ناغش عيدة
ملخص البحث:
إن ظاهرة الحذف من الظواهر اللغوية التي تشترك فيها اللغات الإنسانية، لأغراض متعددة في نفوس مستخدميها، لكنها في اللغة العربية أكثر ثباتًا ووضوحًا؛ لأن اللغة العربية من خصائصها الأصيلة الميل إلى الإيجاز والاختصار.
و يُعَدُّ أسلوب الحذف من الأساليب القرآنية الجميلة التي أدت دورا بارزا في رسم الصور القرآنية، واللغة العربية تميل إلى أن تحذف وتسقط الألفاظ التي يدل على معانيها غيرها في داخل التركيب، أو ما يرشد إليه السياق، والحال، فتثير إحساس المتلقي للكشف عن سر الحذف فينشط خياله، ومن هنا جاء هذا البحث ليروم الوقوف على طبيعة هذا الأسلوب، ورصد صوره النحوية، مع استجلاء الأبعاد الدلالية لأغراضه البلاغية، ولهذا ارتأينا الوقوف عند أسلوب الحذف لما فيه من بلاغة عظيمة ودلالة كبيرة لا تدرك إلا بالتأمل والتدبر، وذلك بدراسة تطبيقية في سورة الكهف.
الكلمات المفتاحية: القرآن الكريم، الحذف، الدلالة، البلاغة.

مقدمة:
يُعَدّ البحث ظاهر ة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية، وينتج هذا الحذف عن أسباب مشتركة بينها، ومتشابهة في أحيان كثيرة منها كثرة الاستعمال والتخفيف، وظاهرة الحذف من الظواهر المنتشرة في اللغة العربية، والذي يساعد على انتشارها ميل العرب إلى الحذف المشروط الذي لا يخل بالمعنى أو الفهم.
يُكسب الحذف الكلام روعة وجمالا، لذلك أبدع الكتاب والشعراء في إيراده بأوجه مختلفة، ومتعدّدة، لها بيانها وسحرها في نفس السامع، والقارئ معا، والقرآن الكريم يمثل أعلى صور البلاغة، وأبلغ معاني القول، ولهذا اخترنا هذا الموضوع لإبراز القيمة البلاغية للحذف في القرآن الكريم، وإبراز بعض أسراره الجمالية من خلال تقصي صوره في سورة الكهف، مع محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هو الحذف؟ وما علاقته بالتقدير، وهل هو مقصود لذاته، أم جيء لمجرد تجنب التكرار؟ و لهذا استعملنا المنهج الوصفي التحليلي، حيث قمنا بتحليل التراكيب والجمل، التي اشتملت على الحذف.
- تعريف الحذف:
- لغة: حذف الشيء يحذفه حذفا، قطعه من طرفه، والحذافة: ما حذف من شيء فطُرِح، وجاء فيه أيضا ما يفيد قطف الشيء من الطرف كما يُحذف طرف ذنب الشاة، والحذف: الرمي عن جانب، والضرب عن جانب.[1]
وجاء في معجم العين للخليل بن أحمد: ”الحذف هو قطف الشيء من الطرف كما يحذف طرف ذنب الشاة“[2]، أما في الصحاح للجوهري فالحذف هو: ” إسقاط الشيء: يقال: حذفت من شعري، ومن ذنب الدابة أي أخذت“[3].
ووفق ما تقدم نجد أن الحذف في اللغة يحمل معان ثلاثة هي القطف، القطع، الإسقاط.
- اصطلاحا:
لقد لفتت ظاهرة الحذف انتباه علماء اللغة منذ بدايات الدرس اللغوي، سواء أتعلق الأمر بالقرآن الكريم أم بكلام العرب شعر ونثرا، حيث نجد إشارات عديدة إليه في مؤلفات النحو والبلاغة، ومن بين أهم التعريفات التي تناولته تعريف الرماني بأنه ” إسقاط كلمة للاجتزاء بها عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام“[4]، فهو إسقاط وطرح جزء من الكلام، أو الاستغناء عنه بدليل دل عليه، أو للعلم به[5].
الحذف نقيض الزيادة، ويعني أي نقص في الجملة، فعلية كانت أو اسمية؛ لغرض في المعنى، وتبقى الجملة تحمل معنى يحسن السكوت عليه، فإن سأل أحدهم قائلا: من حضر؟ وأجيب: خالد، فإن كلمة (خالد) في سياقها تحمل معنى يحسن السكوت عليه، فهي جملة ولكنها جملة قد حذف ركن من أركانها وهو (حضر).
الحذف إذا من دقائق اللغة وبديع أساليبها، فهو باب واسع يصيب اللغة في أصواتها، وكلماتها، وتراكيبها، للوصول إلى دلالة معيّنة، ونال هذا البحث اهتمام القدماء والمحدثين من علماء اللغة العربية، خاصة وأنّه ورد بصورة جلية وبشكل ملموس في القرآن الكريم.
يرى ابن جنّي أنّ سمة الإيجاز التي تتسم بها العربية وتُعدّ من خصائصها الأصلية تجعل الحذف يرد فيها بكثرة، فيقول: ”واعلم أنّ العرب – على ما ذكرناه – إلى الإيجاز أميل، وعن الإكثار أبعد، ألا ترى أنّها في حالة إطالتها وتكريرها مؤذنة باستكراه تلك الحال وملالها …..“[6]
ونجد نفس الرأي عند العلوي الذي أدخل بدوره الحذف ضمن الإيجاز، فيقول: ” …. واعلم أن مدار الإيجاز على الحذف، لأنّ موضوعه على الاختصار، وذلك إنّما يكون بحذف ما لا يخل بالمعنى، ولا ينقص من البلاغة …. “[7]
أمّا المحدثون فقد حاولوا الربط بين الجهة النحوية والجهة البلاغية، ومن هؤلاء محمّد حماسة عبد اللطيف، الذي يرى أنّ نحاة العربية يجوزون الحذف في بناء الجملة العربية إذ كانت هناك قرائن تومئ إلى المحذوف وتدل عليه.[8]
- شروط الحذف:
من الشروط التي لابد منها في الحذف وجود قرينة تدل على البحث؛ لأن إسقاط جزء من الكلام دون أي دلالة تدل عليه يعتبر عبثا، مما يذهب بالكلام إلى الغموض، وبهذا تفقد الرسالة الموجهة إلى المتلقي الغرض الأساسي منها، وهو تحقيق عنصر الإفادة، وأفهام المتلقي مضمون الكلام.
وتراعي قضية الحذف عدة عناصر تشكل في مجموعها حدثا كلاميا: [9]
أولا: عناصر التركيب الذي يقع فيه الحذف، والعلاقة بين العنصر المحذوف، والعناصر القائمة تركيبيا ودلاليا.
ثانيا: قدرة المخاطب على إدراك العنصر المحذوف ومغزى الحذف.
ثالثا: قصد المتكلم من الحذف.
رابعا: الموقف الكلامي (السياق والمقام) الذي يجيز صحة التركيب الواقع فيه الحذف أو عدم صحته.
- أغراض الحذف: إذا حاولنا أن نتلمس أسباب الحذف وجدنا أن النحويين، يسلكون في ذلك مذاهب متعددة، حيث حاول النُّحاة من خلال هذه الأسباب تفسير ظاهرة الحذف في مواضعها وأنواعها المختلفة، والملاحظ على الأسباب التي ذكرها العلماء أن بعض هذه الأسباب قد لا يطَّرد في كل موضع، وبعضها يعلل الحذف لأكثر من سبب، ومواضع أخرى لا يُعَلَّلُ الحذف إلا بسببٍ واحد، ومع ذلك يمكن القول أن أهم أسباب الحذف التي ذكرها النحويون هي كما يلي:
- كثرة الاستعمال: وهذا التعليل كثير عند النحاة، وهو أكثر الأسباب التي يفسرون بها ظاهرة الحذف، ومن أمثلة ذلك: حذف خبر لا النافية للجنس كثيرًا مثل: لا إله إلا الله، لا ريب، لا شك، لا مفر، لاسيما. ومثل الأقوال التي كثر استعمالها؛ كقولنا: الجار قبل الدار؛ أي: تخير الجار قبل الدار. والرفيق قبل الطريق، وقولنا: بسم الله. أي: بدأت بسم الله.
- طول الكلام: وذلك عندما تطول التراكيب؛ فيقع الحذف تخفيفًا من الثقل؛ كجملة الصلة التي طالت، وأسلوب الشرط، وأسلوب القسم؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [يس: الآية 45]، فالجواب لم يُذكر، وتقديره: “أعرضوا”؛ بدليل سياق الآية التالية لها.
- الإيجاز واختصار الكلام: ومن أمثلة ذلك ما يقع في القصص القرآني من حذف ما تدل عليه القرائن ويدل السياق عليه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا..﴾ [يوسف: 45، 46]. فالتقدير: فأرسلوه فذهب إليه وقال له.
- الاتساع: ومثال ذلك حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة الآية 189]، والتقدير: ولكن البرَّ برُّ من اتقى. والله أعلم.
- التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام: قد يكون الحذف تفخيما وتعظيما للمحذوف، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿حتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر الآية 73]، الجواب حُذِف؛ لأن وصف ما يجدونه لا يَتَنَاهى؛ فحُذِف تفخيمًا وإعظامًا له؛ حيث إن الكلام يضيق عن وصفه.
- صيانة المحذوف عن الذكر في مقام معين تشريفا له: وقد يكون الحذف يقصد صيانة المحذوف عن الذكر تشريفا له، ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيء، فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللهِ»[10]، فالفعل ابتلي أسند إلى نائب الفاعل وحذف فاعله، وهو لفظ الجلالة صيانةً له عن ذكره في ذلك المقام، الذي سمى فيه الذنوب باسم (القاذورات).
- تحقير شأن المحذوف: قد يكون الحذف بقصد تحقير المحذوف، ونجد ذلك في كتب السِّيَر، عندما يؤذى عُظَماء الإسلام، يُقال أوذي فُلان؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة:18] فلم يذكر المبتدأ تحقيرًا لشأنهم.
- قصد البيان بعد الإبهام: قد يكون الحذف من أجل البيان بعد الإبهام، ويرى البلاغيون أن ذلك يتحقق في فعل المشيئة إذا وقع شرطًا كما في قوله تعالى ﴿ وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النحل الآية 9] فمفعول فعل المشيئة وفاعله محذوف تقديره: ولو شاء الله هدايتكُم لهداكُم. فحذف الفاعل للعلم به وتقدم ذكره اختصارا، وحذف المفعول للبيان بعد الإبهام؛ لأنه لما قيل لو شاء علم أن هناك شيئًا تعلقت به المشيئة لكنه مبهم، فلما جيء بجواب الشرط وضح ذلك الشيء وعلم أنه الهداية، إذن فكل من الشرط والجواب دال على المفعول غير أن الشرط دال عليه إجمالاً والجواب دال عليه تفصيلاً.
- قصد الإبهام: قد يكون الحذف بقصد الإبهام، فقد لا يتعلق مراد المتكلم بتعيين المحذوف؛ فيَتَعَمَّد الحذف حتى لا ينصرف ذهن المستمع له، لأن ذكره لا يؤثر في الكلام أو الحكم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ [البقرة الآية 196 [
فقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُم﴾ ببناء الفعل لغير الفاعل المهم فيه حدث الإحصار نفسه ولا يهم ذكر فاعله، بل إن ذكره قد يشغل المستمع عن الحدث وهو الأساس هنا، وربما يظن المستمع أن الحكم خاص بالفاعل إذا ذكر.
ومنه أيضا قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء:86] فقوله تعالى: ﴿ إِذَا حُيِّيتُم﴾ بني الفعل للمجهول، ولا يهم فاعل التحية، المهم هو حدث التحية نفسه.
- الجهل بالمحذوف: قد يكون الحذف ناتج عن الجهل بالمحذوف وعدم معرفته، ومن ذلك قولنا: (قُتِل فُلان)، و(سرقت الدار)، ببناء الفعل للمجهول عندما لا نعرف القاتل والسارق.
- أنواع الحذف في سورة الكهف: ولم تستعمل العرب الحذف دون قيد أو شرط؛ بل قيدوا الحذف في كثير من المواضع بأمن اللبس، ووضوح المعنى، وجاء به الاستعمال القرآني في كثير من آيات الذكر الحكيم، وشمل الحذف جميع مستويات الدرس اللغوي، فجاء في الأصوات اللغوية، وفي الصيغ الصرفية، والتراكيب النحوية، كما تعددت مواضعه، وأسبابه، وأغراضه، وهو ما سوف نتناوله من خلال في سورة الكهف.
الخطاب القرآني أسلوب متفرد في بنية تراكيبه، حيث لا يوجد فيه حرف أو كلمة، أو جملة طالها البحث؛ إلا من وراء هذا الحذف غرض وملمح ومقصد دلالي، فالحذف تقنية أسلوبية تزخر بشحنة دلالية هائلة، وتعتبر شكلا من أشكال العدول عن البنية التركيبية الأصلية، يرقى بالخطاب من مستواه العادي إلى مستوى عالٍ.[11]
فالحذف هو كلام مُتَضمّن حذفه المتكلم، وأعرض عن ذكره لغرض ما، ولقد وقع الحذف في اللغة العربية في المفردات والتراكيب على حد سواء، وفي مواطن كثيرة، وأبواب متعدّدة من الأبواب اللغوية، يمكن بيان عدد منها من خلال سورة الكهف.
- حذف الحروف:
من الحذف ما يكون لجزء من الكلمة، ونقصد به الحرف أو الحركة، ولا يكون ذلك لعلة صرفية أو نحوية، وإنما لسر، أو نكتة بلاغية لطيفة، أو ليحقق تناغما صوتيا يكسب النص جمالا.
تحذف العرب من اللفظة تخفيفا كحذف نون يكن، ومثال ذلك في قوله I: ﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيَّا ﴾ [ سورة مريم الآية 20]، وكحذف إحدى التاءين من الفعل فنقول (تنزّل) بدل (تتنزّل) وذلك في مثل قوله I: ﴿ تَنزَّل المَلائِكَة والرّوحُ فِيهَا﴾ [ سورة القدر الآية 4].
والتخفيف اللغوي في اللغة باب واسع تنبه له العلماء القدماء، وقد فهم النحاة العرب هذه الظاهرة فهما صحيحا؛ إذ بنوا علم النحو على مبدأ التخفيف،[12] والقرآن يذكر ويحذف لمعنًى، فيجتزئ ويحذف من الفعل للدلالة على الاجتزاء من الحدث، أي الانقاص منه،[13] ونجد هذا في قوله I في سورة الكهف عن السدّ الذي بناه ذو القرنين: ﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ﴾ [ سورة الكهف الآية 97] ، وقوله: ﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه﴾ بحذف التاء، و في قوله: ﴿ وما استطاعوا له نقبا﴾ بذكر التاء، وذلك لأن الصعود على السدّ أيسر من إحداث ثقب فيه، فخفّف من العمل الخفيف، وذكر الفعل بأطول صيغة له للعمل الشاق الطويل، فعلة الحذف هنا كانت الخفة، وهو ما عبر عنه المبرد في كتابه المقتضب: ”هذا باب ما حذف من المستثنى تخفيفا، واجتزئ بعلم المخاطب“[14]، فعلة الحذف عنده كانت الخفة وعلم المتلقي بالمحذوف، فالفائدة من الكلام قد تمت مع الحذف، والاستعمال يقتضي الخفة وعدم الإسهاب مع علم المتلقي بما حُذِف.
كما نجد حذف الصوت في قوله I: ﴿ وترى الشمس إذا طلعت تزّاورو عن كهفهم ذات اليمين ﴾ [ سورة الكهف الآية 17]، أصل الفعل تتزاور، فخفّف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها، وتتزاور من الزور وهو الميل.[15]
وحذف الصوت أيضا في قوله تعالى: ﴿ لكنّا هو الله ربي﴾ [ الكهف الآية 38 ]، والأصل ( لكن أنا هو الله ربّي)، هنا حذفت الهمزة في (أنا) من باب التخفيف، وأدغمت إحدى النونين في الأخرى فشدّدت.[16]
ومن أمثلة حذف الحرف أيضا ما نجده في قوله تعالى على لسان العبد الصالح: ﴿ وقال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا﴾ [ الآية 78] ثم قال: ﴿ وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا﴾ [الآية 82 ] نلاحظ حذف حرف (التاء) من الفعل المضارع (تسطع)، ويعلل ابن عاشور هذا الحذف على أنه من قبيل التفنّن والتخفيف، وتنويع الأسلوب، لأن التكرار لا تستعذبه النفس وتستثقله حيث يقول: ”و(تسطع) مضارع (اسطاع) بمعنى (استطاع) حذف تاء الاستفعال تخفيفا لقربها من مخرج الطاء، والمخالفة بينه وبين قوله: ﴿ سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا﴾ [الآية 78] للتفنّن وتجنبا لإعادة لفظ بعينه، مع وجود مرادفه، وابتدئ بأشهرها استعمالا، وجيء بالثانية بالفعل المخفّف لأن التخفيف أولى به؛ لأنه إذا كرّر (تستطع) يحصل من تكريره ثقل“.[17]
ونجد أيضا تكرار الحرف للتخفيف في قوله تعالى: ﴿وَعُرِضوا على ربّك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا﴾ [الآية 84] الأصل في الجملة (أن لن نجعل لكم) فنلاحظ تتابع الأمثلة والمتشابهات من الأصوات، ثلاثة أصوات للنون، وثلاثة أخرى للام، وأغلبها أصوات رنّانة قويّة، فتمت عملية تخفيف ممكنة بواسطة الإدغام، ومثل ذلك (من لدنا).
ومن الحذف قوله تعالى: ﴿من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا﴾ [الآية 17]
نلاحظ حرف الياء في كلمة المهتد والأصل المهتدي فهو اسم منقوص، والحذف هنا يعود لسببين هما:
- صوتي؛ وذلك لإحداث تناغم في العبارة إذ جاء الفعل يهد المجزوم محذوف منه الياء.
- قصر المسافة الصوتية في لفظ الكلمة، فالمسافة إلى الهداية قصيرة، وعلى العكس فإن الضلال طرقه متشعبة ومفكّك، ولذا كان اللفظ يعبر عن ذلك، ومن (يضلل) بفك اللام، فتماثل بذلك اللفظ والمعنى.
- ومن باب حذف الحروف المتكررة ما ورد في قوله تعالى: ﴿ وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا﴾ [الآية 24] وفي قوله تعالى: ﴿ إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا﴾ [ الآية 39] وفي قوله تعالى: ﴿ فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك﴾ [ الآية 40] نلاحظ هنا حذف حرف (ياء) المتكلم، وأيضا في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿ قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا﴾ [ الآية 66] يظهر الحذف هنا علامات التواضع فلا تظهر تلك (الياء) إلا مع ذكر الله تعالى (فعسى ربي) فيشعر المؤمن بالعزة مع ذكر الله، ومحبة في إظهار رابطته بالله عز وجل.
- حذف التنوين:
ومثال ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿ قَال هَذاَ فراقُ بيني وبينك﴾ [لآية 78] فمن خلال الحركة الإعرابية يتبين لنا أن كلمة( فراق) جاءت غير منونة، وهي نكرة، مما يدل على أنها مضافة، وعلى هذا أجمع أغلب العلماء، فقدروها: (هذا فراقٌ ما بيني وبينك).[18]
والفرق مع التوين أو بغيره شاسع؛ فلو كان مع التنوين هذا (فراقٌ) لفهم أن آخر شيء سيكون بينهما هو الفراق فقطع بالأمر، ولكن القضية كانت غير ذلك وأبعد، فالعبد الصالح لا يريد أن يقطع الحديث والمسير مع موسى عليه السلام دون تأويل لما حدث؛ ولذلك تابع الحديث، وأوقف المسير ليوضح لموسى عليه السلام ما خفي عليه من أحداث، وهذا بالفعل ما حدث، فالمسألة بلاغيا لا تنتهي عند حدّ التخريج النحوي، بل تتعدّاه لتفسر وتكشف أسرار التراكيب ليتبدّى لنا الجمال الفني، والإعجاز البلاغي للنص القرآني.
- حذف الأداة:
المحذوفات كثيرة في كلام العرب، وتوخي الاختصار يُعَدُّ من فصاحة الكلام، مع الاطمئنان بعلم المخاطب بما قصد إليه المتكلم،[19] ومن مواطن حذف الأداة في سورة الكهف نذكر:
- حذف أداة النداء:
- في قوله I: ﴿ ربنا آتنا من لدنك رحمة﴾ [سورة الكهف الآية: 10] والتقدير: ” فقالوا يا ربنا “، الحذف لم يخلّ بالتركيب النحوي، كما أنّ المحذوف دلّ عليه السياق الإعرابي، إذ لابدّ من وجود علّة نصب، فالأسلوب نداء من الفتية المؤمنين إلى الله الأحب إليهم والأقرب، ولهذا فهم لم يحتاجوا إلى أداة النداء، فالله أقرب إليهم من قبل الوريد.
- حذف الضمير:
مثلما ورد في قوله I: ﴿ هنالك الولاية لله الحقّ هو خير ثوابا وخير عقبا﴾ [ سورة الكهف الآية 44]، أين نجد حذف ضمير الغائب (هو) العائد على الله I، وذلك تجنّبا للتكرار، والتقدير: ”هو خير ثوابا وهو خير عقبا“.
كما نجد حذف الضمير الدال على المبتدأ وذلك في قوله تعالى: ﴿سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا﴾ [الآية 28] أي يقولون هم ثلاثة، هم خمسة، هم سبعة؛ فالحذف هنا من باب ما يسمى الاحتراز من العبث[20]؛ ويكون ذلك ”بــترك ما لا ضرورة لذكره، وذلك يكسب الكلام قوة وجمالا “،[21] فالقرينة تدل على المحذوف، ولذا يكون ظهوره عبثا، ويقلل من قيمة العبارة بلاغيا.
- حذف حرف الجر: ويرد حذف حرف الجر كثيرا قبل ( أن) و(أنّ) المصدريتين، وذلك في قوله I:﴿ وبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرا حسنا ﴾ [ سورة الكهف الآية 2] والتقدير ”بأنّ لهم أجرا حسنا “، وأيضا في قوله I: ﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنّ وعد الله حقّ وأنّ الساعة لا ريب فيها﴾ [ سورة الكهف الآية 21 ] والتقدير” ليعلموا بأنّ وعد الله حقّ، وبأنّ الساعة لا ريب فيها“.
- حذف حرف العطف: ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: ﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ﴾ [الكهف الآية 22] فلم يقل ”ورابعهم كلبهم“ كما قال ”وثامنهم“؛ فهذه الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة، كما تدخل على الواو الواقعة حالا عن المعرفة، وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أنّ اتصافه بهذه الصفة أمر ثابت ومستقرّ، وهذه الواو هي التي أذنت بأنّ الذين قالوا ”سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن طمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كغيرهم، والدليل عليه أنّ الله تعالى أتبع القولين الأوّلين بقوله: ﴿ رجما بالغيب وأتبع القول الثالث بقوله: ﴿ ما يعلمهم إلا قليل﴾“[22].
- الحذف في الجملة الفعلية:
يطرأ الحذف على بناء الجملة الفعلية بحذف الفعل، إذا كان الموقف يستدعي ذلك والإبقاء على الفاعل وحده، أو العكس، أو حذفهما معا، على أن يكون الفاعل مضمرا في الفعل، وقد يحذف المفعول به المحدّد لجهة الإسناد.
- حذف الفعل: يرد حذف الفعل في اللغة العربية لوحده، أو بحذفه مع فاعله المضمر، ويكون هذا الحذف واجبا في بعض المواضع كأن يكون الفعل المحذوف مُفَسّرا بفعل بعده، أو أن يُكٍّرر (المنصوب) المفعول، أو في الاشتغال، ….. الخ.
ويكون هذا الحذف جائزا في مواضع أخرى؛ إذا دلّت عليه قرينة لفظية أو حالية، ومن مواطن حذف الفعل في سورة الكهف نذكر:
- في قوله I: ﴿ ويَوْمَ نُسَيِّر الجِبَالَ وترى الأرْضَ بَارِزَة ﴾ [ الكهف الآية 47] هنا ورد حذف الفعل (أذكر) مع فاعله (المخاطب) المضمر جوازا؛ استغناء بدلالة المذكور من الحديث، ودلالة المقام، والتقدير: ” واذكر يوم نُسَيّر الجبال … “[23].
وحذف نفس الفعل في قوله I: ﴿ ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم ﴾ [ الكهف الآية 52] تُعْرب كلمة (يوم): مفعول به منصوب لفعل محذوف تقديره ” أذكر يوم “[24]، وبما أن ذكر الفعل وحذفه متساويان، فيكون الحذف أولى وأجمل، ويحقق منحى بلاغيا، وإعادة المحذوف أيضا تقلل من تأثير أسلوب التنكير الذي تكرّر مع كلمة (يوم) وما يعطي من ظلال الهيبة والهول العظيم، فالتقديم بكلمة (يوم) وحذف العامل فيها يسلط الضوء على مركز الجملة المتعلق بالبعث وهو من القضايا الرئيسة في السورة.[25]
وحذف الفعل (جعل) مع فاعله المضمر جوازا في قوله I: ﴿ وفي آذانهم وقرا ﴾ [الكهف الآية 57 ] التقدير ” وجعلنا في آذانهم وقرا “[26]، فالحذف في هذه الآية جائز لدلالة السياق على المحذوف.
- وفي قوله I: ﴿ قيّما لينذر بأسا شديدا﴾ [ الكهف الآية 02] تعرب (قيّما): مفعول به منصوب لفعل محذوف تقديره: ” جعله قيّما“[27]، ويقول في هذا الزمخشري: ” وإذا قيل بم انتصب(قيّما)؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمر، ولا يجعل حالا من الكتاب“[28]؛ فالحذف في هذا المقام جائز لدلالة الإعراب عليه (قرينة لفظية).
- ويحذف الفعل وجوبا إذا فُسّر بفعل جاء بعده، ومثال ذلك ما ورد في قوله I: ﴿ وعُرضوا على ربّك صفّا لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرة ﴾ [ الكهف الآية 48] فقوله (جئتمونا) يحتاج إلى إضمار فعل؛ أي ” فقيل لهم: لقد جئتمونا، أو فقلنا لهم: …… “[29].
- كما يحذف فعل القول اذي يقدّر بقال أو يقول؛ استغناء بذكر المقول طلبا للاختصار، ولوضوح الدلالة عليه، ومثال ذلك ما ورد في قوله I: ﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ﴾ [ الكهف الآية 1] فجملة ( الحمد لله) في محلّ نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره:” قولوا: الحمد لله “.
- حذف الفاعل:
ويكون حذفه جائزا إن جاء عامله مصدرا، فيكون الفاعل فيه ضميرا مستترا فيه، ويستغنى عنه وجوبا، إذا كان الفعل لا يتطلب فاعلا، كالفعل الذي يرد توكيدا لفظيا لفعل آخر، أو إذا كان الفعل مبنيا للمجهول يحلّ نائب الفاعل محلّ الفاعل.
كما يُحْذَف الفاعل إذا كان فعله (كان) واقعا بين متلازمين؛ كوقوعه بين جملة الشرط، وجواب الشرط، أو كان الفعل مكفوفا بــــ (ما) الكافة.
- لقد ورد حذف الفاعل في قوله I: ﴿ ودخل جنته وهو ظالم نفسه﴾ [ الكهف الآية 35 ] والتقدير: ” ودخل الرجل الظالم جنّته وهو ظالم لنفسه “، فالحذف هنا جائز لدلالة قرينة حالية عليه.
- وحُذف اسم الفاعل في قوله I: ﴿ إلّا أن يشاء الله ﴾ [ الكهف الآية 24 ]، أين نجد حذف اسم الفاعل(قائلا) والتقدير: ” لا تقولنّ أفعل غدًا إلاّ قائلا إن شاء الله … “،[30] فالمحذوف في هذه الآية دلّت عليه قرينة لفظية إعرابية، فالمصدر المؤول من (أنّ) وما في حيّزها: مفعول لاسم فاعل محذوف.[31]
- ويُحذف الفاعل بعد الفعل المبني للتعجّب، وذلك مثل ما ورد في قوله I: ﴿ أبصر به واسْمِعْ مالهم من دونه من وليّ ﴾ [ الكهف الآية 26] أين نجد فاعل محذوف للفعل المبني للتعجّب (أسمع)[32].
- ونجد حذف الفاعل في قوله تعالى: ﴿كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا﴾ [ الآية5]
نُصِبَت (كلمة) على التمييز، وحُذِف المسند إليه وهو الفاعل للفعل (كبرت)؛ ولأن تلك الكلمة أي ادعاءهم بأن الله تعالى اتخذ ولدا كلمة منكرة، فحذفت من السياق، فحسن التخلص من ذكر كلمة مكروه ذكرها، وشكل التركيب أسلوبا لافتا في أسلوب التعجب من نصب (كلمة) .
- ونجد الحذف في قوله تعالى: ﴿ وساءت مرتفقا ﴾ [الآية 59]
حّف هنا الفاعل للفعل (ساءت) وهي جهنم.
- كما يُحذف الفاعل لمناسبة ما تقدم من السياق عليه، ففي قوله تعالى: ﴿فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا﴾ [الآية 71] والتقدير: قال موسى لفتاه؛ فقد حُذِف الفاعل وهو موسى لدلالة السياق عليه، فقد تقدم ذكره في الآية السابقة في قوله تعالى: ﴿وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا﴾ [الآية 110].
- كما حُذِفَ الفاعل في قوله تعالى: ﴿ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها ﴾ [الآية 71] فالفعلين ( خرقها، قال) لم يظهر فاعليهما، لأننا ندركهما من خلال الآيات السابقة، فالذي خرق السفينة مؤكد هو الخضر عليه السلام، والذي قال هو موسى عليه السلام.
- كما حُذِفَ الفاعل في قوله تعالى: ﴿ووُضِعَ الكتاب وترى المجرمين مشفقين مما فيه، ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها﴾ [ الآية 49].
نلاحظ في جملة (ووُضع الكتاب) أنه قد حُذف الفاعل، وبُنِي الفعل للمجهول تعظيما للفاعل، فالذي قضاه عظيم القدر، ولو تدبرنا الصورة الفنية من قضية الحذف لأدركنا عظمة هذه الآية، والتي تظهر لنا هيبة الأمر عند مجيء هذا الكتاب.
كما نجد حذف الفاعل في قوله تعالى: ﴿ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم﴾ [الآية 59]
الفاعل هنا محذوف لمعلوميته سبحانه وتعالى أنه هو الذي يسألهم يوم الحشر: ” هيا نادوا من أشركتموهم معي في عبادتكم“ فالبلاغة تعود إلى نظم سياق الآيات السابقة لهذه الآية.
- حذف المفاعيل:
- حذف المفعول به:
شأنه شأن التراكيب العربية، حيث يجوز حذفه إن قام دونه دليل دل عنه، أو أغنى عنه السياق في الذكر؛ على أن يتحقّق من وراء حذفه فائدة بلاغية معيّنة، وحذف المفعول به يحمل دلالات ضمنية لعل أبرزها: بيان عدم أهمية المفعول وأنه لم يكن مما يكبره السامع فالحذف في هذه الحالة أولى[33]، وقد يكون حذف المفعول به لكون هذا الأخير مبغوضا للمتكلم.
وقد ورد حذف المفعول به في سورة الكهف في بعض المواطن منها:
- في قوله I: ﴿ لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين﴾ [ الكهف الآية 02 ] في الآية حذف المفعول به الأوّل (الكافرون) والتقدير ”لينذر الكافرون بأسا شديدا“، ويرى الزمخشري ” أنّه اقتصر على أحد مفعولي (أنذر) التعدي إلى مفعولين؛ لأنّه قد المُنْذَر به هو الغرض المسبوق إليه، فوجب الاقتصار عليه “[34]، ونجد أنّ هذا الحذف دلّت عليه قرينة وهي تكرار الإنذار في قوله I:﴿ وينذر الذين قالوا اتّخذ الله ولدا﴾ [ الآية 4 ]، أين ذكرت الله تعالى المنذرين ولم يذكر المنذر به، وهذا الحذف جائز لدلالة السياق عليه، ويرى البلاغيون أنّ هذا ” من بديع الحذف وجليل الفصاحة “[35]، حيث حُذِف المفعول الأوّل لدلال الثاني عليه، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه.
كما نلاحظ أن المحذوف هم (الكفار)؛ وذلك لهوانهم، ولقلة شأنهم، واستكراها لذكرهم؛ فحذف بذلك اللفظ الدال عليهم، وعلى العكس ففي نفس الآية فإن التبشير ظهر مع المؤمنين، ولحذف المنذر هنا فائدتان: ” الأولى أنّه بذلك يعمّ جميع المتمردين المخالفين في أي صورة من صور الخلاف والتمرّد، والثانية أنه يعف عن ذكرهم ويترفع عن النطق بصفتهم تصونا وتنزها عنهم، وإهمالا وتحقيرا لهم “ [36]
- وورد حذف المفعول به لدلالة السياق عليه في قوله I: ﴿ فلمّا جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا﴾ [ الآية 62] والتقدير ” لما جاوزا المكان“[37].
- وفي قوله I: ﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا﴾ [ الآية 11 ] نجد حذف المفعول به، والتقدير:” ضربنا عليها حجابا من أن تسمع، فحذف المفعول به وهو الحجاب “.
- ومن أمثلة حف المفعول به في سورة الكهف قوله I: ﴿ وقل الحق من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ [ الآية 29 ] نرى حذف المفعول به للفعل (شاء) الأول، وأيضا المفعول به للفعل (شاء) الثاني، والتقدير: ”من شاء منكم الإيمان فليؤمن، ومن شاء منكم الكفر فليكفر“، والحذف في ذا الموطن جائز لدلالة السياق عليه، ولأنّه ورد بغرض الإيجاز البلاغي.
- وحذف المفعول به في قوله I: ﴿ ولقد صرّفنا في هذا القرآن من كلّ مثل﴾ [ الآية 54] ، والتقدير ” أي ضربنا لهم مثلا من كل جنس من الأمثال “[38]، فالمحذوف هو المفعول به (مثلا) لغرض الإيجاز البلاغي وتجنّب التكرار.
- حذف المفعول المطلق:
ويحذف المفعول المطلق وهو اسم منصوب يؤكّد عامله، أو يصفه، أو يبيّنه، وهو لا يكون إلا مصدرا، أو ما ينوب عن المصدر، ويرى العكبري أنّ في قوله I: ﴿ إنْ يقولون إلاّ كذبا﴾ [ الآية 5 ] حذفا للمفعول المطلق، حيث تُعْرَب (كذبا) مفعول به منصوب، أو يجوز أن يكون صفة لمفعول مطلق محذوف، والتقدير ” قولا كذبا “[39]، ونجد بعد هذا حذف جملة جواب الشرط، ويرى النحاة أنّه ” إذا تقدّم على الشرط ما يدلّ على الجواب وجب حذف جوابه“[40].
- الحذف في الجملة الاسمية:
الأصل في الكلام الذكر، ولكن الاستعمال العربي للجملة النحوية يسمح بحذف ما تدل عليه قرينة سواء أكان هذا المحذوف عنصرا أساسيا في الجملة (المسند والمسند إليه)، أو كان من المتممات.
وتجيز العربية حذف المبتدأ أو الخبر، وذلك من باب الاختصار والإيجاز اللذان تتميز بهما، ويكون الحذف غير جائز إذا تعذّر تأويل المحذوف، أو أن تأويله في بعض المواطن يكون فسادا في التعبير.
- حذف المبتدأ:
يقول صاحب المفصل: ”اعلم أن المبتدأ والخبر جملة مفيدة تحصل الفائدة بمجموعهما، فالمبتدأ معتمد الفائدة، والخبر محل الفائدة، فلابد منهما، إلا أن قد توجد قرينة لفظية أو حالية تغني عن النطق بأحدهما، فيحذف لدلالتها عليه؛ لأن الألفاظ إنما جيء بها للدلالة على المعنى، فإذا فهم المعنى بدون اللفظ جاز ألا تأتي به، ويكون مرادا حكما وتقديرا“[41].
يحذف المبتدأ لوجود ”قرينة لفظية أو حالية تغني عن النطق بأحدهما، فيحذف لدلالتها عليه؛ لأن الألفاظ إنما جيء بها للدلالة على المعنى، فإذا فُهِمً المعنى بدون اللفظ جاز أن لا تأتي به“[42].
- ومن مواضع حذف المبتدأ في سورة الكهف وذلك في قوله I: ﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم﴾ [ الآية 22 ] ورد هنا حذف المبتدأ للخبر (ثلاثة) وأيضا مبتدأ الخبر (خمسة)، والتقدير: ” هم ثلاثة ورابعهم كلبهم، و سيقولون هم خمسة وسادسهم كلبهم “، والحذف هنا أبلغ من الذكر، لأنّ في ذلك إثارة للقلق الناتج عن التكرار، ولهذا جاز الحذف؛ لأنّه ورد لغرض الاختصار والاختزال في الكلام، كما أنّه يمكن تقدير المحذوف من خلال السياق.
- وفي قوله I: ﴿ وقل الحقّ من ربكم﴾ [ الآية 29 ] تعرب (الحق): خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: ” جاء الحق وزاحت العلل، فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك … “[43]، فحذف المبتدأ في هذه الآية اختياري لدلالة السياق عليه.
- وفي قوله I: ﴿ ما شاء الله﴾ [ الآية 39] يرى الزمخشري بأنّه ”… يجوز أن تكون (ما) موصولة مرفوعة المحلّ، على أنّها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر ما شاء الله، أو شرطية منصوبة الموضع، والجزاء، بمعنى أي شيء (شاء الله كان) “[44].
- وفي قوله I: ﴿أولئك الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا﴾ [الآية 104 ] تعرب(الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ”… هم الذين ظل سعيهم .. “ لأنّه جواب عن سؤال[45].
- وفي قوله I: ﴿ أولئك الذين كفروا بآيات ربّهم﴾ [الآية 105 ] تعرب (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، والكاف حرف خطاب، وفي كلتا الآيتين السابقتين كان الحذف اختياري لأنّه جاء بغرض الإيجاز.
- حذف الخبر:
- حذف خبر المبتدأ: ويكون حذفه ممكنا عند وضوح المعنى، وجمال التركيب النحوي، والأداء اللغوي دون ذكر الخبر يجمع بين البلاغة التركيبية والفصاحة الأسلوبية، ومن مواطن حذف الخبر في سورة الكهف نذكر:
- في قوله I: ﴿أولئك لهم جنّات عدن﴾ [الآية 31 ] في هذه الآية اجتمع أسلوبين بلاغيين هما التقديم والتأخير، وكذا الحذف، أين تقدّم خبر محذوف للمبتدأ المؤخّر (جنات)[46]، ودلّ على المحذوف تعلّق الجار والمجرور (لهم) به، فالقرينة هنا لفظية.
- وفي قوله I: ﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب﴾ [ الآية 01 ] فكلمة (الحمد) مبتدأ، وشبه الجملة لفظ الجلالة (لله) جار ومجرور متعلّقان بخبر محذوف تقديره: ” الحمد كثير لله “ فجاز الحذف هنا لأنّه لغرض الإيجاز، وكذا للعلم الواضح بالمحذوف.
- وأيضا حُذِفَ الخبر في قوله I: ﴿ وهم في فجوة منه﴾ [ الآية 17] تُعْرَب (هم): مبتدأ، و(في فجوة): جار ومجرور متعلّقان بخبر محذوف، والتقدير: ” وهم نائمون في فجوة منه “.
- حذف خبر النواسخ:
ويرد حذف خبر النواسخ بشكل بارز في السورة ومن أمثلة ذلك:
- في قوله I: ﴿ وأنّ السّاعة لا ريب فيها﴾ [ الآية 2 ] أين نجد حذف خبر (لا) النافية للجنس، والحذف هنا واجب؛ لأنّ النحاة يرون بأنّ هذا من الصور التي تأتي عليها الجملة الناسخة بــ (لا) النافية، بحيث يكون الترتيب: لا (الناسخ)، اسمها (مفرد منصوب بفتحة)، ولا خبر لها(محذوف)[47]، والحذف في هذه الآية لغرض تعظيم أمر الساعة، وكذا للعلم الواضح بالمحذوف
- وفي قوله I: ﴿ واتلُ ما أوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كتابِ ربِّكَ لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِه ﴾ [ الآية 27 ] هنا حذف خبر (لا) النافية للجنس، ونذكر أنّ حذف خبر (لا) فيه اختلاف عند العرب، فهو واجب حسب لهجتي تميم وطيء، وجائز على لهجة الحجازيين.
- وفي قوله I: ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمْرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ [الآية 34 ] تقدّم خبر كان المحذوف عن اسمها (حالة توسط الخبر بين الناسخ واسمه).[48]
- حذف خبر الأفعال الناقصة:
ومثال ذلك في قوله تعالى: ﴿ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا﴾ [ الآية 60] والتقدير ” لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين“[49]، وبرح إذا كان بمعنى أزال فهو من الأفعال الناقصة، وخبره محذوف اعتمادا على دلالة ما بعده، وهو: (حتى أبلغ مجمع البحرين)، ”لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حُذِف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله حتى أبلغ غاية مضروبة فلابد لها من ذي غاية، فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ“[50].
- حذف المتمّمات:
- حذف التمييز:
والتمييز كغيره من عناصر بناء الجملة العربية يجوز حذفه إذا دلّت عليه قرينة سياقية، وهذا إذا كان ” الإيجاز بحذفه أجمل وأولى من الإطناب بذكره “[51]، ومن مواطن حذف التمييز في السورة:
- قوله I: ﴿ قال قائل منهم كم لبثتم ﴾ [الآية 19 ] والتقدير: ” كم يوما لبثتم “ فقد حذف التمييز بعد كم الاستفهامية، فالحذف في هذا المقام جائز لدلالة السياق عليه، ولأنّه ورد لغرض الإيجاز.
- ومن أمثلة حذف التمييز أيضا قوله تعالى: ﴿ ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا﴾ [الآية 25] .
لقد اختلف الناس في العدد (تسعا) أهو عدد الأيام، أم أشهر، أم سنوات؟ ولماذا ظلت مبهمة داخل السياق، وحذف تمييز العدد هنا لصرف الانتباه عنه، فالعبرة هنا ليست في المحذوف؛ بل بالبعد الإيماني الذي هو محور القصة وجوهرها، وهذا يجب أن يكون التركيز عليه.
- حذف المصدر:
وهو قليل في السورة ورد في:
- قوله I: ﴿ وأمّا من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى﴾ [الآية 88 ] والتقدير: ” عمل عملا صالحا “، فحذف المصدر لدلالة فعله عليه، وكذا لغرض الاختصار.
- حذف جملة صلة الموصول:
تحذف هذه الجملة لوجود دلالة السياق الإعرابي، وكذا الدلالي، وقد ورد في السورة في:
- قوله I: ﴿ إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها﴾ [ الآية 07 ] تُعْرَب (ما) اسم موصول مبنيا على السكون، وجملة صلة الموصول محذوفة، والتقدير: ” … إنّا جعلنا ما هو كائن على الأرض زينة لها “، فالحذف في هذه الآية ورد لغرض وسيع مساحة المعنى، فيقصد به: ” كل ما يصلح أن يكون زينة لها، ولأهلها من زخارف الدنيا، وما يستحسن منها … “[52].
- وفي قوله I: ﴿ وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ﴾ [ الآية 08] تعرب (ما) اسم موصول مبنيا على السكون في محل نصب مفعول به لاسم الفاعل (جاعلون)، ونجد هنا حذف صلة الموصول، والتقدير: ” وإنّا لجاعلون ما عليها من هذه الزينة صعيدا جرزا … “[53].
- حذف الحال:
والأصل فيه أن يُذكر لأنّه تبيان هيئة صاحبه، ولكن جوّز النحاة حذفه، إذا دلت عليه قرينة، ومن مواطن حذفه في السورة:
- في قوله I: ﴿ نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ﴾ [ الآية 13] حذف الحال، وتعلّق به الجار والمجرور (بالحقّ) والسبب في حذفه هنا وروده مشتقا من مادة (القول)، أي وقع موقع القول ليحلّ محلّه في الدلالة[54]، أي نحن نقص عليك نبأهم بالقل الحقّ.
- حذف الصفة:
وشأنها هي أيضا أن تُحْذف إذا دلّت عليها قرينة لفظية أو معنوية، وممّا ورد من حذفها في السورة:
- ما ورد في قوله I: ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا﴾ [ الآية 79 ] تُقَدّر هنا صفة محذوفة للموصوف (السفينة) وهي (صالحة)، وهذا التقدير يقتضيه السياق اللفظي، لأنّ التعييب لا يخرجها عن كونها سفينة، وإنّما يجعلها غير صالحة في نظر الملك وأعوانه، والقرينة هنا (فأردت أن أعيبها).
- وفي قوله I: ﴿ فليأتكم برزق منه ﴾ [الآية 19 ] حذفت الصفة في هذا المقام لإمكانية تقديرها من خلال السياق كأن يكون التقدير:” برزق كاف منه “.
- وفي قوله I: ﴿ أمّا الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ الآية 80 ] حذفت لفظة (كافر) لدلالة قوله تعالى: ﴿ فكان أبواه مؤمنين ﴾ فحذفت صفة الكفر ” لدلالة صفة الإيمان عليها … “[55]، فالحذف في هذه الآية جاء بغرض الإيجاز، ولهذا فهو حذف اختياري.
- ونجد حذف الصفة في قوله تعالى: ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا﴾ [الآية 105] ”أي وزنا نافعا“،[56] هنا حذفت الصفة للتحقير والسياق، في شأن الذين كفروا وقد حبطت أعمالهم، توزن بدليل ﴿ ومن خفت موازينه﴾ [القارعة الآية 8 ]، ونفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشيء وفي حقارته؛ لأن الناس يزنون الأشياء المتنافس في مقاديرها، والشيء التافه لا يوزن[57]، والإشارة هنا إلى أن كل أعمال هؤلاء الذين كفروا بآيات الله ولقائه لا وزن لها، فلا نقيم لهم، بل نقيم عليهم، ذلك لأن أعمالهم لا وزن نافع لإقامتها، فالقرينة الدالة على الحذف هنا واضحة.
- حذف المضاف:
ويرد في اللغة العربية على نوعين، أوّلهما: أن يُحذف المضاف ويقوم مقامه المضاف إليه، بشرط وجود قرينة تدلّ على وجود مضاف محذوف، والثاني: أن يُحذف المضاف مع بقاء عمله في المضاف إليه، أي مع بقاء الأثر الإعرابي الدال عليه، ومن مواطن حذف المضاف في السورة:
- في قوله I: ﴿ قل سأتلو عليكم منه ذكرا ﴾ [ الآية 83 ] نجد حذف المضاف (أخباره) والتقدير: ” قل سأتلو عليكم من أخباره ذكرا “[58]، فالتقدير جاء حملا على المعنى، أي يسألونك عن خبر ذي القرنين ” والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره، فحذف المضاف إيجازا لدلالة المقام، فحذف المضاف إيجازا لدلالة المقام، وكذلك حذف المضاف في قوله: (منه)، أي خبره و(من) تبعيضية، والذكر التذكر والتفكر؛ أي سأتلوا عليكم ما به التذكر“.[59]
- قوله I: ﴿ حتّى إذا بَلَغَ مَطْلَعَ الشّمْسَ﴾ [ الآية 90 ] يرى العكبري أنّ المضاف محذوف، والتقدير: ” مكان طلوع الشمس“[60]، ويناقضه الكرباسي الذي أورد (مطلع) مضاف، و(الشمس) مضاف إليه.[61]
- وفي قوله I: ﴿ ما مكنّي فيه ربي خير فأعينوني بقوّة ﴾ [ الآية 96 ] والتقدير: ” برجال ذوي قّوّة “، أين حذف المضاف، ودلّ عليه المضاف إليه المجرور (قوّة).
- حذف المخصوص بالذم: وذلك للإيجاز؛ ولدلالة الكلام على المحذوف، فهو كالمخصوص بالمدح، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا﴾ [الآية 29] أي بئس الشراب هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم، وساءت مرتفقا أي هذه النار، فحذف لدلالة الكلام عليه، ” وجملة – بئس الشراب- مستأنفة ابتدائية أيضا لتشنيع ذلك الماء …. والمخصوص بذم بئس محذوف دل عليه ما قبله، والتقدير بئس الشراب ذلك الماء “[62].
- حذف المخصوص بالمدح: وذلك إيجازا لدالة السياق عليه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يُحَلون فيها بأساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا ﴾ [الآية 31].
أي نعم الثواب جنات عدن، و” جملة – نعم الثواب – استئناف مدح، ومخصوص فعل المح محذوف لدلالة ما تقدم عليه، والتقدير: نعم الثواب الجنات الموصوفة، وعطف عليه فعل إنشاء ثان وهو (وحسنت مرتفقا)؛ لأن (حسن) و(ساء) مستعملان استعمال (نعم) و(بئس) فعملا عملهما، ولذلك كان التقدير: وحسنت الجنات مرتفقا، وهذا مقابل قوله في حكاية أهل النار (وساءت مرتفقا) “.[63]
- خاتمة:
- ما من شيء ذُكِر في القرآن إلا وذكره أبلغ من حذفه، وما من شيء حُذِف إلا وحذفه أبلغ من ذكره، إن الأصل في الكلام أن يُذْكَر، أما الحذف فهو خلاف الأصل، ومن هنا فلابد من سبب للحذف، وهذا السبب لا يعرفه ما لم يُعرف السياق، إذ أنه لا تُذْكَر كلمة في القرآن الكريم إلا إذا اقتضاها السياق، وتطلّبها النظم، ولا تُحذف كلمة إلا وكان حذفها أنسب وأبلغ، وأكثر ترابطا في الأسلوب، وأحكم للصياغة الفنية.
- لا يسوغ استخدام أسلوب الحذف إلا إذا كان وراءه هدف تحقيق غرض بلاغي، يسمو بقيمة الكلام، كما لابد من قرينة عند الحذف تدل على المحذوف، وإلا أصبح الكلام لغوا لا فائدة منه.
- تعددت مواضع الحذف وأسبابه، فتارة يكون للتخفيف والتخلص من الثقل، أو بتأثير الحروف المتجاورة في بعضها بعض، أو يكون لبناء صيغ جديدة، أو للتركيب النحوي، أو لأغراض بلاغية في نفس المتكلم.
(ناغش عيدة -طالبة الدكتوراه، جامعة مولود معمري تيزي وزو، تحت إشراف بوجمعة شتوان)
الهوامش:
[1]- ينظر: ابن منظور، لسان العرب، تح: محمد بن مكرم، دار صادر بيروت، مج9، ص 39-40.
[2] – الخليل بن أحمد الفراهيدي، معجم العين، تح: مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي، منشورات مؤسسة الأعلى للمطبوعات، بيروت، ط 1، 1988م، ج3، ص 201.
[3] – الجوهري، الصحاح، تح: محمد محمد تامر، دار الحديث، القاهرة، د ط، 2009م، ص 233.
[4] – الرماني، ثلاث رسائل في الإعجاز، للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، تح: محمد خلف الله أحمد، ومحمد زغلول سلام،
[5] – ينظر: محمد محي الدين عبد الحميد، شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط20، 1980م، ج1، ص 243.
[6]– ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تح: محمد علي النجار وآخرون، دار مصطفى الحلبي، القاهرة، ط2، 1954م، ج2، ص360.
[7]– العلوي اليمني، الطراز، تح: عبد الله محمود جيرة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، د ت، ج2، ص92.
[8]– ينظر: محمد حماسة عبد اللطيف، بناء الجملة العربية، دار غريب للطباعة والنشر، د ط، 2003م، ص259.
[9]– ممدوح عبد الرحمن، من أصول التحويل في نحو العربية، دار المعرفة الجامعية، د ط، 1999م، ص146.
[10] – رواه مالك في الموطأ، باب ما جاء في من اعترف على نفسه بالزنا، وأخرجه الحاكم والبيهقي.
[11] – ينظر: ملياني محمد، ظاهرة الحذف من منظور الدراسات الأسلوبية، مجلة الترجمة واللغات، جامعة وهران، مج 18، ع2، 2019م، ص 10.
[12] – ينظر: الموسى نهاد، نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث، دار البشير، عمان، ط 2، 1987م، ص95.
[13]– فاضل صالح السامرائي، الجملة العربية والمعنى، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 2000م، ص258.
[14]– المبرد العباس محمد بن يزيد، المقتضب، تح: محمد عبد الخالق عظيمة، لجنة إحياء التراث، القاهرة، ط 1، 1994م، ج4، ص429.
[15]– العكبري، أبي البقاء عبد الله بن الحسين، التبيان في إعراب القرآن، تح علي محمد البجاوي، عيسى البابي الحلبي وشركاه، د ط، د ت، ج2، ص840.
[16]– الزمخشري، جار الله أبي القاسم، الكشّاف، تح: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد عوض، مكتبة العبيكات، الرياض، ط1، 1998م.، ج2، ص686.
[17] – ابن عاشور الطاهر، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر تونس، د ط، 1984هـــ، ج16، ص15.
[18] – ينظر: الأنصاري، ابن هشام، رسالتان في لغة القرآن، تح: صاحب أبو جناح، دار الفكر، عمان، 1999م، ص 93.
[19] – ينظر: ابن السراج، أبو بكر محمد، الأصول في النحو، تح: عبد الحسين الفتلي، مطبعة النعمان، النجف، 1973م، ج2، ص234.
[20] – ينظر: عبد العزيز عتيق، علم المعاني، دار النهضة المصرية، د ط، 1974م، ص134.
[21] – أحمد مطلوب، أساليب بلاغية، وكالة المطبوعات، الكويت، 1980م.
[22] – الزمخشري، جار الله أبي القاسم، الكشّاف، تح: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد عوض، مكتبة العبيكات، الرياض، ط1، 1998م، ج2، ص686.
[23] – العكبري، التبيان في إعراب القرآن، ج2، ص851.
[24] – العكبري، التبيان في إعراب القرآن، ج2، ص850.
[25] – ينظر: مروان محمد سعيد عبد الرحمن، دراسة أسلوبية في سورة الكهف، رسالة ماجستير، جامعة النجاح، فلسطين، 2006م، ص 112.
[26] – العكبري، التبيان في إعراب القرآن، ج2، ص 850.
[27] – الكرباسي، محمد جعفر الشيخ إبراهيم، إعراب القرآن، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط1، 2001م، ج4، ص502.
[28] – الزمخشري، الكشاف، ج2، ص 502.
[29] – ابن الأثير، المثل السائر، تح: محمد الحوفي، بدوي طبانة، دار نهضة مصر للطبع وللنشر، الفجالة، القاهرة، د ط، د ت ، ج2، ص304.
[30] – العكبري، التبيان في إعراب القرآن، ج2، ص843.
[31] – ينظر: الكرباسي، إعراب القرآن، ج2، ص 526.
[32] – محمد سيد طنطاوي، معجم إعراب ألفاظ القرآن الكريم، راجعه: محمد فهيم أبو عبية، مكتبة لبنان أبو الهول، مصر،1997م، ص384.
[33] – عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز في علم المعاني، تح: محمد رشيد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1409م، ص 127.
[34] – الزمخشري، الكشاف، ج2، ص 676 .
[35] – طاهر سليمان حمودة، ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي، الدار الجامعية للنشر والتوزيع، الإسكندرية، د ط، 1998م، ص 101.
[36] – محمد المدني، القصص الهادف كم نراه في سورة الكهف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة القرٱن والسنة، مصر، 1994م، ص 144.
[37] – محمد الصابوني، صفوة التفاسير، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1997م، ج2، ص189.
[38] – العكبري، التبيان في إعراب القرآن، ج2، ص 856.
[39] – العكبري، التبيان في إعراب القرآن، ج2، ص 838.
[40] – طاهر سليمان حمودة، ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي، ص 286.
[41] – ابن يعيش، موفق الدين، شرح المفصل، دار الطباعة المنيرية، د ط، د ت، ج1، ص94.
[42] – ابن مالك، شرح الكافية الشافية، تح: علي محمد عوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1420هـــ، ص127.
[43] – الزمخشري، الكشّاف، ج2، ص 691.
[44] – الزمخشري، الكشاف، ج2، ص695.
[45] – الزمخشري، الكشاف، ج2، ص720.
[46] – الكرباسي، إعراب القرآن، ج4، ص535.
[47] – محمد سيد طنطاوي، معجم إعراب ألفاظ القرآن الكريم، ص 383.
[48] – الكرباسي، إعراب القرآن، ج4، ص529.
[49] – الزمخشري، الكشاف، ج2، ص731.
[50] – الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير، تح: عبد الرحمن عميرة، دار الوفاء، د ط، 1994م.، ج3، ص352.
[51] – محمد أبو الفتوح شريف، التركيب النحوي، ج2، ص 677.
[52] – الزمخشري، الكشاف، ج2، ص677.
[53] – الزمخشري، الكشاف، ج2، ص 677.
[54] – محمد أبو الفتوح، التركيب النحوي، ج2، ص234.
[55] – الزمخشري، الكشاف، ج2، ص 713.
[56] – الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج3، ص155.
[57] – ابن عاشور، محمد الطاهر ، التحرير والتنوير، ج 16، ص 25.
[58] – العكبري، التبيان في إعراب القرآن، ج2، ص858.
[59] – ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، ج 16، ص 18.
[60] – العكبري، التبيان في إعراب القرآن، ج2، ص 860.
[61] – الكرباسي، إعراب القرآن، ج4، ص 590.
[62] – ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، ج15، ص 309.
[63] – ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، ج 15، ص 314.
المصادر والمراجع:
- ابن منظور، لسان العرب، تح: محمد بن مكرم، دار صادر بيروت.
- الخليل بن أحمد الفراهيدي، معجم العين، تح: مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي، منشورات مؤسسة الأعلى للمطبوعات، بيروت، ط 1، 1988م.
- الجوهري، الصحاح، تح: محمد محمد تامر، دار الحديث، القاهرة، د ط، 2009م.
- الرماني، ثلاث رسائل في الإعجاز، للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، تح: محمد خلف الله أحمد، ومحمد زغلول سلام،
- محمد محي الدين عبد الحميد، شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط20، 1980م.
- ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تح: محمد علي النجار وآخرون، دار مصطفى الحلبي، القاهرة، ط2، 1954م.
- العلوي اليمني، الطراز، تح: عبد الله محمود جيرة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، د ت.
- محمد حماسة عبد اللطيف، بناء الجملة العربية، دار غريب للطباعة والنشر، د ط، 2003م.
- ممدوح عبد الرحمن، من أصول التحويل في نحو العربية، دار المعرفة الجامعية، د ط، 1999م.
- ملياني محمد، ظاهرة الحذف من منظور الدراسات الأسلوبية، مجلة الترجمة واللغات، جامعة وهران، مج 18، ع2، 2019م.
- الموسى نهاد، نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث، دار البشير، عمان، ط 2، 1987م.
- فاضل صالح السامرائي، الجملة العربية والمعنى، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 2000م، ص258.
- المبرد العباس محمد بن يزيد، المقتضب، تح: محمد عبد الخالق عظيمة، لجنة إحياء التراث، القاهرة، ط 1، 1994م.
- العكبري، أبي البقاء عبد الله بن الحسين، التبيان في إعراب القرآن، تح علي محمد البجاوي، عيسى البابي الحلبي وشركاه، د ط، د ت.
- الزمخشري، جار الله أبي القاسم، الكشّاف، تح: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد عوض، مكتبة العبيكات، الرياض، ط1، 1998م.
- ابن عاشور الطاهر، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر تونس، د ط، 1984هـــ..
- الأنصاري، ابن هشام، رسالتان في لغة القرآن، تح: صاحب أبو جناح، دار الفكر، عمان، 1999م.
- ابن السراج، أبو بكر محمد، الأصول في النحو، تح: عبد الحسين الفتلي، مطبعة النعمان، النجف، 1973م.
- عبد العزيز عتيق، علم المعاني، دار النهضة المصرية، د ط، 1974م.
- أحمد مطلوب، أساليب بلاغية، وكالة المطبوعات الكويت، 1980م.
- الزمخشري، الكشّاف، مكتبة العبيكان، الرياض، 1998م.
- مروان محمد سعيد عبد الرحمن، دراسة أسلوبية في سورة الكهف، رسالة ماجستير، جامعة النجاح، فلسطين، 2006م.
- الكرباسي، محمد جعفر الشيخ إبراهيم، إعراب القرآن، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط1، 2001م.
- ابن الأثير، المثل السائر، تح: محمد الحوفي، بدوي طبانة، دار نهضة مصر للطبع وللنشر، الفجالة، القاهرة، د ط، د ت .
- محمد سيد طنطاوي، معجم إعراب ألفاظ القرآن الكريم، راجعه: محمد فهيم أبو عبية، مكتبة لبنان أبو الهول، مصر،1997م.
- عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز في علم المعاني، تح: محمد رشيد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1409م.
- طاهر سليمان حمودة، ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي، الدار الجامعية للنشر والتوزيع، الإسكندرية، د ط، 1998م.
- محمد المدني، القصص الهادف كم نراه في سورة الكهف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة القرآن والسنة، مصر، 1994م.
- محمد الصابوني، صفوة التفاسير، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1997م.
- ابن يعيش، موفق الدين، شرح المفصل، دار الطباعة المنيرية، د ط، د ت.
- ابن مالك، شرح الكافية الشافية، تح: علي محمد عوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1420هـــ..
- الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير، تح: عبد الرحمن عميرة، دار الوفاء، د ط، 1994م.
