العربيزية والأصالة العربية بين الماضي والحاضر

د.عبد المجيد المدني  

فحينما نكتب ونبحث عن أصالة اللغة، وأصالة العربية، نواجه عديدا من الأسئلة، معظمها تحمل في طيّها السخرية، بل تتخذنا هزوا، يقول أصحابها: نحن أبناء قرن جديد، نعيش في العصر الرقمي، في عصر العربيزية، وأنتم تجبرون علينا محاكاة لغة سيبويه؛ بل نبغي الحرية ونحلم الربيع.

نشير إلى حقائق تاريخية لم يطمثها إنس ولا جان، لغة أي قوم هي قوام ثقافتهم وشارتها، العلم والمعرفة والحضارة والسبق والفوز والإبداع والاختراع كلُّها، وكل فروعها بأسره في يد من أتقن لغتهم. إن اندثار اللغة هو اندثار الذات، وغياب الشخصية، وغروب حقيقة الوجود، خير دليل على ذلك ما أشار إليه المؤرخون والباحثون من تاريخ الهنود الحمر في القارة الأمريكية، وتاريخ الرقيق السود من إفريقيا. في القارة الأمريكية غزا المهاجرون الأوروبيون الهنود الحمر، فعملوا فيهم عسكرياً وثقافياً حتى أفقدوهم لغتهم، وبالتالي ذاتيتهم وهويتهم الخاصة، وكذلك، محت أوروبا وأمريكا من الرقيق السُّود، المجلوبين من إفريقيا، جميع أصولهم وخلفياتهم إلا ما تفرضه الوراثة من الأشكال والألوان.

ونضيف إلى ذلك حقيقة، تلك أنّ كل دولة من دول العالم تبذل جهد أيمانها للحفاظ على اللغة الوطنية من أي تأثيرات ضارة، وللدفاع عنها في مواجهة تأثير اللغات الأخرى، لهذه المهمة  تحرص بقوة على تجنيد كل الوسائل حتى لا يحدث لها مثلما حدث لباقي اللغات التي ماتت.

وبالنسبة للعربية، فمن الحقائق التاريخية أن القرآن الكريم نفسه يحفظ أصالة العربية في التعبير، وكان النبي (ص) يأمر الصحابة أن يصحّحوا من يلحن، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزل وجلد أبا موسى لِما أرسل كتابا إليه، فكتب من (أبو موسى) مكان (أبي موسى)، ونشاهد غيرة عمر بن الخطاب رأي العين وهو يوجه المسلمين حين انفتحت الأمة المسلمة على ثقافات الأمم الأخرى بعد الفتوحات الإسلامية حيث قال لهم: ” إياكم ورطانة الأعاجم”.

يقول ابن خلدون : إن قوة اللغة في أمة ما، تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم، لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم، وهذا التأثير اللُّغوي هو الذي دفع المسلمين في الزمن الأول نحو ترجمة العلوم الأجنبية التي احتاجوا إليها من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية، فكانت العربية هي لغة المنهج ولسان التعامل بين المسلمين.() ويقول الأديب مصطفى صادق الرافعي في المجلد الثاني من كتاب وحي القلم: ما ذلّت لغة شعب إلا ذل ، ولا انحطّت إلا كان أمرها في ذهاب وإدبار ، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة التي يستعمرها ، ويركبهم بها ، ويشعرهم عظمته فيها.

 أما نحن فلا نكترث هذه الحقائق والنصائح، نعيش  في عصر العربيزية، ما العربيزية؟ يدعي الجيل الجديد هي (لغة العصر)،  يكتبونها في رسالة إلكترونية أو رسالة في الهواتف، وفي كتابة المحادثات عبر شبكة الانترنت. هذه لغة اخترعوها وهي بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية، وبمعنى أوضح تُكتب بها اللغة العربية العامية بحروف اللغة الإنجليزية وباستخدام بعض أرقامها كحروف. يتركون العربية وينسونها من حياتهم اليومية، كما أبعدوها من قبل من المناهج الدراسية خصوصا للمصطلحات في كل حقل وميدان. أليس هذه هي ضياعُ هوية.؟

يقول الدكتور محمود حافظ رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ألقاها في ندوة  حول (العربية في عصر العولمة) التي عقدت في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، حذّر  من خطورة هذا التوجه إلى المصطلحات الأجنبية حيث قال : إن هناك مؤامرات تحاك منذ سنوات للنيل من اللغة العربية، وإن في مصر 250 مدرسة أجنبية تُعلّم علومها في غياب اللغة العربية تماماً، إضافة إلى جامعات أجنبية، وهذا الأمر سيؤدي بعد جيل أو جيلين إلى وجود طبقة اجتماعية لا تنتمي إلى مصر ولا إلى اللغة العربية، بل تنتمي إلى لغات أجنبية وإلى بلدان تلك اللغات”

ويكتب ماجد بن جعفر الغامدي الإعلامي السعودي بعنوان (الهوية والقيم موت اللغة العربية نموذجاً 1-2) ففي هذا المقابل اللفظي دلالات شعورية وأخيلة وظلال معنوية متنوعة وبالطبع هي تابعة لمصدر اللغة ، فهذه الألفاظ الأجنبية تعكس ظلالاً أخرى غير ثقافتنا المحلية، ومسلماتنا الأصلية، وغير الدوافع والقيم الشعورية المحرّكة للناس،   فمثلاً : لفظ أجنبي معيّن قد يعني : التحرّك نحو الحرية والانطلاق واللامبالاة، فهي بهذا الحجم غير الحجم الموجود لدينا في ذات الدلالة اللفظية بالترجمة الحرفية في اللغة العربية، فنحن نؤمن بالحرية في أطر غير أطرهم.

نحن نحتاج إلى حملة قيمية تتبنى فكرة الاعتزاز بالهوية واللغة العربية كجزء من ذلك، هنا تجربتين في التاريخ القريب تؤكد هذا المعنى ، وهما : النموذج الفرنسي ، والنموذج اليهودي. يبين ماجد بن جعفر الغامدي الإعلامي السعودي هاذين التجربتين:

النموذج الفرنسي :

ففي فرنسا وفي عهد الرئيس (ميتران) كان لدى الفرنسيين شعور بأن اللغة الفرنسية قد أصبحت مهددة وتعاني من التراجع على الصعيد العالمي ، مع انحسار الاستعمار المباشر وبسبب ذلك فإن دولة فرنسا قد بدأت تصبح في مصاف الدول ذات المرتبة الثانية في العالم ، بعد أن كانت فرنسا على مرّ التاريخ من دول الصف الأول دائماً وبدأت تجاهد الحركة الفرانكفونية على بقاء نفوذ الثقافة الفرنسية في العالم بعد انحلال إمبراطوريتها ، فقامت عدة مراكز إستراتيجية بدراسة سبب هذه المشكلة ووصلت إلى أن أحد أسبابها هو ضعف اللغة الفرنسية ، وقلة انتشارها في العالم بعد هيمنة اللغة الإنجليزية ، فقاموا بإنشاء مشاريع طويلة الأجل لتقوية اللغة الفرنسية ونشرها في العالم أجمع وبعد سنوات طويلة، كانت تلك النتيجة المثمرة، والتي لربما ترون ما الذي وصل إليه الكيان الفرنسي الآن، وكيف اعتزاز الفرنسيين بلغتهم، بل حتى إن النظام الفرنسي يمنع الكتابة على لوحات الشوارع والمحلات التجارية بأي لغة أخرى غير الفرنسية .

النموذج اليهودي :

النموذج الثاني : أعجبني جداً ، على الرغم من أن فكرته في الأساس كانت للمساعدة على قيام دولة إسرائيل ، وهنا أستعيد عبارة مفكّر يهودي قالها في نهاية القرن الـ19 على مشارف إعلان الدولة اليهودية ، قال ( إليعازر بن يهودا) : ” لا حياة لأمة دون لغة” وبدأ تنفيذ مشروع استمر50 عاما تحولت العبرية خلاله من لغة دينية ميتة إلى لغة تدرس من الروضة حتى الدكتوراه في علوم الفضاء والطب وغيرهما ، فنجحت اللغة وتجسدت الأمة.

ويقول صبرى الشماس؛

هام الفـؤاد بروضـك الريان        أسمى اللغات ربيبة القرآن

أنا لن أخاطب بالرطانة يعربا               أو أستعير مترجمًا لبياني

أودعت فيك حشاشتي ومشاعري    ولأنت أمي والدي وكياني

لغة حباها الله حرفًا خالدًا                   فتوضعت عبـقًا على الأكوان

وتلألأت بالضاد تشمخ عـزةً                 وتسيل شهداً في فم الأزمان

فاحذر أخي العربي من غـدر المدى واغرس بذور الضاد في الوجدان

ما كان حرفك من (فرنسا) يقتدى    أو كان شعرك من بني (ريغان)

ولئن نطقت أيًا شـقيقي فلتقـل                 خيـر اللغات فصـاحة القرآن .

ألّف الأستاذ أحسن عبد الله بن حمد الحقيل كتابا، وأهداه إلى (أبناء اللغة العربية، لغة الدين والقرآن والتراث العلمي التليد، وإلى حماة الفصحى والقوامين عليها) صفحات هذا الكتاب تصيح وتصرخ ما يلمّ بالعربية من مخاطر وما ينالها من أهلها من الهجر والعقوق، ومن بعض عناوين مقالاتها اللغة العربية بين الماضي الحيّ والغد المنشود، فطرية ارتباط الأمة بلغتها، اللغة ذاكرة الأمة ومستودع تراثها، واجبنا نحو إحياء التراث اللغوي، العربية الفصحى عنوان نهضة الأمة وشاهد عزتها،  الفصحى رباط وحدة الأمة وأداة ارتقاء العلم والحياة والثقافة، أهمية العناية باللغة العربية وإبراز خصائصها، أهمية ترسيخ لغة القرآن في نفوس الشباب، أهمية العناية بالدراسات اللغوية، إضاعة اللسان تعني إضاعة الذات، الفصحى قضية أمة فلنحافظ عليها، لا تشوهوا جمال اللغة ونصاعتها، ليكن الحفاظ على سلامة اللغة هدفًا وغاية، وسائل الإعلام وأثرها في تنمية اللغة العربية والرقي بها، وأهمية تفعيل احتفاء هيئة الأمم المتحدة بلغة الضاد علميًّا، اللغة العربية في عيون العلماء والأدباء والمستشرقين.

المصادر والمراجع

عكاش، أحمد. فن التعبير للمتصدقين, سوريا.

غلاييني، الشيخ مصطفى. جامع الدروس العربية, موسوعة في ثلاثة أجزاء, بيروت، دار الارشاد للنشر, المكتبة العصرية.

زكريا، عبد الجليل محمد.قواعد الإملاء المبسطة,بلا ناشر

الملوحي، الحروي عبد المعين.الأزهية في علم الحروف,دمشق، مجمع اللغة بدمشق, 1982

سامرائي،د، و د.القتلى .كتاب الكتاب.بلا ناشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *