مريم الهاشمي
ملخص البحث
يعد الزمن عصب مكونات البناء السردي وأكثرها التصاقا بجنس الرواية، ففي نظامه تجري الأحداث وضمن مساره تتحقق تحولات الشخصيات وصيرورتها التي تدفع بعجلة السرد الى التنامي، ومما لا شك فيه أن المبدع بوصفه القابض على هذا النظام تلح عليه القاعدة الفنية بالتلاعب الزمني الذي أصبح تقنية من التقنيات الشائعة في الرواية المعاصرة، فتنتج عنه ظهور المفارقة السردية، التي تدل على كل أشكال الاختلاف بين ترتيب زمن القصة وزمن الخطاب. يعنى البحث بمقاربة المفارقة السردية في علاقتها بالبناء الزمني في رواية سينترا لحسن أوريد من خلال ثنائيتي الاسترجاع الاستباق في علاقتهما بظاهرة التقديم والتأخير البلاغية.
الكلمات المفاتيحية: المفارقة الزمنية-بلاغة السرد-الاسترجاع-الاستباق-التقديم والتأخير

مقدمة
يعد الزمن عصب مكونات البناء السردي وأكثرها والتصاقا بجنس الرواية، ففي نظامه تجري الأحداث وضمن مساره تتحقق تحولات الشخصيات وصيرورتها التي تدفع بعجلة السرد الى التنامي، ومما لا شك فيه أن المبدع بوصفه القابض على هذا النظام تلح عليه القاعدة الفنية بالتلاعب الزمني الذي أصبح تقنية من التقنيات الشائعة في الرواية المعاصرة، فتنتج عنه ثنائية الخطاب والحكاية.
قبل الخوض في الاشتغال على الزمن في الخطاب الروائي بوصفه بؤرة زمنية متعددة المحاور والاتجاهات، وجب أن نذكر بالدراسات النقدية التي تناولت موضوع الزمن وتطبيقاته على الرواية، والتي انطلقت مع البنيوية الشكلية، فكشفت عن مكونات الزمن الجوهرية، وركزت على الثابت النصي بدل المتغير، وكذلك قسمت النص، من حيث هو متن حكائي ومبنى حكائي. سيتأثر تودوروف بهذا الاتجاه الشكلاني، ويستخدم مفهوم القصة والخطاب في كتابه “الشعرية ” ويطلق نظام الحدث، تعبيرا عن الزمن الحكائي أو زمن التخييل[1].
ارتبطت دراسة جيرار جنيت في كتابه “خطاب الحكاية” بتعريفات تودوروف، وسيختلف عنه فيما اصطلح عليه بزمن القصة وزمن الحكي، الذي تؤطره ثلاث علاقات، أوجزها في الترتيب الزمني، الديمومة، والتواتر[2].
اهتمت الدراسات النقدية العربية بمكون الزمن الروائي ولم تبتعد كثيرا عن نظيرتها الغربية، فسعيد يقطين في تناوله لمفهوم الزمن الروائي[3]، سيعود إلى التصور الغربي،من أجل بناء رؤية النظرية تقسم الزمن إلى ثلاث مستويات: زمن القصة، زمن الخطاب، وزمن النص، وهذا الأخير يضم زمن الكاتب، وزمن القارئ وهو ما نجده عند سيزا قاسم ،التي استلهمت تصورها للمكون الزمني ،ترتيبه ومفارقته من دراسة جيرار جنيت ، فقسمت الزمن الروائي[4] إلى أزمنة خارجية: يتأطر ضمنها، زمن الكتابة-وضع الكاتب بالنسبة للفترة التي يكتب فيها-، و زمن القراءة -وضع القارئ بالنسبة للفترة التي يقرأ عنها- وأزمنة داخلية: تتضمن الفترة التاريخية التي تقع فيها أحداث الرواية، ترتيب هذه الأحداث وتزامنها و تتابع الفصول.
- زمن القصة وزمن الخطاب
على الرغم من وجود بعض الاختلافات والآراء المتباينة، الناتجة عن إشكالية المصطلح الزمني، إلا أنها تتقاطع في نقطة واحدة وهي موجود مستويين زمنيين هامين:
زمن القصة: هو زمن وقوع الأحداث، في علاقتها بالشخصيات.
وزمن الخطاب: ويطلق عليه أيضا زمن السرد هو الزمن الذي يقدم من خلاله السارد القصة، وتعطي فيه القصة زمنيتها الخاصة من خلال الخطاب.
وانطلاقا منهما يحدث التلاعب الزمني الذي تتيحه لحظة الإبداع الروائي، فيعاد تنظيم أحداث القصة المنظمة كرونولوجيا في الواقع ،تنظيما مخالفا وغريبا في الخطاب الروائي ، ولعل هذا هو سر خصوصية الزمن الروائي إذ ; ينتج عنه ظهور المفارقة السردية ، التي تدل على كل أشكال التنافر بين ترتيب زمن القصة و زمن الخطاب ،فنجد” بداية تقع في الوسط يتبعها عودة إلى وقائع حدثت في وقت سابق تشكل نموذجا مثاليا للمفارقة في علاقتها باللحظة الراهنة فإنها اللحظة التي يتوقف فيها الحكي المتساوق مع الزمن ليمكن من العودة إلى الماضي (analepse الاسترجاع flashback اللفظة الاسترجاعية و لها مدى أو امتداد معين”[5] وهي سمة من السمات الجمالية و الشعرية في الخطاب الروائي .
- صيغ اشتغال المفارقة الزمنية
المتتبع لموضوع المفارقة يجد أن الدراسات الحديثة قسمتها إلى أنواع عدة ،وهنا تكمن صعوبة الإحاطة بها ، فكل دراسة تتناول المفارقة من زاويتها الخاصة ولكنها تتفق على أنها تنتمي إلى الحقل البلاغي فهي صيغة بلاغية متعددة الأشكال و الأنواع[6]ما يهمنا منها في هذا المقام ،هو المفارقة الزمنية في الخطاب السردي والتي تعني “تلاعب الروائي بالمسار الزمني للسرد، من خلال نفي فكرة التسلسل الزمني ليؤسس بذلك خطابا متخيلا قائما على مبادئ عدة أبرزها الترتيب الزمني، أو المفارقات الزمنية التي تعني مقارنة ترتيب المقاطع الزمنية بترتيب المقاطع النصية، أي مخالفة زمن السرد ترتيب أحداث القصة، سواء أكان بتقديم الأحداث أو تأخيرها”[7].
يتحكم الروائي في زمن الرواية، وعملية تداخل الحدث فيه، ويعمد إلى استنفاذ أغلب الأساليب والتقنيات السردية للتوصل إلى أقصى درجات التراجع بالحدث للماضي البعيد، في الوقت الذي تشير جميع القرائن أن النص السردي ينبغي أن تدور أحداثه في الحاضر، أو أنها ستحدث مستقبلا. فتتولد المفارقة، من خلال الانحرافات التي يقوم بها الراوي حين يقطع زمن السرد، ويقوم بالعودة إلى الوراء لاسترجاع أحداث قد حصلت في الماضي، أو على العكس من ذلك يقفز إلى الأمام ليستشرف المستقبل، وفي كلتا الحالتين نكون إزاء مفارقة زمنية، وهذه المفارقة توجد لتجسيد رؤية فكرية وجمالية، وتقترب كثيرا من استراتيجية التقديم والتأخير البلاغية.
إذا عدنا إلى الرواية الحديثة، نلفي أن الترتيب المتسلسل للمادة الروائية قد اختفى، فقد أصبح الكاتب ينتقل في سرد الأزمنة حسب ما تقتضيه الضرورة الفنية والجمالية وكذلك المقصدية، مما يؤدي إلى تداخل وتلاحم الماضي والحاضر والمستقبل في الرواية، ثم إن هذا التلاعب الذي يمارسـه الروائي على نصه لا يلغي الحدث، ولا يؤثر على دلالته، بقدر ما هو استراتيجية تمكنه من شد القارئ الى تتبع النص، ومحاولة فهم القصدية من وراء هاته المفارقة الزمنية التي تقوم على تقديم أزمنة وتأخير أخرى.
و عندما يوقف الروائي عجلة السرد المتنامي إلى الأمام ويعود إلى الوراء في حركة ارتدادية لسير الأحداث، لاستذكار ماض بعيد أو قريب، فإن هذه الحركة الناتجة عن الاستذكار لا تعد حركة اعتباطية لاسيما من الروائي الحديث المطلع على الأساليب الحديثة في الفن الروائي، ففضلا عن الدوافع الجمالية التي تلح عليه ،هناك الدافع الإقناعي بقضية ما، وهو ما جعلنا نخصص البحث لدراسة بلاغة السرد في علاقته بالزمن ،انطلاقا من المتن “سينترا “للكاتب و المفكر المغربي حسن أوريد، نتتبع فيه بلاغة التشكيل الزمني لاسيما منه تقنية المفارقة الزمنية، و الدور الذي تضطلع به لإقناع القارئ/المتلقي الحاضر في ذهن الكاتب بالأفكار والقضايا ،التي يناقشها المتن الروائي سينترا ضمن واقع السرد بأسلوب جمع بين إمتاع القارئ، ومقصدية إقناعه و توجيه وجهة محددة مسبقا من قبل المبدع.
الدراسة التحليلية
تنقل سينترا مغرب 1949 بإمعان كبير في التفاصيل الدقيقة التي ميزت هذه المرحلة، وتصل الزمن الحاضر بالماضي ” الزمن لم يتوقف، بل هم من توقف….. ينبغي أن نحكي لهم قصته م[8]“
فتنسج عوالمها، بناء على الأحداث السياسية التي عاشها المغاربة في الفترة الكولونيالية، و بداية انهيار هذه المنظومة، انطلاقا من مؤشرات تاريخية، ترصدها، ضمن جدلية تطور وعي بن منصور عصب الرواية الذي يحمل في البداية رؤية خاصة عن العلاقة بفرنسا، ويعمل لحساب الدولة المستعمرة ،و الذي ستتعرض علاقته بالمستعمر إلى هزات، ويبدأ في المساءلة وإعادة المقاربة والمعاينة، لاسيما بعد اقتحامه عالم سينترا، ولقائه بولي العهد ،و احتكاكه بزعماء الحركة الوطنية عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي والفقيه با حنيني وعبد الخالق الطريس والمهدي بن بركة، ومجموعة من الشخصيات، منها عبد الصمد الكنفاوي وخربوشة وناس الغيوان، لا يجمعها رابط زمني أو تاريخ بعينه لكن الذي يوحدها هو الحس الوطني و القيم الإنسانية، ليبدأ في مراجعة مفهوم الآخر قبل انخراطه الكلي في العمل الوطني، الذي ساهم فيه فضاء سينترا؛ إذ جسد هذا البطل نقطة عبور من الوعي المسطح، الذي انطلق منه، نحو وعي تاريخي، مؤمنا بقضية التحرير والتحديث.
يعرض نص سينترا أحداثا مادتها الذاكرة، فتقدم قراءة حجاجية عبر القراءة التاريخية والشواهد الحقيقة للتاريخ، بوصفه المطية التي يستعملها الكاتب لترويض الأزمنة الإفتراضية، ولجعل المتلقي يعيد تشكيل وعيه بالتاريخ. فالذكريات كما تقول سينترا ” كالكروم ان لم تختمر في قالب الفكر تسنهت” [9]بهذه الصورة التشبييهية ينظر المبدع الى التاريخ والذاكرة، بوصفها تجارب ماضية، لفهمها والاستفادة منها لابد من شرط الوعي الفكري القادر على استخلاص ما هو نفعي.
ويلقى الكاتب نفسه وهو يشرع في بناء حكايته، إزاء ثلاث لحظات، تشكل الحدود الفاصلة لهذا المسار وتفرض وجودها على وعيه؛
- الزمن الأول: زمن مرجعى خارج النص يبدو في الإطار الزمني لعملية التأليف، ويختزله التوقيع على خلفية الغلاف 2015
- زمن الحكاية؛ فنحن في هذا العالم الروائي أمام ذات متكلمة (السارد) تجتر جانبًا من المؤلف في وعاء الذكريات عبر ثلاثية الأنا والأنت والهنا التي تبدو جلية في بنية الاستهلال ويمتزج فيها الزمان بالمكان،” أين أنا أين نحن أنا معك هنا حيثما تكون”[10]
يتأكد الحضور الطاغي للزمن في سينترا منذ لحظة الاستهلال؛ إذ يختزل عمق التجربة الإنسانية التي يصدر عنها الفعل الروائي، فتمتد خيوط الإبداع السردي لتشد الحاضر إلى الماضي، وتقيم ذلك الرباط النفسي العميق بين مكانين وزمانين؛
“فالهنا” تشير إلى حاضر ” 2014 “يتشكل على مستوى المكان سينترا، وفيها يسكن الزمن الماضي ” 1947″ الذي تقوم الرواية باستدعائه، من خلال القابلية النسبية لفعل تكون على الدلالة على الماضي، والتي تأخذ محدّداتها الزمنيّة وفق (الزمان النّسبي) للرواية.
3-زمن الخطاب وهو زمن متعدد الأبعاد ينتقل بين الزمن الحاضر والماضي والمستقبل 2014-1946 – 1974-1948-1996ليعود من جديد الى 1947لينتقل الى 2003
ينتج عن تكسير خطية مسار السرد في زمن الخطاب، حركتين أساسيتين، تتجه الحركة الأولى من الزمن الحاضر (حاضر الرواية 2014) إلى الوراء حيث ماضي الأحداث، فيقطع زمن الحكي الحاضر ويستدعي الماضي ليصبح جزءًا لا يتجزأ من نسيجه، وهذه الحركة الارتدادية نحو الماضي تظهر من خلال تقنية الاسترجاع[11]، واسترجاع الأحداث الماضية في سينترا واستمراريتها في الحاضر، لا يخضع لتسلسل كرونولوجي متسق، وإنما يتم فيه الاختيار والانتقاء وفق منبهات ومؤثرات اللحظة الحاضرة
شحال ن هي الساعة عندكم ؟[12]
باستثناء الكنفاوي الذي اعتزل في طاولة بعيدا عن الجموع، وقد بدا تلك الليلة مهموما، أجابت الجماعة :
الحداش اللارب (الحادية عشرة إلا ربعا).
اش من نهار حنا ؟
31 دجنبر.
أش من سنة ؟
1946 من عام النصارى.
ولاً، حنا 2014 دابا ماش تحققوا الماكانة (الساعة) على الليلة د 1974 نرجعو 40 سنة من اللور..
وردت الجماهير:
– الله يردّ بك الموتشو. – وبخرو لو .. راه تشير
“أجالوا النظر فيما بينهم، ولم يعرفوا في أي زمن يكونون. ظاهرا، في فاتح 1947 ولكن الموتشو، بعد حلقة ناس الغيوان أثار الشك، أو هم في وضع لا زمن فيه، يقتضي استيعاب كل فيهم الأزمنة، ليتحقق ما أسماه العلام بالوعي التاريخي كي يتأتى بناء المستقبل.[13]“
يرصد نص سينترا حركة التحول في المجتمع المغربي ممثلة في شخصية عمر بنمنصور، ويكشف عن الدلالة الاجتماعية لمرحلة 1947، حيث ثار المجتمع بالأمس على المستعمر دفاعا عن الوجود والكرامة الإنسانية، وهذا الرصد هو محاولة من الكاتب لجعل الحاضر بوثباته التي تعكس رغبة التغيير، ورفض الواقع عند أبناء هذا الجيل تنسجم وقيم الماضي وأفكاره.
يمكن القول إن الطبيعة الاجتماعية للزمن في سينترا، تتسم بخط تصاعدي، فهو يتشكل حسب مستوى من الوعي والنضج الفكري عند الشعب الذي يعبر عن رفضه للواقع المعيش في الحاضر (الربيع العربي)، كما عبر في الماضي عن رفضه للواقع الاستعماري وما اعتور الواقعين من أعطاب وظلامية، فنجد أن دلالات الراهن لا تختلف عن الدلالات الزمنية التاريخية، لأن الروائي ينطلق من لحظة التاريخ الحاضرة، ليربطها باللحظة التاريخية التي أنتجها واقع الاستقلال وما بعد الاستقلال، والذي نمثل له بالملفوظات الثلاث:
– “لجوا في الضحك وهم يمشون في ليل بهيم نحو وجهتهم غشوا بناءا متآكلا, بدا المكان كابيا “استهلال الرواية 2014” ص 12
-” كان الليل قد ألقى بسجوفه حين غشي بنمنصور كابريه سينترا. بدا المكان لأول وهلة كابيا، ببابه الخشبي المطلي بالأسود تتخلله مسامير غليظة، وبديكوره الجهم مما يبعث على النفور” الحكاية 1947 ص33
– “بدا له المكان كما لو خرج من حرب.. مهمل، تملؤه الأزبال وتنبعث منه روائح القاذورات. لف يمينا. رفع رأسه ليقرأ العلامة: زنقة علال بن عبد الله لا يذكر الاسم القديم للزنقة. الساعة لربما.. سار حتى مستوى بناية قديمة. رفع رأسه وقرأ علامة: سينترا بحروف لاتينية.”خاتمة الحكاية “2003”ص225
الزمن وتشكيل الصورة السردية
أ-الاسترجاع
تقدم هذه التراكيب السردية المكونات السردية الثلاث الشخصية، المكان والزمن، الذي كان محددا في الملفوظين الأول والثاني وهو “الليل”، بينما تم الإشارة إليه دون تعيينه من خلال دال” الساعة”.
تكمن بلاغة الاسترجاع في جعل القارئ يعقد مقارنة بين الوضعين، فيدرك التقاطع الحاصل بين الماضي والحاضر، وأن القادم يتسم بضبابية و غموض كبيرين، ولأن السياق سياق احتجاج وجب التحلي بالإرادة و القوة لتحقيق التغيير المنشود .يعزز هذه الدلالة ،الصورة الاستعارية للملفوظ ألقى الليل سجوفه، ثم هناك دال الليل الذي لا يحضر بحمولته الزمنية فقط بل للدلالة على الغموض والمجهول والقلق، وهو ما تدل عليه الأزمنة التاريخية التي اختارها الكاتب الى جانب الانتقاء المعجمي للفعل الدال “غشي” الذي تكرر أيضا في الملفوظين المتصدرين دونا عن الأخير، ومن دلالات هذا الفعل الزمن فنقول غشي[14] الليل: أظلم و القوة غشي الموج : عمه وشمله غشي المكان : أتاه ،وفي سياق النص نجد أن الفعل قد تضمن كل هذه الدلالات، “غشي بنمنصور” كان من الممكن للكاتب أن يعدل عنه “ب دخل” و لكنه أراد بناء نموذج البطل و ما يتميز به من قوة و ظهور، فوظف فعلا مرنا يقبل عديدا من التأويلات ساعده في بناء دلالة رمزية شديدة الثراء، ثم إن الفعل جاء دالا على المفرد “غشي بنمنصور” في الملفوظ الثاني في حين أنه اقترن بضمير الجمع في الملفوظ الأول “غشوا ” ومعلوم أن المواجهة تتطلب القوة و الإرادة والوحدة ،هاته الأخيرة التي يحيل عليها ضمير الجمع و تنتفي في المفرد، وهو ما يفسر فشل عمر في مواصلة بلوغ أهدافه، ودخوله في غيبوبة في نهاية الحكاية، ونجاح الجماعة المكونة من الطبيبة فيفاني و حفيدته و أستاذ العلوم السياسية في إيقاظه من الغيبوبة، لأن النجاح و المصلحة العامة تتأتى بالتآزر و التعاون إلى جانب العزيمة و الإصرار، وكلها قيم تتطلبها الأزمنة المفارقة في الرواية، ولأن للأن عنصر الزمن وحده الكفيل بإحياء هذه القيم .
يلجأ الكاتب الى الصفة” بدا المكان كابيا “ليفعل وحدة المكان والزمن في علاقتها بالذات، وليبرهن على العلاقة بين الماضي والحاضر، فتكتمل تفاصيل الصورة التي يتغيى بها التوجيه. نقول نَارٌ كَابِيَةٌ: نَارٌ مُغَطَّاةٌ بِرَمَادٍ، أَيْ أَنَّ جَمْرَهَا لَمْ يَنْطَفِئْ [15]بَعْدُ، وكأن هذا المكان يتهيأ لاندلاع ثورة ما والذي يرجح هذه الدلالة، الانتقاءات التاريخية 2014 ثورة الربيع العربي و1947 المطالبة بالاستقلال.
أسهمت مفارقة الاسترجاع في تفسير أحداث الحاضر السردي، وكانت ذات حمولة تنزاح في أحيان كثيرة إلى قياسات منطقية، تحمل دلالات موجهة للقارئ، وتمارس نوعا من التأثير لأنها تنطلق من المشترك ومن أحداث تاريخية لها أثرها المؤلم في نفس المتلقي وهنا نحيل الى تاريخ 1947، وضربة السينغال التي تجعل القارئ ومتلقي النص، يعيد تقييم نتائج واقعة ما انطلاقا من أخرى، ما دمنا نتحدث عن بنية موازية لبنية الاستعمار.
يمكن القول إن مستويات الزمن داخل الرواية ترتكز على تلك الدلالات التاريخية والاجتماعية، المحملة بالأيديولوجيا الفكرية للمجتمع المغربي في المدة الزمنية المؤطرة للنص، والتي تعكس الوعي الاجتماعي في ثورته على الأوضاع السياسية والاقتصادية، التي كبل بها في الزمن الحاضر، وفي ثورته على المستعمر الذي سلب منه حريته في الزمن الماضي.
لعل توظيف الزمن السردي من أكثر التقنيات التجريبية فانتازية في رواية سنترا إذ; يبتعد هذا النص عن الكلاسيكية الواقعية، وعن توظيف المألوف في التقنيات السردية إلى توظيف تجريبي جديد، حيث يسافر حسن أوريد، ويحاور شخصيات يستحيل لقاؤها إلا داخل زمن سنترا، فتتحاور وتتجادل إلى درجة التماهي، رافضة زمنا يعيد نفسه لأنه يكرر أخطائه.
ب-الاستباق
تتجه الحركة الثانية الناتجة عن تكسير خطية السرد، من حاضر الرواية أيضا، ولكن اتجاهها يكون إلى الأمام عن طريق تقنية الاستباق “إذ؛ ينزاح الزمن من اللحظة الراهنة إلى المستقبل على خلاف الاسترجاع الذي يتميز بخاصية التشويق، فإن هذا النوع من المفارقة نادر الحضور ويتميز بخاصية المفاجأة، فيباغت المتلقي بتطورات غير منتظرة في مسار السرد. “[16]
“وسرح ذهنه في زمان ما، زمان ينصرف إلى المستقبل إلى سنة 1996، رأى، وهو في عُمر الشباب أنه يعيش في شقة صغيرة بالرباط مع ف فتاة سمراء جميلة، وقد فصل عن العمل، بتهمة التآمر ضد أمن الدولة، سنة 1995، افتراء، اضطر للعيش إثرها ظروفا صعبة بلا، مورد وبتهمة جعلت الناس تنفر منه فأخلص حينها للقراءة والكتابة، ولم يجد العطف والرعاية إلا من خربوشة، أو عيشة التي وفرت له الجو الملائم ليكتب عملا لم يقدر أن ينشره، ولكن ضيق ذات اليد، وعدم وضوح آفاق حياته، جعله ينصرف عنها. كان ينوء تحت أثقال كي يربط حياته بحياتها. افترقا إلى غاية خريف (2014) وقد أدت فريضة الحج، فزارها، وقدمت له سجادة للصلاة هدية. في أي زمان يعيش؟ يوليوز 2015، تاريخ وفاة عايشة، أو خربوشة، وها هي ذي تحدثه من وراء القبر؟ أم هو في نهاية القرن التاسع عشر حين انتفضت خربوشة ضد القائد عيسى العبدي وهو يستمع لحكي المعطي عن ملحمة هذه المرأة الفذة، أم هو 27 يناير 1947 وهو يخوض في حديث مع مصطفى بوعزيز عن الحركة الوطنية ووعي الجماهير الشعبية بخطابها؟”[17]
يمكن القول أن هذا الزمن، هو تمكين ذهني يعود إليه الكاتب، وفي عودته لا يعود صافيا، وإنما يعود وقد التبست به نسبية الزمن الواقعي بكل تحولاته، وهو ما عكسته إيديولوجيا سينترا :
” الأسماء متغيرات، مثل الأزمنة، مثل الأشخاص مثل الأمكنة، والحقيقة ثابتة، تنتقل من زمان لزمان، ومن شخص لشخص، ومن مكان لآخر آخر”[18].
وقفت سينترا على مراحل زمنية مهمة من تاريخ المغرب، واكتفت بذكر شخصيات علاقتها ب هذا التاريخ هي علاقة الجزء بالكل، تحضر بوصفها رموزا تكشف الماضي السياسي المتوتر وذاكرة النضال، تمثل نماذج إيجابية يحتذى بها، لا تساهم في السيرورة السردية ونموها وتطورها بقدر ما تساهم في صيرورة المعنى، بتأطيرها للملمح العام لهذه المراحل.
ج-التقديم والتأخير
من الظّواهر المرتبطة بقضيتي التقديم والتّأخير في علاقتهما بالزمن، ظاهرتان تمثّلان أهميّة كبيرة في ميدان البلاغة وهما: عنصرا (المماطلة) و(المفاجأة).
ينطلق الاستهلال من تاريخ 2014 الذي لم يصرح فيه السارد بأي حدث مهم ، و إنما اكتفى بالمماطلة[19] – هي إرجاء الشيء وعدم الكشف عنه في بداية النّص ووسطه، ثمّ الإعلان عنه في نهاية النّص لغرض تشويق القارئ إلى متابعة الموضوع، وهذا ما يرتبط بقضيّة (التأخير)، من خلال تصدير العتبات و تقديم الزمن الحاضر على الماضي، بغرض لفت انتباه المتلقي و تشويقه، بنحو يجعله متطلِّعاً الى المتأخر، وهو الحكاية التي تجعل السارد ينتقل الى زمن ماض مرحلة شباب عمر بنمنصور وحياته النضالية و تعرضه للاستغلال من قبل المنظومة الإستعمارية ، فيما ارتبط القسم الأخير بزمن ما بعد الاستقلال 2003 شيخوخة بنمنصور، و اكتشافه لمنظومة استعمارية محلية جديدة، ترغب في تسخيره لخدمتها فانتهى به الأمر فاقدا ذاكرته.
تعتمد الرواية على الزمن الدائري؛ فالإشكالات التي واجهتها الشخصية ما زالت قائمة، كيفما كانت مستويات حياتها التاريخية ” أنتما جزء من المشكل وليس الحل، أنتما وضرباؤكما عوض أن تستوعبوا بنية، أو تصوغوا أداة تعينكم على فهم واقعكم تكتفون باستعادة المنظومة الاستعمارية. كاز الطا أو الجنرال عبيدو، ما الفرق ؟”[20]،” يحفر هذه الاستفهام الانكاري في صميم أطروحة سينترا التي تقفز بين زمنين فيضيئ القلق الوجودي الذي يعيشه الكاتب الضمني نتيجة توترات ذاكرة الماضي السياسي وأسئلة الفكر والمجتمع ، فيجعل بنمنصور الذي يرتبط برمزية المفارقة من خلال رؤيته للعالم التي تتخذ من الجمالي و الفكري طريقا للكشف عن الحقيقة، ومن موقع علاقته بالزمن، فعمر هو الحل الوحيد الذي يربط الماضي بالحاضر، وهو الدليل على أن البنية التي كانت في الفترة الاستعمارية خلال 1946 لا تزال حية إلى حدود الزمن الروائي لسنترا ، و هو أيضا الدليل على الوعي المركب الذي يحتاجه الكاتب الضمني ليخرج من الذهول السياسي العام لمرحلة الربيع العربي، ولكي ينجح المغرب في رهانه على الحداثة الواعية المنبثقة من التجربة الخاصة بالبلاد.
خاتمة
زمنية السرد عند حسن أوريد؛ هي بالأساس زمنية ارتجاعية ذهنية ، تنطلق من الواقع لتسبر أغوار الماضي الذي جرت فيه تلك الأحداث، ومبعثها الارتجاعي تلك الصورة الواقعية التي ظهرت بها الانتفاضات و الحركات الاحتجاجية في 20 فبراير، التي تتقاطع في الأهداف مع زمن الاستعمار و تختلف في كيفية تحقيقها ،هذه الارتجاعية الزمنية تجعلنا نشعر بأن الزمن يشكل قطبا تناظريا، يعكس واقع المغرب بين الماضي والحاضر، زمن الانتفاضة ، زمن استرجاع الحرية، زمن الصمود ، وموقف المجتمع إبان الثورة التحريرية، وبعدها و تذهب بعيداً عن هذا التاريخ إلى راهنية زمن الكتابة ، من خلال القياس التاريخي مع الزمن الواقعي زمن الانتفاضة والتظاهرات التي عمت البلاد معلنة الرفض والتحدي.
(بقلم الباحثة مريم الهاشمي مختبر علوم اللغة والخطاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بإشراف أ.عبد العزيز بنار جامعة شعيب الدكالي-المغرب/الجديدة)
الهوامش
- [1] ينظر تزفيطان تودورف الشعرية ص 15 ترجمة شكري مبخوت ورجاء بن سلامة دار توبقال للنشر الدار البيضاء المغرب
- [2] ينظر جيرار جنيت خطاب الحكاية بحث في المنهج. ترجمة محمد معتصم عبد الجليل الأزدي عمر الحلي -منشورات الاختلاف ص 45
- [3] ينظر سعيد يقطين تحليل الخطاب الروائي: زمن، السرد التبئير-المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع ط3 1997 ص 80
- [4] ينظر سيزا قاسم بناء الرواية دراسة مقارنة فى ثلاثية نجيب محفوظ مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 37
- [5] عبد الملك مرتاض في نظرية الرواية ص259
- [6] ينظر دي سي ميويك: المفارقة وصفاتها، موسوعة المصطلح النقدي، تر عبد الواحد لولوة، المجلد الرابع، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1993 ص 258
- [7] شـواخ، فـراس أحمـد، البنـاء الفنـي للروايـة الإماراتية، روايـة” مـن أي شـيء خلقـت” لميثـاء لمهيري، أنموذجا، جامعة النيلين، السودان، 2018
- [8]رواية سينترا حسن اوريد دار النشر توسنا 2015 ص 14
- [9] سينترا ص 10
- [10] سينترا ص 18
- [11] G.Genette. figures III-ed. Seuil 1972.p 90
- [12] سينترا ص 127-128
- [13] المصدر نفسه ص139
- [14] قاموس معاجم: معنى وشرح غشي في معجم عربي عربي أو قاموس عربي عربي وأفضل قواميس اللغة العربية (maajim.com)
- [16] G.Genette. figures III-ed. Seuil 1972 P 105
- [17] سينترا ص 152-153
- [18] المصدر نفسه ص 152
- [19] Wayne C. Boothe, The Rhetoric Of Fiction, ch 3, types of narration NOVEL: A Forum on Fiction © 1968 Duke University Press P 149-161.
- [20] سينترا ص 222
لائحة المصادر و المراجع:
المصادر
- سينترا حسن اوريد دار النشر توسنا 2015
المراجع
- تزفيطان تودورف الشعرية ص 15 ترجمة شكري مبخوت ورجاء بن سلامة دار توبقال للنشر الدار البيضاء المغرب
- جيرار جنيت خطاب الحكاية بحث في المنهج. ترجمة محمد معتصم عبد الجليل الأزدي عمر الحلي -منشورات الاختلاف
- سعيد يقطين تحليل الخطاب الروائي: زمن، السرد التبئير-المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع ط3 1997
- سيزا قاسم بناء الرواية دراسة مقارنة فى ثلاثية نجيب محفوظ مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب
- عبد الملك مرتاض في نظرية الرواية
- ينظر دي سي ميويك: المفارقة وصفاتها، موسوعة المصطلح النقدي، تر عبد الواحد لولوة، المجلد الرابع، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1993
- قاموس معاجم: معنى و شرح غشي في معجم عربي عربي أو قاموس عربي عربي وأفضل قواميس اللغة العربية (maajim.com)
- [ معنى الكابي في قواميس ومعاجم اللغة العربية (arabdict.com)
