أصداء السيرة الذاتية   قراءة نقدية

أ.د  السيد الصوري

 ملخص البحث

أصداء السيرة الذاتية وصدى الشئ ليس هو حقيقته وإنما هو تجل وإظهار لتلك الحقيقة، إذا فالعامل ليس سيرة وإنما أصداء سيرة والصدى يتيح قدراً من الحرية للمبدع لا تتيحها له الحقيقة، لذا نراه يقول عنها » لم تكن سيرة ذاتية بالمعنى المألوف وقد أسميتها أصداء مثل آثار بعض الأشياء فى نفسى ، إذن نتيجتها له كتابة مجرد سيرة تعتمد على حقائق لا يمكن الخروج عنها وهذا الأمر يبدو جلياً أكثر فى رسالته التى رد بها على الدكتور مصطفى سويف والتى نشرتها مجلة الهلال فى عددها الخاص المكرس لنجيب محفوظ .

فى هذه المجموعة القصصية قد تحرر من الحقائق بعض الشئ، وأتاح لنفسه مساحة من الحرية حتى لا يحاسب ككاتب قصصى على التفاصيل، لذا فقد أسماها أصداء السيرة الذاتية، ولكن هذه الحرية لم تجعله يخرج عن الحقيقة أو يزورها إنما استخدم هذه الحرية ليتخفف من الحقائق فقط، فها هو ذا يقول فى حديث صحفى مطول عن أصداء السيرة الذاتية نشرته له مجلة نصف الدنيا : » العنوان نفسه لم يظهر إلا بعد الانتهاء منه. كنت قد وضعت عنواناً مبدئياً: » تأملات« ولكننى وجدت أنها ليست سيرة تماماً. هنا فكرت فى كلمة أصداء على اعتبار أن الصدى يتيح قدراً من الحرية .. «، ثم نراه يقول محللاً مفردات عمله ومؤكداً على مصداقيتها ونسبتها إليه: » الأصل فى كل مقطوعة إما حادثة جرت فى حياتى أو لحظة أو فكرة » تأملية « كل هذا يمت إلى بلا شك .. ولكن لا ترتب تاريخياً  على الإطلاق .

السؤال الملح علينا الآن هو : ما الوصف الفنى الحقيقى لأصداء السيرة الذاتية؟

هل هى مجموعة قصصية ؟ هل هى حكايات؟ أم هى رواية فى صورة مجموعة من القصص والمقطوعات – كما يسميها أو ومضات؟ أم هى سيرة ذاتية؟ فى الحقيقة أنا أرى أن الأصداء هى كل ما سبق، وهذا هو سر تميز وعبقرية هذه المجموعة الرائعة من النصوص الأدبية، وهى من وجهة نظرى ذات تكوين فنى غريب ومتميز أشبه ما يكون بالحديقة ذات الأشجار المتنوعة ولكن هذه الأشجار متشابكة ومترابطة على نحو عجيب .

الكلمات المفتاحية: أصداء  ، نجيب محفوظ ، توصيف ،أسلوب ،سيرة ذاتية

Biographical echoes a Critical Reading

Echoes of the biography and the echo of the thing is not its truth, but rather a manifestation and manifestation of that truth, so the factor is not a biography, but rather the echoes of a biography, and the echo allows a degree of freedom to the creator that the truth does not allow him, so we see him saying about it “it was not a biography in the usual sense, and i called it echoes like the effects of some the things in myself, then, resulted in him writing a mere biography based on facts that cannot be deviated from, and this matter seems more evident in his letter in which he responded to dr. Mustafa suef, which was published by al-hilal magazine in its special issue devoted to Naguib Mahfouz.

In this group of stories, he was somewhat liberated from the facts, and allowed himself a space of freedom so that he would not be held accountable as a nonfiction writer for the details, so he called it echoes of the autobiography, but this freedom did not make him deviate from the truth or falsify it, but he used this freedom to mitigate the facts only. here he is, saying in a lengthy press interview about echoes of the autobiography, which was published for him by nisf al-dunya magazine: “the title itself did not appear until after it was completed. you have set a tentative address: reflections, but i found that it is not quite a biography. here i thought about the word “echoes” on the grounds that “echo” allows a measure of freedom..” then we see him say, analyzing the vocabulary of his work and emphasizing its credibility and attributing it to him: “the origin in each piece is either an incident that took place in my life, or a moment or a “contemplative” idea. undoubtedly. but not arranged historically at all.

key words

Reverberation, Naguib Mahfouz, Profile, Style, Biography

نجيب محفوظ، اسم ذو وقع قوى فى آذان عالمنا العربى بأكمله، وقامة ضخمة لامعة فى سماء الفن القصصى والروائى على المستويين العربى والعالم، ولا شك أن من طاف بعالم نجيب محفوظ الأدبى قد أدرك منذ الوهلة الأولى ما اكتشف هذا العالم من روعة وجمال وثراء وأفكار فلسفية عميقة وقيم وأدوات فنية غاية فى الدقة والبراعة، وهذا هو ما عودنا عليه الكاتب الكبير، لذا فجلستنا مع احد أعماله تجربة شائقة رفيعة تنير نفوسنا وعقولنا المثقلة بالقلق والتوتر والشك والخوف والإحباط.

أما مجموعته القصصية المسماة (أصداء السيرة الذاتية) فالأمر يختلف تماماً، وهذا ما دعانى إلى الاهتمام بشأنها وقراءة الكثير مما كتب عنها والذى حفزنى لكتابة قراءة نقدية فى هذا العمل الأدبى الفذ والاشتراك برأى وقلمى فى ما كتب عنه.

وللإجابة عن سؤال فضولى قد يوجه إلىّ وخلفه علامة استفهام كبيرة. هذا السؤال هو : لماذا الأداء؟ – حسناً، لأن الأصداء عمل أدبى رائع كتب بطريقة فنية غاية فى الغرابة والتفرد جعلته أشبه ببحر زاخر يسبح فيه الإنسان حائراً فلا يصل إلى نهايته.

لماذا الأصداء؟ لأنها رسالة غامضة مغلقة مرسلة من عملاق الأدب إلى العالم بأسره، وعلى هذا العالم أن يعمل بكل قرائه ودارسيه على فض بكارة هذه الرسالة الملغزة.

لماذا الأصداء؟ لأنها آخر عمل قصصى رائد كتبه محفوظ قبل رحيله  عن دنيانا إذا ما استثنينا (أحلام فترة النقاهة) والتى أراها لا توصف بأنها عمل قصصى رائد، على العكس تماماً من الأصداء التى هى عمل قصصى غير مسبوق فى كتابه وأدواته الفنية وفكره ولغته ورمزه ومحاوره بل وعناوينه أيضاً.

ولتبدأ معى أيها القارئ حتى أعرفك  على الأصداء المحفوظية، وكيف أنها تميزت عن أعمال كاتبنا الكبير فى كل شئ تقريباً.

أولاً: من حيث التسمية:

فالاسم هو أصداء السيرة الذاتية وصدى الشئ ليس هو حقيقته وإنما هو تجل وإظهار لتلك الحقيقة، إذا فالعامل ليس سيرة وإنما أصداء سيرة والصدى يتيح قدراً من الحرية للمبدع لا تتيحها له الحقيقة، لذا نراه يقول عنها » لم تكن سيرة ذاتية بالمعنى المألوف وقد أسميتها أصداء مثل آثار بعض الأشياء فى نفسى ([1])، إذن نتيجتها له كتابة مجرد سيرة تعتمد على حقائق لا يمكن الخروج عنها وهذا الأمر يبدو جلياً أكثر فى رسالته التى رد بها على الدكتور مصطفى سويف والتى نشرتها مجلة الهلال فى عددها الخاص المكرس لنجيب محفوظ ([2]). أرسل له د. مصطفى يقول : » عزيزى نجيب محفوظ : ألم تفكر فى كتابه ترجمة ذاتية صادفة وشاملة .. إلخ «. ويقول محفوظ فى رده عليها : » عزيزى الدكتور مصطفى سويف : الحق أن كتابة سيرة لإحدى رواياتى لم تخطر ببالى .. أما فكرة السيرة الذاتية فهى تراودنى من حين لآخر، أحياناً تراودنى كسيرة ذاتية بحتة، وأخرى تراودنى كسيرة ذاتية روائية، ولكن الالتزام بالحقيقة مطلب خطير ومغامرة جنونية .. إلخ «.

إذاً هو فى هذه المجموعة القصصية قد تحرر من الحقائق بعض الشئ، وأتاح لنفسه مساحة من الحرية حتى لا يحاسب ككاتب قصصى على التفاصيل، لذا فقد أسماها أصداء السيرة الذاتية، ولكن هذه الحرية لم تجعله يخرج عن الحقيقة أو يزورها إنما استخدم هذه الحرية ليتخفف من الحقائق فقط، فها هو ذا يقول فى حديث صحفى مطول عن أصداء السيرة الذاتية نشرته له مجلة نصف الدنيا ([3]): » العنوان نفسه لم يظهر إلا بعد الانتهاء منه. كنت قد وضعت عنواناً مبدئياً: » تأملات« ولكننى وجدت أنها ليست سيرة تماماً. هنا فكرت فى كلمة أصداء على اعتبار أن الصدى يتيح قدراً من الحرية .. «، ثم نراه يقول محللاً مفردات عمله ومؤكداً على مصداقيتها ونسبتها إليه: » الأصل فى كل مقطوعة إما حادثة جرت فى حياتى أو لحظة أو فكرة » تأملية « كل هذا يمت إلى بلا شك .. ولكن لا ترتب تاريخياً  على الإطلاق .. «.

وبعد هذا العرض نستطيع أن نستخلص مما سبق عدة حقائق هى كالآتى :

  1. هذا العمل ليس سيرة ذاتية بالمعنى الأدبى المعروف لدى النقاد والدارسين وهو الذى يستعرض فيه كتابه حياته بصدق وواقعية موضحاً مراحلها المختلفة بترتيب زمنى وتاريخى مسجلاً فيه عناصر تكوينه. ومن هنا ندرك ميزة هذا العمل حيث لم يشأ محفوظ أن يفعل كما فعل طه حسين حينما سجل سيرته فى كتاب الأيام كما أنه لم يفعل ما فعله توفيق الحكيم حينما سجل مراحل حياته فى العديد من أعماله مثل زهرة العمر، وسجن العمر، وإنما سجل مكونات شخصيته الفكرية وملامحه النفسية فى كتاب الأصداء، وهو أمر جديد تماماً غير مألوف فى أعمال نجيب محفوظ وفى واقعه الأدبى آنذاك، أما سيرته الذاتية الصرف فقد آثر أن يؤرخ لها غيره ([4])؛ لذا نراه يقول » فيما يتعلق بالسيرة الذاتية أمليتها على جمال الغيطانى وصدرت فى » نجيب محفوظ يتذكر «. أما الجانب الفكرى والعقلى فأعطيته إلى رجاء النقاش. وهناك فتافيت ومناطق لا أسئلة رجاء حامت حولها. إذا قلت اكتبها أنا. فأصداء السيرة الذاتية مكملة للعملين بمعنى أن من يريد أن يعرف عنى، عليه قراءة هذه الأعمال الثلاثة ([5]) «. وعلى هذا أستطيع أن أقول إن هذا العمل أكمل به محفوظ اللوحة التى تناولت سيرته من مختلف جوانبها فهو الطريق إلى عقل كتابنا الكبير وإلى فكره الخالص ورؤيته الذهنية والنفسية للعالم الذى يحيا فيه.
  2. الأصداء تاريخ حياته العقلية والنفسية والروحية كتبه فى صورة مجموعة من القصص والأقصوصات والحكايات والحكم وكل هذا يمت إليه ولا شك، بمعنى أن ذاكرته هى المنبع الذى صدرت عنه مفردات هذا العمل بما تحمله هذه الذاكرة من زخم فكرى وخبرات حياتية كثيرة ونماذج بشرية متعددة وتاريخ حياة حافل.
  3. أن كل ما سبق ذكره موجود فى الأصداء بدون ترتيب زمنى أو تاريخى فكل مقطوعة – كما يسميها – أو أقصوصة وردت بغير تخطيط أو ترتيب وإن كانت آخذ عليه هذا الأمر من الناحية الفنية إلا انه لا يعد عيباً فنياً قوياً فى الأصداء لأن المقطوعات التى تشكل صورة هذا العمل مرتبطة فى ما بينها برباط فكرى ونفسى وروحى عجيب يجعل الجو العام لهذا العمل مترابطاً متسقاً وكأنه وحدة واحدة.

ثانيا:ً من حيث التوصيف الفنى :

السؤال الملح علينا الآن هو : ما الوصف الفنى الحقيقى لأصداء السيرة الذاتية؟

هل هى مجموعة قصصية ؟ هل هى حكايات؟ أم هى رواية فى صورة مجموعة من القصص والمقطوعات – كما يسميها أو ومضات؟ أم هى سيرة ذاتية؟ فى الحقيقة أنا أرى أن الأصداء هى كل ما سبق، وهذا هو سر تميز وعبقرية هذه المجموعة الرائعة من النصوص الأدبية، وهى من وجهة نظرى ذات تكوين فنى غريب ومتميز أشبه ما يكون بالحديقة ذات الأشجار المتنوعة ولكن هذه الأشجار متشابكة ومترابطة على نحو عجيب فقد اختار نجيب محفوظ أن يكتب رائعته تلك فى صورة مقطوعات بالغة التركيز لا تتطرق بشكل مباشرة إلى تاريخ حياة كاتبها وفكرهه وإنما تنبئ عما طبعته بصمات الحياة على صاحبها. فالغالب على هذه النصوص الأدبية هو التوصيف القصصى بشقيه (قصة قصيرة، قصة قصيرة جداً) والتوصيف الحكائى، ومن هذين الوصفين يستطيع القارئ أن يخرج رواية كاملة من تلاحم وتضافر هذه النصوص فى نسيج فكرى واحد وحين نقلب معاً اوراق الأصداء سنجدها تحتوى على ست وعشرين ومائتى مقطوعة (226) منها القصة القصيرة ومنها الحكاية ومنها القصة القصيرة جداً أو الومضة القصيرة ومنها الحكاية ومنها القصة القصيرة جداً أو الومضة أو الكبسولة أو القصة المينيمائية كما يحلو للبعض أن يسميها novellas minimales – المصطلح بالفرنسية – وهو جنس أدبى جديد ظهر فى بدايات القرن العشرين مع أداباء أمريكا اللاتينية الذين مالوا إلى التجريب وتغيير بنية السرد، وكانت (ناتالى ساروت) الفرنسية هى أول من كتب نص قصصى قصير جداً بعنوان (انفعالات) عام 1932م ([6]). ولم يلبث هذا المر أن انتشر فى العالم الأوربى ثم العربى كالنار فى الهشيم. ونستطيع أن نقسم نصوص الأداء السابقة (226 مقطوعة) إلى قسمين:

الأول : يضم تسع عشرة ومائة مقطوعة (119) وهى التى تحمل أصداء هذه السيرة، أما القسم الثانى فيضم سبعاً ومائة مقطوعة (107) تبدأ بتلك التى تحمل عنوان عبدربه التائه والتى تضم سيرة هذا الرجل وفكره بما يحصله من ومضات قصصية غاية فى القصر أشبه بالمأثورات والحكم تزيد عن الستين ومضة ([7])، ولا يتجاوز طول هذه المقطوعات عن سبعة وثلاثين سطراً كما فى أقصوصة العدل ([8])،بينما لا تضم أكثرها سوى ثلاث كلمات فقط كما فى السر ([9])، وقد أعطى محفوظ عنواناً لكل ومضة قصصية فى الأصداء ولهذا العنوان دور أصيل فى المقطوعة وليس شكلاً فنياً يكمل العمل فحسب، فهو وإن كان يشير إلى موضوع النص إلا أن دلالته لا تنضج إلا بعد قراءة النص ومعرفة المعانى الكامنة فيه كما أنه فى بعض الأحيان يشكل إضافة إلى موضوع النص نفسه ويلقى الضوء عليه كما قد تشترك مقطوعتان أو ثلاث فى عنوان واحد لكنه يختلف فى مضمونه عن مثيله، فمثلاً تكررت مقطوعة القبر الذهبى مرتين والطوب والمعركة والسر بينهما اختلف المضمون وهناك مثال لذلك ([10]).

يتجسد فى مقطوعات السر الثلاث وسأذكر منها الثانية والثالثة :

2- ولم يكن الشيخ عبدربه التائه يخفى ولعه بالنساء وفى ذلك قال : » الحب مفتاح أسرار الوجود «.

  • قال الشيخ عبدربه التائه : كما تحب تكون. ومن الواضح أن السر هنا غير السر هناك، وهكذا يمضى بنا نجيب محفوظ فى آفاق إبداعية غاية فى الغاربة والطرافة والعمق والتجديد.

ثالثاً: من حيث الأسلوب الفنى :

استخدم نجيب محفوظ فى هذا العمل أسلوب الرمز وهو السمة الغالية على عمله فقد آثر فنيات الأسلوب الرمزى على فنيات أسلوب القص المباشر، والرمز فى الأصداء أغلبه معقد مغلق إلى حد بعيد لا يستطيع فك طلاسمه إلا الخاصة من عباقرة النقاد والقراء أو من لديه اهتمامات بالجوانب الروحية والصوفية، لذا نراه يقول فى لقائه الصحفى المطول والذى نشرته له مجلة نصف وقد أشرته له فيما سبق : » من ناحية النشر كنت خائفاً جداً أن أخرج بها إلى القراء «، ثم يضيف فيقول : » إنه العمل الوحيد الذى كتبته وكنت أريد أن أطلعكم عليه قبل النشر، كنت أنوى أن أعرضه على أكثر من صديق ([11]) «.

وما خاف نجيب كل هذا الخوف إلا لأن الأصداء عمل معقد ذو فنيات عالية فى الكتابة الرمزية والفكرية والتكثيفية لا يدركها عامة القراء؛ لأنها تحمل وتعكس فكر عملاق كنجيب فى أصفى وأقوى وأعمق صوره، ويكفى أن تعلم أن أهم شخصيات الأصداء وهو الشيخ عبدربه التائه الذى قد تختلط صورته لدى بعض القراء السطحيين بشخصية الدراويش التى يقابلونها كثيراً فى رواياته، هذا الرجل فى الحقيقة ما هو إلا نجيب محفوظ، إنه الرمز، إنه الوجه غير المرئى لمحفوظ أما كهفه وصحبه فكلها رموز لعالم بعيش فى داخله وليست رموزاً لأشياء تحيا خارجه كبقية رواياته، وهناك بداية قصة عبدربه التائه كمثال يوضح كثافة وتعقيد الرمز فى أغلب مقطوعات الأصداء: » كان أول ظهور الشيخ عبدربه فى حينا حين سمع وهو ينادى » ولد تائه يا أولاد الحلال « ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال : » فقدته منذ أكثر من سبعين عاماً فغابت عنى جميع أوصافه. فعرف بعبدربه التائه .. ومذ عرفته داومت على لقائه ما وسعنى الوقت وأذن لى الفراغ وإن فى صحبته مرة وفى كلامه متعة وإن استعصى على العقل أحياناً « ([12]). هذا كلام نجيب محفوظ عن نفسه أيها السادة فالشيخ عبدربه شيخ لأنه قد تجاوز الثمانين عاماً وليس للقب دلالة أخرى وهو نفسه نجيب محفوظ الذى خط هذا العمل بينما كان قد جاوز الثمانين عاماً فانظر وتأمل هذا الخداع اللفظى الرائع الذى أوقع فيه القراء وهذا اللفظ الذى يحتمل أكثر من معنى (شيخ أى » صوفى « وشيخ أى » عالم « وشيخ أى » كبير السن « ) فيا لعبقرية رمزك يا محفوظ، وإذا نظرنا إلى اسمه سنجد أنه عبدربه أى أنه ليس اسماً مشهورًا لدى العامة كعبدالله أو عبدالرب أو عبداللاه بل عبدربه وهو اسم شديد التحديد والدقة فتعالوا معاً نبحث فى دلالالته (الشيخ عبدربه التائه)، (الشيخ عبد) هذه صفة له أو حالة من حالاته وهم مضاف إلى رب، ورب بدوره مضاف إلى ضمير الغائب العائد على عبد فالإشارة إذن واضحة، إنه شيخ كبير عبد لرب هو ربه هو فكل منهما منتمِ للآخر متحقق به أما لقبه فهو التائه وعرف به لبحثه عن (ولد) تائه ولاحظ كلمة ولد أى انه ليس ابناً له كما قد يتوهم بعض القراء أو كما يوهم النص المحفوظى عن قصد إلى ذلك – هذا من وجهة نظرى- هذا الولد فقده الشيخ منذ اكثر من سبعين عاماً. فالولد إذن هو الشيخ نفسه عندما كان صبياً يافعاً أى هو محفوظ فى صباه ولهذا فقد صارت صفة الولد التائه لقباً عرف به هو (عبدربه التائه)( إذن هو ذلك الإنسان الباحث  عن نفسه وعن حقيقته وعن ماضيه الذى يجلب له المتعة والسرور فى جو الشيب والمرض القاهر، إنه الإنسان الحائر دائماً التائه دائماً الذى يحاول ما استطاع فهم الكون من حوله واستيعاب الحياة والناس ونفسه المتبرمة، فما أروع هذه الصياغة الرمزية البارعة التى ستبدو للقارئ إذا تتبع هذا النص العبقرى من بدايته إلى نهايته يقول فى البداية » كان أول ظهور له فى حيناً « الحى هو الرمز الذى اختاره نجيب محفوظ للكيان البشرى فهو الجسد الإنسانى الحى بكل ما يحويه من أجهزة وأعضاء أرقاها روح الإنسان وعقله، أما حى من هو؟ فهو حى نجيب أى كيانه البشرى، وعلى هذا يكون معنى هذا النص الغامض هو (إن أول ظهور للشيخ الحكيم » أى الحكم والروحانية والصفاء والفكر الصرف الخالى من الماديات « فى باطن نجيب محفوظ عندما كان قد تجاوز الثمانين عاماً فبدأ يبحث عن إنسانيته فى صورة نفسه الماضية التى كانت تحيا سنوات النقاء والسعادة والبراءة، وهو يجد السعادة فى تأمل تلك النفس الماضية الشابة والخلوة إليها. أى إلى ذكرياته الماضية – كلما وجد فراغاً أما استعصاء الحديث على العقل، لأن رفيق خلوته هو الفكر الخالص المجرد الحاد، إذن فالشيخ عبدربه هو ذلك الوجه غير المرئى لنجيب محفوظ والذى يمثل فكره الشامل الخالص الذى يستعصى على فهم وعقل الشباب بيل ونفسه التى كانت شابه يافعة فى يوم من الأيام، أما صديقه الخطاط فهو الخيال نفسه الذى هو اداة المبدع والمفكر فى البحث، أما المأمور الذى لا مثيل له فى خدمة الإخوان كما جاء فى النصوص الخاصة بعبدربه ([13])، فهو الأنا التى هى الوجود العينى لذات الإنسان فى حياته اليومية والذى ينازع الذات السامية (الروح) حياتها الأخرى ويلهيها عنها وعن التحليق فى آفاق الفكر والقيم الروحية، وقد اقتحم على الشيخ ومريديه خلوتهم وأنكر عليهم استغراقهم فى لذة خمارته، فلما سقاه الشيخ كأساً من شرابهم استسلم واندمج معهم، وبذلك تخلى عن مهمته التى أمر بها وهى السعى اليومى الدءوب من أجل الحياة والجسد الفانى، أما المريدون فهم أجزاء ذاته ومكونات نفسه، أما الكهف الذى يجمعهم والذى ورد فى أقصوصات الأصداء فهو باطن الشيخ نفسه، إنه العزل الفكرى الذى يأوى إليه عبدربه بعيداً عن الصخب الحياتى )، وهكذا ظهرت الحكمة فى حى نجيب محفوظ، وانظر معى إلى هذه الكلمة العبقرية الكنائية (حينا) فحينا الحى المعروف المسكون بالبشر، وحينا أيضاً ضد ميتنا (اللهم اغفر لحينا وميتنا) كما فى الحديث الشريف، أما (نا) وهو الضمير فى كلمة حينا فأراه يعود على محفوظ نفسه فهو المتكلم المعظم نفسه، وهذه هى قمة العبقرية فى استخدام التقنيات الرمزية التى تعج بها الأصداء ومعظم أعمال نجيب بعد الثلاثية ابتداءاً بأولاد حارتنا وانتهاءً بهذا العمل الذى بلغ فيه الرمز مستوى من التعقيد والتشابك والعمق يدفع قارئه ودارسه إلى تكلف الكثير من العنت والمشقة فى بحثه خلف معانيه، والمعروف عن محفوظ أنه يجد رموزه فى يسر بالغ وبلا تكلف، يجدها فى الناس من حوله بكل نماذجهم، وفى الأماكن العامة فيحول هذه النماذج والأشياء الصغيرة الواقعة فى متناول اليد ومرمى البصر إلى معانى ودلالات لما نالفها من قبل، يغلفها بهالة من الجمال والإثارة والمتعة شأنه فى ذلك شأن كل الفنانين العظماء الذين تحمل أعمالهم أكثر من دلالة، إذن فالأصداء عالم يطفح بالرموز التى قد تكون عبارة أو كلمة أو مقطوعة كاملة وقد يكون شيئاً مادياً أو معنوياً وقد يكون بسيطاً يفسر بكلمة واحدة أو مركباً فتفسره جملة أو فقرة وقد يكون الرمز رجلاً أو امرأة أو عجوزاً.

وأنا أرى فى هذا العمل رداً حاسماً من نجيب على من يدعون أن تحويل الأفكار إلى رموز (تجسيد الفكرة فى صورة مادية) يبعد بالفكرة عن ملامحها المجردة ويضعف من قوتها وتأثيرها، لأن تجربة نجيب محفوظ فى الأصداء لا تحتفظ بملامح الفكرة وقوتها وتأثيرها فحسب بل إنها تتجاوز ذلك فتضفى عليها أبعاداً وأعماقاً وألواناً ومذاقات شديدة الإثارة والمتعة والتأثير تشكل فى النهاية تكوينات قصصية سلسلة رائعة متفردة لم يعهدها الأدب العرفى من قبل، وإليك نموذج آخر من الأصداء يوضح ما ذكرناه ويكون مثالاً تطبيقياً عليه، هذا النموذج عبارة عن أقصوصة صغيرة بعنوان (الوحدة) ([14]) « لزق المنظر البشع بذاكرتها لا يتزحزح، منظر كف الضابط العمياء وهى تهوى على حد أبيها العليل وبقدر ما كانت تحب أباها وتقدسه بقدر ما خاصمت كل شئ، نفسها والعالم من حولها. وتتقدم بها السن وهى وحيدة ترمقها ثقوب الكون برثاء «. إلى هنا انتهى النص. وأمامنا ثلاثة عناصر رئيسية تشكل هذا النص.

  1. الفكرة التى تدور حولها المقطوعة.
  2. الرموز المستخدمة لتجسيد الفكرة وتحويلها إلى ما يناظرها.
  3. الشكل الذى أخذته الفكرة بعد ذلك وهو البناء الجديد لها الذى هو النص نفسه.

وسأنقل هنا رأى ناقد وباحث حصيف هو عبدالسميع زين الدين ([15]) حيث إننى أتفق معه فى كل ما ذكره حول القصة فى كتابه (أصداء الأصداء) والذى أبدى نجيب محفوظ نفسه إعجابه الشديد بهذه الدراسة التى نشر بعضها فى مجلة العربى الكويتية ([16])، قال الناقد : » اختار محفوظ صورة بالغة القسوة يتناقلها رواة قصص القهر والاضطهاد السياسى، صورة ابنة ضعيفة يعتدى ممثل السلطة على أحب وأقدس رمز فى حياتها، أبيها، يترك الأب العليل أكثر وهناً ويتركها وحيدة مهزومة. فماذا عن الرموز؟ إن الأخذ بظاهر القصة لا يضيف جديداً إلى صورة القهر السياسى المألوفة فلا مناص من البحث  عن دلالات للرموز التى نثرها محفوظ داخل نسيج قصته، فالابنة التى اعتدى على أبيها هى الإنسانية وذاكرتها هى ذاكرة الإنسانية كلها أما الأب العليل فهو الفكر الميتافيزيقى أو الدينى المزعزع بما يكفى، أما الضابط فهو العلم، اختاره ضابطاً ليكون نظيراً للقوة القاهرة التى تعمل وفق قواعد منضبطة ولا تقيم وزناً للقيم والعواطف. يبقى أمامنا جوهر الفكرة التى بنى حولها محفوظ مقطوعته هذه. تدور الفكرة حول الإنسانية التى عاشت أزماناً طويلة مطمئنة فى كنف أبوة حانية يمثلها الفكر الدينى ثم يتعرض هذا الفكر لهجمة شرسة من جانب العلم بأسلحة تزلزل أركانه وتترك الإنسانية التى طالما قدسته وآمنت به وحيدة مهجورة بغير سند وينتهى عهد تصالحها مع نفسها فقد صارت مقسمة مشتتة وهكذا العالم من حولها الذى فقد عماد وحدته وامتلأت صفحته البيضاء بثقوب سوداء راحت ترمق الإنسانية العجوز برثاء. هذه هى الفكر مجردة جافة قد تحولت من خلال القصة الرمزية إلى قصة مشعة مثيرة للأسى والأسف والغضب والشفقة فى صياغة عالية الشاعرية، هذا ما فعله نجيب محفوظ فى هذه المقطوعة وفى غيرها من مقطوعات الأصداء، وأعود إليكم أيها السادة فأقول إن محفوظ يبدأ أولاً بتحديد صورة لفكرة ما تراوده ثم يقوم برسم خطوط عامة لها أشبه بالعناصر (العنصر) ثم يحول هذه الفكرة بعناصرها إلى رموز ثم ينظمها فى كلمات ويجعل لها عنواناً موحياً فتصير نصاً فذاً محكماً يتكون من وحدات أو مقطوعات أو أقصوصات صغيرة لكل أقصوصة منها ثلاثة أركان رئيسية أولها الفكرة، ثانيها الرمز، ثالثها اللغة التى كتبت بها الأصداء.

رابعاً : من حيث لغة النص وأسلوب كتابته.

إن أسلوب نجيب محفوظ فى كتابة هذا العمل يعد أسلوباً فريداً قد اختص به هذا العمل وحده دون سواه فهو أسلوب دفقات قوية يتبع بعضها أثر بعض بسرعة شديدة يكاد معها القارئ يلهث من شدة عدوه العقلى خلف النصوص المحفوظية، وأسلوبه هذا فى الخروج من فكرة إلى فكرة ومن نص إلى نص آخر يتم بغتة وبلا مقدمات تمهيدية تربح عقل القارئ أو تهيئه لتلقى المزيد، وعلى الرغم من أن هذا التكنيك بإطار من الإثارة اللفظية والموضوعية جعلت القارئ لا يشعر على الإطلاق بأى اضطراب أو مفاجأة أسلوبه إذ أن كل مقطوعة تخص لمحة من فكر نجيب محفوظ، وهو قد صاغ هذه اللمحة فى لغة سلسلة جميلة متدفقة شديدة الإحكام شديدة التعبير عن مراد نجيب محفوظ، إنها لغة دقيقة خاصة بهذا العمل فقط دون سواه من أعمال محفوظ، فهى ليست شعراً، وإن كانت ذات حساسية عالية تتفوق على الشعر نفسه فى بعض النصوص، وليست نثراً كالذى نعرفه، فهى ذات إيقاع قوى وتركيز شديد ومذاق يبهر العقل، ويجعلها بعيدة تماماً عن القوالب النثرية المعروفة فى القصص والروايات سواء أكان ذلك فى أعمال محفوظ الأخرى أو أعمال أى كاتب آخر، كما انها لا تنتمى إلى قصيدة النثر فبناؤها ومحتواها أعمق بكثير من قصائد النثر التى نسمعها هذه الأيام بما فيها من غموض موغل فإذا ذهبت تبحث خلف غموضها وألغازها لم تجد ثمة مضموناً قوياً تحتويه، هذه القصائد التى يطلقون عليها (قصائد نثرية) إنها لغة عجيبة فيها الثراء. والبساطة وفى نفس الوقت فيها العمق والتكثيف حتى تناسب التكنيك الأسلوبى الذى ابتدعه محفوظ وارتضاه لكتابة مجموعة أصداء السيرة الذاتية، إنها لغة شفافة شاعرة فيها الرقة والحدة والسلاسة والغموض، ولنقرأ معاً هذه المقطوعة بعنوان: » هيهات « ([17])، وسنجد فيها بغيتنا: » ما ضنت على بشئ جميل مما تملك، فنهلت من ينبوغ الحسن حتى ارتويت. ولكن البطر بالنعمة قد يرتدى قاع الضجر. ومن إمارات خيبتى أننى فرحت بالفراق، وعلى مدى طريقى الطويل لم يفارقنى الندم. وحتى اليوم يرمقنى هيكلها العظمى ساخراً «.

انظر إلى رصانة الكلمات وحسن اختيارها ومناسبتها للفكرة فى المقطوعة وهذه الكلمات (ضنت- نهلت- ينبوع الحسن- أمارات- يرمقنى) ثم انظر إلى الاستعارة المكنية فى قوله (ينبوع الحسن، وقناع الضجر، لم يفارقنى الندم، يرمقنى هيكلها) فكلها صور استعارية رائعة أبانت عن المراد بصورة تشبيهية جميلة آسرة، هذا إلى جانب استخدامه لأقوى صورتين من صور الفعل وهما الماضى والحاضر اللذين يدلان على الزمان والديمومة ويصنعان تعادلية فى هذا النص الجميل، ثم بعد ذلك انظر ال الفكرة وملاءمتها للرمز الذى استخدمه فى التعبير عنها وملاءمتها للغة التى استخدمها فى صياغة هذه الفكرة وصنع هذا الرمز، فالفكرة هى إنسان ينهل من متع الحياة وفجأة يصيبه الضجر ويفرح بترك هذه المتع وعهدها ولكنه يندم على هذا الفرح والترك، وهنا اللغة ساعدته فى تحويل هذه الفكرة إلى رموز كما هو واضح، فمتع الحياة تتحول إلى امرأة جميلة لا تضن (تبخل) عليه بحسنها وفيض المتعة يتحول إلى ينبوع الحسن والتقدم فى المر الذى يحول دون المتعة هو الفراق، وحياته هى الطريق الطويل (انظر إلى التعبير والتشبيه الرائع الذى يصنع الرمز)، أما ما تبقى من هذه المتع البعيدة الزمن فهو الهيكل العظمى.

هل أسوق لك مثالاً آخر يدل على ما أقول؟ حسناً اقرأ معى مقطوعة الرسالة ([18]) هذه : » وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتى. ابتسمت. انحسرت غيابات الماضى السحيق عن نور عابر، وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمساً وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس «. اللغة هنا سلسلة واضحة الشاعرية لها عطر رومانسى حالم اختارها محفوظ لتلائم الفكرة المستترة وراء رموزها التى هى بخلاف المقطوعة السابقة، فالوردة هنا تعنى قصة حب قديم، وصف الكتب هو فيض الذكريات، أما المكتبة التى كان يعيد ترتيبها فهى ذاكرته التى تحتوى كل الذكريات. هذه اللغة الرفيعة نلمسها فى العديد من أقصوصات ومقطوعات الأصداء مثل (ربة البيت – الفرج – الشذا .. إلخ)، كما أن لغة الأصداء يغلب عليها الشيوع والأخذ من التراث العربى القديم. انظر إلى تعبيرات مثل (للضرورة أحكام، مهددة بالإفلاس، لم ينحن له ظهر أو يرق له بصر .. إلخ) كلها لغة تجمع بين القوة والبساطة والشيوع والعمق ونراها فى العديد من مقطوعات الأصداء مثل (الحركة القادمة، العدل، السؤال، دموع الضحك، عبدربه التائه … إلخ). وهذا الأسلوب الكلاسيكى معروف فى القصص الشعبية وألف ليلة وليلة وكتب المقامات والدب العربى القديم الذى يتميز بلغته الدقيقة التى لا تحتمل إضافة أو حذفاً أو تبديلاً كما تخلو من جميع الزوائد اللغوية المألوفة، وهذا هو شأن نجيب محفوظ فى لغة أصداء السيرة الذاتية ويا له من شأن رفيع لكاتب رفيع فى فنه وإبداعه.

خامساً : من حيث المكون الفكرة للعمل:

ها نحن قد عرفنا الأصداء وذكرنا أسباب كتابتها والتكوين الفنى لها وذكرنا توصيفها وأسلوبها ولغتها ولم يتبق أمامنا إلا أن نتحدث فى عجالة عن المكون الفكرى لأصداء السيرة الذاتية والتى ترتبط بمحاورها الفنية ارتباطاً وثيقاً، وهنا نلتقى بثلاث وثلاثين مقطوعة منتشرة فى الأصداء تعبر عن الاتجاه الفكرى لمحفوظ وتكون فى مجموعها الصورة الكاملة لمذهبه وفلسفته فى الحياة منذ أن وعاها وحتى فارقها، ومن هذه المقطوعات: رثاء، مفترق الطريق، البلاغة، سر النشوة… إلخ. وهذه الأقصوصات فيها الفكر الذى قامت عليه هذه النصوص الدبية وهو فكر يبتسم بالعمق والتفرد والغرابة بعض الشيء ويحمل فى طياته الخوف من الموت والمجهول والضياع كما يحمل حب الحياة والعلم والثقافة والمتعة والسرور فى ضوء رؤية صوفية روحية عميقة قد يكون بها بعض الخروج عن المألوف المشروع أحياناً، ولنأخذ بعض الأمثلة على ذلك من الأصداء نفسها، ففى مقطوعة (دعاء) والتى افتتح بها نصوصه وحياته أيضاً يقول : » دعوت للثورة وأنا دون السابعة، أى وهو طفل يعى وذلك عندما ذهب إلى مدرسته بصحبة الخادمة وفى عينيه كآبة وفى قلبه حنين للفوضى ثم يفاجأ بأنه لا دراسة اليوم بسبب مظاهرات الطلاب الكبار فغمرته الفرحة وقال ( ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأب «. فما هى الموجة الفكرية التى تحملها هذه القصة؟ إنها موجة الرفض الفطرى للقيود والوصاية والتنميط وثورة على كل ما يكبل الفكر ويحدده، والرفض والثورة هما عنصران أساسيان فى تكوين وطبع نجيب محفوظ وفى تكوين كل فنان ومبدع ومفكر ومادام قد استخدم الرمز فالمدرسة هنا تعنى سيطرة المجتمع من خلال مؤسساته على أفراده منذ طفولتهم وصبهم فى قالب واحد ليكونوا أنماطاً ونسخاً متشابهة، أما الخادمة فرمز للرقابة الأسرية التى لا ينفك الطفل من أثرها أما الحنين للفوضى فهو الرغبة فى الحرية وعدم الضوابط التى تحد من السعادة والإبداع، ومن هنا نفهم سر دعائه للثورة وهو ملمح خفى أيضاً يشير إلى أن أى ثورة لابد أن تقدم ما يسعد الإنسان ويطلق إبداعه وكيانه وسعادته حتى يقف الإنسان بجانبها ويساندها ويدعو لها. أما عن قضية الالهام والعودة للكتابة بعد الانقطاع.. وهى قضية فكرية تشغل بال كل مبدع .. فقد تحدث عنها محفوظ بفكر إيجابى لا يدعو إلى اليأس والاستسلام أبداً وذكر تجربته الشخصية مع هذه الظاهرة التى تعترى المفكرين والمبدعين لبعض لوقت. كان حديثه عن تلك التجربة فى أقصوصة صغيرة تحمل عنوان » سر النشوة « ([19]) قال فيها : » حلمت بأننى صحوت من نوم ثقيل على أنفاس رقيقة لامرأة آية فى الجمال، رنت إلى بنظرة عذبة وهمست فى أذنى : إن الذى أودع فى سر النشوة المبدعة قادر على كل شئ فلا تيأس أبداً «، فالنوم الثقيل الذى صحا منه هو نومه الفكرى وهى تلك الحالة من الركود التى يمر بها كل كاتب فلا يجد ما يمكن كتابته، أما المرأة الجميلة التى أيقظته من هذا النوم الفكرى فهى ربة الإبداع والفن والشعر أى الالهام ونشوته الخلاقة القادرة على إيقاظ جذوة فكره الخامدة بإذن الله، وتوصيه هذه المرأة – التى هى الإلهام – بعدم اليأس. وقد ساق ناقد كبير فى أدب وحياة نجيب محفوظ تفسيره الحياتى لهذه المقطوعة، فقال الأستاذ عبدالسميع زين الدين ([20]): » هذه المقطوعة يؤرخ بها محفوظ لمرحلة مهمة من مراحل حياته الإبداعية والفكرية والتى انقطع فيها عن انتاجه الأدبى لأنه لم يجد ما يقوله أو يكتبه«. هذه الفترة أسماها محفوظ فترة اليأس الأدبى بل وتخيلها نهاية لعمره الإبداعى … وبهذه المقطوعة تكون رؤياه قد صدقت فبعد أعوام قلائل عاد إلى مسيرته الإبداعية برواياته (أولاد حارتنا) ثم توالت بعدها أعماله. أيضاً من القضايا المهمة التى حدثنا عنها محفوظ فى أصدائه قضية الهجرات وهى مسألة حظيرة يستشعرها كل مبدع ومفكر متفرد متمرد على الأوضاع السيئة وعلى التخلف، إن هذا المفكر يصبح مهجوراً منبوذاً من الناس ومن السلطة الحاكمة، إنه يعيش فى هجران من اختياره هو، ونجيب محفوظ يحاول هنا أن يصبر هذا المبدع الخلاق ويصبر نفسه فى ذات الوقت بأن يقول لها هنيئاً لك هذا الهجران.

وها هو محفوظ يحدثنا عن قبره قبل أن يدخله، إنه القبر الذهبى، قبر الروح والعقل، قبر الترقى لا قبر الجسد الفانى، انظر إليه فى مقطوعة القبر الذهبى وهو يقول : » رأيت فى المنام قبراً ذهبياً قائماً تحت أغصان شجرة سامقة مغطاة بالسلاسل الشادية، وعلى صدره نقش بأحرف جميلة واضحة كلمات تقول : هنيئاً لمن كانت نشأته فى بوتقة الهجران «. هذه المقطوعة لا تحمل رموزاً فى داخلها، وقليلة هى أقصوصات محفوظ التى لا تحمل رمزاً فى الأصداء، إنها تحمل الفكرة التى سبق أن حدثتكم عنها، إن هذا القبر صورة فائقة من الجمال لا يمكن تواجدها فى واقع الحياة، وهو تكريم خاص لكل من اختار لنفسه نهجاً فكرياً متفرداً طيلة حياته، والهجران المقصود ليس هو الحالة العاطفية النفسية التى تغزو قلب المحب بأسلحة اللم والمعاناة حيث يتخلى عنه الحبيب، ولكنه حالة ذهنية نفسية يعيشها كل إنسان اختار أن يعيش مهجوراً من الناس أو من أنظمة البطش لأنه على الحق والخير والاستنارة، ومن المحتمل أن يكون مقصد نجيب بهذه المقطوعة إنسان معين ضمه هذا القبر الجميل والتى كانت نشأته فى هذه البوتقة، أى هو نجيب محفوظ نفسه.. وهذا رأى شخصى . وبمناسبة ذكر القبر أذكر أيضاً أنا لم نعدم محفوظ فى حديثه عن الموت وقضاياه الفكرية فى مجموعة أصداء السيرة الذاتية، فالموت عند نجيب محفوظ فى الأصداء يمثل الكارثة التى لا مفر منها والقدر المحتوم الذى لا نجاة منه بأى حال من الأحوال واللغز العجيب المخيف الغامض والشئ الذى يداهم الحياة بلا إنذار أو منطق مفهوم، كل هذه الأفكار وردت فى الأصداء فى حوالى ثمانى مقطوعات تعكس عمق اهتمام كاتبنا بالموت، همه الكبر، وتتميز هذه المقطوعات بالبعد عن التعقيد فى التكنيك الأسلوبى وعدم الإيغال فى الرمز مع استخدام لغة بسيطة موجبة سهلة المفردات عميقة المعانى بما يتناسب مع جلال هذا الحدث الجسيم الذى هو الموت، نجد ذلك فى مقطوعات مثل التلقين، والهجر، والمخبر، ومقطوعة أقوى من النسيان والت تتحدث عن تجربة الكاتب مع الموت وذلك عندما كان مريضاً وأجريت له جراحة فى القلب وذلك فى لندن عام 1991، والقصة تحدثنا أنه التقى مع الموت فى حلم ولكن الحقيقة أنه التقى معه فى المرض، والصحو من النوم فى القصة معناه الشفاء من المرض وابتعاد الموت عنه لكنه بعد ذلك تساءل تحت وطأة الخوف والقلق : متى يلقانى؟ وكيف يتم اللقاء؟ وما الداعى إلى ذلك كله؟، ويهاجمه وساوس الموت حتى وهو فى لهوه ومتعته وبين الأحضان الدافئة فيقول : » ويندر أن أطرد عنى الهواجس حتى فى الأحضان الدافئة « ([21]). أما فى مقطوعة الصور المتحركة فنجد صياغة فنية أخرى يذكر فيها الكاتب ثنائية الحياة والموت وأن كل منهما يسلم إلى الآخر حتى انك لتشك هل الأصل الموت أم الحياة أم أن كلاً هذا وهم كبير. وهو فى هذه القصة متأثر بالفكر الإسلامى والنصوص الشرعية التى تحدثت عن الموت فى القرآن الكريم والسنة النبوية وعلاقة كل ذلك بالحياة والزمن، فقد قال الله تعالى : يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى « ([22]). كما قدم الموت على الحياة فى سورة تبارك (الملك) حيث قال سبحانه وتعالى : » الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً « ([23]). وكل هذه المعانى نجدها فى قصص الموت فى أصداء محفوظ، انظر إليه فى أقصوصة الصور المتحركة ([24]) وهو يقول : » هذه الصورة القديمة جامعة لأفراد أسرتى.. وهذه جامعة لأصدقاء العهد القديم، نظرت إليهما طويلاً حتى غرقت فى الذكريات.. جميع الوجوه مشرقة ومطمئنة وتنطق بالحياة، ولا إشارة ولو خفيفة إلى ما يخبئه الغيب، وها هم قد رحلوا جميعاً فلم يبق منهم أحد، فمن يستطيع أن يثبت أن السعادة كانت واقعاً حياً لا حلماً ولا وهماً «. والنص لا يحتاج منى إلى تعليق أكثر مما ذكرته فيما سبق وإنما العبقرية كلها تكمن فى عنوان المقطوعة (الصور المتحركة) كيف هى متحركة؟ أقول لكم أن السكون فى الصورتين قد تحول إلى حركة فهما متحركتان لأن الزمن حركهما من الحياة إلى الموت، فالزمن هو الوسيط المحرك للثنائية الشهيرة (الحياة والموت) وهو المحطة الوسطى التى يمر بها قطار حياة الإنسان (الحياة والموت) وهو المحطة الوسطى التى يمر بها قطار حياة الإنسان (الحياة – الزمن – الموت ) فما بين ميلاد الإنسان وموته زمن هو حياة الإنسان. أما قصة (رجل يحجز مقعداً) فتحكى عن الموت حينما يحدث نتيجة عدد كبير من المصادفات التى تصنع مصيدة لرجل يعبر الطريق، والمقصود الفنى من هذه المصيدة وتلك المصادفات مغزى فكرى عميق ساد أعمال نجيب محفوظ التى تحدث فيها عن الموت، ذلك المغزى هو عجز الإنسان وقلة حيلته أمام قدره. ذلك القدر المحتوم الذى يترصده فى أى وقت من الأوقات ولا يجد الإنسان فرصة ليهيئ نفسه لاستقباله، إنه الموت الذى يتجلى فجأة فى هذه المقطوعة كشأنه تماماً فى (الحياة)، وهذه الأقصوصة مفادها أن أتوبيس تحرك من الزيتون فى نفس اللحظة التى تحرك فيها رجل بسيارته من حلوان ثم تتغير سرعتهما وأماكن مرورها ويتوقفان ويتحركان ولكنهما ويا للمصادفة الغريبة يصلان إلى ميدان المحطة فى وقت واحد بل يقع بينهما صدام خفيف بينما كان رجل يمر بينهما والنتيجة هى الموت، لقد انحصر الرجل بين السيارتين بينما كان يعبر الميدان ليحجز مقعداً فى قطار الصعيد، وقد اعتمد محفوظ فى هذه المقطوعة على أسلوب البناء بالتقابل حيث وزع الدراما والأدوار على بطلى هذه القصة بالتساوى، وهما السيارتان وقد اشتركتا معاً فى خلق فكرة مباغتة الموت للإنسان، الذى هو هنا بطل ثانوى كان يمر ليحجز فى قطار الصعيد الذى هو قطار الموت ولا ريب، ومن هنا يتضح أن الفنان الصادق يمتلك عالماً داخلياً فكرياً متكاملاً يظهر فى الأصداء لم تختمر وتكتمل فلسفياً قبل اكتمالها فنياً فى أعمال محفوظ إلا بعد بلوغه الستين وإحالته إلى المعاش فذلك قد أعطاه فرصة كبيرة للتأمل كما جعله المرض يديم التفكير فى هذه القضايا ليخرج لنا بهذه التحف الرائعة المنتشرة فى أعماله والتى جسدت كل ما يتعلق بالموت من قضايا، وفى ذلك يقول الناقد الكبير حسين عيد ([25]). » هذه النوعية من القصص بلغت إحدى عشرة قصة خلال حقبة الثمانينات، ولعل الموت كقضية خاصة لم تكن مطروحة ضمن هموم الكاتب فيما قبل سنة 1963 حين ظهرت قصة واحدة ضمن مجموعته الثانية (دنيا الله) كانت بعنوان (ضد المجهول) ولما أوقظت هذه القضية فى نفسه وارتفع إلحاحها الشخصى ارتفع عدد القصص إلى ست ضمن مجموعة الفجر الكاذب التى صدرت عام 1989«. وأنا أقول إن هذه القضية بلغت قمة نضجها ذروتها فى هذه المجموعة القصصية فها هى ثمانى مقطوعات كاملة تتحدث عن قضايا الموت بصورة فكرية وفنية وأسلوبية رائعة حوتها الأصداء المحفوظية بينما كان صاحبها على وشك توديع الحياة لذا أنا أراها أصدق أعماله فى الحديث عن الموت وهذا ليس بعجيب على رجل ينتظر الموت فى أية لحظة، إنما العجب حقاً هو أن نجد نجيب محفوظ يتحدث عن قضايا فكرية وفلسفية خاصة بالحب والغرام وهو فى هذا السن وكأنه يريد ألا نفقده فى هذا المجال أيضاً ولكن هذا العجب سيزول إذا علمنا أن الحب مكون مهم من المكونات النفسية لنجيب محفوظ وتجربة هامة أثقلت عقله وحياته ذكرها فى خمس مقطوعات فقط فى الأصداء نظراً لانشغاله بقضايا فلسفية أهم من قضية الحب وهى القضايا التى سبق الحديث عنها، أما المقطوعات التى تحولت عن علاقة محفوظ الفكرية والحياتية والنفسية بالحب فهى كما يأتى ك (السعادة – السر- المطر – شكوى القلب – بعد ثلاثين عاماً ([26]). فمقطوعة السعادة تحدثت عن حبه الأول الذى لم تعرف عنه الحبيبة شيئاً والذى اعتبره محفوظ تدريباً ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين، ولذا فمقطوعة السر تفسر هذا الحب وتضفى عليه جواً روحياً ملائكياً. أما فى أقصوصته الرائعة (بعد ثلاثين عاماً) فتخبرنا عن طريق رموز كثيرة معقدة أن نفسه فقدت الحب منذ أن بلغ الخمسين وأنه يحن دائماً إلى تلك العواطف الباقية فى القلب دائماً والتى تخفيها الوحشة بصورة تبعث على الأسى أما فى المقطوعة القصيرة المسماة (شكوى القلب) فيتخيل محفوظ فيها حواراً دار بينه وبين قلبه الواهن المريض ويعتذر نجيب لقلبه لأنه حمله ما لا يطيق من الحب فيما مضى من زمن الصبا لكن القلب يعترض على كلام محفوظ بعبارة واحدة رائعة مفادها أن قلبه مرض ووهن بسبب قلة الحب لا بسبب كثرته.

وكأن كاتباً يريد أن يقول إن الحب هو حياة القلوب والنفوس وهو مصدر صحتها وسلامتها. أما فى أقصوصة المطر والتى كتبت بمستويات فنية رمزية رائعة ذات حوار مقتضب هو جملتان فقط كانتا مسببتين عن حدث درامى عنيف فى الظاهر لكنه يتدفق روعة وجمالاً فى الباطن، إنه المطر الغزير الذى يدفع كاتبنا إلى الاختباء فى مدخل بيت قديم هو وامرأة جميلة ليقفا متقابلين فى المدخل الضيق يسمعان هزيم الرعد فى الخارج ويدور حوار من جملتين، نقول المرأة : » هذا المطر مقلب ما بعده مقلب « فيقول نجيب وهو حائر بخواطره : » إنه رحمة للعالمين «.

وحتى لا أطيل فى فك الرموز أقول إن المطر هذا رمز للحب الوافر المنهمر أما البيت القديم فهو القلب الذى كان عامراً بالحب فى الزمن القديم، أما المرأة فهى رمز للأخلاقيات والتقاليد الاجتماعية التى تتحفظ من تجربة حب فى هذا السن، وفى هذه القصة يبدو رأى محفوظ فى الحب (إنه رحمة للعالمين).

واكتفى بهذا القدر من القراءة النقدية التحليلية لهذا العمل الجليل وأختم مقالى هذا بسؤال لا أعتقد أن أحداً قد أجاب عنه من النقاد والدارسين على الرغم من تعدد ما كتب عن نجيب محفوظ وأعماله، هذا السؤال هو : لماذا اختتم نجيب محفوظ حياته الإبداعية بهذا اللون من ألوان الكتابة القصصية ؟، لماذا اختار أن يكون أعظم عمل فكرى وأدبى كتبه يحمل اسم وطابع الأقصوصات؟

الإجابة من وجهة نظرى تكمن فى ثلاثة أسباب رئيسية وسبب ثانوى، أما الثانوى فأرى أن ذلك كان لكبر سنه ومرضه اللذين منعاه من الاسترسال فى كتابة عمل روائى طويل يستنزف جهداً عقلياً ونفسياً كبيراً من الصعب على رجل فى مثل سنه ومرضه أن يتحمله، أما الأسباب الرئيسية فأرى أن السبب الأول منها هو طابع العصر الذى نحيا فيه، عصر السرعة واللهفة والإنجاز والوصول إلى الهدف من أقصر طريق ممكن فلم يعد هناك القارئ الصبور على قراءة رواية ضخمة كثلاثية نجيب فى هذا الجيل من الشباب الذى يلهث خلف الحياة السريعة المختزلة والفن السريع كما أن الغزو الإعلامى والمثاقفة مع الغرب وترجمة نصوص القصاصين الغربيين وكتاب أمريكا اللاتينية كان له أثر كبير على عقلية الشباب وذوقه الذى بدأ يميل إلى كل ما هو خفيف وموجز وفى نفس الوقت عميق.

اما السبب الثانى فهو النضج الفنى والفكرى الكامل الذى وصل إليه محفوظ بعد مضى نصف قرن من الإبداع على قلمه استطاع من خلاله أن يكثف ويختزل آلاف الصفحات والأحداث والأفكار فى أسطر قليلة تسمى بالأقصوصة أو المقطوعة أو اللوحة القصصية أو المشهد القصصى إلى آخر هذه التسميات الاصطلاحية الجديدة على عالمنا الأدبى والتى تحتاج إلى مهارات فذة يعلم محفوظ جيداً أنه يمتلكها وهى واضحة جلية فى الأصداء نراها فى لإدهاش والإضمار والمفارقة والتركيز على الوظائف الأساسية دون الثانوية والتكثيف وفعلية الجمل والنفس الجملى القصير الذى يحدث الدراما والتوتر والتأزم الذى تصنعه الجمل الفعلية على حساب الجمل الاسمية الدالة على الثبات وبطء الإيقاع، ولا ننسى أيضاً التلغيز والترميز الذى يمتاز به هذا النوع من الفن القصصى ([27])، وكل ذلك واضح ومتواجد بغزارة فى الأصداء المحفوظية.

أما السبب الثالث فهو رغبة محفوظ فى المشاركة الإبداعية فى هذا اللون الجديد من الأدب بعد أن دخل إلى عالمنا العربى وبرع فيه أهل العراق وسوريا وفلسطين والمغرب وتونس ([28]). وأثبت الباحثون أن له جذوراً عربية تتمثل فى السور القرآنية القصيرة والأحاديث النبوية وأخبار البخلاء والظرفاء والأغبياء التى اكتظت بها كتب الأدب، ومحفوظ بهذا العمل أثبت أنه تفوق على الجميع فى هذا اللون القصصى الجديد القديم والذى أصبح فى هذه الأيام يحمل الكثير من الرمزية والغموض على يد الأدباء الشبان التى أصبحت رمزيتهم خالية من المضامين الفكرية والفنية العميقة، وغموضهم فى النص مصطنع أو بتعبير نجيب محفوظ » حتى يظن أن تحت القبة شيخاً « ([29]).

رحمة الله عليك يا شيخ الرمزية وأمير الرواية العربية.

وأخيراً أختم مقالى بهاتين المقطوعتين من قصيدة لى فى رثاء نجيب محفوظ :

الراحل ما كان ليرضى ذل أو هوان،

ما كان ليرضى عن فن أشعل فى الذوق البركان،

الراحل غادر دنيانا وسما بالعقل وبالوجدان،

ليقول لكم هذا شأنى فنقول وداعاً يا إنسان،

ليقول لكم هذا فنى فنقول وداعاً يا فنان

الراحل غادر دنيانا حتى لا يمكن فى البهتان.

المصادر والمراجع

  1. من حديث لنجيب محفوظ نشرته له مجلة آخر ساعة عام 1995.
  2. مجلة الهلال عدد فبراير سنة 1970 ص48 » بتصرف «
  3. مجلة نصف الدنيا عدد رقم 335 بتاريخ 14 يوليو 1996 (بتصرف) يسير غير مخل ولا موهم خلاف المراد).
  4. اقرأ في ذلك على سبيل المثال نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل لغالى شكرى، ونجيب محفوظ من القومية إلى العالمية لفؤاد دوارة.
  5. نقلاً عن مجلة نصف الدنيا عدد 335 وقد سبق تدوينه بأعلى .
  6. انظر كتاب القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق . د. يوسف حطينى، دمشق سنة 2004.
  7. انظر أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ من ص105 وحتى ص 159 ط مكتبة الأسرة (هيئة الكتاب ) سنة 2004. وأنوه على أنه قد تم الاحتفاء بهذا العمل جداً حيث طبع في ثلاث دور ثقافية عملاقة هى مكتبة مصر ثم دار الشروق ثم هيئة الكتاب ، وقد اطلعت على كل هذه الطبعات ولا فارق بينها إلا في كم الصور التذكارية الموجودة في طبعة مكتب مصر والتى خلت منها طبعتا مكتبة الأسرة والشروق.
  8. انظر الأصداء ص21 ط مكتبة الأسرة. هيئة الكتاب سنة 2004.
  9. انظرالأصداء ص151 السابق.
  10. المرجع السابق ص130، 143، 151.
  11. مجلة نصف الدنيا عدد 335 وقد سبق ذكره بهذا المهمش 3.
  12. أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ ص105.
  13. انظر الأصداء مقطوعة (التعارف) ص106 ومقطوعة (مأمور) ص109. الطبعة السابقة.
  14. انظر الأصداء ص37 ويوجد خطأ مطبعى في طبعة مكتبة الأسرة حيث حذف من النص حرف (لا) في (لا يتزحزح) وقد ذكر في طبعات مكتبة مصر دار الشروق.
  15. انظر كتاب أصداء الأصداء تأليف عبدالسميع عمر زين الدين سلسلة (إصدارات خاصة) الهيئة العامة لقصور الثقافة ط أولى سنة 2006 ص49 وهو كتاب رئيس في هذه الدراسة التقليدية.
  16. انظر عدد يونيه 1997.
  17. أصداء السيرة الذاتية، نجيب محفوظ الطبعة السابقة ص52 ، 45.
  18. أصداء السيرة الذاتية، نجيب محفوظ الطبعة السابقة ص52 ، 45.
  19. المرجع السابق ص69.
  20. انظر أصداء الأصداء السابق برقم 15 ص84 (بتصرف يسير).
  21. أصداء السيرة الذاتية ص98.
  22. القرآن الكريم، سورة آل عمران آية 37، سورة الملك آية 2.
  23. القرآن الكريم، سورة آل عمران آية 37، سورة الملك آية 2.
  24. انظر أصداء السيرة الذاتية ص21.
  25. انظر كتاب الإبداع الدبى، المصادر والمخاطر، تأليف حسين عبده ص115. ط مكتب الأسرة 1997.
  26. انظر أصداء السيرة الذاتية ص16-131-90-38-40
  27. انظر كتاب (بحثنا عن الديناصور) مختارات قصصية من أمريكا اللاتينية، إعداد وترجمة سعيد الواحد وحسن يوتكى، منشورات البحث بالمغرب ط1، 2005 وكتاب (القصة القصيرة جداً) تأليف أحمد جاسم الحسين، منشورات دار عكرمة، دمشق، ط1 ، 1997.
  28. انظر كتاب (القصة القصيرة جداً بالمغرب ، المسار والتطور) ط مؤسسة التنوخى، إسفى ، ط1 2008 والكتاب تأليف د/ جميل جمداوى.
  29. قال ذلك في رمزية الشباب التى ليست لها أسباب طبيعية ولا قيمة فنية، وكان ذلك في حوار أجرته معه الكاتبة الصحفية والمذيعة اللامعة نجوى وهبى، انظر كتابها المعنون بهذا الاسم (قراءات في رءوس تحترق) ط مكتبة الأسرة، هيئة الكتاب سنة 1999 من ص27 وحتى ص35، وينظر أيضاً مجلسة المجالس الكويتية بتاريخ 19 يناير 1985 حيث نقلت هذا الحوار.

Sources and references

  1. From an interview by Naguib Mahfouz published by Akher Sa’a magazine in 1995.
  2. Al-Hilal magazine, February 1970, p. 48 » Edited «
  3. Half-Dunya Magazine, No. 335, dated July 14, 1996 (Edited) is easy and not delusional other than what is intended).
  4. Read for example Naguib Mahfouz from Aesthetic to Nobel by Ghaly Shoukry, and Naguib Mahfouz from Nationalism to Universality by Fouad Dawara.
  5. Quoting from the magazine Half of the World, No. 335, which has already been written above.
  6. See the book The Very Short Story between Theory and Practice. Dr. Youssef Hittini, Damascus, 2004.
  7. See the echoes of the autobiography of Naguib Mahfouz from p. 105 to p.  159 i Family Library (Book Authority) in 2004. I note that this work has been very celebrated, as it was printed in three giant cultural houses, namely the Library of Egypt, Dar Al-Shorouk and then the Book Authority, and I have seen all these editions and there is no difference between them except in the amount of memorial photos in the edition of the Egypt Office, which was devoid of the editions of the Family Library and Al-Shorouk.
  8. See Al-Asda’a on p. 21 i Family Library. Book Commission in 2004.
  9. See Al-Asda’a p. 151 Ibid.
  10. Ibid., pp. 130, 143, 151.
  11. Half-Dunya Magazine No. 335 has already been mentioned in this margin 3.
  12. Echoes of the autobiography of Naguib Mahfouz, p. 105.
  13. See al-Asda’a (ta’aruf) on p. 106 and maqta’a (ma’ar) on p. 109. Previous edition.
  14. See Al-Asda’a on p. 37 There is a typographical error in the edition of the Family Library, where the letter (no) in (does not budge) was omitted from the text, and it was mentioned in the editions of the Library of Egypt, Dar Al-Shorouk.
  15. See the book Echoes of Echoes written by Abdel Samie Omar Zain Al-Din Series (Special Editions) General Authority for Culture Palaces First Edition 2006, p. 49, which is a major book in this traditional study.
  16. See June 1997.
  17. Echoes of the Autobiography, Naguib Mahfouz, previous edition, pp. 52, 45.
  18. Echoes of the Autobiography, Naguib Mahfouz, previous edition, pp. 52, 45.
  19. Ibid., p. 69.
  20. See echoes of previous echoes No. 15, p. 84 (with a simple disposition).
  21. Echoes of the autobiography p. 98.
  22. The Holy Qur’an, Surah Al-Imran verse 37, Surah Al-Mulk verse 2.
  23. The Holy Qur’an, Surah Al-Imran verse 37, Surah Al-Mulk verse 2.
  24. See Echoes of the Autobiography, p. 21.
  25. See the book Al-Ibdaa Al-Dubai, Sources and Risks, written by Hussein Abdo, p. 115. i Family Office 1997.
  26. See Echoes of the Autobiography P16-131-90-38-40
  27. See the book (Our Search for the Dinosaur), Anthology of Stories from Latin America, prepared and translated by Said Al-Wahed and Hassan Yutke, Research Publications in Morocco, 1st Edition, 2005, and the book (The Very Short Story) written by Ahmed Jassim Al-Hussein, Dar Ikrima Publications, Damascus, 1st Edition, 1997.
  28. See the book (The Very Short Story in Morocco, The Path and Development) i Tanoukhi Foundation, Isfi, 1st Edition 2008 and the book written by Dr. Jamil Jamdaoui.
  29. He said this in the symbolism of youth, which has no natural causes and no artistic value, and that was in an interview with the journalist writer and presenter brilliant Najwa Wehbe, see her book entitled by this name (readings in the heads burning) i Family Library, Book Commission in 1999 from p. 27 to p. 35, and also see the Kuwaiti councils session on January 19, 1985, where she quoted this dialogue.

الرواية السير-ذاتيّة وكتابة الذّات/ رواية “زمن الأخطاء” لمحمد شكري نموذجا

الملخص:

 الرواية السير-ذاتيّة نوعٌ أدبيٌّ حديثُ النشأة  في الثقافة العربيّة، بل إنّه من مخرجات الكتابة الروائيّة ما بعد الحداثة، يتميّز عن الرواية التقليديّة جماليّا  وفكريّا، إذْ أنّ الروائي يستقي مادّته السّرديّة من ذاته، ومن تجاربه في الحياة، بدءا من الطّفولة، وانتهاء بخريف العمر.

   تأتي الرّواية السير-ذاتيّة كتتويج لحياة كاتبها، حيثُ تنضجُ الرؤية للعالم، ويتّضحُ الموقف من الوجود، وتتبلور آفاق جديدة على الصّعيد الجمالي والفكري في مسيرة الكاتب الذي يعبّرُ عن ضمير مجتمعه، فهو شاهدٌ على عصره، وراوٍ لأحداثه، ومُدْلٍ بمشاعره ومواقفه تجاه التجارب التي عايشها والبشر الذين جاورهم.

   وفي رواية زمن الأخطاء” لمحمّد شكري، يكتبُ الروائي حياته الخاصّة في فترة تاريخيّة عصيبة على المغرب العربي، بسبب الحضور الكولونيالي الغربي، وبسبب حالة التخلّف التي يعيشها المجتمع المغربي في تلك الحقبة العصيبة من تاريخه الحديث. وتهدفُ هذه الدّراسة، كما يشي بذلك عنوانها، إلى جماليّات التحول من السّرد السّير-ذاتي، إلى السّرد الروائي، وما مدى التداخل بين النمطين من الكتابة، وكيف يمكن بلورة رؤية للعالم انطلاقا من تجربة حياة ذاتيّة. كما يهمّنا أيضا أن ندرك كيف تتحوّل الذّات المفردة إلى مركزٍ للعالم، وكيف تتحوّل مواقفها ومشاعرها إلى إدانة للنظامين الثقافي والسّياسي للمرحلة التي توثقها هذه الرواية.

الكلمات المفاتيح:

     الرواية السير-ذاتيّة؛ رؤية العالم؛ النظام الكولونيالي؛ الانحراف؛ انحطاط العالم؛ الطّفولة الشقيّة.

Abstract

The autobiographical novel and self-writing / “Bare Bread” by Muhammad Shukri as a model .

  The autobiographical novel is a literary genre of recent origin in Arab culture. Rather, it is one of the outputs of postmodern novel writing, distinguished from the traditional novel aesthetically and intellectually, as the novelist derives his narrative material from himself, and from his experiences in life, starting from childhood and ending with old age. .

   The autobiographical novel comes as the culmination of the life of its writer, where the vision of the world matures, the attitude towards existence becomes clear, and new horizons are crystallized on the aesthetic and intellectual level in the path of the writer who expresses the conscience of his society, as he is a witness to his era, a narrator of its events, and a guide to his feelings and attitudes towards the experiences he lived through. And the people who surround them.

In the novel " The Time of Errors"  by Mohamed Choukri, the novelist writes his own life during a difficult historical period in the Maghreb, due to the Western colonial presence, and because of the state of backwardness experienced by Moroccan society in that difficult period of its modern history. This study aims, as indicated by its title, at the aesthetics of the shift from autobiographical narration to the narrative secret, and the extent of overlap between the two styles of writing, and how it is possible to crystallize a vision of the world based on a subjective life experience. It is also important for us to realize how the individual self becomes the center of the world, and how its attitudes and feelings turn into condemnation of the cultural and political systems of the stage that this novel documents.

Key words

The autobiographical novel; see the world; the colonial system; deviation; degeneration of the world; The naughty childhood.

مقدّمة:

   تتعدّد أنماط كتابة الذّات في الثقافة العربيّة أو غير العربيّة، بتعدّد البدائل، والرؤى والأساليب التي بحوزة المفكّرين والمبدعين المهتمّين بالشأن الثقافي. فالشاعر يكتب ذاته من خلال التخييل المجنّح، والمشاعر المشبوبة والتّمثيلات الموغلة في التجريد، والروائي يكتب ذاته من خلال شخصيّاته وتجاربها مع محيطها الاجتماعي والثقافي والسياسي، والمؤرخ يكتب ذاته متحرّيّا الموضوعيّة والتجرّد من التحيّزات.

   وفي هذه الدّراسة يجمع الكاتب المغربي الحديث، محمّد شكري بين نمطين من أنماط كتابة الذّات، فهو يكتب سيرته الذّاتيّة، أو تاريخ حياته، ولكن في شكل روائي. إنّه يُدمجُ بين نوعين أدبيين مختلفين تماما. فالسيرة الذّاتيّة تقتضي الصدق، بينما تتجاوز الرواية ذلك المعيار، وتعتمد على التّخييل والتّمثيل والمجاز.

   في الرّواية التي بين أيدينا نملك تجربة فريدة من نوعها من حيثُ نمط الكتابة وجرأة التّفكير والتجرّد من كلّ معيقات الإبداع الأدبي وفق ما يتصوّره الكاتب محمّد شكري. فقد عمد إلى خرق كلّ التابوهات التي رسمتها الثقافة العربيّة، وكلّ الموضوعات التي سيّجتها، ومنعت الخوض فيها لكونها خادشة للحياء، ومنتهكة للمحظور، والممنوع، والمسكوت عنه.

   يستعرضُ الكاتب تجاربه الجنسيّة المبكّرة وعلاقته الإشكاليّة بأبيه ووالدته، وهي علاقة غير طبيعيّة، في مجتمع ذكوري يدعو إلى تقديس الأب، وتبجيله، باعتباره رمزا للرّجولة والشّرف، ومصدرا للحماية والإشباع العاطفي. وانطلاقا من تلك العلاقات الشاذّة مع العائلة تتشكّل رؤية للعالم يبلورها الكاتب ليعبّر عن إدانته الشّديدة للنظام الثقافي المهيمن داخل الأسرة والمجتمع بشكلٍ عام.

   يتطوّر وعي الكاتب الطّفولي من خلال التجارب العائليّة الأولى مع الأب، ويتأثّر هذا الوعي الطّفولي بقسوة الأب وغلظته في تعامله مع زوجته ومع أبنائه. ويبلغ عنف الأب ذروته إلى حدّ قتل الابن الصّغير، فقط لأنّه يبكي دون انقطاع. وتتوسّع كراهيّة الأب لتتحوّل إلى كراهية للمجتمع؛ فالكاتب يُماهي بين عنف الوالد رمز الذّكورة المتوحّشة، وبين السلطة السياسيّة رمز القمع والإقصاء. وانطلاقا من علاقات القوّة بين الأب وبقيّة أفراد الأسرة، ينتهي الكاتب برفض كلّ القيم والعادات والتقاليد التي تفرضها سلطة المجتمع والدّين والنظام السياسي. هذا النظام الهجين والعميل للمحتلّ، وغير القادر على توفير القدر الكافي من الكرامة التي يستحقّها البشر في أوطانهم، هو الذي يدفع شبابه وبناته إلى كلّ أشكال الانحراف والتمرّد على القيم الإنسانيّة.

الكتابة السير-ذاتية:

   قد تكون الرواية من أكثر الأجناس الأدبية تفلّتا من الضبط والاستقرار الشكلي، نظرا لمرونتها وقابليتها للتطور والتحول المستمر وانفتاحها على أنواع أدبيّة مجاورة. ولقد عبّر باختين عن هذه الطّبيعة الزئبقيّة للرواية منذ أن أضحت الجنس المهيمن على الساحة الثقافيّة، ليس فقط في الغرب، وإنّما في كلّ الثقافات والآداب العالميّة. يجادل الناقد المصري ممدوح فرّاح  أنّ الرواية تُعتبرُ “جنسا متمردا غير قابل للتصنيف، وفي ذات الوقت أكثر الأجناس الأدبية انفتاحا على مختلف الأنواع والأساليب الأدبيّة”[30]. فهي تشترك مع الكثير من الأجناس الأدبيّة في الكثير من القيم الجماليّة، وأساليب التعبير واللّغة. ومن هنا، قدرتها الفائقة على استيعاب الكثير من الأنواع الأدبيّة المجاورة لها، على غرار القصّة القصيرة والمسرحيّة والسيرة الذّاتيّة والمذكّرات واليوميّات، وحتّى السرد التاريخي والفلسفي.

   في فترة ما بعد الحداثة، أصبحتْ الحدود الأجناسيّة أكثر عرضة للانتهاك، وصار من الصّعب التماس تعريفٍ خالص لأيّ جنسٍ أدبيّ لم يتورّط في عمليّات تهجين خلال تاريخه الطّويل أو القصير. وفي هذه الدراسة نودّ أن ندرس التواشج الحاصل بين الرواية والسيرة الذّاتيّة لما بينهما من قرابة فنيّة وموضوعاتيّة. إنّهما “شكلان يمثّلان قطبين لجنسٍ أدبيّ مترامي الأطراف، يجمع من الآثار المنضوية، حيثُ أنّها (السيرة الذّاتية) تتّخذ من حياة إنسانٍ موضوعا لها)”[31]. والرواية هي الأخرى بإمكانها أن تتّخذ من حياة شخصيّة ما، موضوعا لها. والمؤرّخ هو الآخر يفعلُ ذلك من خلال السّرد التاريخي. وبسبب ذلك يصعبُ رسم الحدود المقدّسة بين الأنواع الأدبيّة، وإن كانت الرّواية هي الإطار العام لكلّ تلك العناصر الدّخيلة؛ فهي الجنس المهيمن بفعل قدرتها الفائقة على استقطاب القرّاء وعلى الإمتاع الذي تحققه لهم، وفائض المعرفة الذي توفّره. ثمّ إنّها سليلة الملحمة، أقدم الأجناس الأدبيّة في التاريخ الأدبي على الإطلاق.

   وفي هذا السياق لا يعزب عنّا حجم التداخل بين السيرة الذّاتيّة والرواية في القرن الثامن عشر وما قبله في الأدب الروسي. فقد كانت الرواية عبارة عن سيَرٍ ذاتيّة للأبطال القوميين، والشخصيّات الدّينيّة والعسكريّة. ولم يكن مفهوم الجنس الأدبي والحدود الجماليّة الصّلبة قد اتّضحت في الوعي النقدي للكتّاب المبدعين والنّقّاد. وكان التواشج بينهما هو البداية الفعليّة للرواية بمفهومها الغربي الحديث، الذي تبلور مبكّرا مقارنة بالآداب الروسيّة والصّينيّة وما جاورهما من خارج أوروبا، حيثُ نشأت الرأسماليّة وأفرزت طبقة بورجوازيّة تتبنّى عمليّات التحوّل الكبرى في كلّ أشكال المعرفة في أوروبا- التنوير. ولم تنفصل الرواية عن السيرة الذّاتيّة في روسيا إلاّ بفضل عمليّات المثاقفة بين الأدب الروسي والأدب الأوروبي قبل أن تتدخّل الإيديولوجيا الماركسيّة لرسم الحدود الإسمنتيّة بين الشرق والغرب، وفي عهد ستالين خصوصا.

   أمّا في الأدب العربي، فالأمر يختلفُ تماما حسب اعتقادي؛ أجادلُ بأنّ روّاد النّهضة الأدبية في الشرق العربي أحدثوا ما يشبه القطيعة المعرفيّة مع التراث، وراحوا يلتمسون أسباب التحول التاريخي في النماذج الغربيّة جملة وتفصيلا، وسعوا إلى صناعة تنويرٍ عربيّ على شاكلة ما حصل في أوروبا. غير أنّهم اختلفوا في مشاربهم، فبينما توجّهت الليبراليّة العربيّة إلى أوروبا الغربيّة، فضّل اليسار التوجّه إلى القطب الشرقي. واتّفق الطّرفان على أنّ التّنوير العربي لا يمرّ إلاّ عبر القطيعة مع التراث. في حين أنّ الأدب العربي غنيّ بنماذج أدبيّة قريبة إلى ما يُسمّى الرواية، أو السيرة الذّاتيّة، أو القصّة. غير أنّ هذه الدّراسة ليس من أهدافها عمليّة التأصيل، ونحن ملزمون بموضوع الدّراسة الأساسي، وهو الرواية العربية وكتابة الذّات.

   كيف تندمج الرواية مع السيرة الذّاتيّة لإنتاج نوعٍ أدبي هجينٍ؟ وكيف يمكن كتابة الذّات من خلال هذا الجنس الأدبي دون الإخلال بقوانين كتابة الرواية، ولا بميثاق السّيرة الذّاتيّة؟ هل يتسنّى للكاتب بلورة رؤية للعالم من خلال كتابة الرواية السير-ذاتيّة؟ للإجابة على هذه الأسئلة لا بدّ من حفريّات نقديّة معمّقة في مدوّنة أدبيّة حديثة، ومثيرة للجدل في أطروحاتها، وفيما قال عنها النقّاد. تلك هي رواية “الخبز الحافي” لمحمّد شكري.

   تُكْتَبُ السّيرة الذّاتيّة في خريف العمر، في أغلب الأحيان، وهو السنّ الذي يشرفُ فيه الإنسان على نهاية رحلته الوجوديّة، عندما يشعرُ أن علاقاته بعالمنا بدأت تضعفُ، وأنّه توجدُ أشياء لم يقلها في وقتها، ويجبُ عليه أن يقولها قبل أن يختفي دون رجعة. وهي الحالة التي عبّر عنها فليب لوجون في ادّعائه أنّ “السيرة الذّاتيّة لا تُكتبُ إلاّ عندما يتحقّقُ الامتلاء النّفسي وعمق الإحساس بالذّات”[32]. إنّها الحالة التي نشعر خلالها أنّنا أكملنا مسيرتنا، ولا يوجد ما يمكن أن يضافُ إلى رصيدنا، ونحن في حاجة إلى اجترار تجاربنا واستعادتها، من أجل النّظر إليها من منظور جديد، يتحرّى الموضوعيّة. ذلك أنّ كاتب السيرة الذّاتيّة من خلال السّرد الروائي يمكنه أن أحيانا أنّ يتحدّثُ عن ذاته من خارجها، وكأنّها ذاتٌ أخرى، غريبة عنه، وبالتالي يمكنه أن يتحرّى الموضوعيّة في تقييم التّجربة وتشكيل رؤيته للعالم.

   يعرّف فيليب لوجون السيرة الذّاتيّة على أنّها “حكيٌ استعادي، نثري، يقوم به شخصٌ واقعي عن وجوده الخاصّ، وذلك عندما يركّزُ على حياته الفرديّة، وعلى تاريخ شخصيّته بصفة خاصّة”[33]؛ غير أنّ واقعيّة الشخص، وصدق الرواية لدواعي أخلاقيّة، لا يمنع الكاتب من هامش التّخييل، واللّغة النّوعيّة من أجل تحقيق الأدبيّة، وهي أهمّ غاية مقصودة من الكتابة عن الذّات. إذْ ما الفرق بين كتابة السيرة الذّاتيّة الصّرفة من خلال السّرد النّثري والواقعي، وبين كتابتها على شكل رواية؟ إنّ الغاية من هذه المزاوجة هي عنصر الأدبيّة الذي يحقّق نسبة مقروئيّة لا تحققها السيرة الذّاتيّة حتّى مع مشاهير المجتمع والتاريخ، باستثناء الأنبياء والرّسل عليهم السلام.

   أمّا الرواية السير-ذاتيّة فهي “جميع النصوص التّخييليّة التي قد يجد قارئها أسبابا تدفعه انطلاقا من عناصر تشابه يعتقد اكتشافها على الارتياب في وجود تطابق بين الشخصيّة والمؤلّف”[34]. أمّا المؤلّف فيمكنه أن يقرّ بالتشابه أو التطابق، وقد يحلو أن أن ينكر ذلك. ولكن المؤكّد هو التشابه أو التطابق الموجود ين حياة الكاتب والبطل الروائي المشار إليه بضمير الأنا كما حصل مع محمّد شكري أو بضمير الهو كما حصل مع طه حسين في “الأيّام”.

   يقول (فابيرو) في المعجم الكوني للأدب الصادر عام 1876 “أنّ السيرة الذّاتيّة عمل أدبي، رواية، سواء كان قصيدة أو مقالة فلسفيّة، قصد المؤلف فيها بشكلٍ ضمنيّ أو صريح إلى رواية حياته وعرض أفكاره، أو لاسم إحساساته”[35]. وهكذا نتبيّن وفق التعريفات المتواترة عن النقّاد المؤصّلين لهن الجنس الأدبي الحديث، إنّ عنصر الأدبيّة عامل مشتركٌ بين السيرة الذّاتيّة والرواية.

   تشتمل المادّة الحكائيّة المسرودة في الرواية على نوعين من الإبداع، النوع الأول هو ما تعلّق بالذّات أو الفرد ضمن الجماعة، وفي إطار وجوده الحقيقي، والمادّة الثانية هي تلك المتخيّلة، ومن خلال انصهار المادّتين في كتلة سرديّة واحدة تنبثق الرواية السير-ذاتيّة. أنّ قراءة هذا النوع من الإبداع الأدبي يختلف باختلاف القارئ الذي يخضع لأفق انتظار محدد مسبقا. إذا تغلّبت المادّة التخييليّة والأدبيّة على العمل فيُرجّحُ اعتبارها رواية، أمّا إذا تغلّب عنصر الميثاق، فيعتبَرُ العمل سيرة ذاتيّة. بمعنى آخر، إذا لاحظنا تطابقا بين الشخصيّة الروائيّة والمؤلّف فالعمل أقرب إلى الرواية السير-ذاتيّة. إنّ “كلّ النصوص التخيّليّة التي يمكن أن تكون للقارئ فيها دوافع ليعقد انطلاقا من التشابهات التي يعتقدُ أنّه اكتشفها أنّ هناك تطابقا بين المؤلّف والشخصية في حين أنّ المؤلّف اختار أن ينكر هذا التطابق، أو على الأقلّ اختار ألاّ يؤكّده”[36]، إنّ كل تلك النصوص هي على الأرجح روايات سير-ذاتيّة. لقد استند مفهوم الرواية السير-ذاتيّة إلى عنصرين أساسيين، هما عنصر التخييل الذي يكثّفُ من معامل الأدبيّة وعنصر الميثاق المرتبط بالمرجعيّة الواقعيّة، وبالمصداقيّة الأخلاقيّة. إنّ التزام الروائي بصدقيّة تجاربه وتفاصيل حياته التي يحوّلها إلى مادّة روائيّة، هو الذي يعدّل من درجة التخييل ويجعل الرواية السير-ذاتيّة جنسا أدبيّا هجينا، يقع على الحدود بين الرواية والسيرة الذّاتيّة.

   إنّ الدّراسات البينيّة في حقبة ما بعد الحداثة كرّست انفتاح الرواية وهشاشة الحدود الأجناسيّة، من أجل إبداع جماليّات معبّرة عن فلسفات ما بعد الحداثة؛ لا شيء ثابت، لا شيء مقدّس؛ لا حدود تفصل بين حقول المعرفة، لا توجد حقائق ثابتة على غرار سرديّات الحداثة الكبرى، وقواعد الإبداع الكلاسيكيّة، بل إنّ المعوّل عليه هو المزيد من الغرابة والإدهاش، واختراق الحدود، والبوح بالمسكوت عنه.

   توصفُ اعترافات محمد شكري بممارساته اللاأخلاقيّة خلال سنين المراهقة والشباب، بالجرأة؛ غير أنّ الأمر لا يتعلّق بالجرأة أو بالتحفظ. ولكنّه يتعلّق بقيمة فلسفيّة ما بعد حداثيّة، وهي تدنيس المقدّس واختراق المحظور كطريقة للاحتجاج على قبح العالم والاستبداد السياسي والظّلم الاجتماعي والنظام الكولونيالي. ومن أجل تأكيد هذا المبدأ نجده يوظّف ضمير الأنا. بينما يفضّل طه حسين في “الأيام” توظيف ضمير الهو، رغم أنّ حياته التي سردها خالية من انتهاك التابوهات، والتجرُّؤ على تدنيس مقدّسات المجتمع. يحقق ضمير الغائب في تلك الرواية السير-ذاتيّة إيهاما بالموضوعيّة والحياد، وكأنّ المؤلّف، يتحدّثُ عن شخصيّة غائبة، ويمكن بالتالي التجرّد من كلّ عاطفة أو تحيّز عند سرد تجاربها ومواقفها.

حدود المتخيّل في الرواية السير-ذاتيّة:

   كيف يمكن الملاءمة بين المتخيّل وميثاق السيرة؟ وكيف نميّز بينهما أثناء القراءة؟ يشترطُ يحيى إبراهيم على المؤلف “السّرد المباشر لرواية الأحداث في تعاقبها دون أن يتوسّع في النصيّة الروائيّة، بحيثُ تجنح عن الحقيقة التاريخيّة”[37]. الناقد من خلال هذا الشّرط يتخيّل حدودا لا يُسمَحُ للمؤلف تجاوزها حفاظا على قواعد الكتابة في هذا الجنس الهجين. بينما يجادل نقّادٌ آخرون، من العرب أنّ كاتب الرواية السيرية “ليس معنيا بالتتابع الزّمني للأحداث، أي سردها على نحو تعاقبي”[38]. إنّ التزام التتابع الزمني للأحداث من شأنه أن يُخلّ بالقيد الذي وضعه يحيى إبراهيم. أي الانسياق وراء الأحداث في تتابعها الكرونولوجي والانزياح بها عن هدفها المعلن باعتبارها رواية سير-ذاتية. إنّ الإطارين التخييلي والمرجعي متلازمان في الرواية السير-ذالتيّة. “فالتخيل متحقق بالدّرجة التي تعطيها له مساحة الرواية؛ والالتزام بالإطار المرجعي أيضا”[39]، ولا أحد يطغى على الآخر. إضافة إلى ذلك فإنّ التّخييل يتسلل إلى العمل الأدبي من مداخل متعدّدة، دون أن يؤثّر ذلك على الجانب التاريخي من الأحداث والوقائع المنسوبة للبطل. إضافة إلى ذلك تلعب اللّغة الأدبيّة لعبتها الكبرى في البعد الجمالي للعمل السير-ذاتي. كما أنّ الالتزام باللّهج الاجتماعي وبالتعدّد اللساني، دوره في صناعة أدبيّة العمل الإبداعي. وسنرى ذلك رأي العين أثناء تحليل رواية “زمن الخطأ” لمحمد شكري في الجانب التطبيقي من هذه الدّراسة. وكنّا قد فصّلنا الحديث في دراسة سابقة حول هذه الإشكاليّة الأسلوبيّة أثناء دراسة “الخبز الحافي” لنفس الكاتب. إنّه منغمسٌ في بيئته الاجتماعيّة، ومتورّطٌ في لهجاتها وعاداتها اللّغويّة وردود أفعالها النفسيّة، ولعلّ ذلك سرّ استقطاب أعمال شكري محمّد لشريحة قرائيّة عابرة لحدوده الوطنيّة.

   إنّ معامل التّخييل من طبيعة الأدب مهما كان جنسه. ويذهب بعض النّقاد الغربيين أنّ كاتب السيرة الذّاتيّة متحرّر نسبيّا من المطابقة مع الواقع بخلاف كاتب المذكّرات أو الاعترافات. “تترك السيرة الذّاتيّة مكانا واسعا للاستيهام، ومن يكتبها ليس ملزما البتّة بأن يكون دقيقا حول الأحداث كما هو الشأن في المذكّرات، أو بأن يقول الحقيقة المطلقة كما هو الشأن في الاعترافات”[40]. وبهذا التّعقيب على نمط الكتابة في السّيرة الذّاتيّة يشكّك فابيرو في الدّفاع عن المعنى المحدد للسّيرة الذّاتيّة التي تختلف عن المذكرات والاعترافات في ما تستدعيه من مطابقة مع الواقع على غرار السّرد التاريخي.

   يقارن بعض النقاد بين مصطلحي الرواية والسيرة الذّاتيّة في محاولة لرصد القيم الجمالية التي يمكنها أن تصهر النوعين في نمط كتابة موسوم بالأدبيّة العالية. فالرواية تعني الخلق، والإبداع، بينما تعني السيرة الذّاتيّة سطحيّة المعيش. ومن ناحية أخرى، وبالذّهاب أبعد من ذلك نعتبرُ أنّ الرواية تومئ إلى لذّة الحكي ومتعة السّرد وجمال الوصف، بينما تستدعي السيرة صدق وعمق المعيش. والجمع بين هذين النمطين من الكتابة ومن التفكير الجمالي، نجد القارئ مدعوّا لطريقة جديدة من القراءة، والتعديل من أفق انتظاره.

   نعود لنؤكّد مع فيليب لوجون أنّ السيرة الذّاتيّة يمكن أن تنتمي إلى نظامين من الكتابة مختلفين. “نظام مرجعي، واقعي يأخذ فيه الالتزام الأوتوبيوغرافي قيمة عقد. ونظام أدبي لا تنشد فيه الكتابةُ الشقاقيّةَ، وإن كان بإمكانها أن تقلّد وتغير على قناعات النظام الأول”[41]. والواقع أنّ الحدود بين نمطي الكتابة ليست صلبة، بل إنّ مرونة الجنسين تسمح لهما بالتداخل والتشاكل.

انحطاط العالم:

   هنالك عنوانان مقترحان لهذه الرواية السير-ذاتيّة، العنوان المسجّل على الصّفحة الخارجيّة للرواية، والعنوان المثبّت في النسخة الإلكترونيّة، وبين العنوانين روابط قويّة. العنوان المثبت في الصّفحة الخارجيّة للنّسخة الورقيّة هو “زمن الخطايا”، والعنوان الآخر هو “أوراق الخطأ”، والملفوظ المشترك بين العنوانين هو الخطايا أو الخطأ. ويبدو العنوان الأوّل أعمّ وأشمل وأعمق. يشير الزمن في العنوان الأساسي إلى المرحلة العمريّة التي سيحدّثنا عنها الكاتب، وهي الجزء الأخير من حياته. وتتوافق هذه المرحلة مع أسوأ الفترات التاريخيّة التي مرّ بها المغرب الأقصى، بفعل الحضور الكولونيالي وما يعقبه من تخلّف وفساد عام في المجتمع المغربي. إضافة إلى أنّ سنّ الكاتب، موضوع السرد السير-ذاتي، تسمحُ له بفهم كلّ الأحداث المحيطة بحياته، وتشكيل موقف حرٍّ منها. بينما نجده في الجزء الأول (الخبز الحافي)، طفلا صغيرا أو مراهقا، وهو سنٌّ لا يسمحُ له بفهم أحداث عصره، وقد كانت استجاباته للمواقف العاصفة التي مرّ بها، عاطفيّة، وأحيانا عفويّة. “فالسيرة ينظر إليها عادة باعتبارها استعادة واعية لأحداث لم تعشها الذّات السّاردة بشكل واعٍ، أو لم تعشها بنفس درجة الوعي الذي به تكتب السيرة، استنادا إلى منطق الاستعادة البعديّة”[42]. وتنطبق هذه القاعدة على كلّ من “الخبز الحافي” حيثُ كان السارد طفلا، وعلى “زمن الخطيئة” حيثُ كان مراهقا.

   نُرجّحُ أنّ محمّد شكري يشير بعبارة الخطايا إلى الأفعال الخاطئة التي صدرتْ عنه، في حينها؛ غير أنّه يضعنا في بيئة اجتماعيّة وسياسيّة بالغة السّوء، وهي إدانة مبطّنة للاستعمار الاسباني ووكلائه المحليين، المسئولين عن الفقر والجهل والفساد الأخلاقي لكلّ فئات المجتمع. إنّ الوعي الذّاتي يتشكّل من عوامل خارجيّة ومكتسبة متعدّدة. وقد تبيّن لنا في “الخبز الحافي” حجم المسئوليّة التي تتحمّلها الأسرة في انحراف الابن. عنفٌ مفرطٌ، وفقرٌ محبطٌ، وجهل مطبقٌ. هذه العوامل الأسريّة ستبقى تبعاتها تلاحق محمد شكري إلى آخر حياته، وسنرى لاحقا أثرها على سلوكاته مع أفراد الأسرة، ومع الأب تحديدا.

  العامل الآخر الذي ساهم في توجيه سلوك الكاتب صاحب السيرة، هو تفشّي الدّعارة والمخدّرات والمسكرات، وسهولة الوصول إليها، باعتبارها تجارة رابحة في المجتمعات المتخلّفة. وقد كان الكاتب من ضحايا هذه الظّواهر. فقد كان يمارسها دون أدنى شعورٍ بالذّنب. “فالممنوع هنا لا يطالُ أيّ شيء؛ فكلّ شيء ثابت في الوجود والوعي: الدّولة ونظام الحياة. فالطّفل لا يرفض ولا يقبل ولا يحتجّ، ولا يشكّكُ في أيّ شيء، إنّه خارج المركز بحكم الفقر، لا بحكم الاختيار”[43]. إنّ وعيه الطّفولي الذي تشكّل خارج الأسرة ليس مؤهّلا للاختيار والتّمييز ومراعاة سنن المجتمع.

    أمّا الخطاب الغائب في هذه السرديّة، فهو خطاب السلطة باعتبارها المسئول الأول عن الأمن الاجتماعي والأخلاقي في المجتمع الذي تحكمه. نلاحظ أيضا غياب الخطاب الدّيني في السّرديّة. فمن بين الشّخصيّات التي رافقت الكاتب في مسيرة حياته لا نجد أيّ صوتٍ للحكمة، أو للعقل. إنّ المجتمع الذي يعيشُ الكاتب ضمنه هو مجتمع مغرقٌ في الجريمة الأخلاقيّة بكلّ أنواعها. وهو الأمر المثير للغرابة من قبل هذا الكاتب الإشكالي.

   تحمل هذه المدونة عنوانَ رواية رئيسيّا، وهو “زمن الأخطاء”، وفي ترجمة أخرى “أوراق الخطأ”، وكلاهما يوحي بأنّ الأمر يتعلّق برواية، كما هو الشّأن مع “الخبز الحافي”. إذْ أنّنا لن نعرف أنها سيرة ذاتيّة إلاّ مع انطلاق القراءة. غير أنّ المدوّنة التي بحوزتنا الآن، تحمل عنوانا فرعيّا يصرّح بأنّها “سيرة ذاتيّة روائيّة”. فالمؤلف في هذه الحالة يعفينا من حالة التّخمين والانتظار.

   ما يمكن معرفته مع انطلاق القراءة أيضا أنّ اسم البطل هو نفسه اسم المؤلّف. ويوظّفُ لذلك ضمير المتكلّم، أي ضمير الأنا. ونحللّ هذه الظاهرة في الجزء الثاني من هذا الفصل التّطبيقي بكلّ أبعاده ودلالاته. غير أنّ الذي يعنينا هنا من ضمير الأنا، هو أنّ الكاتب يتبنّى كلّ ما نسبه لنفسه من خطايا (العبارة وردتْ في العنوان)، بوصفها سلوكا واعيا يعبّرُ عن إرادة حرّة لا يشوبها أدنى شعورٍ بالنّدم. إنّه يصرّح بالفعل الجنسي ويُغرق في وصف تفاصيله وطقوسه، دون أدنى اعتبار لإكراهات المجتمع، علما أنّه مجتمع محافظ وللدّين فيه ثقل أخلاقي. لم يكن الكاتب معنيّا بالتوفيق بين الرغبة والواقع المحافظ، بل أنّه يخضع الواقع لرغباته دون ضوابط. “لقد أرسى نظاما آخر في التعامل معه بديلا عن الوضع القائم وشروطه المجحفة التي لم يعد بوسع الفرد الاستمرار في الأخذ بها”[44]. إنّه يمارس الدّعارة ويسمّيها باسمها، ويتعاطى المخدّرات، ويختلسُ أموال الآخرين، ويتمرّد على سلطة الأب، دون أن يرى في ذلك جنوحا. لقد قنّن شكل وجوده بشكل انفرادي، وأسس جماعته التي يأتلفُ معها.

   مع أوّل إطلالة سرديّة لمحمّد شكري، نلفيه نازلا من حافلة، يبحثُ عن سوق الكبيلات، وملامحه تدلّ على أنّه وافدٌ غريبٌ. وعندما يصلُ إلى المكان الهدف، يحيطه بنظراته الناقدة، لينقلنا إلى مطلع القرن العشرين، حيثُ تهيمن مشاهد الفقر والبؤس والتخلّف. لا شيء يطغى على مشاهد الماضي البائس. كان صوت المذياع يعمّ المكان. وهذه إشارة إلى الوسيلة الإعلاميّة الأكثر رواجا في مطلع القرن العشرين. فهي النافذة الوحيدة التي نطلُّ من خلالها على العالم الخارجي، قبل ظهور الميديا الحديثة. وفي السّوق الشعبي الذي قصده الكاتب بحثا عن السي عبد الله “حاجزٌ خشبي معروضة عليه مأكولات: سمكٌ وفلفل مقليّان، بيض مسلوق وركام خبز أسود. الذّباب ينطّ على الكلّ. قرب الوجاق، طاولة كبيرة مستطيلة حولها أشخاص يلعبون الورق، وآخرون حول طاولات أصغر، معظمهم يدخّنُ الكيف، البؤس باد على سحناتهم وثيابهم”[45]. في هذه اللّوحة توجد الكثير من ملامح العصر، ويمكن التقاطها من خلال السّرد والوصف الأدبي. من أهمّ تلك الملامح الأطفال القصّر الذين ينتشرون في محطّات الحافلات وعند المقاهي بحثا عن عملِ سُخرةٍ يؤدّونه مقابل أجرٍ زهيد. فبمجرّد أن نزل الراوي من الحافلة اعترضه طفلٌ قاصرٌ يعرضُ عليه خدمة. في رواية “الخبز الحافي” كان الطّفل محمّد شكري هو الذي يؤدّي هذا الدّور. فكان يتحرّى المقاهي ليعرض خدماته على روّاد المقهى، وقد يمارس تجارة التبغ، أو الخبز الذي تعدّه والدته في البيت.

   وكان أحيانا يشتغلُ نادلا في مقهى بأجرٍ بخسٍ، في مجتمع لا حديث فيه عن حقوق الطفل، أو حقوق الإنسان، أو حقوق المرأة. كانت تلك الحقوق تُسْرَدُ في نشرات الأخبار وفي خطابات المؤسسات الرّسميّة للاستهلاك الإعلامي، ولتلميع صورة النّظام. والواقع أنّ ظلّ المؤسّسة الرّسميّة غائبٌ في المناطق الشعبيّة التي يمزّقها الفقر والجهل وتدمّرها الآفات الاجتماعيّة الأشدّ فتكا بالأمّة.

   المشهد الأكثر صدما للوعي هو مشهد الذّباب الذي ينطّ على الكلّ، والذي يتغذّي من المأكولات المعروضة للآدميين، ومن أجساد الآدميين أنفسهم أحيانا. ومشهد الرّجال المتحلّقين على طاولات المقاهي يلعبون الورق أو يدخّنون الحشيش، إنّهم يشكلون مجتمعا منغلقا ومعزولا عن العالم الخارجي. إنّها حضارتهم التي يواجهون بها الاستعمار الغربي، بل إنّها حضارة تُصْنَعُ على أعين الغرب، وبمباركة منه وبحضوره الفعلي. وهي خطابهم الذي يمثّلهم أمام العالم، في فترة يشتدّ فيها التزاحم بالمناكب حول المصالح الكولونياليّة. تتكرّرُ تلك المشاهد الشعبيّة من بداية السّرديّة إلى نهايتها، وهي صور نمطيّة ومحنّطة، وغير قابلة للتحوّل النّوعي. إنّها العمق الثقافي للمجتمعات العربيّة المتخلّفة، ولا يملك المثقّفون والكتّاب القدرة على اختراقها وتغيير سننها. ستظلّ دائما وكرا للجريمة وللمحظور، وللعنف اللّفظي والجسدي. ومن رحم تلك البيئة انبثق محمّد شكري، ناطقا بلسانها ومعبّرا عن حالاتها، وعن رؤيتها للعالم، وعن أحاسيسها وطموحاتها استيهاماتها الحسيرة. إنّ زجاجة خمرٍ، وامرأة عاهرة في ليلة مظلمة، تصنعُ سعادة تلك الشّريحة من البشر.

   التقى محمّد شكري بالسّي عبد الله الذي كان يبحثُ عنه. دون ا، تكون بينهما سابق معرفة؛ وجده يبيع القهوة والكيف، فطلبهما ليصنع سعادته، وظلّ هنالك حتّى اللّيل، وهو مع الغرباء. “في الليل غلبني الكيف والجوع والغربة. رشفتُ من كؤوس شاي بعضهم، ورشفوا من كأسي، أحسستُ بالألفة بينهم”[46]. تحت وطأة التّخدير تزول الحواجزُ بين الغرباء، أو هكذا يبدو لهم. إنّهم يسقطون في عالم وهمي، لا علاقة له بالواقع المادّي، فيشعرون بوجود ناعمٍ، منفصلٍ عن الواقع المشكّل من تناقضات لا تقبل التفاوض، ومن أوجاع لا شفاء منها، ومن هموم لا صفاء بعدها. من أجل ذلك سرعان ما يتآلفون، وتتبدّد غربتهم وتتعزّزُ حميميّتهم، ولكن إلى حين تزول غشاوة المخدّر، وتنقشعُ الحجب التي كانت تفصل بينهم وبين الواقع الصّلب. طلب السي عبد الله من السّارد أن يغادر المقهى لأنّ ساعة الإغلاق قد حانت، وهكذا وجد الزّائر نفسه يهيم في مدينة لا يعرفها، ويتعمق شعوره بالتّيه، والغربة الوجوديّة؛ ليس فقط لأنّه يجهل المنطقة، ولكن لزوال مفعول المخدّر. يقول السارد وهو يصف نفسه باعتبارها مركزا للعالم: “همتُ في طرقات المدينة، لا أثر للحرّاس من رجال الأمن، أو حرّاس متاجر الأحياء والسّيّارات كما في طنجة. منتصف الليل أو أكثر؛ تائها أمشي، لا شيء فيها يخيفُ؛ طقسٌ معتدلٌ وليلة قمراء، منتزه يطلّ على البحر، أضواء تلمعُ في البحر”[47]. إنّ اعتزال العالم بهرجه وضجيجه، وتغييب الآخر من مجال الرؤية، يُسعد الأرواح المتمرّدة على قوانين المجتمع. إنّ محمّد شكري في قرارة نفسه حاقدٌ على مجتمعه، ورافضٌ لقينه ولنظامه الأخلاقي، ولعاداته. من أجل ذلك يحاول تأسيس مجتمعٍ بديلٍ، هو النقيض الوجودي لعالم الآخرين، حيثُ المصالح الطّبقيّة المتوحّشة، والنفاق الأخلاقي المتجذّر، في مجتمع هشٍّ قد نخرته الكولونياليّة من الدّاخل، ولم يعد قابلا لرأب الصّدع. إنّ مجتمع محمّد شكري في الفترة الكولونياليّة غير قابل للبعث، ولا بدّ من إعادة صياغته انطلاقا من درجة الصّفر. وفي حالة العجز عن ذلك اختار محمّد شكري أنْ يؤسّس لكوجيتو مضاد. “أنا أسكر إذا أنا موجود”. فلم نعثر له في “الخبز الحافي” وفي “زمن الخطايا” عن موقف يخلو من المسكرات أو المخدّرات والنّساء. تلك هي معالم الوجود الممتلئ لديه.

   عندما اختلى في جوف الليل، ولم يعد يسمع صوتا بشريّا، ولا مشهدا اجتماعيّا، وكان وحيدا قبالة البحر وضوء القمر المنعكس على أمواجه، أحسّ بالانتهاج والسّكينة، وعودة الروح من مرقدها. تدفع كراهيّة المجتمع إلى شهوة العزلة. ولعلّ ذلك هو دافع الابتعاد عن الأسرة، التي لم يعد يزرها إلاّ مرّة في العام، أو أقلّ من ذلك، رغم أنّه لا يملك بيتا يركن إليه، وإنّما يعيش في الحانات وبيوت الدّعارة، وأحيانا في الشوارع المهجورة، أو عند عتبات المقاهي، أو في أحضان العاهرات ورفاق السّوء. إنّ مجتمعه مجتمع الرّذيلة من منظورنا نحن، بينما نجده في كلّ خطاباته يؤسس للغة محايدة، دون أقنعه ودون محاذير، أو ممنوعات. فالأشياء تسمّى بمسمّياتها دون تكنية. فتغدو مفردات الجنس والمخدّرات والمسكرات لغة الخطاب اليومي في مجتمعه الكبير.

   يشعرُ محمّد شكري في خلوته بخفّة الوجود؛ لا شيء يُعكّرُ صفوه، ولا شيء يفسدُ مزاجه، لا شيء يذكّره بمجتمع الكراهيّة والنفاق، والعنف. “لا شيء عندي أخشى ضياعه في هذه اللّيلة؛ إنّني مثل هذه الزّهرة التي أسحقها الآن بين أصابعي. سأنام هنا أو في أيّ مكانٍ آخر، هواء البحر يخفّفُ نعاسي”[48]. إنّها حالة السكينة والخفّة من هموم الآخرين وتبعات الوجود ضمنهم. إنّ الوجود ضمن الجماعة مكلفٌ، ومرهقٌ للذّات، ومفسدٌ لقيم الروح الخالصة. فأنت ضمنهم ملزمٌ بالعنف، والكذب، والنفاق، ومراعاة المصالح الخاصّة كيفما كان الأسلوب، فلا مجال لما يُسمّى أخلاقا. إنّها قوانين وتشريعات وضعها المهيمنون على المجتمع من أجل ألاّ يزعج سكينتهم المسحوقون.

   نتابع الرّاوي في رحلته، وتيهه الليلي. فقد عاد إلى حيّ الكبيبات، وانزوى في ركن من أركان السّاحة في انتظار طلوع النّهار. فهو لا يملك ثمن الفندق، ولا رفيقا يسعفه. ومقهى السي عبد الله مغلقٌ. وعليه أن ينتظرَ طلوع النهار للالتحاق بالمدرسة التي سينتمي إليها متعلّما، وهو في سنّ العشرين. “استيقظتُ باكرا، امتلاء مثانتي يؤلمني، وشيئي منتصبٌ، حركة النّاس تدبّ في ساحة إسبانيا، (….)، في مرحاض المقهى الإسباني تصاعد بولي إلى فوق مثل نافورة؛ تبلّل سروالي ويديّ”[49]. من الواضح أنّ السّارد قضّى ليلته في الشارع، ونام في ركن من أركان المقهى. واستيقظ صباحا ليجد نفسه مبللا بالبول. وما يلاحظُ في هذه السّرديّة اسم الشارع الذي تواجد فيه الراوي. إنّه ساحة إسبانيا. فالأماكن هي الأخرى ملوّثة بآثار الكولونياليّة. إنّ حضور أسماء الأماكن وأسماء العلم الإسبانيّة واردٌ بكثرة في هذه السّرديّة. كما أنّ الفنادق والحانات الإسبانيّة، ودور الدّعارة، منتشرة في كلّ القرى والمدن التي شكّلت فضاء اجتماعيّا أثيرا لدى الراوي، خلال طفولته وشبابه. ومن أهمّ سمات هذه الأماكن القذارة والفقر والرّذيلة.

   كان السّارد يبحثُ عن المدرسة التي سينتمي إليها، وهي مدرسة المعتمد بن عبّاد. إنّها “حيّ مليء بنبات الصبّار والغبار، والأزبال والأراضي البور. مساكنه أكواخٌ من قصدير وطوب وأهله بدويّون. سحناتهم كالحة مثل أسمالهم. أطفالهم يتغوّطون ويبولون قرب أكواخهم”. في هذا الحيّ توجدُ مدرسة، يتردّد عليها تلاميذ ومعلّمون وعمال وأولياء تلاميذ. إنّ كلّ علامات الفقر والجهل موجودة إلى جانب المدرسة التي تُعتَبَرُ معلما من معالم التنوير والتّحديث. وهذا يعني أنْ لا فرق بين المدرسة والمزبلة، فكلاهما وكرٌ للرّذيلة والقذارة. وكلّ ذلك الكمّ من المتناقضات هو من إنتاج الكولونياليّة التي تهيمن على المغرب العربي منذ قرون، ولا تزال هيمنتها تمنع نهضتنا إلى يومنا هذا، وإن كانت أساليب الهيمنة قد تغيّرت من الاستعمار الاستيطاني إلى الاستعمار الجديد.

   إنّ السّارد لا يصرّح بهذا الخطاب ما بعد الحداثي، ولكنّه يتركُ انطباعا من خلال مضمرات ثقافيّة ميتا-سرديّة تسكن الرواية، وتخصِبُها. إنّ الانتشار الكولونيالي من خلال مَعالِمه الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأمنيّة لا يخطئه الإدراك في كلّ لحظة من لحظات هذه السّرديّة الذّاتيّة. ولَإن كان السّارد يتحرّى الواقعيّة الماديّة في الوصف وفي لغة السّرد، لكي يبدو خطابه موضوعيّا، وخاليا من الإدانة، أو تبخيس الذّات، فإنّه مع ذلك يؤسّس لخطاب الرّفض من حيثُ يقصدُ أو لا يقصدُ. إنّ غياب سلطة الدّولة في كلّ الأماكن التي تتناسلُ فيها الجريمة الاجتماعيّة والأخلاقيّة، ليس غيابا محايدا.

   ماذا يعني أنْ تحاطَ المدرسة بالمزابل، والمتاجر السّريّة للمخدّرات، والأكواخ البئيسة والقذرة؟ هل هو تدنيسٌ لرموز الدّولة، أو ترذيلٌ للمؤسّسات الثقافيّة والتّربويّة، أم هو علامة هيمنة للفساد بكلّ أشكاله؟ يبدو أنّه كلّ ذلك جملة وتفصيلا. إنّ وصف الأماكن التي ترتادها الشخصيّة، وحتّى وإن كانت أماكن متخيّلة لا يخلو من دلالة تتعلّقُ برؤية العالم للشخصيّة الواصفة، وهي رؤية إيديولوجيّة راديكاليّة في رفضها للواقع الاجتماعي والثقافي للبلاد. ما يجبُ الإشارة إليه هو أنّ السيرة الذّاتيّة تختلف عن الرواية في أنّ المرويّات في الأولى والأحداث والوقائع، منجزة، وتتمّ استعادتها بطريقة أدبيّة، أي بلغة مخالفة للغة التقرير والخبر والتّوثيق. بمعنى أن الوقائع الماديّة ووصف الأماكن لا يطالها الانزياح أو التّحريف. أمّا في الرواية فإنّ الحبكة السّرديّة بتفاصيلها وعموميّاتها هي من هندسة الروائي. وهو يشكّلها وفق رؤيته للعالم، ووفق الفلسفة التي يرجو تبليغها لقرّائه.

   حمل محمّد شكري توصية من أحد رفاقه إلى مدير مدرسة ابتدائيّة، من أجل أن يتعلّم. لم يكن مهتمّا بهذا الأمر لمّا كان صغيرا، في سنّ التمدرس. ولم يكن أبوه منشغلا بهذا الأمر أيضا. لقد كان همّه منصبّا على تحصيل المال الذي ينفقه في الحانات. قابل مدير المدرسة، ودارا بينهما حوارٌ لا يخلو من طرافة. قال المدير إلى الشاب محمد شكري: “إنّ القسم الدّراسي الذي تستحقّه يدرسُ فيه أطفال، وأنت لك لحية، والذين هم أكبر منهم سنّا يحفظ معظمهم القرآن، والجاروميّة وابن عاشر.

   أجاب الشاب: “(معك حقّ ولي لحية أخرى أسفل بطني)؛ لمستُ وجهي بتلقائيّة، لم أحلّقه منذ أيام، وكنت أحلّقه كلّ يوم عسى أن تطيع المتمنّعات”[50]“. من الواضح أنّ ما ورد بين قوسين لم يجهر به الولد لمدير المؤسسة، ولكنّه فكّر فيه، فهي اللغة الوحيدة التي يحسنها. وهي لغة المواخير والحانات، والشوارع القذرة. إنّ المحيط الذي يسيّجُ حياته والبشر الذين يغشاهم، لا يمكن أن يعلّموه إلاّ اللّغة الجنسيّة. فالجنس هو الذي يوجّه سلوكه. إنّه يقولُ أنّه تعوّد على حلق لحيته كلّ يوم من أجل إغراء النساء.

   وفي الأخير تُجرى اختبارات أوليّة للشّاب الذي يبلغ عشرين سنة، ويُدمجُ في المدرسة ويحصل على الشهادة الابتدائيّة، وعلى مؤهّل يسمح به بأن يصبح معلّما.

   أثناء العودة من المدرسة لدى زيارته الأولى يصف لنا السّارد ما التقطته عيناه، وقد سلك طريقا غير التي قدم منها. “سلكت طريقا غير الرّئيسيّة المعبّدة المزفتة التي جئت منها؛ الطّريق مغبرّة، قدماي تغوصان في ترابها الرملي؛ على جانبيها سياجات من التّين الشّوكي، وأكواخ يخرجُ منها أطفال حفاة، أنصاف عراة وسخون، وكلاب هزيلة، لقيطة ودميمة، ودجاج ينقّبُ الخراء؛ في نهاية الطّريق بئرٌ عارية معطّلة”[51]. قد يتساءل القارئ ما هو غرضُ الكاتب من وصف الطّريق إلى المدرسة، أو محيطها، أو وصف مساكن الأهالي التي يمرّ عليها طريقه. لماذا لا يقتصرُ وصفه على الأماكن التي هي جزء من حياته ومن تجاربه، وعلى البشر الذين يتعاملُ معهم؟ نعتقدُ أنّ الرّاوي يسعى إلى أن يقدّم لنا نظرة بانوراميّة عن واقع بلده، وعن حجم البؤس الذي يعيشه النّاس، في مجتمع ينهشه التخلّف والجهل والولاء للمستعمر. كان هؤلاء القطعان الشّاردة من الأطفال بأسمالهم البالية وأجسادهم المقمّلة يعيشون في طور الطّبيعة، مع الحيوانات المتوحّشة والأليفة، القطط والكلاب والدّجاج والحمير وما شابه ذلك. كانوا يسكنون الأكواخ المشكّلة من الطّين والحجارة، معزولين تماما عن تحوّلات الحداثة. كانوا يعيشون العصور الغابرة.

   من ناحية أخرى وتعقيبا على كلّ ذلك، فإنّه لا يخفى على أحدٍ أنّ الكاتب يصفُ هذا الواقع البائس فقط من أجل تمثيله جماليّا، ولكن من أجل تقبيح غياب السلطة التي جرّدت تلك الكائنات الآدميّة في البوادي والأرياف والمدن غير الكولونياليّة، من إنسانيّتهم، وتركتهم يعيشون عصر ما قبل الحضارة. ولتعزيز موقف الإدانة للسلطة العميلة للاستعمار يصف لنا السّارد، وهو المؤلّف نفسه، مظاهرات صاخبة للتّنديد بالباشا. “كان باشا المدينة قد ذهب إلى سّوق “ثلاثاء الريصانة” وألقى هناك خطابا على الفلاحين، لم يرقهم خطابه، فشتموه وضربوه بالحجارة، وضربوه بالهراوات، فأطلق حرّاسه النّار عليهم”[52]. إنّها أحداث نمطيّة في أنظمة الاستبداد السياسي. يلقي المسئولون خطابات تهديد ووعيد، ووعود لا تتحقّقُ أبدا، فيتمرّد الفلاحون والمسحوقون ويلجؤون إلى إثارة الشّغب ويحملون شعارات معادية، للباشا، أو لممثّلي النظام، وقد يمرّون إلى تدمير المنشآت إذا تعرّضوا للقمع. وتتكرر الأحداث إلى أن تصل إلى عداء مستحكم، فإمّا الثورة الشّاملة أو القمع الدّموي والمجازر الشعبية. “كلّ الناس يعرفون الآن أنّ الباشا ضدّ الاستقلال”[53]. وكلّ الشّعوب المضطهدة تعرفُ أنّ وكلاء الاستعمار ضدّ الاستقلال وضدّ الحريات السياسيّة وضدّ النّهضة بشكلٍ عام. فالاستبداد السياسي لا يعيش إلاّ تحت الوصاية وتحت الحماية الأجنبيّة. إنّه يستمدّ شرعيّته من ولائه للامبرياليّة الغربيّة. فهي التي تعطيه الإقرار السياسي، وتوفر له الحماية من كلّ أشكال المقاومة المحليّة. وطالما أنّ النظام العالمي لا يزال على حاله منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، فإنّ الأمور في العالم العربي لم يتغيّر.

   يصفُ المؤلف أوّل يوم له في المدرسة، عندما كان محطّ تندّرٍ من زملائه: “تهامس التلاميذ ناظرين فاحصينني. أحسستني مسروقا بينهم. لم يسبق لي أن كنت بين أربعين شخصا يفحصونني من تحت إلى فوق. في القاعة تلاميذ في مثل سني، لكنهم يعرفون القراءة والكتابة. على السّبّورة درسٌ مكتوب، وأمامهم الدّفاتر. سأعرفُ أنّ هؤلاء الكبار جاؤوا من البادية”[54]. الشّعور بالحرج والغرابة من الذّات، والامتعاض من تحديقة الآخرين ونظراتهم السّاخرة، والقلق من الموقف المفاجئ، تلك كانت مشاعر اليوم الأول في المدرسة. في الحالات العاديّة يكون اليوم الأوّل في المدرسة عيدا لدى الأطفال، يلبسون فيه أجمل ما عندهم ويأتون إلى المدرسة صحبة أوليائهم، وعلى وجوههم لذّة الاكتشاف. أمّا في حالة محمّد شكري، فإنّه قدم وحيدا، لأنّه كان منبوذا لدى والده، وهو يعيش شريدا فريدا، لا مأوى ولا مصدر رزقٍ، ولا نقطة ارتكاز تُشعره بالدّفء الإنساني، وبالحماية، وبلذّة الانتماء إلى أسرة شريفة. لقد كان مجتمعه المنبوذ من قبل المؤسسات مجتمعا للرّذيلة، ولا يُقدّمُ إلاّ شعورا بالإحباط والهزيمة والانكسار. كانت كلّ المواقف والمشاهد التي وصفها أو عاشها في هذه السّرديّة تشيرُ إلى انحطاط العالم وقبحه، وتكشفُ عن استفحال غريزة الشرّ في الإنسان المغربي المدمّر بفعل الاستبداد السياسي والحضور الكولونيالي. وفي ذلك الجوّ المحموم بالفساد الأخلاقي والسياسي يلجأ محمّد شكري في سنٍّ متأخّرٍ للمدرسة يلتمس فيها الخلاص من جحيم المخدّرات والدّعارة، فهل تكون المدرسة بوّابة عهد جديد، دون كراهيّة؟ أم أنّها هي الأخرى وكرٌ بديلٌ للفساد والإفساد؟ ذلك ما سنتعرّف عليه من خلال الصّفحات القادمة.

   يعبّر التلميذ محمّد شكري عن قلقه من مستقبله الدّراسي من أوّل حصّة، عندما شاهد زملاءه ينقلون الدّرس في دفاترهم، وهو لا يعرف من أين يبدأ وكيف يفكّ رموز الحروف. “كانت رموز العالم تنتقل إلى صفحة صديقي، وصفحتي بيضاء، أحدّقُ فيهم وأفكّر: يكتبون بخفّةٍ. أيتركني المدير أتعلّمُ مثلهم؟ إذا لم يتركني فحتما سأعود إلى طنجة لكي أعاشر محترفي الفسق دون أن أعرف شيئا مما يحدثُ في هذا العالم من خلال رموزه. ما دمت قد جئت فينبغي لي أن اعلم. الحياة الحقيقيّة توجد دائما في الكتب”[55]. يبدو من خلال هذه السّرديّة، هذا الانكباب على الذّات التي تعيش عزلة فكريّة وروحيّة قاتلة، وهذا القلق العميق على المستقبل البائس. يدرك هذا التلميذ أن البديل عن المدرسة هو الفسق والفجور، والعيش على هامش المجتمع في الوسط الفاسد، والدّائرة السامّة للوجود. إنّه يشعر بضرورة إنقاذ الذّات من الحفرة التي أوقعه فيها والده، من خلال المدرسة. إنّ إدراك حقيقة العالم تتمّ عبر القراءة والتعبير عن هذه الحقيقة يتمّ عبر الكتابة، وباجتماعهما يعيش الكائن الإنساني الوجود الممتلئ.

   مع أوّل حصّة يتعلّمُ فيها التلميذُ طقوس الكتابة يتعمّقُ شعوره بأرضيّته الهشّة، وبمحيطه المنحطّ. “مكاني ليس بينهم، لقد جئت من عشيرة القوّادين، والّصوص والمهرّبين، والقحاب (….)، عزّيتُ نفسي أنّني في مطهرٍ إذا”[56]. تمثّلُ المدرسة رغم كلّ التحفّظات التي تحيطُ بها قارب نجاة، ومعبدا تتطهّرُ فيه الذّات المذنبة من خطاياها. لقد كان المراهق محمد شكري يدرك أنّه يعيشُ على الخطايا، ليس فقط عند كتابة هذه السرديّة، ولكن عندما كان يعيش تجاربه المنحرفة. كان مجتمعه منغلقا على نفسه، فلا نجده إلاّ في حانة أو في مبغى ليليّ، أو في مقهى، أو في بيت عاهرة، وعندما يذهبُ لزيارة والدته، فإنّه سرعان ما يعطيها مبلغا من المال وينصرف ليبيت عند إحدى صديقاته التي تكبره سنّا، ليمارس الجنس دون أدنى شعورٍ بالذّنب. نعتقدُ أنّ محمد شكري يحمّلُ المجتمع مسؤوليّة انحرافه، وأوّلُ من دفع به إلى الشّارع هو والده؛ وقد حلّلنا بعمقٍ علاقته بوالده في دراسة سابقة لرواية “الخبز الحافي”. وقد كان للمناخ الاجتماعي والسياسي دوره في تضليل الشباب المغربي واضطهاد الطّفولة وازدراء النساء والدّفع بهنّ إلى الدّعارة.

جماليّات السّرد السير-ذاتي:

   استفاد المؤلّف في هذه السيرة الذّاتيّة من الكثير من تقنيّات السّرد الروائي. فقد جزّأ العمل إلى فصول، لكلّ فصل عنوانٌ مستقلّ. وتمكّن هذه البناء من ضغط محتوى الفصل في عنوان واحد، ومجموع العناوين هو حصيلة الرواية السير-ذاتيّة كلّها. تعتبر هذه التقسيمات من تقاليد الكتابة الروائيّة؛ يعمد الروائي إلى تسجيل توقف من حين لآخر، من أجل تسجيل انتقال إلى برنامج سردي آخر، ولتبطيء عملية السرد وأفعاله المتلاحقة، وخصوصا في الروايات التي تتميز بالتركيز الدرامي. وإذا فإنّ الوظيفة الجوهريّة للتقسيم “تتمثّلُ في إحداث الوقفة لحركة السّرد اللاهث من خلال تصاعد الأحداث وتشابكها؛ فتأتي هنا الوقفة منطقية ومبررة عبر الوحدات من خلال الإشارة إلى الفصل الثاني والثالث وهكذا”[57]. وبداخل الفصول يختلطُ المتخيّل بالواقع والسِّيَري إلى درجة يصعبُ معها التعرّف على حدودهما. فالرواية جنسٌ منفتح ويستطيع أن يستوعبَ أنواعا أدبيّة شتّى، شعريّة أو نثريّة، بما فيها الحوار.

   نبحثُ في هذا المطلب عن الأدبيّة، أي مستويات التّخييل التي تميّزُ السّرد الأدبي عن السّرد التاريخي لمسيرة الشّخصيّة التي لا تحتفي إلاّ بسرد الأحداث والوقائع والتجارب المعيشة، كما حصلت. ويكون سرد هذه الحالة على الدّرجة الصّفر من الأدبيّة. وسيكون لزاما علينا في هذه الحالة التّمييز بين ما هو تخييل وما هو واقعي مُتعلّقٌ بميثاق السيرة الذّاتيّة.

   نعتقد أنّ مبدأ الأدبيّة يكمن في التفاصيل والجزئيّات، لأنّ المؤلف سيحافظ على الواقعيّة في المحطّات الأساسيّة لحياته. مثل الأعمال التي مارسها في مجتمعه، وعلاقته بأسرته، وتجربته في المدرسة، وسرده للأحداث التاريخيّة المتعلّقة بالحضور الكولونيالي، والثورة على الباشا. إنّ مثل هذه المحطّات هي الفصول الفعليّة والتاريخيّة للسيّرة الذّاتيّة. أمّا بقيّة التفاصيل والمخيال الرّمزي للطفل، ثمّ للمراهق، ثم للشّاب، وما ينتج عن ذلك المخيال من استيهامات وتداعيات واستعارات، فهي المادّة الجماليّة المشكّلة للأدبيّة. “إنّ صيغة التذكّر الهادئ لماضينا القديم جماليّة وقريبة من حيثُ الشّكل إلى القّصّة (…)، فكلّ ذاكرة للماضي، هي إلى حدٍّ ما جماليّة”[58]. بعكس سرد المستقبل الذي عادة ما يتّشح بالأخلاقيّة.

   إضافة إلى ذلك توجدُ شخصيّات يشيرُ إليها المؤلّف ويسردُ قصصها، كما حصل مع الثورة على الباشا، أو الإشارة إلى المشرّدين والسّكارى، الذين لم تتّصل بهم حياته بشكل مباشر، ولكنّه أشار إليهم من باب الاستطراد، من أجل مراكمة ما يصلح لتشكيل رؤية للعالم. فالذّات ليست كائنا معزولا، وإنّما يعيش ضمن مجموعة، والإشارة إلى الآخر تعني أنّ الذّات لا تعيش العزلة الاجتماعيّة، وتشعر بجوارها الإنساني. فالوجود البشري “هو وجود جماعي، وبدون الآخرين لا أستطيعُ أن أوجد”[59]. ما هو ملاحظ في هذه المدوّنة، هو هيمنة ضمير الأنا، على السّرد، وعلى هامش هذه الهيمنة توجد ضمائر الآخر الممتدّ عبر الفضاءات التي يرتادها المؤلّف وتلتقطها عينه ويخزّنها وعيه. فمن خلال تلك المشاهدات والحوارات والتجارب يتشكّل الوعي الذّاتي، وتتبلور الرؤية للعالم. “إنني أحقّق وعيي بذاتي وأصبحُ ذاتي عبر كشف نفسي للآخر، عبر الآخر وبمعونته هو. إنّ الأفعال الأكثر أهميّة ، أي تلك التي تشكّلُ الوعي بالذّات تتحدّد بالعلاقة مع وعي آخر”[60]. من أجل ذلك لا يُرى محمّد شكري خلال سيرته الذّاتيّة إلاّ مع الآخرين. إنّه ليس انطوائيّا رغم العزلة التي كان يعيشها في الأسرة، بسبب القطيعة مع الأب.

   لقد كانت فاتحة هذه الرواية السير-ذاتيّة وكأنّها رواية خالصة. إنّنا نقرأ سردا أدبيّا تخييليّا. ينزلُ الشّابّ من الحافلة ليجد قبالته طفلا يتعلّقُ به ليخدمه مقابل أجرٍ. “قدّام الحافلة التي نزلتُ منها، اقترب منّي طفلٌ متّسخٌ، حافي القدمين، في حوالي العاشرة من عمره”[61]. ثم يجري حوار مقتضبٌ بين الطفل والرّاوي، يقود هذا الأخير إلى مقهى السي عبد الله. وهنا، تلتقط عينا المؤلف مظاهر الحياة الشعبيّة بعفويّتها وبدائيّتها، وهو يمرّر من خلال الوصف البانورامي موقفه من المشهد دون التّصريح به. فالوصف في حدّ ذاته يحمل موقفا من العالم الموصوف، ورؤية للمجتمع، دون أن يكون جزءا عضويّا من ميثاق السيرة. بل إنّه هامشها وتخومها وحدودها.

   لقد كان مطلع هذه الرواية سردا أدبيا تخييليّا بامتياز، في مفردات اللّغة وبنية المقاطع السّرديّة، وتتابع الأفعال. ذلك أنّ “الرواية السير-ذاتية مثلها مثل سائر ضروب الكتابة منغرسة في التّخييل، يستثمرُ مؤلفها المسافة السّرديّة الفاصلة بين الرّاوي والشخصيّة والمؤلف لخلق عالم روائي واسع الآفاق متشابك الأبعاد، ينحو إلى الاستقلال عن الواقع التاريخي المرجعي”[62]. ولذلك يمكننا أن نقرأ هذه الرواية السير-ذاتيّة، كأنها رواية خالصة، وما يحصل من تشابه أو تطابق بين المؤلّف والبطل الروائي يمكن أن يكون مجرّد إسقاطٍ، أو قد يكون تطابقا مقصودا من أجل إخراج السيرة الذّاتيّة إخراجا جماليا كما هو الشأن في الأيّام لطه حسين، أو “الخبز الحافي” و”زمن الخطايا” لمحمّد شكري. وفي مثل تلك الروايات يصّرح الكاتب بطبيعة الكتابة من خلال عنوان فرعيّ على ظهر الكتاب.

   “ينظر إليّ وإلى حقيبتي البالية؛ أعطيته خمسة سنتيمات إسبانيّة. تشاكرنا وانصرف. السّوق عامر ببائعي المواد الغذائيّة؛ هناك الجالسون والمتجولون؛ الشمس تغرب، أصوات الإذاعات العربيّة تُسمَعُ في الدّكاكين، تمشيتُ في السّوق بضع دقائق. سألت بائع ثياب بالية عن قهوة السي عبد الله، أشار إليها بحركة سريعة، ولامبالاة، ومضى ينادي في المزاد العلني بأثمان الملابس التي يحمل بعضها على كتفه وأخرى في يديه”[63]. إنّ كثرة الأفعال وتتابعها السّريع، وقصر الجمل، التي تفصلُ بينها فواصل، بالإضافة إلى المزاوجة بين السّرد والوصف، إنّ كلّ ذلك عناصر أساسيّة مشكّلة للأدبيّة، وتساهم في تصعيد النّفس الدرامي الذي يدفع بالتطور السّريع للحبكة السّرديّة. لقد بدا وكأنّ الرّاوي يرغبُ في احتواء المشهد العام بكلّ تفاصيله، وأشيائه الخفيّة والظّاهرة، حيثُ تختفي أصواتٌ ومشاهد لا يلتقطها إلاّ أديبٌ حصيف الرّؤية. فهو يصفُ حركة الباعة المتجوّلين، والجالسين، ويصف الطّفل الذي خدمه، وحقيبته البالية، كما يصف غروب الشّمس، واصوات الباعة الذين يروجون لبضاعتهم، وأصوات الإذاعات العربيّة التي تذكّرنا بالستّينات والسّبعينات من القرن الماضي. أمّا الأفعال فإنّه يذكر ما قام به هو والطّفل الذي ظهر له عند نزوله من الحافلة، كما يذكر أفعال الباعة على تنوّعها وكثرتها. إنّ كلّ هذه المشاهد والأفعال والحركات والإشارات تسبق عمليّة التحاقه بالمدرسة، وهو الفعل المتعلّق بشكل مباشر بميثاق السيرة. وأثناء تحقّق هذا الفعل توجد هوامش للتخييل نستعرضُ أهمّها.

   وصل الرّاوي إلى المدرسة، واختلط بالتلاميذ، واثناء ذلك، وكعادته يسلّط عينيه على المشهد العام الذي يعجّ بحركة لا عهد له بها. “رنّ الجرس، من خلال نافذة المكتب أرى السّاحة والتلاميذ يتسابقون على المراحيض والصّنابير. يتدافعون، يتقافزون، تخيّلتني بينهم. فاتني أن أكون واحدا منهم. دخل شخصٌ متعجرفٌ حاملا كتبا”[64]. سبعة أفعال متلاحقة، متسارعة لمحاكاة سرعة حركة التلاميذ داخل السّاحة، ومحاكاة تلاحق الخواطر والمشاعر المتضاربة والانطباعات الشّاذّة أحيانا، التي تخترق مخيّلة الراوي وهو يتأمّلُ المشهد. المقصود بالأسلوب في السّرد الأدبي هو “كلّ ما يخلخلُ شفافيّة اللّغة المكتوبة ويبعدها عن درجة الصّفر، ويبعد الاشتغال على الكلمات سواء تعلق الأمر بالمحاكاة السّاخرة أو بلعبة الدوال، والنظم”[65]. تتّشحُ لغة الكاتب بدرجة عالية من الأدبيّة المقصودة بغاية تجميل النصّ وشحنه بالمعاني والظلال. وينطبق هذا الحكم الجمالي على كلّ مراحل سرد القصّة، سواء ما تعلّق بالسّرد والحكي أو الوصف، وسواء ما تعلّق بهامش التّخييل أو بسرد الأحداث الواقعيّة، على غرار الاختبار الذي أجري للتلميذ قبل أن يُدمج في المدرسة، أو الزيارات القليلة التي يؤدّيها السّارد لوالدته، أو الصّراع المرير مع الوالد، علما أنّه كاد يكون غائبا في هذه السّرديّة. ولأنّ هذا النصّ على درجة عالية من الأدبيّة في لغته وفي مستوياته التّخييليّة، فإنّه يمكن أنْ يقْرَأَ كرواية كما يُقرأ كسيرة ذاتيّة. ولولا التطابق المختوم باسم العلم بين السارد والمؤلف والشخصيّة لاستُبعِدتْ فرضيّة السيرة الذّاتيّة ولاعْتُبِرَ النصّ رواية متخيّلة، فلا شيء يمنع ذلك من الناحية الفنية والبنيويّة.

   بالعودة إلى المدوّنة وتأمّل جوانبها الجماليّة، نعثرُ على بعض المقاطع السّرديّة والوصفيّة التي قُصِدتْ لذاتها من أجل إدخال روح الدّعابة في حوار المؤلّف مع القارئ. كانت الحصّة الأولى للتلميذ محمد شكري مع معلم الحساب. فقد انزعج التلميذ من معلّمه بسبب الصّعوبة التي وجدها في تلك المادّة، وقد أرجع اللّوم على المعلم. “إنّ القرود تتلاطفُ فيما بينها، أمّا هذا فلم يفعل، شعرتُ أنّي بذلتُ مجهودا كبيرا، أن أحمل خمسين كيلوغراما من الثقل وأسيرُ به كيلومتر أخفّ عليّ من بذل هذا المجهودٍ الذّهني”[66]. توجد طرق متعدّدة للتعبير عن الانزعاج من درس في الحساب، وأفضلها في النصوص الأدبية الأكثر إثارة للطّرافة والدّعابة وأحيانا السّخرية. فتفضيل القرود على معلم الحساب قُصِدَ به نقد خشونة المعلم وفضاضته. أمّا حمل ثقل خمسين كيلوغراما فهي كناية عن صعوبة مادّة الحساب وكراهيته لها.

   من خصائص بنية هذه الرواية السير-ذاتية أنّ المؤلّف في سرده للسيرة يعتمد على الاستطرادات بكثرة. ففي الطّريق إلى المدرسة يمعن في وصف الطّريق، ووصف المحيط بشكل عام، وفي العودة إلى المدينة يصفُ لنا الثورة على الباشا بتفاصيلها، والهتافات التي كان المترّدون يردّدونها. ثم يتابع المشهد إلى نهايته وما حصل لحارس الباشا الذي كان يطلق النار على المتظاهرين، والمصير الذي لقيه في النّهاية. إنّ هذه الاستطرادات من شأنها أن تغني سّيرة الذّاتيّة وترفع هامش المتخيّل حتّى ليكاد القارئ يجزمُ بأنه مه نصّ روائي.

الخاتمة:  

   تعتبر الرواية السير-ذاتيّة التي بعنوان “زمن الخطايا” الجزء الثاني والمتمم للجزء الأوّل تحت عنوان “الخبز الحافي” والذي غطّى الطّفولة الأولى وبداية المراهقة. بينما يمسح هذا الجزء الفترة المنطلقة من فترة التمدرس، وهي سنّ العشرين، وما بعدها. كان محمّد شكري كما بدا في هذه الرواية بعيدا عن جوّ الأسرة، إذا استثنينا زيارات عابرة من حينٍ لآخر، لوالدته، في حين يظلّ العداء مستحكما بينه وبين والده. وكان مجتمعه الصغير على دراية بهذا العداء، ما جعل أفراد أسرته وجيرانه لا يخبرونه بوفاته، فلا يعلم بها إلاّ بعد انقضائها بأسابيع عن طريق الصّدفة.

   يصفُ لنا الروائي ظروف تمدرسه وسهولة اندماجه في الوسط المدرسي، وتمكنه من الحصول على شهادة تؤهّله للتدريس في ابتدائيّة، الأمر الذي يحقّق له نوعا من الصّعود الطّبقي الذي ينتشله من عالم الدّعارة والمخدّرات واللسّطو على أملاك النّاس. كان المؤلّف لا يفوّت الإشارة العفويّة إلى مظاهر البؤس والتخلف الاجتماعي في كلّ الفضاءات التي يتردّد عليها. وكان تركيزه الشّديد نسبيّا على الاضطرابات السياسيّة والاجتماعيّة المترتّبة عن الاحتلال الإسباني وتعاون الباشا معه، وتجاهل مطالب الأمّة. وقد صوّر الرّاوي الثورة على الباشا وما احدثته من تسيّب أمني.

   على الصّعيد الذّاتي يواصل المؤلّف ارتياد بيوت الدّعارة وينفق الكثير من مداخيله على البغايا، وعلى الخمر التي لا تكاد تفارقه. إنّه مدمنٌ على الجنس والخمرة بشكلٍ لا شفاء منه. ويعتبر هذا السّلوك المتمرّد على سنن وتقاليد المجتمع المغربي احتجاجا على الظّلم الاجتماعي وعلى سلطة الأب المستبدّة بمشاعر الطّفولة وبمشاعر زوجته الضّعيفة. لقد كانت قسوة الأب مدمّرة لكلّ أفراد الأسرة.

   في هذا العمل تلتحم السيرة الذّاتيّة والرواية ضمن جنس أدبي هجينٍ تشكّل حديثا في السّرد الغربي ثم العربي، بفعل المثاقفة، وإن كانت السيرة الذّاتيّة حاضرة في التراث العربي بقوّة من خلال السيرة النبويّة وسيرة الصّحابة رضي الله عنهم، ثم السير الشعبيّة في القرون الوسطى؛ وقد شكّل ذلك خلفيّة أدبيّة ذات خصوبة عالية بالنسبة لعمليّة التّحديث والتّطوير ما بعد الحداثي.

المصادر والمراجع:

المصادر:

1-محمد شكري، زمن الخطايا، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، ط الثانية 1992.

2 محمد القاضي وآخرون، معجم السّرديّات، دار محمد علي للنشر، تونس/ دار الفارابي، لبنان/ مؤسسة الانتشار العربي، لبنان/ دار تالة الجزائر/ دار العين، مصر/ دار الملتقى، المغرب، ط الأولى 2010.

المراجع:

1- فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة عمر حلي، المركز الثقافي العربي، ط الأولى 1994.

2- ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، شركة الأمل للطباعة والنشر، القاهرة، ط الأولى 2011.

3- محمد بهاوي، في فلسفة الغير، إفريقيا الشرق للنشر والتوزيع، الدّار البيضاء، ط الأولى 2013.

4- محمّد النّاصر العجيمي، المشهد الآخر في كتابة الذّات-الجزء الثاني، مكتبة علاء الدين، صفاقس/ تونس، ط الأولى 2016.

5- سعيد بن كراد، السّرد الروائي وتجربة المعنى، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط الأولى 2008.

6–ميخائيل باختين، النظريّة الجماليّة، ترجمة عقبة زيدان، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، ط الأولى 2017.

Sources and references

Sources:

1-Mohamed Chokri ; Zaman El khataya ; mataat Ennadjah Eldjadida ;El Magheb ; Etabaa Ethania, 1992.

2-Mohamed El Kdhi oua akharoun, dar Mohamed Ali linachr, Tunis, dar el farabi, loubnan,

Mouassasat al intichar al arabi, loubnan, dar tala el djazair, dar el ain masr, dar el moltaka, el maghreb, tabaat 2010.

References:

1-Filippe legan, assira Ethatiya ouatarikh el adabi, tarjimat omar haly, al markaz athakafi al arabi, attabaa al oula 1994.

2-Mamdouh farraj Naby, riouayat assira athatiya, charikat al amal littibaa  ou annachr, al kahira 2011.

3-Mohamed Bahaoui, fi falsafat Al ghair, Ifrikia linnachr oua tawzii, tabaa al oula 2013.

4-Mohamed El Ajimi, al machhad al akhar fi kitabat athat, al jouzou thani, maktabat alaa eddine, safakous/ Tunis, tabaa al oula 2016.

5-Said Ben Krad, assard arriouai oua tajribat el maana, al markez athakafi al arabi, el maghreb,tabaa al oula 2010.

6-Mikhail Bakhtin, nadhariya el jamalia, tarjamat ikba zidan, dar ninoua lidirassat oua nachr oua tawzii, syria attabaa al oula 2017.


([1] ) من حديث لنجيب محفوظ نشرته له مجلة آخر ساعة عام 1995.

([2] ) مجلة الهلال عدد فبراير سنة 1970 ص48 » بتصرف «

([3] ) مجلة نصف الدنيا عدد رقم 335 بتاريخ 14 يوليو 1996 (بتصرف) يسير غير مخل ولا موهم خلاف المراد).

([4] ) اقرأ في ذلك على سبيل المثال نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل لغالى شكرى، ونجيب محفوظ من القومية إلى العالمية لفؤاد دوارة.

([5] ) نقلاً عن مجلة نصف الدنيا عدد 335 وقد سبق تدوينه بأعلى .

([6] ) انظر كتاب القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق . د. يوسف حطينى، دمشق سنة 2004.

([7] ) انظر أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ من ص105 وحتى ص 159 ط مكتبة الأسرة (هيئة الكتاب ) سنة 2004. وأنوه على أنه قد تم الاحتفاء بهذا العمل جداً حيث طبع في ثلاث دور ثقافية عملاقة هى مكتبة مصر ثم دار الشروق ثم هيئة الكتاب ، وقد اطلعت على كل هذه الطبعات ولا فارق بينها إلا في كم الصور التذكارية الموجودة في طبعة مكتب مصر والتى خلت منها طبعتا مكتبة الأسرة والشروق.

([8] ) انظر الأصداء ص21 ط مكتبة الأسرة. هيئة الكتاب سنة 2004.

([9] ) انظرالأصداء ص151 السابق.

([10] ) المرجع السابق ص130، 143، 151.

([11] ) مجلة نصف الدنيا عدد 335 وقد سبق ذكره بهذا المهمش 3.

([12] ) أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ ص105.

([13] ) انظر الأصداء مقطوعة (التعارف) ص106 ومقطوعة (مأمور) ص109. الطبعة السابقة.

([14] ) انظر الأصداء ص37 ويوجد خطأ مطبعى في طبعة مكتبة الأسرة حيث حذف من النص حرف (لا) في (لا يتزحزح) وقد ذكر في طبعات مكتبة مصر دار الشروق.

([15] ) انظر كتاب أصداء الأصداء تأليف عبدالسميع عمر زين الدين سلسلة (إصدارات خاصة) الهيئة العامة لقصور الثقافة ط أولى سنة 2006 ص49 وهو كتاب رئيس في هذه الدراسة التقليدية.

([16] ) انظر عدد يونيه 1997.

([17] ) أصداء السيرة الذاتية، نجيب محفوظ الطبعة السابقة ص52 ، 45.

([18] ) أصداء السيرة الذاتية، نجيب محفوظ الطبعة السابقة ص52 ، 45.

([19] ) المرجع السابق ص69.

([20] ) انظر أصداء الأصداء السابق برقم 15 ص84 (بتصرف يسير).

([21] ) أصداء السيرة الذاتية ص98.

([22] ) القرآن الكريم، سورة آل عمران آية 37، سورة الملك آية 2.

([23] ) القرآن الكريم، سورة آل عمران آية 37، سورة الملك آية 2.

([24] ) انظر أصداء السيرة الذاتية ص21.

([25] ) انظر كتاب الإبداع الدبى، المصادر والمخاطر، تاليف حسين عبده ص115. ط مكتب الأسرة 1997.

([26] ) انظر أصداء السيرة الذاتية ص16-131-90-38-40

([27] ) انظر كتاب (بحثنا عن الديناصور) مختارات قصصية من أمريكا اللاتينية، إعداد وترجمة سعيد الواحد وحسن يوتكى، منشورات البحث بالمغرب ط1، 2005 وكتاب (القصة القصيرة جداً) تأليف أحمد جاسم الحسين، منشورات دار عكرمة، دمشق، ط1 ، 1997.

([28] ) انظر كتاب (القصة القصيرة جداً بالمغرب ، المسار والتطور) ط مؤسسة التنوخى، إسفى ، ط1 2008 والكتاب تأليف د/ جميل جمداوى.

([29] ) قال ذلك في رمزية الشباب التى ليست لها أسباب طبيعية ولا قيمة فنية، وكان ذلك في حوار أجرته معه الكاتبة الصحفية والمذيعة اللامعة نجوى وهبى، انظر كتابها المعنون بهذا الاسم (قراءات في رءوس تحترق) ط مكتبة الأسرة، هيئة الكتاب سنة 1999 من ص27 وحتى ص35، وينظر أيضاً مجلسة المجالس الكويتية بتاريخ 19 يناير 1985 حيث نقلت هذا الحوار.

[30] -ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، شركة الأمل للطباعة والنشر، القاهرة، ط الأولى 2011، ص24.

[31] -م. نفسه، ص38.

[32] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة وتقديم عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط الأولى 1994، ص8.

[33] -ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، ص34.

[34] -محمد القاضي وآخرون، معجم السّرديّات، دار محمد علي للنشر، تونس/ دار الفارابي، لبنان/ مؤسسة الانتشار العربي، لبنان/ دار تالةن الجزائر/ دار العين، مصر/ دار الملتقى، المغرب، ط الأولى 2010، ص218.

[35] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص10/11.

[36] -م. ن. ص. ص 60.

[37] -ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، ص62.

[38] -م. ن. ص. ن.

[39] -م. ن. ص.

[40] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص11.

[41] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص13.

[42] -سعيد بن كراد، السّرد الروائي وتجربة المعنى، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط الأولى 2008، ص140.

[43] -م. ن. ص141.

[44] -محمّد النّاصر العجيمي، المشهد الآخر في كتابة الذّات-الجزء الثاني، مكتبة علاء الدين، صفاقس/ تونس، ط الأولى 2016، ص386.

[45] -محمد شكري، زمن الخطايا، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، ط الثانية 1991، ص 17.

[46] -محمد شكري، زمن الخطايا، ص 18.

[47] -محمد شكري، زمن الخطايا، ص19.

[48] -م. ن. ص19/20.

[49] -محمد شكري، زمن الخطايا، ص20.

[50]-محمد شكري، زمن الخطايا، ص22.

[51] -محمّد شكري، زمن الخطايا، ص23/24.

[52] -م. ن. ص25.

[53] -م. ن. ص26.

[54] -محمد شكري، زمن الخطايا، ص 23.

[55] -م. ن. ث34.

[56] -م. ن. ص34.

[57] -ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، ص 164/165.

[58] -ميخائيل باختين، النظريّة الجماليّة، ترجمة عقبة زيدان، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، ط الأولى 2017، ص223.

[59] -محمد بهاوي، في فلسفة الغير، إفريقيا الشرق للنشر والتوزيع، الدّار البيضاء، ط الأولى 2013، ص67.

[60] -محمد بهاوي، في فلسفة الغير، ص45.

[61] -محمّد شكري، زمن الخطايا، ص 17.

[62] -محمّد القاضي وآخرون، معجم السّرديّات، ص2019.

[63] -م. ن. ص17/18.

[64] -محمّد شكري، زمن الخطيئة، ص23.

[65] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص16.[66] -محمد شكري، زمن الخطايا، ص23.