية                                                                                                           

   لا يمكن لقارئ رواية” ثلاثة أيام في كازابلانكا” أن يعايش صراعات الشخصيات الذي يؤدي إلى موتها جملة واحدة دون أن يحمله أبعادا رمزية. خاصة حين يكون الموت ثيمة مركزية، أو حين يكون مسيطرا على أجزاء الرواية ومتحكما في مفاصلها. فصور الموت المتكررة من الصفحة 174 إلى الصفحة 383 على سبيل المثال، لا يمكن أن تزيح الصراع المادي و المعنى عن فكرة الموت. لأن الصراع نفسه تجسد للموت. وهذا الأخير، عبارة عن معادل موضوعي للصراع من أجل الحياة من جهة. كما يشكل الموت من جهة أخرى، المعادل الموضوعي لانحراف التقاليد الاجتماعية البالية التي تؤدي إلى الظلم و الاضطهاد ومن ثم إلى الموت. يشير هذا الأخير من خلال هذه الصور،  إلى موت الضمير والقيم الجمالية والحرية والعدالة والمساواة وغيرها. لقد تم الربط رمزيا هنا بين العلاقات الهشة وبين الموت. إنه المعادل الموضوعي لعلاقات الشخصيات المحورية. إن استمرار تلك العلاقات المشبوهة، يعادل الموت والانعدام والاندثار لكل ما حولها من القيم التي رصدها. لقد وسع هذا النص السردي أحيانا أخرى من مشاهد الموت. وهي في إطار تصوير هذه العلاقات، ليس بوصف الموت رمزا لهذا الصراع، بل بوصفه امتدادا له. ذلك أن الموت هو نتيجة حتمية لهذه الصراع. فأي رمزية لهذا الربط بين الصراع وهذا الموت في مشهد واحد(الصفحة268، الصفحة 269)؟ لقد استعرض الروائي إسماعيل غزالي مآسي فضاء كازابلانكا تباعا. ثم كان له أن يختمه بهذا المشهد القريب إلى حالة الفراغ الكامل. يرتبط القارئ بهذه المشاهد  المأساوية، ليكون هذا الفضاء والموت شيئا واحدا.

تشكيل الموت في فضاء نص كازابلانكا

   هل يتجلى الموت فقط في انتهاء حياة شخصية من الشخصيات فحسب، أم أن للموت تشكلات أخرى؟ في هذه الجزئية نجد أن نص رواية”ثلاثة أيام في كازابلانكا”، يجسد الموت في تشكلات مختلفة. فكثيرا ما أشارت الرواية إلى فعل الفن والإبداع(السينما، الفن التشكيلي) بوصفهما مواجهة للموت/الفناء. بمعنى أن الجهل وما ينسحب على عدم الإبداع هو الموت نفسه. كما تشكل الكتابة أيضا مواجهة للموت. إن الاستسلام للصمت أو للجهل والخراب المادي والروحي لهذا الفضاء، هو استسلام للموت  .ليتشكل الموت في صور أخرى منها الصمت ومنها الخضوع ومنها الجهل وغيره. إن تشكل الموت هنا،نهاية للمعاني أو شتاتا لها. غير أن السرد يستمر في الوقت الذي يشير إلى موت شخصية زليخة(الصفحة :383). أما ما عداه من الموت المنتشر في جوانب النص السردي،فإنه يغذي العملية السردية وتستمر الحياة الروائية. إن فكرة  الموت هنا بقدر ما جعلت الشخصيات تنصدم وتحولها للحظات باتجاه الفعل السلبي الانهزامي (الانتقام)، فإنها قد تغذي كذلك رغبتها باتجاه الحياة ومواصلة حلمها الذي صادره الموت. بهذا، تبين هذه القراءة المركزة على الرغبة، أن الموت يتشكل  رمزيا ووظيفيا من خلال أدوات الفن داخل الرواية. فكما يكون للحياة أدواتها، يكون للموت أدواته الفاعلة التي لا يمكن اكتمال العمل الأدبي الموازي للحياة العادية بغيره.                                                            

تركيب واستنتاج                                               

    من خلال رؤيا تحول مدلول وحدة الإدراك المكاني، سعى الروائي إسماعيل غزالي إلى بناء فضاء كزابلانكا وفق رؤية تميزت بالمعارضات التالية: المقدس / المدنس، المتجانس / المتنافر، المألوف / الغريب، الحياة/الموت. حيث تميز هذا الفضاء الأصيل(فندق لينكولن)المفكك/أنقاض الفندق. إلا أن هذا الفضاء، يعرف نوعا من الاستمرارية مع ذلك الماضي المبعث. لمبارحة التخوم المغلقة للأماكن المألوفة. هكذا، فإن الحركة المزدوجة للتحول وإعادة التكوين، تتحكم في مسارات الشخصيات. كما إنها تميز مجازا صيرورة الكتابة. إن عراقة هذه المدينة الحديثة التي تبدو كفضاء جمعي مفتوح، تنسجم وتتناغم مع رغبات شخصيات النص السردي. لكن هذه الجوانب المتناقضة، تتمادى في هذا النص. كما في المجتمعات الحديثة. مما يؤكد أن جورج لوكاش، ليس الوحيد الذي أكد على أن الرواية تستمد هويتها من المدينة البرجوازية الحديثة. إذ كرس هذا المفهوم منذ نشأة النقد الأدبي الحديث. كما قارن جان إيف تادييه بدوره بين رواية المدينة ومدينة الرواية مدعيا أن الرواية مرتبطة عضويا بالمدينة. بحيث يصبح معمارها ومعمار الرواية واحدا. فقد اجتهد، من أجل توثيق الروابط بين الرواية والمدينة. لتقديم ما يسميه النقاد مجمل الحياة. إن الرواية تعكس هموم عصرها شاهدة على الأحداث الكبرى التي تغير بل وتقلب بشكل ملموس مفاهيم الفن والعادات والعلاقات الاجتماعية. حيث يتزايد صغر الإنسان وضعفه أمام العالم المتنامي بشكل هائل. إنه يتقن التكنولوجيا الأكثر تعقيدا. لكنه بالمقابل عاجز عن إخضاع الموت/ الفناء. حيث يبقى هذا الإنسان حائرا ومكتوف الأيدي أمام الميتافيزيقيا. كل هذا يترك بصماته الواضحة على المستوى الجمالي. مما يؤدي إلى نهج جديد للإحساس بالحياة والتاريخ. إن رواية المدينة تلك، هي التي جسدت العظمة والإسراف. لتعالج أجناس عدة ومتنوعة من الهموم والأشجان. 

المصادر والمراجع:

الصفحات المشار إليها مأخوذة من:

غزالي(إسماعيل)،ثلاثة أيام في كازابلانكا(رواية)،ط1،منشورات المتوسط ،إيطاليا،2019                                                             

مراجع باللغة العربية:

                                                                                                                          1. النصير(ياسين)،الرواية و المكان،ط2،دار نينوى،سوريا،2010 

 2. بوشفرة(نادية)،مباحث في السيميائية السردية،دار الأمل للطباعة و النشر و التوزيع،الجزائر،2008

List Of Sources And References:

1. Alnoussair(Yassin)Alriwaya wa al makan, dar naynawa, syria, 2010 

2. Bouchafra(Nadia)Mabahith fi alsimyaiat alsardiah, dar alamal litibaa wa al nachr, Alger, 2008           

3. Simon de bouvoir, nahwa  akhlak  oujoudiah,  translated by Gorge tarabichi, dar al adab, byruth, 1965

4. Loutman(Youri)Al kawn, translated by abdelmajid Noussi, al markaz altakafi alarabi, Casablanca, 2011

ب. مراجع باللغة الأجنبية:

1. BACHELARD(Gaston) La terre et les rêveries de la volonté, Paris, José Corti, 2004

2. BAKHTINE( Mikhaïl)Esthétique et théorie du roman , Paris, Gallimard, 1999 

3. GREIMAS( Algirdas Julien) Sémantique structurale, Paris, PUF, 2002

4. RAIMOND(Michel) Positions et oppositions sur le roman contemporain, Paris, Klinc    ksieck, 1971

 5.TADIÉ( Jean-Yves) Le roman au XXe siècle, Paris, Belfond, 1990 

ج   . المراجع المترجمة:

    1. سيمون دو بوفوار، نحو أخلاق وجودية، ترجمة: جورج طرابيشي، ط1، دار الآداب، بيروت، 1965  

 2. لوتمان(يوري)سيمياء الكون، ترجمة: عبد المجيد النوسي، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، 2011

هوامش:


[1] RAIMOND( Michel) Positions et oppositions sur le roman contemporain, Paris, Klinc- ksieck, 1971,page :134

[2] GREIMAS(Algirdas Julien) Sémantique structurale, Paris, PUF, 2002,page : 87  .

[3] BAKHTINE(Mikhaïl) Esthétique et théorie du roman , Paris, Gallimard, 1999 ,page :65  .

[4] BACHELARD(Gaston)La terre et les rêveries de la volonté, Paris, José Corti, 2004 , page :12

 النصير(ياسين)،الرواية و المكان،ط2،دار نينوى،سوريا،2010، الصفحة:132  .[5]

[6] دو بوفوار(سيمون)نحو أخلاق وجودية،ترجمة:جورج طرابيشي،ط1،دار الآداب،بيروت،1965ـ الصفحة:94 

 [7]بوشفرة(نادية)،مباحث في السيميائية السردية،دار الامل للطباعة و النشر و التوزيع،الجزائر،2008،الصفحة: 9  .

[8]  لوتمان(يوري)سيمياء الكون،ترجمة:عبد المجيد النوسي،ط1،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/المغرب،2011، الصفحة: 153  .          

[9] لوتمان(يوري)سيمياء الكون(مرجع سابق)،الصفحة:164  .

[10] TADIÉ( Jean-Yves) Le roman au XXe siècle, Paris, Belfond, 1990 , page :21

[11] GREIMAS( Algirdas Julien) Sémantique structurale,(IBD) ,page :92