السيرة الذاتيّة ورؤية العالم: رواية ’زمن الأخطاء‘ لمحمد شكري نموذجا

بوخالفة إبراهيم

ملخص البحث

السيرة الذاتيّة نوعٌ أدبيٌّ حديثُ النشأة  في الثقافة العربيّة، بل إنّه من مخرجات الكتابة الروائيّة ما بعد الحداثة، يتميّز عن الرواية التقليديّة جماليّا  وفكريّا، إذْ أنّ الروائي يستقي مادّته السّرديّة من ذاته، ومن تجاربه في الحياة، بدءا من الطّفولة، وانتهاء بخريف العمر.

تأتي السيرة الذاتية كتتويج لحياة كاتبها، حيثُ تنضجُ الرؤية للعالم، ويتّضحُ الموقف من الوجود، وتتبلور آفاق جديدة على الصّعيد الجمالي والفكري في مسيرة الكاتب الذي يعبّرُ عن ضمير مجتمعه، فهو شاهدٌ على عصره، وراوٍ لأحداثه، ومُدْلٍ بمشاعره ومواقفه تجاه التجارب التي عايشها والبشر الذين جاورهم.

وفي رواية زمن الأخطاء” لمحمّد شكري، يكتبُ الروائي حياته الخاصّة في فترة تاريخيّة عصيبة على المغرب العربي، بسبب الحضور الكولونيالي الغربي، وبسبب حالة التخلّف التي يعيشها المجتمع المغربي في تلك الحقبة العصيبة من تاريخه الحديث. وتهدفُ هذه الدّراسة، كما يشي بذلك عنوانها، إلى جماليّات التحول من السّرد السّير-ذاتي، إلى السّرد الروائي، وما مدى التداخل بين النمطين من الكتابة، وكيف يمكن بلورة رؤية للعالم انطلاقا من تجربة حياة ذاتيّة. كما يهمّنا أيضا أن ندرك كيف تتحوّل الذّات المفردة إلى مركزٍ للعالم، وكيف تتحوّل مواقفها ومشاعرها إلى إدانة للنظامين الثقافي والسّياسي للمرحلة التي توثقها هذه الرواية.

الكلمات المفاتاحية: السيرة الذاتية؛ رؤية العالم؛ النظام الكولونيالي؛ الانحراف؛ انحطاط العالم؛ الطّفولة الشقيّة.

Abstract

The autobiographical novel and self-writing: “The Time of Errors” by Muhammad Shukri as a model

The autobiographical novel is a literary genre of recent origin in Arab culture. Rather, it is one of the outputs of postmodern novel writing, distinguished from the traditional novel aesthetically and intellectually, as the novelist derives his narrative material from himself, and from his experiences in life, starting from childhood and ending with old age. .

The autobiographical novel comes as the culmination of the life of its writer, where the vision of the world matures, the attitude towards existence becomes clear, and new horizons are crystallized on the aesthetic and intellectual level in the path of the writer who expresses the conscience of his society, as he is a witness to his era, a narrator of its events, and a guide to his feelings and attitudes towards the experiences he lived through. And the people who surround them.

In the novel ” The Time of Errors”  by Mohamed Choukri, the novelist writes his own life during a difficult historical period in the Maghreb, due to the Western colonial presence, and because of the state of backwardness experienced by Moroccan society in that difficult period of its modern history. This study aims, as indicated by its title, at the aesthetics of the shift from autobiographical narration to the narrative secret, and the extent of overlap between the two styles of writing, and how it is possible to crystallize a vision of the world based on a subjective life experience. It is also important for us to realize how the individual self becomes the center of the world, and how its attitudes and feelings turn into condemnation of the cultural and political systems of the stage that this novel documents.

Keywords: The autobiographical novel; see the world; the colonial system; deviation; degeneration of the world; The naughty childhood.

مقدمة:

تتعدّد أنماط كتابة الذّات في الثقافة العربيّة أو غير العربيّة، بتعدّد البدائل، والرؤى والأساليب التي بحوزة المفكّرين والمبدعين المهتمّين بالشأن الثقافي. فالشاعر يكتب ذاته من خلال التخييل المجنّح، والمشاعر المشبوبة والتّمثيلات الموغلة في التجريد، والروائي يكتب ذاته من خلال شخصيّاته وتجاربها مع محيطها الاجتماعي والثقافي والسياسي، والمؤرخ يكتب ذاته متحرّيّا الموضوعيّة والتجرّد من التحيّزات.

 وفي هذه الدّراسة يجمع الكاتب المغربي الحديث، محمّد شكري بين نمطين من أنماط كتابة الذّات، فهو يكتب سيرته الذّاتيّة، أو تاريخ حياته، ولكن في شكل روائي. إنّه يُدمجُ بين نوعين أدبيين مختلفين تماما. فالسيرة الذّاتيّة تقتضي الصدق، بينما تتجاوز الرواية ذلك المعيار، وتعتمد على التّخييل والتّمثيل والمجاز.

في الرّواية التي بين أيدينا نملك تجربة فريدة من نوعها من حيثُ نمط الكتابة وجرأة التّفكير والتجرّد من كلّ معيقات الإبداع الأدبي وفق ما يتصوّره الكاتب محمّد شكري. فقد عمد إلى خرق كلّ التابوهات التي رسمتها الثقافة العربيّة، وكلّ الموضوعات التي سيّجتها، ومنعت الخوض فيها لكونها خادشة للحياء، ومنتهكة للمحظور، والممنوع، والمسكوت عنه.

يستعرضُ الكاتب تجاربه الجنسيّة المبكّرة وعلاقته الإشكاليّة بأبيه ووالدته، وهي علاقة غير طبيعيّة، في مجتمع ذكوري يدعو إلى تقديس الأب، وتبجيله، باعتباره رمزا للرّجولة والشّرف، ومصدرا للحماية والإشباع العاطفي. وانطلاقا من تلك العلاقات الشاذّة مع العائلة تتشكّل رؤية للعالم يبلورها الكاتب ليعبّر عن إدانته الشّديدة للنظام الثقافي المهيمن داخل الأسرة والمجتمع بشكلٍ عام.

يتطوّر وعي الكاتب الطّفولي من خلال التجارب العائليّة الأولى مع الأب، ويتأثّر هذا الوعي الطّفولي بقسوة الأب وغلظته في تعامله مع زوجته ومع أبنائه. ويبلغ عنف الأب ذروته إلى حدّ قتل الابن الصّغير، فقط لأنّه يبكي دون انقطاع. وتتوسّع كراهيّة الأب لتتحوّل إلى كراهية للمجتمع؛ فالكاتب يُماهي بين عنف الوالد رمز الذّكورة المتوحّشة، وبين السلطة السياسيّة رمز القمع والإقصاء. وانطلاقا من علاقات القوّة بين الأب وبقيّة أفراد الأسرة، ينتهي الكاتب برفض كلّ القيم والعادات والتقاليد التي تفرضها سلطة المجتمع والدّين والنظام السياسي. هذا النظام الهجين والعميل للمحتلّ، وغير القادر على توفير القدر الكافي من الكرامة التي يستحقّها البشر في أوطانهم، هو الذي يدفع شبابه وبناته إلى كلّ أشكال الانحراف والتمرّد على القيم الإنسانيّة.

كتابة السيرة الذاتية:

قد تكون الرواية من أكثر الأجناس الأدبية تفلّتا من الضبط والاستقرار الشكلي، نظرا لمرونتها وقابليتها للتطور والتحول المستمر وانفتاحها على أنواع أدبيّة مجاورة. ولقد عبّر باختين عن هذه الطّبيعة الزئبقيّة للرواية منذ أن أضحت الجنس المهيمن على الساحة الثقافيّة، ليس فقط في الغرب، وإنّما في كلّ الثقافات والآداب العالميّة. يجادل الناقد المصري ممدوح فرّاح  أنّ الرواية تُعتبرُ “جنسا متمردا غير قابل للتصنيف، وفي ذات الوقت أكثر الأجناس الأدبية انفتاحا على مختلف الأنواع والأساليب الأدبيّة”[1]. فهي تشترك مع الكثير من الأجناس الأدبيّة في الكثير من القيم الجماليّة، وأساليب التعبير واللّغة. ومن هنا، قدرتها الفائقة على استيعاب الكثير من الأنواع الأدبيّة المجاورة لها، على غرار القصّة القصيرة والمسرحيّة والسيرة الذّاتيّة والمذكّرات واليوميّات، وحتّى السرد التاريخي والفلسفي.

في فترة ما بعد الحداثة، أصبحتْ الحدود الأجناسيّة أكثر عرضة للانتهاك، وصار من الصّعب التماس تعريفٍ خالص لأيّ جنسٍ أدبيّ لم يتورّط في عمليّات تهجين خلال تاريخه الطّويل أو القصير. وفي هذه الدراسة نودّ أن ندرس التواشج الحاصل بين الرواية والسيرة الذّاتيّة لما بينهما من قرابة فنيّة وموضوعاتيّة. إنّهما “شكلان يمثّلان قطبين لجنسٍ أدبيّ مترامي الأطراف، يجمع من الآثار المنضوية، حيثُ أنّها (السيرة الذّاتية) تتّخذ من حياة إنسانٍ موضوعا لها)”[2]. والرواية هي الأخرى بإمكانها أن تتّخذ من حياة شخصيّة ما، موضوعا لها. والمؤرّخ هو الآخر يفعلُ ذلك من خلال السّرد التاريخي. وبسبب ذلك يصعبُ رسم الحدود المقدّسة بين الأنواع الأدبيّة، وإن كانت الرّواية هي الإطار العام لكلّ تلك العناصر الدّخيلة؛ فهي الجنس المهيمن بفعل قدرتها الفائقة على استقطاب القرّاء وعلى الإمتاع الذي تحققه لهم، وفائض المعرفة الذي توفّره. ثمّ إنّها سليلة الملحمة، أقدم الأجناس الأدبيّة في التاريخ الأدبي على الإطلاق.

وفي هذا السياق لا يعزب عنّا حجم التداخل بين السيرة الذّاتيّة والرواية في القرن الثامن عشر وما قبله في الأدب الروسي. فقد كانت الرواية عبارة عن سيَرٍ ذاتيّة للأبطال القوميين، والشخصيّات الدّينيّة والعسكريّة. ولم يكن مفهوم الجنس الأدبي والحدود الجماليّة الصّلبة قد اتّضحت في الوعي النقدي للكتّاب المبدعين والنّقّاد. وكان التواشج بينهما هو البداية الفعليّة للرواية بمفهومها الغربي الحديث، الذي تبلور مبكّرا مقارنة بالآداب الروسيّة والصّينيّة وما جاورهما من خارج أوروبا، حيثُ نشأت الرأسماليّة وأفرزت طبقة بورجوازيّة تتبنّى عمليّات التحوّل الكبرى في كلّ أشكال المعرفة في أوروبا- التنوير. ولم تنفصل الرواية عن السيرة الذّاتيّة في روسيا إلاّ بفضل عمليّات المثاقفة بين الأدب الروسي والأدب الأوروبي قبل أن تتدخّل الإيديولوجيا الماركسيّة لرسم الحدود الإسمنتيّة بين الشرق والغرب، وفي عهد ستالين خصوصا.

أمّا في الأدب العربي، فالأمر يختلفُ تماما حسب اعتقادي؛ أجادلُ بأنّ روّاد النّهضة الأدبية في الشرق العربي أحدثوا ما يشبه القطيعة المعرفيّة مع التراث، وراحوا يلتمسون أسباب التحول التاريخي في النماذج الغربيّة جملة وتفصيلا، وسعوا إلى صناعة تنويرٍ عربيّ على شاكلة ما حصل في أوروبا. غير أنّهم اختلفوا في مشاربهم، فبينما توجّهت الليبراليّة العربيّة إلى أوروبا الغربيّة، فضّل اليسار التوجّه إلى القطب الشرقي. واتّفق الطّرفان على أنّ التّنوير العربي لا يمرّ إلاّ عبر القطيعة مع التراث. في حين أنّ الأدب العربي غنيّ بنماذج أدبيّة قريبة إلى ما يُسمّى الرواية، أو السيرة الذّاتيّة، أو القصّة. غير أنّ هذه الدّراسة ليس من أهدافها عمليّة التأصيل، ونحن ملزمون بموضوع الدّراسة الأساسي، وهو الرواية العربية وكتابة الذّات.

كيف تندمج الرواية مع السيرة الذّاتيّة لإنتاج نوعٍ أدبي هجينٍ؟ وكيف يمكن كتابة الذّات من خلال هذا الجنس الأدبي دون الإخلال بقوانين كتابة الرواية، ولا بميثاق السّيرة الذّاتيّة؟ هل يتسنّى للكاتب بلورة رؤية للعالم من خلال كتابة السيرة الذاتية؟ للإجابة على هذه الأسئلة لا بدّ من حفريّات نقديّة معمّقة في مدوّنة أدبيّة حديثة، ومثيرة للجدل في أطروحاتها، وفيما قال عنها النقّاد. تلك هي رواية “الخبز الحافي” لمحمّد شكري.

تُكْتَبُ السّيرة الذّاتيّة في خريف العمر، في أغلب الأحيان، وهو السنّ الذي يشرفُ فيه الإنسان على نهاية رحلته الوجوديّة، عندما يشعرُ أن علاقاته بعالمنا بدأت تضعفُ، وأنّه توجدُ أشياء لم يقلها في وقتها، ويجبُ عليه أن يقولها قبل أن يختفي دون رجعة. وهي الحالة التي عبّر عنها فليب لوجون في ادّعائه أنّ “السيرة الذّاتيّة لا تُكتبُ إلاّ عندما يتحقّقُ الامتلاء النّفسي وعمق الإحساس بالذّات”[3]. إنّها الحالة التي نشعر خلالها أنّنا أكملنا مسيرتنا، ولا يوجد ما يمكن أن يضافُ إلى رصيدنا، ونحن في حاجة إلى اجترار تجاربنا واستعادتها، من أجل النّظر إليها من منظور جديد، يتحرّى الموضوعيّة. ذلك أنّ كاتب السيرة الذّاتيّة من خلال السّرد الروائي يمكنه أن أحيانا أنّ يتحدّثُ عن ذاته من خارجها، وكأنّها ذاتٌ أخرى، غريبة عنه، وبالتالي يمكنه أن يتحرّى الموضوعيّة في تقييم التّجربة وتشكيل رؤيته للعالم.

يعرّف فيليب لوجون السيرة الذّاتيّة على أنّها “حكيٌ استعادي، نثري، يقوم به شخصٌ واقعي عن وجوده الخاصّ، وذلك عندما يركّزُ على حياته الفرديّة، وعلى تاريخ شخصيّته بصفة خاصّة”[4]؛ غير أنّ واقعيّة الشخص، وصدق الرواية لدواعي أخلاقيّة، لا يمنع الكاتب من هامش التّخييل، واللّغة النّوعيّة من أجل تحقيق الأدبيّة، وهي أهمّ غاية مقصودة من الكتابة عن الذّات. إذْ ما الفرق بين كتابة السيرة الذّاتيّة الصّرفة من خلال السّرد النّثري والواقعي، وبين كتابتها على شكل رواية؟ إنّ الغاية من هذه المزاوجة هي عنصر الأدبيّة الذي يحقّق نسبة مقروئيّة لا تحققها السيرة الذّاتيّة حتّى مع مشاهير المجتمع والتاريخ، باستثناء الأنبياء والرّسل عليهم السلام.

أمّا السيرة الذاتية فهي “جميع النصوص التّخييليّة التي قد يجد قارئها أسبابا تدفعه انطلاقا من عناصر تشابه يعتقد اكتشافها على الارتياب في وجود تطابق بين الشخصيّة والمؤلّف”[5]. أمّا المؤلّف فيمكنه أن يقرّ بالتشابه أو التطابق، وقد يحلو أن أن ينكر ذلك. ولكن المؤكّد هو التشابه أو التطابق الموجود ين حياة الكاتب والبطل الروائي المشار إليه بضمير الأنا كما حصل مع محمّد شكري أو بضمير الهو كما حصل مع طه حسين في “الأيّام”.

يقول (فابيرو) في المعجم الكوني للأدب الصادر عام 1876 “أنّ السيرة الذّاتيّة عمل أدبي، رواية، سواء كان قصيدة أو مقالة فلسفيّة، قصد المؤلف فيها بشكلٍ ضمنيّ أو صريح إلى رواية حياته وعرض أفكاره، أو لاسم إحساساته”[6]. وهكذا نتبيّن وفق التعريفات المتواترة عن النقّاد المؤصّلين لهن الجنس الأدبي الحديث، إنّ عنصر الأدبيّة عامل مشتركٌ بين السيرة الذّاتيّة والرواية.

تشتمل المادّة الحكائيّة المسرودة في الرواية على نوعين من الإبداع، النوع الأول هو ما تعلّق بالذّات أو الفرد ضمن الجماعة، وفي إطار وجوده الحقيقي، والمادّة الثانية هي تلك المتخيّلة، ومن خلال انصهار المادّتين في كتلة سرديّة واحدة تنبثق السيرة الذاتية. أنّ قراءة هذا النوع من الإبداع الأدبي يختلف باختلاف القارئ الذي يخضع لأفق انتظار محدد مسبقا. إذا تغلّبت المادّة التخييليّة والأدبيّة على العمل فيُرجّحُ اعتبارها رواية، أمّا إذا تغلّب عنصر الميثاق، فيعتبَرُ العمل سيرة ذاتيّة. بمعنى آخر، إذا لاحظنا تطابقا بين الشخصيّة الروائيّة والمؤلّف فالعمل أقرب إلى السيرة الذاتية. إنّ “كلّ النصوص التخيّليّة التي يمكن أن تكون للقارئ فيها دوافع ليعقد انطلاقا من التشابهات التي يعتقدُ أنّه اكتشفها أنّ هناك تطابقا بين المؤلّف والشخصية في حين أنّ المؤلّف اختار أن ينكر هذا التطابق، أو على الأقلّ اختار ألاّ يؤكّده”[7]، إنّ كل تلك النصوص هي على الأرجح روايات سير-ذاتيّة. لقد استند مفهوم السيرة الذاتية إلى عنصرين أساسيين، هما عنصر التخييل الذي يكثّفُ من معامل الأدبيّة وعنصر الميثاق المرتبط بالمرجعيّة الواقعيّة، وبالمصداقيّة الأخلاقيّة. إنّ التزام الروائي بصدقيّة تجاربه وتفاصيل حياته التي يحوّلها إلى مادّة روائيّة، هو الذي يعدّل من درجة التخييل ويجعل السيرة الذاتية جنسا أدبيّا هجينا، يقع على الحدود بين الرواية والسيرة الذّاتيّة.

إنّ الدّراسات البينيّة في حقبة ما بعد الحداثة كرّست انفتاح الرواية وهشاشة الحدود الأجناسيّة، من أجل إبداع جماليّات معبّرة عن فلسفات ما بعد الحداثة؛ لا شيء ثابت، لا شيء مقدّس؛ لا حدود تفصل بين حقول المعرفة، لا توجد حقائق ثابتة على غرار سرديّات الحداثة الكبرى، وقواعد الإبداع الكلاسيكيّة، بل إنّ المعوّل عليه هو المزيد من الغرابة والإدهاش، واختراق الحدود، والبوح بالمسكوت عنه.

توصفُ اعترافات محمد شكري بممارساته اللاأخلاقيّة خلال سنين المراهقة والشباب، بالجرأة؛ غير أنّ الأمر لا يتعلّق بالجرأة أو بالتحفظ. ولكنّه يتعلّق بقيمة فلسفيّة ما بعد حداثيّة، وهي تدنيس المقدّس واختراق المحظور كطريقة للاحتجاج على قبح العالم والاستبداد السياسي والظّلم الاجتماعي والنظام الكولونيالي. ومن أجل تأكيد هذا المبدأ نجده يوظّف ضمير الأنا. بينما يفضّل طه حسين في “الأيام” توظيف ضمير الهو، رغم أنّ حياته التي سردها خالية من انتهاك التابوهات، والتجرُّؤ على تدنيس مقدّسات المجتمع. يحقق ضمير الغائب في تلك السيرة الذاتية إيهاما بالموضوعيّة والحياد، وكأنّ المؤلّف، يتحدّثُ عن شخصيّة غائبة، ويمكن بالتالي التجرّد من كلّ عاطفة أو تحيّز عند سرد تجاربها ومواقفها.

حدود المتخيّل في رواية السيرة الذاتيّة:

كيف يمكن الملاءمة بين المتخيّل وميثاق السيرة؟ وكيف نميّز بينهما أثناء القراءة؟ يشترطُ يحيى إبراهيم على المؤلف “السّرد المباشر لرواية الأحداث في تعاقبها دون أن يتوسّع في النصيّة الروائيّة، بحيثُ تجنح عن الحقيقة التاريخيّة”[8]. الناقد من خلال هذا الشّرط يتخيّل حدودا لا يُسمَحُ للمؤلف تجاوزها حفاظا على قواعد الكتابة في هذا الجنس الهجين. بينما يجادل نقّادٌ آخرون، من العرب أنّ كاتب الرواية السيرية “ليس معنيا بالتتابع الزّمني للأحداث، أي سردها على نحو تعاقبي”[9]. إنّ التزام التتابع الزمني للأحداث من شأنه أن يُخلّ بالقيد الذي وضعه يحيى إبراهيم. أي الانسياق وراء الأحداث في تتابعها الكرونولوجي والانزياح بها عن هدفها المعلن باعتبارها رواية سير-ذاتية. إنّ الإطارين التخييلي والمرجعي متلازمان في السير الذاتيّة. “فالتخيل متحقق بالدّرجة التي تعطيها له مساحة الرواية؛ والالتزام بالإطار المرجعي أيضا”[10]، ولا أحد يطغى على الآخر. إضافة إلى ذلك فإنّ التّخييل يتسلل إلى العمل الأدبي من مداخل متعدّدة، دون أن يؤثّر ذلك على الجانب التاريخي من الأحداث والوقائع المنسوبة للبطل. إضافة إلى ذلك تلعب اللّغة الأدبيّة لعبتها الكبرى في البعد الجمالي للعمل السير-ذاتي. كما أنّ الالتزام باللّهج الاجتماعي وبالتعدّد اللساني، دوره في صناعة أدبيّة العمل الإبداعي. وسنرى ذلك رأي العين أثناء تحليل رواية “زمن الخطأ” لمحمد شكري في الجانب التطبيقي من هذه الدّراسة. وكنّا قد فصّلنا الحديث في دراسة سابقة حول هذه الإشكاليّة الأسلوبيّة أثناء دراسة “الخبز الحافي” لنفس الكاتب. إنّه منغمسٌ في بيئته الاجتماعيّة، ومتورّطٌ في لهجاتها وعاداتها اللّغويّة وردود أفعالها النفسيّة، ولعلّ ذلك سرّ استقطاب أعمال شكري محمّد لشريحة قرائيّة عابرة لحدوده الوطنيّة.

إنّ معامل التّخييل من طبيعة الأدب مهما كان جنسه. ويذهب بعض النّقاد الغربيين أنّ كاتب السيرة الذّاتيّة متحرّر نسبيّا من المطابقة مع الواقع بخلاف كاتب المذكّرات أو الاعترافات. “تترك السيرة الذّاتيّة مكانا واسعا للاستيهام، ومن يكتبها ليس ملزما البتّة بأن يكون دقيقا حول الأحداث كما هو الشأن في المذكّرات، أو بأن يقول الحقيقة المطلقة كما هو الشأن في الاعترافات”[11]. وبهذا التّعقيب على نمط الكتابة في السّيرة الذّاتيّة يشكّك فابيرو في الدّفاع عن المعنى المحدد للسّيرة الذّاتيّة التي تختلف عن المذكرات والاعترافات في ما تستدعيه من مطابقة مع الواقع على غرار السّرد التاريخي.

يقارن بعض النقاد بين مصطلحي الرواية والسيرة الذّاتيّة في محاولة لرصد القيم الجمالية التي يمكنها أن تصهر النوعين في نمط كتابة موسوم بالأدبيّة العالية. فالرواية تعني الخلق، والإبداع، بينما تعني السيرة الذّاتيّة سطحيّة المعيش. ومن ناحية أخرى، وبالذّهاب أبعد من ذلك نعتبرُ أنّ الرواية تومئ إلى لذّة الحكي ومتعة السّرد وجمال الوصف، بينما تستدعي السيرة صدق وعمق المعيش. والجمع بين هذين النمطين من الكتابة ومن التفكير الجمالي، نجد القارئ مدعوّا لطريقة جديدة من القراءة، والتعديل من أفق انتظاره.

نعود لنؤكّد مع فيليب لوجون أنّ السيرة الذّاتيّة يمكن أن تنتمي إلى نظامين من الكتابة مختلفين. “نظام مرجعي، واقعي يأخذ فيه الالتزام الأوتوبيوغرافي قيمة عقد. ونظام أدبي لا تنشد فيه الكتابةُ الشقاقيّةَ، وإن كان بإمكانها أن تقلّد وتغير على قناعات النظام الأول”[12]. والواقع أنّ الحدود بين نمطي الكتابة ليست صلبة، بل إنّ مرونة الجنسين تسمح لهما بالتداخل والتشاكل.

انحطاط العالم:

هنالك عنوانان مقترحان لهذه الرواية السير الذاتيّة، العنوان المسجّل على الصّفحة الخارجيّة للرواية، والعنوان المثبّت في النسخة الإلكترونيّة، وبين العنوانين روابط قويّة. العنوان المثبت في الصّفحة الخارجيّة للنّسخة الورقيّة هو “زمن الأخطاء”، والعنوان الآخر هو “أوراق الخطأ”، والملفوظ المشترك بين العنوانين هو الأخطاء أو الخطأ. ويبدو العنوان الأوّل أعمّ وأشمل وأعمق. يشير الزمن في العنوان الأساسي إلى المرحلة العمريّة التي سيحدّثنا عنها الكاتب، وهي الجزء الأخير من حياته. وتتوافق هذه المرحلة مع أسوأ الفترات التاريخيّة التي مرّ بها المغرب الأقصى، بفعل الحضور الكولونيالي وما يعقبه من تخلّف وفساد عام في المجتمع المغربي. إضافة إلى أنّ سنّ الكاتب، موضوع السرد السير-ذاتي، تسمحُ له بفهم كلّ الأحداث المحيطة بحياته، وتشكيل موقف حرٍّ منها. بينما نجده في الجزء الأول (الخبز الحافي)، طفلا صغيرا أو مراهقا، وهو سنٌّ لا يسمحُ له بفهم أحداث عصره، وقد كانت استجاباته للمواقف العاصفة التي مرّ بها، عاطفيّة، وأحيانا عفويّة. “فالسيرة ينظر إليها عادة باعتبارها استعادة واعية لأحداث لم تعشها الذّات السّاردة بشكل واعٍ، أو لم تعشها بنفس درجة الوعي الذي به تكتب السيرة، استنادا إلى منطق الاستعادة البعديّة”[13]. وتنطبق هذه القاعدة على كلّ من “الخبز الحافي” حيثُ كان السارد طفلا، وعلى “زمن الخطيئة” حيثُ كان مراهقا.

نُرجّحُ أنّ محمّد شكري يشير بعبارة الأخطاء إلى الأفعال الخاطئة التي صدرتْ عنه، في حينها؛ غير أنّه يضعنا في بيئة اجتماعيّة وسياسيّة بالغة السّوء، وهي إدانة مبطّنة للاستعمار الاسباني ووكلائه المحليين، المسئولين عن الفقر والجهل والفساد الأخلاقي لكلّ فئات المجتمع. إنّ الوعي الذّاتي يتشكّل من عوامل خارجيّة ومكتسبة متعدّدة. وقد تبيّن لنا في “الخبز الحافي” حجم المسئوليّة التي تتحمّلها الأسرة في انحراف الابن. عنفٌ مفرطٌ، وفقرٌ محبطٌ، وجهل مطبقٌ. هذه العوامل الأسريّة ستبقى تبعاتها تلاحق محمد شكري إلى آخر حياته، وسنرى لاحقا أثرها على سلوكاته مع أفراد الأسرة، ومع الأب تحديدا.

العامل الآخر الذي ساهم في توجيه سلوك الكاتب صاحب السيرة، هو تفشّي الدّعارة والمخدّرات والمسكرات، وسهولة الوصول إليها، باعتبارها تجارة رابحة في المجتمعات المتخلّفة. وقد كان الكاتب من ضحايا هذه الظّواهر. فقد كان يمارسها دون أدنى شعورٍ بالذّنب. “فالممنوع هنا لا يطالُ أيّ شيء؛ فكلّ شيء ثابت في الوجود والوعي: الدّولة ونظام الحياة. فالطّفل لا يرفض ولا يقبل ولا يحتجّ، ولا يشكّكُ في أيّ شيء، إنّه خارج المركز بحكم الفقر، لا بحكم الاختيار”[14]. إنّ وعيه الطّفولي الذي تشكّل خارج الأسرة ليس مؤهّلا للاختيار والتّمييز ومراعاة سنن المجتمع.

أمّا الخطاب الغائب في هذه السرديّة، فهو خطاب السلطة باعتبارها المسئول الأول عن الأمن الاجتماعي والأخلاقي في المجتمع الذي تحكمه. نلاحظ أيضا غياب الخطاب الدّيني في السّرديّة. فمن بين الشّخصيّات التي رافقت الكاتب في مسيرة حياته لا نجد أيّ صوتٍ للحكمة، أو للعقل. إنّ المجتمع الذي يعيشُ الكاتب ضمنه هو مجتمع مغرقٌ في الجريمة الأخلاقيّة بكلّ أنواعها. وهو الأمر المثير للغرابة من قبل هذا الكاتب الإشكالي.

تحمل هذه المدونة عنوانَ رواية رئيسيّا، وهو “زمن الأخطاء”، وفي ترجمة أخرى “أوراق الخطأ”، وكلاهما يوحي بأنّ الأمر يتعلّق برواية، كما هو الشّأن مع “الخبز الحافي”. إذْ أنّنا لن نعرف أنها سيرة ذاتيّة إلاّ مع انطلاق القراءة. غير أنّ المدوّنة التي بحوزتنا الآن، تحمل عنوانا فرعيّا يصرّح بأنّها “سيرة ذاتيّة روائيّة”. فالمؤلف في هذه الحالة يعفينا من حالة التّخمين والانتظار.

ما يمكن معرفته مع انطلاق القراءة أيضا أنّ اسم البطل هو نفسه اسم المؤلّف. ويوظّفُ لذلك ضمير المتكلّم، أي ضمير الأنا. ونحللّ هذه الظاهرة في الجزء الثاني من هذا الفصل التّطبيقي بكلّ أبعاده ودلالاته. غير أنّ الذي يعنينا هنا من ضمير الأنا، هو أنّ الكاتب يتبنّى كلّ ما نسبه لنفسه من خطايا (العبارة وردتْ في العنوان)، بوصفها سلوكا واعيا يعبّرُ عن إرادة حرّة لا يشوبها أدنى شعورٍ بالنّدم. إنّه يصرّح بالفعل الجنسي ويُغرق في وصف تفاصيله وطقوسه، دون أدنى اعتبار لإكراهات المجتمع، علما أنّه مجتمع محافظ وللدّين فيه ثقل أخلاقي. لم يكن الكاتب معنيّا بالتوفيق بين الرغبة والواقع المحافظ، بل أنّه يخضع الواقع لرغباته دون ضوابط. “لقد أرسى نظاما آخر في التعامل معه بديلا عن الوضع القائم وشروطه المجحفة التي لم يعد بوسع الفرد الاستمرار في الأخذ بها”[15]. إنّه يمارس الدّعارة ويسمّيها باسمها، ويتعاطى المخدّرات، ويختلسُ أموال الآخرين، ويتمرّد على سلطة الأب، دون أن يرى في ذلك جنوحا. لقد قنّن شكل وجوده بشكل انفرادي، وأسس جماعته التي يأتلفُ معها.

مع أوّل إطلالة سرديّة لمحمّد شكري، نلفيه نازلا من حافلة، يبحثُ عن سوق الكبيلات، وملامحه تدلّ على أنّه وافدٌ غريبٌ. وعندما يصلُ إلى المكان الهدف، يحيطه بنظراته الناقدة، لينقلنا إلى مطلع القرن العشرين، حيثُ تهيمن مشاهد الفقر والبؤس والتخلّف. لا شيء يطغى على مشاهد الماضي البائس. كان صوت المذياع يعمّ المكان. وهذه إشارة إلى الوسيلة الإعلاميّة الأكثر رواجا في مطلع القرن العشرين. فهي النافذة الوحيدة التي نطلُّ من خلالها على العالم الخارجي، قبل ظهور الميديا الحديثة. وفي السّوق الشعبي الذي قصده الكاتب بحثا عن السي عبد الله “حاجزٌ خشبي معروضة عليه مأكولات: سمكٌ وفلفل مقليّان، بيض مسلوق وركام خبز أسود. الذّباب ينطّ على الكلّ. قرب الوجاق، طاولة كبيرة مستطيلة حولها أشخاص يلعبون الورق، وآخرون حول طاولات أصغر، معظمهم يدخّنُ الكيف، البؤس باد على سحناتهم وثيابهم”[16]. في هذه اللّوحة توجد الكثير من ملامح العصر، ويمكن التقاطها من خلال السّرد والوصف الأدبي. من أهمّ تلك الملامح الأطفال القصّر الذين ينتشرون في محطّات الحافلات وعند المقاهي بحثا عن عملِ سُخرةٍ يؤدّونه مقابل أجرٍ زهيد. فبمجرّد أن نزل الراوي من الحافلة اعترضه طفلٌ قاصرٌ يعرضُ عليه خدمة. في رواية “الخبز الحافي” كان الطّفل محمّد شكري هو الذي يؤدّي هذا الدّور. فكان يتحرّى المقاهي ليعرض خدماته على روّاد المقهى، وقد يمارس تجارة التبغ، أو الخبز الذي تعدّه والدته في البيت.

وكان أحيانا يشتغلُ نادلا في مقهى بأجرٍ بخسٍ، في مجتمع لا حديث فيه عن حقوق الطفل، أو حقوق الإنسان، أو حقوق المرأة. كانت تلك الحقوق تُسْرَدُ في نشرات الأخبار وفي خطابات المؤسسات الرّسميّة للاستهلاك الإعلامي، ولتلميع صورة النّظام. والواقع أنّ ظلّ المؤسّسة الرّسميّة غائبٌ في المناطق الشعبيّة التي يمزّقها الفقر والجهل وتدمّرها الآفات الاجتماعيّة الأشدّ فتكا بالأمّة.

المشهد الأكثر صدما للوعي هو مشهد الذّباب الذي ينطّ على الكلّ، والذي يتغذّي من المأكولات المعروضة للآدميين، ومن أجساد الآدميين أنفسهم أحيانا. ومشهد الرّجال المتحلّقين على طاولات المقاهي يلعبون الورق أو يدخّنون الحشيش، إنّهم يشكلون مجتمعا منغلقا ومعزولا عن العالم الخارجي. إنّها حضارتهم التي يواجهون بها الاستعمار الغربي، بل إنّها حضارة تُصْنَعُ على أعين الغرب، وبمباركة منه وبحضوره الفعلي. وهي خطابهم الذي يمثّلهم أمام العالم، في فترة يشتدّ فيها التزاحم بالمناكب حول المصالح الكولونياليّة. تتكرّرُ تلك المشاهد الشعبيّة من بداية السّرديّة إلى نهايتها، وهي صور نمطيّة ومحنّطة، وغير قابلة للتحوّل النّوعي. إنّها العمق الثقافي للمجتمعات العربيّة المتخلّفة، ولا يملك المثقّفون والكتّاب القدرة على اختراقها وتغيير سننها. ستظلّ دائما وكرا للجريمة وللمحظور، وللعنف اللّفظي والجسدي. ومن رحم تلك البيئة انبثق محمّد شكري، ناطقا بلسانها ومعبّرا عن حالاتها، وعن رؤيتها للعالم، وعن أحاسيسها وطموحاتها استيهاماتها الحسيرة. إنّ زجاجة خمرٍ، وامرأة عاهرة في ليلة مظلمة، تصنعُ سعادة تلك الشّريحة من البشر.

التقى محمّد شكري بالسّي عبد الله الذي كان يبحثُ عنه. دون ا، تكون بينهما سابق معرفة؛ وجده يبيع القهوة والكيف، فطلبهما ليصنع سعادته، وظلّ هنالك حتّى اللّيل، وهو مع الغرباء. “في الليل غلبني الكيف والجوع والغربة. رشفتُ من كؤوس شاي بعضهم، ورشفوا من كأسي، أحسستُ بالألفة بينهم”[17]. تحت وطأة التّخدير تزول الحواجزُ بين الغرباء، أو هكذا يبدو لهم. إنّهم يسقطون في عالم وهمي، لا علاقة له بالواقع المادّي، فيشعرون بوجود ناعمٍ، منفصلٍ عن الواقع المشكّل من تناقضات لا تقبل التفاوض، ومن أوجاع لا شفاء منها، ومن هموم لا صفاء بعدها. من أجل ذلك سرعان ما يتآلفون، وتتبدّد غربتهم وتتعزّزُ حميميّتهم، ولكن إلى حين تزول غشاوة المخدّر، وتنقشعُ الحجب التي كانت تفصل بينهم وبين الواقع الصّلب. طلب السي عبد الله من السّارد أن يغادر المقهى لأنّ ساعة الإغلاق قد حانت، وهكذا وجد الزّائر نفسه يهيم في مدينة لا يعرفها، ويتعمق شعوره بالتّيه، والغربة الوجوديّة؛ ليس فقط لأنّه يجهل المنطقة، ولكن لزوال مفعول المخدّر. يقول السارد وهو يصف نفسه باعتبارها مركزا للعالم: “همتُ في طرقات المدينة، لا أثر للحرّاس من رجال الأمن، أو حرّاس متاجر الأحياء والسّيّارات كما في طنجة. منتصف الليل أو أكثر؛ تائها أمشي، لا شيء فيها يخيفُ؛ طقسٌ معتدلٌ وليلة قمراء، منتزه يطلّ على البحر، أضواء تلمعُ في البحر”[18]. إنّ اعتزال العالم بهرجه وضجيجه، وتغييب الآخر من مجال الرؤية، يُسعد الأرواح المتمرّدة على قوانين المجتمع. إنّ محمّد شكري في قرارة نفسه حاقدٌ على مجتمعه، ورافضٌ لقينه ولنظامه الأخلاقي، ولعاداته. من أجل ذلك يحاول تأسيس مجتمعٍ بديلٍ، هو النقيض الوجودي لعالم الآخرين، حيثُ المصالح الطّبقيّة المتوحّشة، والنفاق الأخلاقي المتجذّر، في مجتمع هشٍّ قد نخرته الكولونياليّة من الدّاخل، ولم يعد قابلا لرأب الصّدع. إنّ مجتمع محمّد شكري في الفترة الكولونياليّة غير قابل للبعث، ولا بدّ من إعادة صياغته انطلاقا من درجة الصّفر. وفي حالة العجز عن ذلك اختار محمّد شكري أنْ يؤسّس لكوجيتو مضاد. “أنا أسكر إذا أنا موجود”. فلم نعثر له في “الخبز الحافي” وفي “زمن الأخطاء” عن موقف يخلو من المسكرات أو المخدّرات والنّساء. تلك هي معالم الوجود الممتلئ لديه.

عندما اختلى في جوف الليل، ولم يعد يسمع صوتا بشريّا، ولا مشهدا اجتماعيّا، وكان وحيدا قبالة البحر وضوء القمر المنعكس على أمواجه، أحسّ بالانتهاج والسّكينة، وعودة الروح من مرقدها. تدفع كراهيّة المجتمع إلى شهوة العزلة. ولعلّ ذلك هو دافع الابتعاد عن الأسرة، التي لم يعد يزرها إلاّ مرّة في العام، أو أقلّ من ذلك، رغم أنّه لا يملك بيتا يركن إليه، وإنّما يعيش في الحانات وبيوت الدّعارة، وأحيانا في الشوارع المهجورة، أو عند عتبات المقاهي، أو في أحضان العاهرات ورفاق السّوء. إنّ مجتمعه مجتمع الرّذيلة من منظورنا نحن، بينما نجده في كلّ خطاباته يؤسس للغة محايدة، دون أقنعه ودون محاذير، أو ممنوعات. فالأشياء تسمّى بمسمّياتها دون تكنية. فتغدو مفردات الجنس والمخدّرات والمسكرات لغة الخطاب اليومي في مجتمعه الكبير.

يشعرُ محمّد شكري في خلوته بخفّة الوجود؛ لا شيء يُعكّرُ صفوه، ولا شيء يفسدُ مزاجه، لا شيء يذكّره بمجتمع الكراهيّة والنفاق، والعنف. “لا شيء عندي أخشى ضياعه في هذه اللّيلة؛ إنّني مثل هذه الزّهرة التي أسحقها الآن بين أصابعي. سأنام هنا أو في أيّ مكانٍ آخر، هواء البحر يخفّفُ نعاسي”[19]. إنّها حالة السكينة والخفّة من هموم الآخرين وتبعات الوجود ضمنهم. إنّ الوجود ضمن الجماعة مكلفٌ، ومرهقٌ للذّات، ومفسدٌ لقيم الروح الخالصة. فأنت ضمنهم ملزمٌ بالعنف، والكذب، والنفاق، ومراعاة المصالح الخاصّة كيفما كان الأسلوب، فلا مجال لما يُسمّى أخلاقا. إنّها قوانين وتشريعات وضعها المهيمنون على المجتمع من أجل ألاّ يزعج سكينتهم المسحوقون.

نتابع الرّاوي في رحلته، وتيهه الليلي. فقد عاد إلى حيّ الكبيبات، وانزوى في ركن من أركان السّاحة في انتظار طلوع النّهار. فهو لا يملك ثمن الفندق، ولا رفيقا يسعفه. ومقهى السي عبد الله مغلقٌ. وعليه أن ينتظرَ طلوع النهار للالتحاق بالمدرسة التي سينتمي إليها متعلّما، وهو في سنّ العشرين. “استيقظتُ باكرا، امتلاء مثانتي يؤلمني، وشيئي منتصبٌ، حركة النّاس تدبّ في ساحة إسبانيا، (….)، في مرحاض المقهى الإسباني تصاعد بولي إلى فوق مثل نافورة؛ تبلّل سروالي ويديّ”[20]. من الواضح أنّ السّارد قضّى ليلته في الشارع، ونام في ركن من أركان المقهى. واستيقظ صباحا ليجد نفسه مبللا بالبول. وما يلاحظُ في هذه السّرديّة اسم الشارع الذي تواجد فيه الراوي. إنّه ساحة إسبانيا. فالأماكن هي الأخرى ملوّثة بآثار الكولونياليّة. إنّ حضور أسماء الأماكن وأسماء العلم الإسبانيّة واردٌ بكثرة في هذه السّرديّة. كما أنّ الفنادق والحانات الإسبانيّة، ودور الدّعارة، منتشرة في كلّ القرى والمدن التي شكّلت فضاء اجتماعيّا أثيرا لدى الراوي، خلال طفولته وشبابه. ومن أهمّ سمات هذه الأماكن القذارة والفقر والرّذيلة.

كان السّارد يبحثُ عن المدرسة التي سينتمي إليها، وهي مدرسة المعتمد بن عبّاد. إنّها “حيّ مليء بنبات الصبّار والغبار، والأزبال والأراضي البور. مساكنه أكواخٌ من قصدير وطوب وأهله بدويّون. سحناتهم كالحة مثل أسمالهم. أطفالهم يتغوّطون ويبولون قرب أكواخهم”. في هذا الحيّ توجدُ مدرسة، يتردّد عليها تلاميذ ومعلّمون وعمال وأولياء تلاميذ. إنّ كلّ علامات الفقر والجهل موجودة إلى جانب المدرسة التي تُعتَبَرُ معلما من معالم التنوير والتّحديث. وهذا يعني أنْ لا فرق بين المدرسة والمزبلة، فكلاهما وكرٌ للرّذيلة والقذارة. وكلّ ذلك الكمّ من المتناقضات هو من إنتاج الكولونياليّة التي تهيمن على المغرب العربي منذ قرون، ولا تزال هيمنتها تمنع نهضتنا إلى يومنا هذا، وإن كانت أساليب الهيمنة قد تغيّرت من الاستعمار الاستيطاني إلى الاستعمار الجديد.

إنّ السّارد لا يصرّح بهذا الخطاب ما بعد الحداثي، ولكنّه يتركُ انطباعا من خلال مضمرات ثقافيّة ميتا-سرديّة تسكن الرواية، وتخصِبُها. إنّ الانتشار الكولونيالي من خلال مَعالِمه الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأمنيّة لا يخطئه الإدراك في كلّ لحظة من لحظات هذه السّرديّة الذّاتيّة. ولَإن كان السّارد يتحرّى الواقعيّة الماديّة في الوصف وفي لغة السّرد، لكي يبدو خطابه موضوعيّا، وخاليا من الإدانة، أو تبخيس الذّات، فإنّه مع ذلك يؤسّس لخطاب الرّفض من حيثُ يقصدُ أو لا يقصدُ. إنّ غياب سلطة الدّولة في كلّ الأماكن التي تتناسلُ فيها الجريمة الاجتماعيّة والأخلاقيّة، ليس غيابا محايدا.

ماذا يعني أنْ تحاطَ المدرسة بالمزابل، والمتاجر السّريّة للمخدّرات، والأكواخ البئيسة والقذرة؟ هل هو تدنيسٌ لرموز الدّولة، أو ترذيلٌ للمؤسّسات الثقافيّة والتّربويّة، أم هو علامة هيمنة للفساد بكلّ أشكاله؟ يبدو أنّه كلّ ذلك جملة وتفصيلا. إنّ وصف الأماكن التي ترتادها الشخصيّة، وحتّى وإن كانت أماكن متخيّلة لا يخلو من دلالة تتعلّقُ برؤية العالم للشخصيّة الواصفة، وهي رؤية إيديولوجيّة راديكاليّة في رفضها للواقع الاجتماعي والثقافي للبلاد. ما يجبُ الإشارة إليه هو أنّ السيرة الذّاتيّة تختلف عن الرواية في أنّ المرويّات في الأولى والأحداث والوقائع، منجزة، وتتمّ استعادتها بطريقة أدبيّة، أي بلغة مخالفة للغة التقرير والخبر والتّوثيق. بمعنى أن الوقائع الماديّة ووصف الأماكن لا يطالها الانزياح أو التّحريف. أمّا في الرواية فإنّ الحبكة السّرديّة بتفاصيلها وعموميّاتها هي من هندسة الروائي. وهو يشكّلها وفق رؤيته للعالم، ووفق الفلسفة التي يرجو تبليغها لقرّائه.

حمل محمّد شكري توصية من أحد رفاقه إلى مدير مدرسة ابتدائيّة، من أجل أن يتعلّم. لم يكن مهتمّا بهذا الأمر لمّا كان صغيرا، في سنّ التمدرس. ولم يكن أبوه منشغلا بهذا الأمر أيضا. لقد كان همّه منصبّا على تحصيل المال الذي ينفقه في الحانات. قابل مدير المدرسة، ودارا بينهما حوارٌ لا يخلو من طرافة. قال المدير إلى الشاب محمد شكري: “إنّ القسم الدّراسي الذي تستحقّه يدرسُ فيه أطفال، وأنت لك لحية، والذين هم أكبر منهم سنّا يحفظ معظمهم القرآن، والجاروميّة وابن عاشر.

أجاب الشاب: “(معك حقّ ولي لحية أخرى أسفل بطني)؛ لمستُ وجهي بتلقائيّة، لم أحلّقه منذ أيام، وكنت أحلّقه كلّ يوم عسى أن تطيع المتمنّعات”[21]“. من الواضح أنّ ما ورد بين قوسين لم يجهر به الولد لمدير المؤسسة، ولكنّه فكّر فيه، فهي اللغة الوحيدة التي يحسنها. وهي لغة المواخير والحانات، والشوارع القذرة. إنّ المحيط الذي يسيّجُ حياته والبشر الذين يغشاهم، لا يمكن أن يعلّموه إلاّ اللّغة الجنسيّة. فالجنس هو الذي يوجّه سلوكه. إنّه يقولُ أنّه تعوّد على حلق لحيته كلّ يوم من أجل إغراء النساء.

وفي الأخير تُجرى اختبارات أوليّة للشّاب الذي يبلغ عشرين سنة، ويُدمجُ في المدرسة ويحصل على الشهادة الابتدائيّة، وعلى مؤهّل يسمح به بأن يصبح معلّما.

أثناء العودة من المدرسة لدى زيارته الأولى يصف لنا السّارد ما التقطته عيناه، وقد سلك طريقا غير التي قدم منها. “سلكت طريقا غير الرّئيسيّة المعبّدة المزفتة التي جئت منها؛ الطّريق مغبرّة، قدماي تغوصان في ترابها الرملي؛ على جانبيها سياجات من التّين الشّوكي، وأكواخ يخرجُ منها أطفال حفاة، أنصاف عراة وسخون، وكلاب هزيلة، لقيطة ودميمة، ودجاج ينقّبُ الخراء؛ في نهاية الطّريق بئرٌ عارية معطّلة”[22]. قد يتساءل القارئ ما هو غرضُ الكاتب من وصف الطّريق إلى المدرسة، أو محيطها، أو وصف مساكن الأهالي التي يمرّ عليها طريقه. لماذا لا يقتصرُ وصفه على الأماكن التي هي جزء من حياته ومن تجاربه، وعلى البشر الذين يتعاملُ معهم؟ نعتقدُ أنّ الرّاوي يسعى إلى أن يقدّم لنا نظرة بانوراميّة عن واقع بلده، وعن حجم البؤس الذي يعيشه النّاس، في مجتمع ينهشه التخلّف والجهل والولاء للمستعمر. كان هؤلاء القطعان الشّاردة من الأطفال بأسمالهم البالية وأجسادهم المقمّلة يعيشون في طور الطّبيعة، مع الحيوانات المتوحّشة والأليفة، القطط والكلاب والدّجاج والحمير وما شابه ذلك. كانوا يسكنون الأكواخ المشكّلة من الطّين والحجارة، معزولين تماما عن تحوّلات الحداثة. كانوا يعيشون العصور الغابرة.

من ناحية أخرى وتعقيبا على كلّ ذلك، فإنّه لا يخفى على أحدٍ أنّ الكاتب يصفُ هذا الواقع البائس فقط من أجل تمثيله جماليّا، ولكن من أجل تقبيح غياب السلطة التي جرّدت تلك الكائنات الآدميّة في البوادي والأرياف والمدن غير الكولونياليّة، من إنسانيّتهم، وتركتهم يعيشون عصر ما قبل الحضارة. ولتعزيز موقف الإدانة للسلطة العميلة للاستعمار يصف لنا السّارد، وهو المؤلّف نفسه، مظاهرات صاخبة للتّنديد بالباشا. “كان باشا المدينة قد ذهب إلى سّوق “ثلاثاء الريصانة” وألقى هناك خطابا على الفلاحين، لم يرقهم خطابه، فشتموه وضربوه بالحجارة، وضربوه بالهراوات، فأطلق حرّاسه النّار عليهم”[23]. إنّها أحداث نمطيّة في أنظمة الاستبداد السياسي. يلقي المسئولون خطابات تهديد ووعيد، ووعود لا تتحقّقُ أبدا، فيتمرّد الفلاحون والمسحوقون ويلجؤون إلى إثارة الشّغب ويحملون شعارات معادية، للباشا، أو لممثّلي النظام، وقد يمرّون إلى تدمير المنشآت إذا تعرّضوا للقمع. وتتكرر الأحداث إلى أن تصل إلى عداء مستحكم، فإمّا الثورة الشّاملة أو القمع الدّموي والمجازر الشعبية. “كلّ الناس يعرفون الآن أنّ الباشا ضدّ الاستقلال”[24]. وكلّ الشّعوب المضطهدة تعرفُ أنّ وكلاء الاستعمار ضدّ الاستقلال وضدّ الحريات السياسيّة وضدّ النّهضة بشكلٍ عام. فالاستبداد السياسي لا يعيش إلاّ تحت الوصاية وتحت الحماية الأجنبيّة. إنّه يستمدّ شرعيّته من ولائه للامبرياليّة الغربيّة. فهي التي تعطيه الإقرار السياسي، وتوفر له الحماية من كلّ أشكال المقاومة المحليّة. وطالما أنّ النظام العالمي لا يزال على حاله منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، فإنّ الأمور في العالم العربي لم يتغيّر.

يصفُ المؤلف أوّل يوم له في المدرسة، عندما كان محطّ تندّرٍ من زملائه: “تهامس التلاميذ ناظرين فاحصينني. أحسستني مسروقا بينهم. لم يسبق لي أن كنت بين أربعين شخصا يفحصونني من تحت إلى فوق. في القاعة تلاميذ في مثل سني، لكنهم يعرفون القراءة والكتابة. على السّبّورة درسٌ مكتوب، وأمامهم الدّفاتر. سأعرفُ أنّ هؤلاء الكبار جاؤوا من البادية”[25]. الشّعور بالحرج والغرابة من الذّات، والامتعاض من تحديقة الآخرين ونظراتهم السّاخرة، والقلق من الموقف المفاجئ، تلك كانت مشاعر اليوم الأول في المدرسة. في الحالات العاديّة يكون اليوم الأوّل في المدرسة عيدا لدى الأطفال، يلبسون فيه أجمل ما عندهم ويأتون إلى المدرسة صحبة أوليائهم، وعلى وجوههم لذّة الاكتشاف. أمّا في حالة محمّد شكري، فإنّه قدم وحيدا، لأنّه كان منبوذا لدى والده، وهو يعيش شريدا فريدا، لا مأوى ولا مصدر رزقٍ، ولا نقطة ارتكاز تُشعره بالدّفء الإنساني، وبالحماية، وبلذّة الانتماء إلى أسرة شريفة. لقد كان مجتمعه المنبوذ من قبل المؤسسات مجتمعا للرّذيلة، ولا يُقدّمُ إلاّ شعورا بالإحباط والهزيمة والانكسار. كانت كلّ المواقف والمشاهد التي وصفها أو عاشها في هذه السّرديّة تشيرُ إلى انحطاط العالم وقبحه، وتكشفُ عن استفحال غريزة الشرّ في الإنسان المغربي المدمّر بفعل الاستبداد السياسي والحضور الكولونيالي. وفي ذلك الجوّ المحموم بالفساد الأخلاقي والسياسي يلجأ محمّد شكري في سنٍّ متأخّرٍ للمدرسة يلتمس فيها الخلاص من جحيم المخدّرات والدّعارة، فهل تكون المدرسة بوّابة عهد جديد، دون كراهيّة؟ أم أنّها هي الأخرى وكرٌ بديلٌ للفساد والإفساد؟ ذلك ما سنتعرّف عليه من خلال الصّفحات القادمة.

يعبّر التلميذ محمّد شكري عن قلقه من مستقبله الدّراسي من أوّل حصّة، عندما شاهد زملاءه ينقلون الدّرس في دفاترهم، وهو لا يعرف من أين يبدأ وكيف يفكّ رموز الحروف. “كانت رموز العالم تنتقل إلى صفحة صديقي، وصفحتي بيضاء، أحدّقُ فيهم وأفكّر: يكتبون بخفّةٍ. أيتركني المدير أتعلّمُ مثلهم؟ إذا لم يتركني فحتما سأعود إلى طنجة لكي أعاشر محترفي الفسق دون أن أعرف شيئا مما يحدثُ في هذا العالم من خلال رموزه. ما دمت قد جئت فينبغي لي أن اعلم. الحياة الحقيقيّة توجد دائما في الكتب”[26]. يبدو من خلال هذه السّرديّة، هذا الانكباب على الذّات التي تعيش عزلة فكريّة وروحيّة قاتلة، وهذا القلق العميق على المستقبل البائس. يدرك هذا التلميذ أن البديل عن المدرسة هو الفسق والفجور، والعيش على هامش المجتمع في الوسط الفاسد، والدّائرة السامّة للوجود. إنّه يشعر بضرورة إنقاذ الذّات من الحفرة التي أوقعه فيها والده، من خلال المدرسة. إنّ إدراك حقيقة العالم تتمّ عبر القراءة والتعبير عن هذه الحقيقة يتمّ عبر الكتابة، وباجتماعهما يعيش الكائن الإنساني الوجود الممتلئ.

مع أوّل حصّة يتعلّمُ فيها التلميذُ طقوس الكتابة يتعمّقُ شعوره بأرضيّته الهشّة، وبمحيطه المنحطّ. “مكاني ليس بينهم، لقد جئت من عشيرة القوّادين، والّصوص والمهرّبين، والقحاب (….)، عزّيتُ نفسي أنّني في مطهرٍ إذا”[27]. تمثّلُ المدرسة رغم كلّ التحفّظات التي تحيطُ بها قارب نجاة، ومعبدا تتطهّرُ فيه الذّات المذنبة من خطاياها. لقد كان المراهق محمد شكري يدرك أنّه يعيشُ على الخطايا، ليس فقط عند كتابة هذه السرديّة، ولكن عندما كان يعيش تجاربه المنحرفة. كان مجتمعه منغلقا على نفسه، فلا نجده إلاّ في حانة أو في مبغى ليليّ، أو في مقهى، أو في بيت عاهرة، وعندما يذهبُ لزيارة والدته، فإنّه سرعان ما يعطيها مبلغا من المال وينصرف ليبيت عند إحدى صديقاته التي تكبره سنّا، ليمارس الجنس دون أدنى شعورٍ بالذّنب. نعتقدُ أنّ محمد شكري يحمّلُ المجتمع مسؤوليّة انحرافه، وأوّلُ من دفع به إلى الشّارع هو والده؛ وقد حلّلنا بعمقٍ علاقته بوالده في دراسة سابقة لرواية “الخبز الحافي”. وقد كان للمناخ الاجتماعي والسياسي دوره في تضليل الشباب المغربي واضطهاد الطّفولة وازدراء النساء والدّفع بهنّ إلى الدّعارة.

جماليّات السّرد في السير الذاتي:

استفاد المؤلّف في هذه السيرة الذّاتيّة من الكثير من تقنيّات السّرد الروائي. فقد جزّأ العمل إلى فصول، لكلّ فصل عنوانٌ مستقلّ. وتمكّن هذه البناء من ضغط محتوى الفصل في عنوان واحد، ومجموع العناوين هو حصيلة السيرة الذاتية كلّها. تعتبر هذه التقسيمات من تقاليد الكتابة الروائيّة؛ يعمد الروائي إلى تسجيل توقف من حين لآخر، من أجل تسجيل انتقال إلى برنامج سردي آخر، ولتبطيء عملية السرد وأفعاله المتلاحقة، وخصوصا في الروايات التي تتميز بالتركيز الدرامي. وإذا فإنّ الوظيفة الجوهريّة للتقسيم “تتمثّلُ في إحداث الوقفة لحركة السّرد اللاهث من خلال تصاعد الأحداث وتشابكها؛ فتأتي هنا الوقفة منطقية ومبررة عبر الوحدات من خلال الإشارة إلى الفصل الثاني والثالث وهكذا”[28]. وبداخل الفصول يختلطُ المتخيّل بالواقع والسِّيَري إلى درجة يصعبُ معها التعرّف على حدودهما. فالرواية جنسٌ منفتح ويستطيع أن يستوعبَ أنواعا أدبيّة شتّى، شعريّة أو نثريّة، بما فيها الحوار.

نبحثُ في هذا المطلب عن الأدبيّة، أي مستويات التّخييل التي تميّزُ السّرد الأدبي عن السّرد التاريخي لمسيرة الشّخصيّة التي لا تحتفي إلاّ بسرد الأحداث والوقائع والتجارب المعيشة، كما حصلت. ويكون سرد هذه الحالة على الدّرجة الصّفر من الأدبيّة. وسيكون لزاما علينا في هذه الحالة التّمييز بين ما هو تخييل وما هو واقعي مُتعلّقٌ بميثاق السيرة الذّاتيّة.

نعتقد أنّ مبدأ الأدبيّة يكمن في التفاصيل والجزئيّات، لأنّ المؤلف سيحافظ على الواقعيّة في المحطّات الأساسيّة لحياته. مثل الأعمال التي مارسها في مجتمعه، وعلاقته بأسرته، وتجربته في المدرسة، وسرده للأحداث التاريخيّة المتعلّقة بالحضور الكولونيالي، والثورة على الباشا. إنّ مثل هذه المحطّات هي الفصول الفعليّة والتاريخيّة للسيّرة الذّاتيّة. أمّا بقيّة التفاصيل والمخيال الرّمزي للطفل، ثمّ للمراهق، ثم للشّاب، وما ينتج عن ذلك المخيال من استيهامات وتداعيات واستعارات، فهي المادّة الجماليّة المشكّلة للأدبيّة. “إنّ صيغة التذكّر الهادئ لماضينا القديم جماليّة وقريبة من حيثُ الشّكل إلى القّصّة (…)، فكلّ ذاكرة للماضي، هي إلى حدٍّ ما جماليّة”[29]. بعكس سرد المستقبل الذي عادة ما يتّشح بالأخلاقيّة.

إضافة إلى ذلك توجدُ شخصيّات يشيرُ إليها المؤلّف ويسردُ قصصها، كما حصل مع الثورة على الباشا، أو الإشارة إلى المشرّدين والسّكارى، الذين لم تتّصل بهم حياته بشكل مباشر، ولكنّه أشار إليهم من باب الاستطراد، من أجل مراكمة ما يصلح لتشكيل رؤية للعالم. فالذّات ليست كائنا معزولا، وإنّما يعيش ضمن مجموعة، والإشارة إلى الآخر تعني أنّ الذّات لا تعيش العزلة الاجتماعيّة، وتشعر بجوارها الإنساني. فالوجود البشري “هو وجود جماعي، وبدون الآخرين لا أستطيعُ أن أوجد”[30]. ما هو ملاحظ في هذه المدوّنة، هو هيمنة ضمير الأنا، على السّرد، وعلى هامش هذه الهيمنة توجد ضمائر الآخر الممتدّ عبر الفضاءات التي يرتادها المؤلّف وتلتقطها عينه ويخزّنها وعيه. فمن خلال تلك المشاهدات والحوارات والتجارب يتشكّل الوعي الذّاتي، وتتبلور الرؤية للعالم. “إنني أحقّق وعيي بذاتي وأصبحُ ذاتي عبر كشف نفسي للآخر، عبر الآخر وبمعونته هو. إنّ الأفعال الأكثر أهميّة ، أي تلك التي تشكّلُ الوعي بالذّات تتحدّد بالعلاقة مع وعي آخر”[31]. من أجل ذلك لا يُرى محمّد شكري خلال سيرته الذّاتيّة إلاّ مع الآخرين. إنّه ليس انطوائيّا رغم العزلة التي كان يعيشها في الأسرة، بسبب القطيعة مع الأب.

لقد كانت فاتحة هذه السيرة الذاتية وكأنّها رواية خالصة. إنّنا نقرأ سردا أدبيّا تخييليّا. ينزلُ الشّابّ من الحافلة ليجد قبالته طفلا يتعلّقُ به ليخدمه مقابل أجرٍ. “قدّام الحافلة التي نزلتُ منها، اقترب منّي طفلٌ متّسخٌ، حافي القدمين، في حوالي العاشرة من عمره”[32]. ثم يجري حوار مقتضبٌ بين الطفل والرّاوي، يقود هذا الأخير إلى مقهى السي عبد الله. وهنا، تلتقط عينا المؤلف مظاهر الحياة الشعبيّة بعفويّتها وبدائيّتها، وهو يمرّر من خلال الوصف البانورامي موقفه من المشهد دون التّصريح به. فالوصف في حدّ ذاته يحمل موقفا من العالم الموصوف، ورؤية للمجتمع، دون أن يكون جزءا عضويّا من ميثاق السيرة. بل إنّه هامشها وتخومها وحدودها.

لقد كان مطلع هذه الرواية سردا أدبيا تخييليّا بامتياز، في مفردات اللّغة وبنية المقاطع السّرديّة، وتتابع الأفعال. ذلك أنّ “السيرة الذاتية مثلها مثل سائر ضروب الكتابة منغرسة في التّخييل، يستثمرُ مؤلفها المسافة السّرديّة الفاصلة بين الرّاوي والشخصيّة والمؤلف لخلق عالم روائي واسع الآفاق متشابك الأبعاد، ينحو إلى الاستقلال عن الواقع التاريخي المرجعي”[33]. ولذلك يمكننا أن نقرأ هذه السيرة الذاتية، كأنها رواية خالصة، وما يحصل من تشابه أو تطابق بين المؤلّف والبطل الروائي يمكن أن يكون مجرّد إسقاطٍ، أو قد يكون تطابقا مقصودا من أجل إخراج السيرة الذّاتيّة إخراجا جماليا كما هو الشأن في الأيّام لطه حسين، أو “الخبز الحافي” و”زمن الأخطاء” لمحمّد شكري. وفي مثل تلك الروايات يصّرح الكاتب بطبيعة الكتابة من خلال عنوان فرعيّ على ظهر الكتاب.

“ينظر إليّ وإلى حقيبتي البالية؛ أعطيته خمسة سنتيمات إسبانيّة. تشاكرنا وانصرف. السّوق عامر ببائعي المواد الغذائيّة؛ هناك الجالسون والمتجولون؛ الشمس تغرب، أصوات الإذاعات العربيّة تُسمَعُ في الدّكاكين، تمشيتُ في السّوق بضع دقائق. سألت بائع ثياب بالية عن قهوة السي عبد الله، أشار إليها بحركة سريعة، ولامبالاة، ومضى ينادي في المزاد العلني بأثمان الملابس التي يحمل بعضها على كتفه وأخرى في يديه”[34]. إنّ كثرة الأفعال وتتابعها السّريع، وقصر الجمل، التي تفصلُ بينها فواصل، بالإضافة إلى المزاوجة بين السّرد والوصف، إنّ كلّ ذلك عناصر أساسيّة مشكّلة للأدبيّة، وتساهم في تصعيد النّفس الدرامي الذي يدفع بالتطور السّريع للحبكة السّرديّة. لقد بدا وكأنّ الرّاوي يرغبُ في احتواء المشهد العام بكلّ تفاصيله، وأشيائه الخفيّة والظّاهرة، حيثُ تختفي أصواتٌ ومشاهد لا يلتقطها إلاّ أديبٌ حصيف الرّؤية. فهو يصفُ حركة الباعة المتجوّلين، والجالسين، ويصف الطّفل الذي خدمه، وحقيبته البالية، كما يصف غروب الشّمس، واصوات الباعة الذين يروجون لبضاعتهم، وأصوات الإذاعات العربيّة التي تذكّرنا بالستّينات والسّبعينات من القرن الماضي. أمّا الأفعال فإنّه يذكر ما قام به هو والطّفل الذي ظهر له عند نزوله من الحافلة، كما يذكر أفعال الباعة على تنوّعها وكثرتها. إنّ كلّ هذه المشاهد والأفعال والحركات والإشارات تسبق عمليّة التحاقه بالمدرسة، وهو الفعل المتعلّق بشكل مباشر بميثاق السيرة. وأثناء تحقّق هذا الفعل توجد هوامش للتخييل نستعرضُ أهمّها.

وصل الرّاوي إلى المدرسة، واختلط بالتلاميذ، واثناء ذلك، وكعادته يسلّط عينيه على المشهد العام الذي يعجّ بحركة لا عهد له بها. “رنّ الجرس، من خلال نافذة المكتب أرى السّاحة والتلاميذ يتسابقون على المراحيض والصّنابير. يتدافعون، يتقافزون، تخيّلتني بينهم. فاتني أن أكون واحدا منهم. دخل شخصٌ متعجرفٌ حاملا كتبا”[35]. سبعة أفعال متلاحقة، متسارعة لمحاكاة سرعة حركة التلاميذ داخل السّاحة، ومحاكاة تلاحق الخواطر والمشاعر المتضاربة والانطباعات الشّاذّة أحيانا، التي تخترق مخيّلة الراوي وهو يتأمّلُ المشهد. المقصود بالأسلوب في السّرد الأدبي هو “كلّ ما يخلخلُ شفافيّة اللّغة المكتوبة ويبعدها عن درجة الصّفر، ويبعد الاشتغال على الكلمات سواء تعلق الأمر بالمحاكاة السّاخرة أو بلعبة الدوال، والنظم”[36]. تتّشحُ لغة الكاتب بدرجة عالية من الأدبيّة المقصودة بغاية تجميل النصّ وشحنه بالمعاني والظلال. وينطبق هذا الحكم الجمالي على كلّ مراحل سرد القصّة، سواء ما تعلّق بالسّرد والحكي أو الوصف، وسواء ما تعلّق بهامش التّخييل أو بسرد الأحداث الواقعيّة، على غرار الاختبار الذي أجري للتلميذ قبل أن يُدمج في المدرسة، أو الزيارات القليلة التي يؤدّيها السّارد لوالدته، أو الصّراع المرير مع الوالد، علما أنّه كاد يكون غائبا في هذه السّرديّة. ولأنّ هذا النصّ على درجة عالية من الأدبيّة في لغته وفي مستوياته التّخييليّة، فإنّه يمكن أنْ يقْرَأَ كرواية كما يُقرأ كسيرة ذاتيّة. ولولا التطابق المختوم باسم العلم بين السارد والمؤلف والشخصيّة لاستُبعِدتْ فرضيّة السيرة الذّاتيّة ولاعْتُبِرَ النصّ رواية متخيّلة، فلا شيء يمنع ذلك من الناحية الفنية والبنيويّة.

بالعودة إلى المدوّنة وتأمّل جوانبها الجماليّة، نعثرُ على بعض المقاطع السّرديّة والوصفيّة التي قُصِدتْ لذاتها من أجل إدخال روح الدّعابة في حوار المؤلّف مع القارئ. كانت الحصّة الأولى للتلميذ محمد شكري مع معلم الحساب. فقد انزعج التلميذ من معلّمه بسبب الصّعوبة التي وجدها في تلك المادّة، وقد أرجع اللّوم على المعلم. “إنّ القرود تتلاطفُ فيما بينها، أمّا هذا فلم يفعل، شعرتُ أنّي بذلتُ مجهودا كبيرا، أن أحمل خمسين كيلوغراما من الثقل وأسيرُ به كيلومتر أخفّ عليّ من بذل هذا المجهودٍ الذّهني”[37]. توجد طرق متعدّدة للتعبير عن الانزعاج من درس في الحساب، وأفضلها في النصوص الأدبية الأكثر إثارة للطّرافة والدّعابة وأحيانا السّخرية. فتفضيل القرود على معلم الحساب قُصِدَ به نقد خشونة المعلم وفضاضته. أمّا حمل ثقل خمسين كيلوغراما فهي كناية عن صعوبة مادّة الحساب وكراهيته لها.

من خصائص بنية هذه السيرة الذاتية أنّ المؤلّف في سرده للسيرة يعتمد على الاستطرادات بكثرة. ففي الطّريق إلى المدرسة يمعن في وصف الطّريق، ووصف المحيط بشكل عام، وفي العودة إلى المدينة يصفُ لنا الثورة على الباشا بتفاصيلها، والهتافات التي كان المترّدون يردّدونها. ثم يتابع المشهد إلى نهايته وما حصل لحارس الباشا الذي كان يطلق النار على المتظاهرين، والمصير الذي لقيه في النّهاية. إنّ هذه الاستطرادات من شأنها أن تغني سّيرة الذّاتيّة وترفع هامش المتخيّل حتّى ليكاد القارئ يجزمُ بأنه مه نصّ روائي.

خاتمة:  

تعتبر السيرة الذاتية التي بعنوان “زمن الأخطاء” الجزء الثاني والمتمم للجزء الأوّل تحت عنوان “الخبز الحافي” والذي غطّى الطّفولة الأولى وبداية المراهقة. بينما يمسح هذا الجزء الفترة المنطلقة من فترة التمدرس، وهي سنّ العشرين، وما بعدها. كان محمّد شكري كما بدا في هذه الرواية بعيدا عن جوّ الأسرة، إذا استثنينا زيارات عابرة من حينٍ لآخر، لوالدته، في حين يظلّ العداء مستحكما بينه وبين والده. وكان مجتمعه الصغير على دراية بهذا العداء، ما جعل أفراد أسرته وجيرانه لا يخبرونه بوفاته، فلا يعلم بها إلاّ بعد انقضائها بأسابيع عن طريق الصّدفة.

يصفُ لنا الروائي ظروف تمدرسه وسهولة اندماجه في الوسط المدرسي، وتمكنه من الحصول على شهادة تؤهّله للتدريس في ابتدائيّة، الأمر الذي يحقّق له نوعا من الصّعود الطّبقي الذي ينتشله من عالم الدّعارة والمخدّرات واللسّطو على أملاك النّاس. كان المؤلّف لا يفوّت الإشارة العفويّة إلى مظاهر البؤس والتخلف الاجتماعي في كلّ الفضاءات التي يتردّد عليها. وكان تركيزه الشّديد نسبيّا على الاضطرابات السياسيّة والاجتماعيّة المترتّبة عن الاحتلال الإسباني وتعاون الباشا معه، وتجاهل مطالب الأمّة. وقد صوّر الرّاوي الثورة على الباشا وما احدثته من تسيّب أمني.

على الصّعيد الذّاتي يواصل المؤلّف ارتياد بيوت الدّعارة وينفق الكثير من مداخيله على البغايا، وعلى الخمر التي لا تكاد تفارقه. إنّه مدمنٌ على الجنس والخمرة بشكلٍ لا شفاء منه. ويعتبر هذا السّلوك المتمرّد على سنن وتقاليد المجتمع المغربي احتجاجا على الظّلم الاجتماعي وعلى سلطة الأب المستبدّة بمشاعر الطّفولة وبمشاعر زوجته الضّعيفة. لقد كانت قسوة الأب مدمّرة لكلّ أفراد الأسرة.

في هذا العمل تلتحم السيرة الذّاتيّة والرواية ضمن جنس أدبي هجينٍ تشكّل حديثا في السّرد الغربي ثم العربي، بفعل المثاقفة، وإن كانت السيرة الذّاتيّة حاضرة في التراث العربي بقوّة من خلال السيرة النبويّة وسيرة الصّحابة رضي الله عنهم، ثم السير الشعبيّة في القرون الوسطى؛ وقد شكّل ذلك خلفيّة أدبيّة ذات خصوبة عالية بالنسبة لعمليّة التّحديث والتّطوير ما بعد الحداثي.

مصادر ومراجع:

المصادر:

1-محمد شكري، زمن الأخطاء، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، ط الثانية 1992.

2 محمد القاضي وآخرون، معجم السّرديّات، دار محمد علي للنشر، تونس/ دار الفارابي، لبنان/ مؤسسة الانتشار العربي، لبنان/ دار تالة الجزائر/ دار العين، مصر/ دار الملتقى، المغرب، ط الأولى 2010.

المراجع:

1- فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة عمر حلي، المركز الثقافي العربي، ط الأولى 1994.

2- ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، شركة الأمل للطباعة والنشر، القاهرة، ط الأولى 2011.

3- محمد بهاوي، في فلسفة الغير، إفريقيا الشرق للنشر والتوزيع، الدّار البيضاء، ط الأولى 2013.

4- محمّد النّاصر العجيمي، المشهد الآخر في كتابة الذّات-الجزء الثاني، مكتبة علاء الدين، صفاقس/ تونس، ط الأولى 2016.

5- سعيد بن كراد، السّرد الروائي وتجربة المعنى، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط الأولى 2008.

6–ميخائيل باختين، النظريّة الجماليّة، ترجمة عقبة زيدان، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، ط الأولى 2017.

List of Source and references:

1-Mohamed Chokri ; Zaman El khataya ; mataat Ennadjah Eldjadida ;El Magheb ; Etabaa Ethania, 1992.

2-Mohamed El Kdhi oua akharoun, dar Mohamed Ali linachr, Tunis, dar el farabi, loubnan,

3-Mouassasat al intichar al arabi, loubnan, dar tala el djazair, dar el ain masr, dar el moltaka, el maghreb, tabaat 2010.

References:

1-Filippe legan, assira Ethatiya ouatarikh el adabi, tarjimat omar haly, al markaz athakafi al arabi, attabaa al oula 1994.

2-Mamdouh farraj Naby, riouayat assira athatiya, charikat al amal littibaa  ou annachr, al kahira 2011.

3-Mohamed Bahaoui, fi falsafat Al ghair, Ifrikia linnachr oua tawzii, tabaa al oula 2013.

4-Mohamed El Ajimi, al machhad al akhar fi kitabat athat, al jouzou thani, maktabat alaa eddine, safakous/ Tunis, tabaa al oula 2016.

5-Said Ben Krad, assard arriouai oua tajribat el maana, al markez athakafi al arabi, el maghreb,tabaa al oula 2010.

6-Mikhail Bakhtin, nadhariya el jamalia, tarjamat ikba zidan, dar ninoua lidirassat oua nachr oua tawzii, syria attabaa al oula 2017.

هوامش:


[1] -ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، شركة الأمل للطباعة والنشر، القاهرة، ط الأولى 2011، ص24.

[2] -م. نفسه، ص38.

[3] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة وتقديم عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط الأولى 1994، ص8.

[4] -ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، ص34.

[5] -محمد القاضي وآخرون، معجم السّرديّات، دار محمد علي للنشر، تونس/ دار الفارابي، لبنان/ مؤسسة الانتشار العربي، لبنان/ دار تالةن الجزائر/ دار العين، مصر/ دار الملتقى، المغرب، ط الأولى 2010، ص218.

[6] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص10/11.

[7] -م. ن. ص. ص 60.

[8] -ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، ص62.

[9] -م. ن. ص. ن.

[10] -م. ن. ص.

[11] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص11.

[12] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص13.

[13] -سعيد بن كراد، السّرد الروائي وتجربة المعنى، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط الأولى 2008، ص140.

[14] -م. ن. ص141.

[15] -محمّد النّاصر العجيمي، المشهد الآخر في كتابة الذّات-الجزء الثاني، مكتبة علاء الدين، صفاقس/ تونس، ط الأولى 2016، ص386.

[16] -محمد شكري، زمن الأخطاء، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، ط الثانية 1991، ص 17.

[17] -محمد شكري، زمن الأخطاء، ص 18.

[18] -محمد شكري، زمن الأخطاء، ص19.

[19] -م. ن. ص19/20.

[20] -محمد شكري، زمن الأخطاء، ص20.

[21]-محمد شكري، زمن الأخطاء، ص22.

[22] -محمّد شكري، زمن الأخطاء، ص23/24.

[23] -م. ن. ص25.

[24] -م. ن. ص26.

[25] -محمد شكري، زمن الأخطاء، ص 23.

[26] -م. ن. ث34.

[27] -م. ن. ص34.

[28] -ممدوح فراج النابي، رواية السيرة الذّاتيّة، ص 164/165.

[29] -ميخائيل باختين، النظريّة الجماليّة، ترجمة عقبة زيدان، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، ط الأولى 2017، ص223.

[30] -محمد بهاوي، في فلسفة الغير، إفريقيا الشرق للنشر والتوزيع، الدّار البيضاء، ط الأولى 2013، ص67.

[31] -محمد بهاوي، في فلسفة الغير، ص45.

[32] -محمّد شكري، زمن الأخطاء، ص 17.

[33] -محمّد القاضي وآخرون، معجم السّرديّات، ص2019.

[34] -م. ن. ص17/18.

[35] -محمّد شكري، زمن الخطيئة، ص23.

[36] -فيليب لوجون، السيرة الذّاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص16.

[37] -محمد شكري، زمن الأخطاء، ص23.