د. معطى الله محمد الأمين
ملخص البحث:
ترومُ هذهِ الورقةُ البحثيَّة الغوصَ في ثنايا الفنِّ التشكيليِّ الفلسطينيِّ من زاويةِ المقاربةِ السيميائيَّة وهذا للتعرُّفِ على آليةِ اشتغالهِ الجماليِّ، وتفحُّصِ مَحمُولاتِه الدِّلاليَّة التي تعجُّ بصورِ الهويَّة بمختلفِ تمثلاتِهَا البصريَّةِ، وكذَا التعرُّفِ علَى زخمٍ من الأيقوناتِ النِّضاليَّة التي تستودِعُهَا اللَّوحةِ الفنيَّةِ والتي تعكسُ بجلاءِ سيرةِ الشَّعب الفلسطينيِّ وعراقتهِ ونزعتهِ المقاومةِ.
ولاريب أن نعضدَ في هذهِ الدراسة بنماذج تطبيقيَّة مستوحاةٍ من العوالِم التشكيليَّةِ للفنِّ الفلسطينيِّ الذي تتَّسِمُ لوحاتهُ بالمدِّ التعبيريِّ الصَّامتِ المبتعثِ من الأنساقِ اللَّونيَّة والرمزيَّة وهذا وفق قراءةٍ سيميائيَّة متبصِّرةٍ ترتجيِّ استجلاب المعانيِّ المركزيَّةِ من عمقِ اللَّوحةِ باعتبارها نصًّا مرئيًّا صامتًا مكتظًّا بالرسائلِ المشَّفرة والرؤى الفلسفيَّة الثريَّة التي تهفو نحوَ التملُّصِ من القيودِ الاستعماريَّة، وتوكيدِ الأنا الفلسطينيَّةِ المقاومةِ بشقيها النضاليِّ، والجماليِّ. ذلكَ أن تعزيز الهويَّةِ وتثمين المقاومةِ عبر التنسيقِ الفنيِّ والابتعاثِ التشكيليِّ يعدُّ مضربًا من مضَاربِ السُّلوكِ الحضاريِّ الذي يمتِّنُ الشَّخصيَّة الفلسطينيَّة ويساعدها على التزوُّدِ بالمواردِ الكفيلةِ بمواصلةِ الكفاحِ واقتصاصِ دُروبِ النَّصرِ.
الكلماتِ المفتاحيَّة: الهويَّة البصريَّة، المقاومةِ، الفنُّ، النِّضال، الجماليَّة، السِّيميائيات، فِلسطين.

مقدِّمة
لا ضيرَ أن يغتديَ الفنُّ مِسبَارَا حيويًّا لقياسِ عُمقِ الرافدِ النضاليِّ المترسِّخ في الذاكرةِ الجمعيَّةِ الفلسطينيَّة، ذلِكَ أنَّ الفنَّ بأيقوناتِهِ الإيحائيَّةِ ودلالاتِهِ التمرديَّة وأساليبهِ النَّاجزةِ في التشكيلِ التَّحرُّريِّ، والتنمذُجِ الإنسانيِّ يصبو إِلَى نَسفِ الأساطيرِ الصهيونيَّةِ بمزاعِمها التاريخيَّة المؤدلجةِ، وكذَا بَيانُ تجُّذرِ الشخصيَّة الفلسطينيَّة في أرضِ المَقدِس رغمَ تواصل الإرهاب النفسيِّ والجسديِّ الصَّادر من لدنِ المؤسسات الإمبرياليَّة بجانحيهَا الاقتصاديِّ والعسكريِّ التيِّ ما فتِئت تُعينُ هذا الكِيانِ الغَاشِم عَلَى التطاولِ والتوسعِ ببناءِ المستوطناتِ وتهجيرِ السكانِ الأصليينِ بتنكيبِ قُراهُم وإخلاءِ بيوتٍهم وتهديمِ الصَّوامِعِ والمساجدِ والكنائسِ التي تشهدُ على التَّنوع الثقافيِّ والتسامُحِ الدِّينيِّ.
الفنُّ التشكيليِّ الفلسطينيِّ بين الرؤيةُ التحرُّريَّةِ والتفرُّد الجماليِّ.
والفنُّ التشكيليِّ الفلسطينيِّ سليل عقول نابِغةِ وأنامل مُبدعة راهنَت علَى إرساءِ الهويَّة الفلسطينيَّة بمختلفِ تشكلاتِها في حيز اللوحةِ مُخلِّفةً بذلكَ رسائلِ مشفرةً تهفو إلى تبليغ القوى الغربيَّةِ المساندةِ للاحتلال بأصالةِ الشعب الفلسطينيِّ فهو قائمٌ بقيامِ تلكَ اللوحاتِ التي تنوبُ منابَ السِّلاحِ في توريدِ القضيَّةِ إلى كلِّ شعوبِ العالمِ ولكن في شكلِ استعاراتِ جماليَّة، هوياتِ سيميائيَّة تختزلُ في الأيقونَات البصريَّةِ التي تحفُّ إطار اللَّوحةِ، الألوانِ المنفتِحةِ على المعانيِّ الفنيَّةِ التي تختص بمكاشفةِ المعاناةِ الفلسطينيَّةِ وهي ترزحُ تحتَ نير الاستِعمار.
إنَّ الفنُّ التشكيليِّ الفلسطينيِّ يأبَى أن يكونَ وليدَ نفثاتِ شعوريَّة خاصةً تنزاحُ عن الوعيِّ الجماعيِّ، أو نتَاجَ تكلُّساتٍ نفسيَّة يستوعُبُها العقل الباطنيِّ ويزجيهَا في هيئةِ علاماتٍ حرَّةَ تتداعَى في فضاء اللَّوحةِ دونَمَا أيِّ اقتضاءاتٍ فكريَّة بل هو مشروعُ كفاحيِّ مُنتظمَ نشَأَ بعيدَ أطوارِ من الممارساتِ الإقصائيَّةِ لدولةِ الاحتِلالِ، وهو كذلِكَ يتأطَّر ضمن نسق جماليِّ تواتريِّ لا يَنفكِّ في نزعِ الألغامِ الإعلاميَّة التي زرعَتها المنظمة الصهيونيَّة في العالمِ لتشويهِ الشَّخصيَّة الفلسطينيَّة، حيثُ لطالما تكفَّلَ الكيانُ الغاصِبُ بتشويهِ الفلسطينيِّ وربطهِ بصورِ البداوةِ والتَّوحُّش، وسفكِ الدماءِ وإلغاءِ الآخر.
فليسَ إذن الفلسطينيِّ هو ذَاكَ الذيِّ يتوهَّمهُ الرجل الغربيِّ المتحالفُ مع السلطةِ الإعلاميَّة لدولةِ الكيانِ وإنَّما هو ابنُ الأرضِ الذي نَكشَ تربتَها، وزرعَ بذورَ السَّلامَ في منَاحِيهَا، ونهلَ من طبيعتِهَا قَداسَةَ الحبِّ وشرفِ الانتِماء، وهذا ما تكفَّل الفن التشكيليِّ بنقلهِ ليكونَ أفضل بديلٍ في نقلِ الحقيقةِ، تِلكَ التي أراد الاحتلالُ خنقَها وردمهَا في فلواتِ النسيانِ ابتغاءَ التزوير والتلاعبِ بأرشيفِ بالتاريخِ الذي دَأَبَ عَلَى إِنصَافِ الفلسطينيِّ في كونهِ ابنُ الأرضِ الحقيقيِّ لا ذاكَ الذي جيء بهِ محمولًا في السفنِ والعبَّاراتِ قادِمًا من سجونِ أروبَا وقبابِها العفنةِ عقِبَ الوعدِ الموبوءِ بالخيانةِ والمنسوبِ للسياسيِّ البريطانيِّ بِلفور.
ولَطالمَا أبدَت سُلطاتُ الاحتلال مخاوِفَها من تَهافتِ العالمِ على مشاهدةِ اللَّوحاتِ الفنيَّة التشكيليَّة الفلسطينيَّة التي تسردُ فصولَ النكبةِ، لِذلكَ تَرَاهُم يقيمون الحواجزِ ويصطنِعونَ العراقيلِ للحيلُولَةِ دونَ عرضِ تلكَ الأعمال الجماليَّة في المتاحفِ العالميَّة لعلمهم مُسبَقًا بأنَّ لُغَةَ الفنِّ هي لغةٌ عالميَّة والقيم الفنيَّة كذلكَ لها نفسُ الطَّابِعِ أي من حيثُ سهولةِ الانتشارِ وفعَاليَّةِ التَّبليغ، “ثمَّ إنَّ أعمال الفنَّانينَ التشكيليِّين تُخالفُ فنونَ القولِ من قصائد مُغنَّاةٍ ورواياتِ مسرودةٍ فهي لا تحتاجُ للترجمةِ والتفسيرِ لعددٍ أكبر من اللغاتِ الحيَّةِ كيِّ تغتدي أعمالا عالميَّةِ”[1]، فالصامتُ المتبدَّى في هندسةِ اللَّوحةِ التشكيليَّة هو ناطِقُ من حيثُ الدِّلالةِ، حيثُ يستوعبُ البشر إشاراتهِا الأيقونيَّة ويؤوِّلونَ رسالاتِهِا عَلى اختلافِ ألسنتِهم وتبايُنِ مرجِعيَّاتهم الثقافيَّةِ.
لعلَّ من المهامِ الساميَّةِ التيِّ على الفنانِ أن يُدرِجَهَا في منتجهِ الجماليِّ هو سنُّ القواعد التصويريَّةِ بمؤدَّاها الإدهاشيِّ التي لا تتَوانَى في فضحِ أساليبِ الاحتلالِ وتعريةِ منَاهِجهِ السلوكيَّةِ المضادةِ، فالفنِّ الفلسطينيِّ في ضوءِ هذا المشهدِ المكثَّفِ بالصداميَّةِ لا يتوخَّى المتعةِ الجماليّةِ فحسب، بل الإِمعانِ في تَصيُّدِ مزالقِ السياسةِ الصهيونيَّةِ ومن ثمَّ إدانتِها على أديمِ اللوحةِ التشكيليَّةِ بواسطةِ حشدٍ من الرموز السيميائيَّة، الألوانِ المتَّحدةِ، الأشكالُ الهندسيَّة المُنسابةِ، الومضاتِ الأيقونيَّة الخاطِفةِ ، وهي كلُّها فواعل جماليَّةِ لا تنفكٌّ في إرسالِ مزيدٍ من البرقياتِ الإعلاميَّةِ التي تُصوِّر الواقعِ الأليمِ التي يُعايِشهُ المواطن الفلسطينيِّ المهجَّر من جهةِ، وتُثبتُ عراقتَهُ وقدامةَ هويتهِ من جهةٍ أخرى، ليتحولُّ المشهدُ التشكيليِّ إلى خطابٍ حجاجيِّ يلتمِع بالأنساقِ الثقافيَّةِ والحضاريَّة التي تُراهن على تفنيدِ المروياتِ الإسرائيليَّة حولَ أحقيَّةِ الأرضِ الموعودةِ.
في تناجُزِ السيميائياتِ بالفنِ، ورغيبةِ النِّضالِ المُقدَّس.
لقد آثرنَا التواصيِّ بالنهجِ السيميائيِّ لمكاشفةِ ملابَساتِ الفنِّ التشكيليِّ الفلسطينيِّ لكونهِ من أقومُ الطرائق النقديَّة التي تقيِّمُ المشهدَ الجماليِّ بناءً على عوارِضَ جماليَّة وتواصليَّة خاصَّةِ، ولاريب في هذا السياق أن نعضُدَ بمقولة النَّاقدِ الإيطاليِّ “إمبرتو إيكوُ” حينَ سُئِلَ عن الدَّور الذي يُمكنُهُ أن تلعبَهُ السيميائيَّاتِ في النِّضال ضد العنصريَّةِ والكراهيَّة فكانَ جوابُهُ بسيطًا: علِّموا الطفل الفرنسيِّ أنَّ كلمة أرنب بالفرنسيَّةِ ليست سوَى كلمةٍ ضمنَ آلافِ الكلماتِ المنتميةِ إلى لغاتِ تُستعملُ للإحالةِ إلى الشيءِ نفسهِ في العالمِ الخارجيِّ”[2].
فإجابةُ الناقدِ الإيطالي إيكو على بداهتِهَا فإنَّها تنزَعُ إلى إلغاءِ سطوةِ الأنا الغربيَّةِ على غيرهَا، ذلكَ أنَّ الكونَ محفوفٌ بسديمٍ من الإشارات السيميائيَّةِ التي تحجبُ مَاهيتَهُ، بينمَا تقومُ اللغاتِ جميعِهَا بلا اِستِثناءِ بِمكاشَفَةِ تلكَ الإشاراتِ وموازنةِ ثقلهَا الوجوديِّ من خلالِ إدراجِها ضمن سياقِ تركيبيِّ يترفَّعُ عنِ المفاضلةِ وإقصاءِ لغةِ دونَ لغةٍ، فالأهمُّ من ذلكَ كُلِّهِ هو إيجاد النموذج الألسنيِّ التوافقيِّ الأَجدر ب المرجع السَّايقَة ونثريَّة، دار صفحات للنَّشر والتوزيع، ط1اصرة، مجلة العربيِّ، الكويت، العدد: 66كانَ الفت النتلبيةِ التحليلِ المناسبِ الذي عبرهُ يتم فكِّ مغاليقِ تلكَ الشيفراتِ المُسننةِ للنَّص البصريِّ المماثلِ صوريًّا لتجليَّاتِ الكونِ.
لقد كانَ الرمزُ حاسِمًا في حياةِ الإنسانِ فمن خلالهِ وداخلهِ اِستطاع أن “يُنظِّمَ مُجملَ تَجاربِهِ الحياتيَّةِ في انفصالِ عن العالمِ الأمرُ الذي جنَّبَهُ التيهِ في اللَّحظةِ وحماهُ من الانغماسِ داخِلَ عالمٍ بلا أُفق ولا ماضٍ ولا مستقبل”[3].
ولو أطبَقنَا ذلكَ على مُخرجاتِ الوضعِ السياسيِّ والثقافيِّ الفلسطينيِّ لالتمسنَا أفضليَّةِ تلكَ الرموز التي توشَّحت بِها اللوحاتِ التشكيليَّةِ، والمستقاةِ منِ الطبيعةِ تارةً ومن المكنونِ التراثيِّ العريق تارةً أخرى في الحفاظِ علَى أصالةِ الشخصيَّةِ الفلسطينيَّةِ وحمايَتِها من التيهِ رغمَ حملاتِ الإبادةِ والتهجير القسريِّ الذي تمارسهُ سلطاتُ الاحتلالِ عنوةِ، بمعنى أنَّ وظيفةِ الفن تتمحورِ هُنَا في بعثِ الرموزِ التي تُحيلُ على البقاءِ والتجذُّرِ والتشبُّثِ بالأرضِ دونَما العبءِ بالإرهابِ الصهيونيِّ فهو فعلُ مضاد لكنَّهُ يفتقرُ إلى الفطنةِ التاريخيَّةِ، المسوِّغ الجماليِّ، الانتدابِ الحجاجيِّ، التصلُّبُ النضاليِّ وهي كلُّها عوامل تأهيليَّة خولت للفلسطينيِّ المقاومةِ والاستمرارِ في المكوثِ على حلباتِ النّزالِ رغمَ التحالفِ الغربيِّ والمؤامراتِ الخسيسةِ للهيئات السياسيَّةِ الدوليَّةِ والأمميَّةِ.
والرمزُ معوانُ الفنِّ علَى إِرساءِ النموذجِ المتعاليِّ القَادرِ عَلى تَشذيبِ الحقائقِ واستخراجِهَا من قلبِ الرؤى الباطنيَّة التي تعتلجُ الوجدانِ البشريِّ وهذا ما يبوءُ بهِ الفيلسوف والمؤرخ الألمانيِّ أَرنستِ كَاسيرر بقولهِ: إنَّ الأشكال الفنيَّة هيَ تعبيرٌ عن الوجدانِ البشريِّ، أو الحياةِ الباطنيَّة، وهذهِ الأَشكال لا تكونُ مُعبِّرة إلا من خلالِ الرمزِ، وعلَى الأسَاسِ فإنَّ الرمزَ، رمزُ الوجدانُ البشريِّ”[4].
أي أنَّ الرمز هو وسيطة تعبيريَّة وظيفتُهُ تيسيرُ انتقالِ ما يضمرهُ الوجدانُ البشريِّ من طاقاتِ انفعاليَّةِ يُحرِّرُها الفنِّ إِلى العالمِ الخارجيِّ على غرار نزعاتِ الحريَّةِ والمقاومةِ ورفضِ ابتلاعِ فكرةِ التواجدِ الصهيونيِّ بأرضِ المَقدِس تِلكَ التي اقتدرَ الفنانُ الفلسطينيِّ عَلَى تعبئَتِها مرئيًّا في نِتِاجِهِ الفنيِّ وأسلوبِهِ التشكيليِّ.
فالمواضعَةُ السيميائيَّةِ التي سنَّها الرياضيِّ والفيلسوف الأمريكيِّ “شارلز سِندرس بِيرس “ ترى في السُّلوكيَّاتِ والأنشطةِ الإنسانيَّةِ أنساقًا إشاريَّةِ تتبطَّنُ على مزيدٍ من الديناميَّةِ الدلاليَّة التي تَعكِسُ الطرائقَ التي توخَاها البشرُ في توضيبِ تِلكَ النشاطاتِ وآليةِ قيامِها حتَّى لحينِ انتهاءِ مسارهَا، “بمعنى آخر أنَّ العلامةَ في التحديدِ البيرسيِّ هيَ كلُّ ما يقومُ مقامَ الشيءِ ويمثِّلهُ ومنهُ فالكونُ كلُّهُ علامة، والسيمائيَّات دراسةٌ لهذَا الكونِ العلاميِّ” [5].
وقد اِقتدرَ الفنُّ التشكيليِّ الفلسطينيِّ علَى التنويع في مقاماتِ التشكيلِ الجماليِّ، والإغناءِ الأسلوبيِّ تطعيمًا لفضاءِ اللوحةِ بالمشاهدِ الحركيَّة التي تبدو ولكأنَّها حصونٌ مرئيَّةِ تحافظُ على كينونةِ الفلسطينيِّ من الانسحاقِ والتشرذمِ، فللفنِّ الفلسطينيِّ إذن غايةٌ مزدوجةٌ أن يجعل المعنَى حسيًّا عيانيًّا وأن يجعلَ الإحساسَ خِصبًا فيخرجُ منهُ فِكرًا”[6] أيِّ قولبَةُ القضيَّة الفلسطينيَّة السَّاميَّةِ باعتبارِهَا فكرًا يشغُلُ أصحابَ المبادئِ في إطارِ مساحةٍ جماليَّة تكتظُّ بالإشاراتِ الأيقونيَّةِ الفوقيَّةِ التي تُحيلُ إلى هشَاشةِ الأنَا الصهيونيَّة المعاديةِ التي تتخذُ عوضَا عنِ الفنِّ الإرهابَ اللغويِّ والجسديِّ لكتمِ الأفواهِ المنابذةِ للاستيطانِ، وهكذا تتمُّ المُعَادلةُ بأدواتِهَا المختلفةِ بينَ شعبٍ أعزلٍ صاحبُ القضيَّةِ ومحتضِنُها يعضدُ بالفنِّ كخطابٍ نِضاليِّ موازٍ وكيانِ مهزوز، مرتبكِ الخطوةِ، أَعمَى البَصيرةِ يتَّكئ على أسلوبِ الغطرسةِ ورغمَ ذلِكَ نُلفيِّ تفوُّقًا للفنِّ طيلةَ أطوار الصِّراعِ وهذا نتيجةَ الأسبابِ الآتيةِ:
-الفنُّ خطابٌ استمراريِّ يستمدُّ مضامينَهُ من تلكَ العلاقيَّةِ الحميميةِ بين الإنسانِ والطبيعةِ.
– الفنُّ يُحيلُ إلى قيمِ الرحمةِ والسلام والتوافق الإنسانيِّ ونبذِ الصراعاتِ الإثنيَّةِ والدينيَّة.
-الفنُّ التشكيليِّ نصٌّ مرئيِّ سريعُ الانتِشارُ قويُّ الإبلاغ لذا فهو أقدرُ الأسلحةِ على إرغامِ الخصومِ بالهزيمةِ.
– الفنُّ يصنعهُ أصحابُ القضيَّة الذين يمتلكون شرعيةَ الوجودَ، بينَما الكيانُ الغاصبُ هو رهينَ الثقافةِ الاستهلاكيَّةِ الغربيَّةِ والتجبُّر الماديِّ الأجوفِ من الروحانيَّةِ.
الهويَّة الفلسطينيَّةِ وامتِدَاد الأَنَا المقاومةِ بين الإيحاءِ البصريِّ والتكثيفِ الرَّمزيِّ:
إنَّ إحدى المؤهلاتِ الإبداعيَّة القديرةِ بإشراكِهَا في هذا النِّزالِ الملحميِّ الجاريِّ هو أن يكون لديكَ عراقةٌ تاريخيَّة ونخوةُ حضاريَّةِ، وغناءُ تراثيِّ وموسوعةٌ ثقافيَّة متناغمةٌ من حيثُ الأصالةِ والحداثةِ مع لفيفٍ من الفنَّانينِ العباقرةِ الذينَ قرَّروا رفعَ لواءَ المُمانعةِ عاليًا ابتغاءَ الإجهازِ على المرويَّاتِ الصهيونيَّة بإبرازِ عيوبِهَا وترهُلِ أنساقِهَا التاريخيَّةِ وفي هذهِ الدراسةِ التطبيقيَّةِ ارتأينَا استحضَار بعض اللوحاتِ التشكيليَّةِ الفلسطينيَّةِ لبيانِ شَأوِ المقاومةِ النَّاعمةِ وقدرتِها على التَغلغلُ في الذاكرةِ الجماعيَّةِ العربيَّة والغربيَّةِ مؤذنةً بتحريرِ الحقيقةِ كاملةِ دونَ انتِقاصٍ أو تشويهٍ تلكَ التي اجتهدَ الإعلامٌ الغربيِّ المتحيز في طمرهَا أردَاحًا من الزَّمنِ، ليستحيلَ الفنُّ وقتَهَا بُعبُعًا مُخيفًا يهدِّدُ الساسةِ الإسرائيليِّين بتقويضِ دولتِهم الرخوةِ التي تعوزُ لأعمدةٍ صلدةٍ تخوِّلها المكوثَ دهرا مديدًا بأرضِ فلسطينِ الطَّاهرةِ.
الفنَان الفلسطينيِّ “رائد القَطنانيِّ” وإبهاريَّةُ الصُّورةُ المؤثَّثةِ بروافدِ الهويَّةِ.
لعلَّ من النماذجِ التي تستحقُّ الدراسةَ والتحليل أعمال الفنان الفلسطينيِّ رائد القطناني وهذا نظيرَ تمهُرها في إيداعِ الصورِ الباذخةِ بالأيقوناتِ التيِّ تختزنُ الهويات البصريَّةِ للشعبِ الفلسطينيِّ واستحكامهِ بتقاليدهِ الفارعةِ التي تتطاولُ زمنيًّا وتاريخيًّا وحضاريًّا على الميلادِ الفتيِّ لدولةِ الاحتلالِ فمنظرُ العجوزُ هي تمدُّ بصرَها في السَّماءِ تكنيَةِ عن السموقِ الروحيِّ والتواصل الربَّانيِّ الذي يُكانِفُ تلكَ العجوزِ وهي رابضةُ في محرابِ المقاومةِ المقدَّسةِ معَ طبقِ القشِّ المكون من سعفِ النخلِ الذي يسترفِدُ مسجد الأقصى بساحاتِهِ الشاسعةِ كإلماعةِ نبهةٍ إلى دور المرأةِ الفلسطينيَّة في الذودِ عنِ تخومِ الأقصَى، فهيَ بناءً على المشهديَّة تقومُ بوظيفتينِ الرباطُ في أرضِ المقدسِ تارةً وإنجابِ الشُّرفاءِ البواسلِ الذينَ يخلفونَ آباءَهم في مهمةِ الكفاحِ تارةً أخرى وهكذَا تُصبِحُ المرأةُ هي المعادل الموضوعيِّ للخصوبةِ والكرم والاستدرار وكأنَّها تنحتُ من تلكَ الوقفةِ المهيبةِ حروفًا داكنةً بحبرِ الإباءِ والشُّموخ لا تكادُ أيٌّ من تلكَ المغرياتِ الهندسيَّة والإنشاءاتِ العلميَّة والتكنولوجيَّةِ لدولةِ الكيانِ أن تنافِسَها في رِفعَتِهَا ويضفيِّ الوشاحُ الأبيضُ المنساحِ على ظَهرِ العجوزِ مسحةً جماليَّة على الصورةِ أينَ يومئ سيميائيًّا إلى نقاءِ الضَّميرِ والنوايَا العفيفةِ، التجليِّ والبروزُ دونَ التواريِّ والاختباءِ فقد جَاءَ فيِّ المروياتِ المسيحيَّة: “أنَّه عندمَا تجلَّى يسوع المسيح أَمام بُطرس ويعقوب ويوحنَّا الذين جلَبوهُ إلى جبلِ حرمون شعَّ وجهُه نورًا وأَصبحت ثيابُه متألِّقة ناصعةُ البياضُ أشدُّ بياضًا من الثَّلج”[7].
أمَّا في المواضَعاتِ الإسلاميَّة فاللونِ الأبيض هو لونُ العفَّةِ والطُّهرِ الذيِّ يُواظبُ عَلَى منحِ الحجيجِ لباسَ إحرامِهم المشرقِ الخاليِّ من الدَّناسةِ وبالتاليِّ فهوَ يستهدفُ رمزيًّا اختزالَ سيرورةَ الإنسانِ وتاريخهِ ثمَّ يمزجهَا فتَغدو لا لونَ لَهَا وتعودَ لبكارتِهَا الأُولى”[8].
وحينَ تَتَضَافَرُ الدَّوالُ الصوريَّة التي تتدفَّقُ من مِشكاةِ اللَّونِ الأبيض والمنتزعِةِ منِ الدِّيانتينِ المسيحيَّةِ والإسلاميَّةِ يظهرُ التدليلُ السيميائيِّ القرين بمكاشفةِ المرأةِ الفلسطينيَّة فهيَ تأبَى الاختباءَ في مخدعِهَا إذا هبَّت الجموعُ الصهيونيَّةِ باغتصابِ أراضيها، بل تُقاومُ بشراسةِ حتَّى تستكينَ لهَا الشَّهادة وتروحَ لبارئِها بيضاءَ غيرَ ملوثةٍ بأدرانِ الخيانةِ وهذا ما يؤكدهُ المنطوقُ الشعريِّ الدَّرويشيِّ الذي يتضايَفُ دلاليًّا وفنيًّا مع اللَّوحةِ:
عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ:
عَلَى هَذِهِ الأرضِ
سَيَّدَةُ الأُرْضِ،
أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ.
كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين.
صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين.
سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي،
أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ[9].
فعلَى تُخوم الفنِّ الملتزم تتحالف اللوحةُ الشِّعريَّةِ كونَها نص شعريِّ صامتِ مع المقبوس الشعريِّ كونَهُ لوحةٌ تشكيليَّة ناطقة ليَصدحَا في الآفاقِ بأرضٍ لها شِعابٌ أنثويَّة تُدعَى فلسطين تَقطرُ عزًّا وتجودُ بدُررَ الشَّهامةِ والنخوةِ دونَمَا أن يَطالَهَا العُقرُ فهيَ على الدَّوامِ سخيَّةً بالأبطالِ الأشاوسِ، والعيونِ اللَّامعةِ التي تجوسُ بينَ أسوارِ الأَقصَى رغبَةً في دفعِ وباءِ الصهيونيَّة وفكرهِ الهدَّام عن حياضِهِ المقدَّسة.
لعلَّ من سماتِ الهويَّةِ البصريَّة الناتئةِ في أديمِ اللوحةِ الثوبُ المقدسيِّ الذي ترتديهِ العجوز بكلِّ فخرٍ المطرَّز بالورود والأيقوناتِ الداعيةِ إلى الالتِحامِ مع الطبيعةِ ولو أنَّ السواد الطاغيِّ على الثوبُ يعكسُ المشهد المعتَّم في ظلِّ اندساسِ سرطانِ إسرائيل في جسدِ الأرضِ الفلسطينيَّةِ.
وقدَ أبانَ الفنانُ عن براعةٍ قلَّ نظيرُهَا حينَ ماثلَ بينَ قوامِ المرأةِ العجوزِ وهيَ جالسةٌ بقوامِ الشجرةِ المتجذِّرةِ في عمقِ الأرضِ، ذلكَ أنَّ كليِهمَا يُصعبُ اقتلاعهُ أو طمسهُ أو محقُهُ من الوجودِ، فالشجرة المعمرةُ كلَّما اقتلعَها الحطَّابُ بفأسِهِ، استطالت جذورُهَا ونبتَ برعُمها مخلفةً أثرًا يربو شيئًا فشيئًا وهكذَا بالتمامِ هي المرأةُ الفلسطينيَّةِ التي يبزغُ من رحمهَا ألفُ شهيدٍ يُقاوم ومهما استكثرَ الصهيونيِّ في الدمِ والدهسَ على جماجمِ الرضع وحشدَ الأبطال في السجونِ و الزنازين، سيلقَى المرأةَ الفلسطينية بالمرصاد فَهيَ تقومُ تاريخيًّا بالوظيفةِ التعويضيَّة أي أنَّها المصنعُ الذي يَخرجُ من أفرانِهِ الرجال الأشدَّاءُ الذينَ يلوذونَ بشريعةِ الإباءِ التي خلَّفَها أجدادهم، وكأنَّ هذهِ النغمة الفدائيَّة التي تلفُظها اللوحةَ لهَا ما يُقابِلُهَا في رواية أم سعد للروائيِّ الفلسطينيِّ القدير غسَّان كنَفانيِّ حينَ يستشعرُ ريادةَ المرأةِ في الكِفاحِ فيقولُ مُفاخِرًا : “هذهِ المرأَةُ تلدُ الأَولادُ…. فيصِيرُوا فِدائِيِّين …. هِيَ تَخلف وفلسطينُ تَأخُذ”[10].
هكذَا أبانَت اللوحةُ عن مجموعةٍ من الأيقوناتِ البصريَّة التي نزعَت إلى مُعايَنةِ أنماطٍ من الهويَّاتِ التي تُحيلُ إلى الشخصيَّةِ الفلسطينيَّة وقدامتِها في الأرضِ:
-الهويَّةِ الثقافيَّة: من خلالِ الثوبِ الأصيل المحبوكِ بسواعدِ المرأةِ الفلسطينيَّةِ، وطبقِ القشِّ الذي يسترفدِ الأقصى بسورهِ العظيم وقبَّتهِ الذهبيَّة.
– الهويَّةُ الدِّينيَّة: تتبدَّى عبرَ مجسَّمِ الأقصى الذي تحضنهُ المرأةُ تكنيَةً عن عقيدةِ الفداءِ التي يتواصى بها الشَّعبُ في سبيلِ تأمينِ تراثِهِ الدينيِّ من حِفرياتِ اليهودِ وآثارها التخريبيَّةِ.
–الهويَّة الطبيعيَّةِ: تشذُّ فلسطينِ عن جغرافياتِ العالمِ الأُخرَى في كونِها تتَّخذُ مما يربُو على الأرضِ بوصَلةً تدليليَّة على نقاءِ العرقِ الفلسطينيِّ وامتِدادِ نسبهِ كأشجار الزيتونِ التي تحفُّ سورَ بيتَ المقدس في اللوحةِ كَانتِدابٍ رمزيِّ جيءَ بهِ للجمِ الأفواهِ الغربيَّةِ التيِّ تتشدَّقُ بيهوديَّةِ الأَقصَى دونَ الاحتِكامِ إلى مصادرِ التاريخِ وغربلةِ مرويَاتِهَا للتعرُّفِ عن ثراءِ المخزونِ التراثيِّ الفلسطينيِّ.
الفنَّانُ الفلسطينيِّ “وائل ربيعَ” وبراعةُ التَّشكيلِ، حينَ تبوحُ الصورةُ بنبوءةُ النَّصر.
يُرغِمنَا الفنانُ الفلسطينيِّ وائل ربيعِ على مفارقةِ كلُّ النصوصِ الأدبيَّة التي اكتوت بتسريدِ القضيَّة الفلسطينيَّة، ومبارحةُ القصائدِ المكلومةِ بحمَّى النَّكبةِ كيفَ لا وهو الذي استرسلت ريشتَهُ الإبداعيَّة في تَحريرِ الصورةِ البصريَّةِ الكُبرى بمدِّها التاريخيِّ وعنفوانِها التَّحرُّريِّ الذي يختزلُ شريطَ الكفاحِ الفلسطينيِّ في هيئةِ شيخٍ يلتفِعُ السواد ويتوشَّح بالكوفيَّةِ، وقد يَخالُ المتلقيِّ للوهلةِ الأُولَى بأنَّ مظهرَ الشيخِ المنكسِر وهو يرخيِّ بصرهُ عَلى الأَرضِ هيَ عَلامةٌ من علاماتِ الهزيمةِ أو على الأقل من مثيراتِ الشَّفقةِ التي تجعلُ الرائيِّ للمشهديَّة يَدمعُ أسًى على الحالةِ الرَّثةِ التي آلَ إليهَا الشعبُ الفلسطينيِّ بينمَا المدلول البصري يعاكسُ كلُّ هذه التوقعاتِ ذلكَ أن الشيخُ يحملُ تيماتِ النَّصر، التي تتجلى من خلال ما يرفِدهُ بكلتَا يديهِ.
1- المفتاح المعلَّق في رسغِ الشيِّخ: أينَ يقومُ بعمليَّة استرجاعيَّة لأحداثٍ خلَت تؤكد أحقيَّة الشعب الفلسطينيِّ بأرضِ المقدِس، كالوقفةِ التي اتخذها صلاح الدِّين الأيوبيِّ حينَ أتمَّ الله لهُ فتحَ بيتِ المقدس سنة1187م أينَ آثَر تسليم مفاتيح كنيسةِ يومِ القيامةِ لعائلتيِّنِ مسلمتيِّنِ وهما عائِلةُ جودة وعائلة نسيبة ومنذ ذلكَ الوقتِ وليومنَا هذا ما زالا يسهرانِ على خدمةِ الوفودِ التي تزورُ الكنيسةِ ما يوحيِّ بوجود تعايش ديني وإخاء حضاريِّ قلَّ نظيرهُ بينَ المسلمين والمسيح، بخلاف المرويَّةِ اليهوديَّةِ بنظرتِهَا الانفراديَّة التي تحثُّ على أنَّ بيتَ المقدس خصوصيَّة يهوديَّة ولا قِبلَ للمسلمينَ والمسحيينِ بِهَا، كذلكَ يقومُ المفتاحُ في الصورةِ البصريَّة بوظيفةِ التَّداعيِّ النفسيِّ حيثُ يُفرزُ الكثير من الرسائل الإيحائيَّة التي يتوجَّسُ منها الصهيونيِّ خيفةً، منهَا أنَّ التاريخَ بأرشيفِهِ الممتَدِّ هو في صالِح الفلسطينيِّ كونَهُ ابنُ الأرضِ الشرعيِّ الذي ولدِ من رحمهَا ورضعَ من حليبِها النقيِّ الذي لا يشوبُهُ عوارُ التَّزييفِ بخلافِ الصهيونيِّ اللقيط الابن غير شرعيِّ الآتي من علاقةٍ سفاحيَّةٍ بين المؤامرةِ الغربيَّةِ التي ابتغت التخلُّص من جحافلِ اليهودِ وإرسالِهم إلى فلسطين، والدعم الأمريكيِّ اللامحدودِ سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا الذي ساهم في ميلادِ هذا الكيانِ الغَاشِم.
2 –المصحفِ المفتوح: لاشكَّ أنَّ المصحفِ المفتوح الذي يحملهُ الشَّيخ يعدُّ إلماحةٌ ذكيَّة إلى الإيمانِ الجارِف الذي يَعتري الشخصيَّة الفلسطينيَّة، فهوَ يستقيِّ لواءَ الكفاحِ، مراسيم النِّضال، كيفيَّة الصمودِ، آلية التعبئةِ النفسيَّةِ غداة المعاركِ المصيريَّةِ من الدستورِ القرآنيِّ، عدا ذلكَ فإنَّ الخطاب القرآنَيِّ يمثِّلُ غصَّة في حلقِ اليهودي كونَه لا يتوانَى في تذكيرهِ بمروقهِ الدينيِّ، وعصيانِهِ للشرائعِ الإلهيَّة وانغماسِهِ في الخيانة والجورِ واغتيالِ الأنبياءِ والصَّالحين كمَا يُذكرهُم بينَ الفينةِ والفينةِ بهزائمهم وهوانِهم بعيدَ كلِّ معركةٍ يخوضونَها فمِن نكبةِ بني قينقاع إلى تشرذمِ بني النَّضير إلى خيبةِ بني قريظةِ يأبى اليهوديِّ الحاليِّ المغتصبِ لأرض فلسطين الاطِّلاع على تراثِ أجدادهِ الذي صدرتهُ آيُ القرآنِ في سرديةٍ محبكةِ النَّسجِ لأنَّ ذلكَ من عوارضِ الهزيمةِ النفسيَّة والتشتُّتِ العقليِّ الذي باتَ الصهيونيِّ يُكابدهُ يوميًّا نظيرَ ما حلَّ بأجدادهِ.
3- المِسبَحَةُ الخضراء: لعلَّ منَ الصورِ البصريَّة التي تستجلبُ الأنظارِ مظهرُ الشيخُ وفي إبهامهِ مسبحةٌ خضراءَ ولكأنَّهَا أيقونةُ جاذبة تُدلٍّلُ على النهجِ الإيمانيِّ الذي تستتبِعهُ الشخصيَّة الفلسطينيَّة فهيَ تُقيمُ تواصليَّة روحانيَّة بميثاق ربوبيِّ غليظ، فلسَانُها ما انفكَ لاهجًا بصفاتِ اللهِ وأسمائِهِ الحسنى، كذلكَ فقد وفِّقَ الفنان في اختيارِ اللون الأخضر وهذا بما يتناسَبُ معَ حيثياتِ الحدثِ ورفعةِ المقامِ، فالأخضرُ يملكُ طاقَةً شفائيَّة قِوامُهَا العودةُ إلى الأصل، ولكأنَّه بلسَمٌ يُشفيِّ المواطن الفلسطينيِّ العليل جرَّاءَ إرغامهِ قسرًا على هجرةِ وطنهِ، فهو يعيدُ أي اللونَ الأخضر مُهجةَ الفلسطينيِّ في الحياةِ ويُضاعفُ آمالهُ بحلمِ العودةِ ولو بعدَ زمنٍ، كمَا أنَّهُ رمزُ التَّجدُّدِ والانبثاقِ فهو لونُ الحياةِ ولونُ القيامةِ ولونُ الجنَّةِ حيثُ السندُسُ والاستبرقُ الأخضر، والضلالِ الخضر في أنحاءِ الجنةِ وأرجائِهَا”[11].
ولا مناصَةَ أن تكونَ حركةُ الشَّيخُ وهو مطأطئ الرأسِ بمثابةِ الفعلِ التأمليِّ الذي يختصرُ حركةِ النضال الفلسطينيِّ، التي لم تتوقَّف برهةً رغم الخذلانِ العربيِّ تارةً والتآمرُ الدوليِّ تارةً أخرى، بينما يتوتَّرُ المشهدُ بمزيدِ من الحركاتِ الصوراتيَّة الحُبلَى بالمفاجآتِ السارَّةِ والبَشائِرِ الموعودةِ وهذا حينَ يرخيِّ الشيخ بصرهُ على وردةِ نضرةٍ حمراءَ تتفتَّقُ من أرضٍ جدباءَ فهيَ المعادلُ الموضوعيِّ لاتساعِ دائِرةِ الأملِ وتبدُّدِ سجوفِ الظلمةِ داخلَ فضاءِ اللوحةِ، فالوردةُ ترمزُ إلى جيلٍ آتٍ استطعمَ مذاقَ النبلِ والنخوةِ منِ آبائهِ وهو من سيتولَّى عمليةِ تحريرِ أرضهِ رغم كيدِ الحاقدينِ والخونةِ الذين لطالَمَا رفعوا شعارِ فلسطينَ أرضٌ إسرائيليَّة، طامعينِ في الارتِزاقِ بالفتاتِ الذي يخلِّفُهُ بنو صهيون على مائِدةِ الهوانِ والعارِ، ومن ثمَّة فإنَّ الوردةِ هي معزِّز أيقونيِّ يضفيِّ على اللَّوحةِ معماريَّةً جماليَّة خاصةً تَطفو علَى خَواصِرِ المهزوزين نفسيًّا والمضطربين سلوكيًّا الذينَ يرونَ في الحريَّةِ مآلا طوباويًّا عسيرَ التحقُّقِ، لتتواشجَ الصورةُ التشكيليَّةِ مع المنطوقِ الشعريِّ الدرويشيِّ الذي يبعثُ الوردِ من مُستقرِّه الرومانسيِّ إلى معتركهِ الوجوديِّ القمينِ بالحفاظِ على الهويَّةِ الفلسطينيَّة من الاستفراغِ الحضاريِّ والوأدِ التاريخيِّ:
لا بدَّ ليِّ أن أرفُضَ الوردَ الذي
يأتيِّ من القَاموسِ , أو ديوانِ شعرٍ
ينبتُ الورد على ساعِد فلاّحٍ , وفي قبضَةِ عاملٍ
ينبتُ الوردُ على جرحِ مُقاتلٍ
وعلى جبهة صَخر…[12]
هكذَا يقومُ النص الدرويشيِّ بتتمَّةِ المعنى المتواري في تجاويفِ اللَّوحةِ، فالوردةِ التي آنَ لَهَا أن تستطيلَ من نسغاتِ الأرضِ لتؤولَ إلىَ انتدابُ رمزيِّ حيويِّ يوائم بين السَّنن اللغويِّ الشعريِّ والسنن الفنيِّ التشكيليِّ، وعبرهُ تنحدرُ الدَّوالُ القمينةُ باجتراحِ المواضعاتِ الهوياتيَّة والنِّضاليَّة التي تتأسَّسُ علَى نبذِ الشاعريَّة المرفَّهة والثقافةِ المبسترةِ التي تأويهَا الصالوناتِ الدفيئةِ، في مُقابِل اِستجادةِ المقاومةِ التي تنبسُ على شفاهِ فلَّاحٍ، وتتَبَدَّى على جرحِ مقاتلٍ، وتتمظهرُ على ساعدِ فلاحٍ أو على جبهةِ شيخٍ يستشرفُ النصر من آفاقِهِ كما في مشهدِ اللوَّحةِ.
خاتِمة:
ركحًا على تمَّ قولهُ يبقى الفنُّ الفلسطينيِّ مرابِضًا على الثغورٍ، يبتغيِّ إيفادَ العالمِ بأصالةِ الهويَّةِ الفلسطينيَّةِ وتجذُّرها في أرضِها ونضالِهَا المستميتِ للحفاظِ عَلى وجودِهَا وترسيخِ لوائِهَا بالرغمِ من حملاتِ الإبادةِ والطَّمسِ الممنهجِ الذي يقوم بهِ الاحتلال لاستفراغِ الأرضِ من أبنائِها، لذا لاريبَ إن كانَ الفنُّ توأَمُ السلاحِ وقرينِهِ في الذبِّ عن الأرضِ، ذلِكَ أن من ثمارِ الفنِّ هو انتهاجِ الطرائِق التشكيليَّة المثلى التي من خلالِها تتَّطَّلِعُ الشُّعوبُ عن حكايةِ شعبٍ تناساهُ العالم ولكنَّه فرضَ على الجميع أن يَحتَرمَهُ ويتعاطف مع قضيَّتهِ وهذا نظيرَ سموقِ فنِّهِ التشكيليِّ ونضوجِ أيقوناتِهِ السِّيميائيَّةِ، واكتمالِ صورهِ الجماليَّةِ واتِّضاحِ معالِمهِ التَّاريخيَّة.
)د. معطى الله محمد الأمين – -أستاذ محاضر بكلية الآداب والفنون، جامعة أحمد بن بلَّة وهران، الجزائر. (
هوامش :
[1] عز الدين إسماعيل، الفنان العربيِّ موقفهُ من التيَّارات الفنيَّة المعاصرة، مجلة العربيِّ، الكويت، العدد:66، ماي1964، ص23.
[2] سعيد بن كراد، السيميائيات النشأة والموضوع، مجلة عالم الفكر الكويت، العدد:3، يناير2007،ص7
[4] كاسيرر، أرنست، فلسفة الحضارةُ الإنسانيَّة، تَر: إحسان عبَّاس، دار الأندلس، بيروت، ط1، 1961، ص205.
[5] عبد المجيد العابد، من السيميائيَّات العامة إلى سيمائيَّات الصورة، مجلة قوافل، العدد:36، سبتمبر2007، ص174.
[6] جون ماري جويو، مسائل فلسفة الفنِّ المعاصر، تر: ساميِّ الدروبيِّ، دار اليقظة العربيَّة للتأليف والترجمة، القاهرة، ط1 ،1948، ص90.
[7] كلود عبيد، الألوان: دورها، تصنيفُها، مصادرها، مجد للدراساتِ والنشر، بيروت، ط1، 2013، ص59
[9] محمود درويش، الأعمال الشعريَّة الكامِلة، مج2، دار العودة، بيروت، ط 2، 2007، ص521.
[10] غسان كنفاني، “أم سعد”، “الآثار الكاملة، مج1، مؤسَّسة الأبحاث العربية، بيروت، ط 3، 1986، ص 334.
[11] كلود عبيد المرجع السَّابق، ص94.
[12] أوس داوود يعقوب، محمود درويش مختارات شعريَّة ونثريَّة، دار صفحات للنَّشر والتوزيع، ط1، 2011، ص49.
مراجع ومصادر:
- أوس داوود يعقوب، محمود درويش مختارات شعريَّة ونثريَّة، دار صفحات للنَّشر والتوزيع، ط1، 2011.
- جون ماري جويو، مسائل فلسفة الفنِّ المعاصر، تر: ساميِّ الدروبيِّ، دار اليقظة العربيَّة للتأليف والترجمة، القاهرة، ط1، 1948
- سعيد بن كراد، السيميائيات النشأة والموضوع، مجلة عالم الفكر الكويت، العدد:3، يناير2007.
- عبد المجيد العابد، من السيميائيَّات العامة إلى سيمائيَّات الصورة، مجلة قوافل، العدد:36، سبتمبر2007.
- عز الدين إسماعيل، الفنان العربيِّ موقفهُ من التيَّارات الفنيَّة المعاصرة، مجلة العربيِّ، الكويت، العدد:66، ماي1964.
- غسان كنفاني، “أم سعد”، “الآثار الكاملة، مج1، مؤسَّسة الأبحاث العربية، بيروت، ط 3، 1986، ص 334
- كاسيرر، أرنست، فلسفة الحضارةُ الإنسانيَّة، تَر: إحسان عبَّاس، دار الأندلس، بيروت، ط1، 1961.
- كلود عبيد، الألوان: دورها، تصنيفُها، مصادرها، مجد للدراساتِ والنشر، بيروت، ط1، 2013
- محمود درويش، الأعمال الشعريَّة الكامِلة، مج2، دار العودة، بيروت، ط 2، 2007.
