النظريات النقدية عند الدكتور طه حسين

 د. معراج أحمد معراج الندوي 

الدكتور طه حسين علي سلامة المصري هو من نوابغ العصر و أعاظم أدباء الأدب العربي الحديث ورائد من رواده وأشهر النقاد العرب وحركة التنوير ومن أبرز رموز الثقافة في القرن العشرين، لقب بعميد الأدب العربي.

ولد طه حسين علي سلامة بن حسين علي 14 من شهر نوفمبر سنة 1889 في قرية “عزبة الكيلو” في محافظة المِنْيَا بالصعيد الأوسط وفقد بصره في السادسة من عمره [1]. بدأ دراسته في كتاب قريته، ثم التحق بالأزهر سنة 1902م، ثم انتقل إلى الجامعة المصرية ونال منها شهادة الدكتوراه الأولى ثم نال شهادة دكتوراه الثانية من جامعة السوربون، باريس.[2] وكان أوّل من منح جائزة الدولة التقديرية في الآداب، ونال الدكتوراه الفخرية من البلاد الأجنبية منها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ولبنان وتونس والمغرب، وكذلك منح من هيئة الأمم المتحدة جائزة حقوق الإنسان وتلقاها قبل وفاته بيوم واحد.

لقد استفاد الأستاذ طه حسين من الغرب بل تشبع بروح الغرب، وهذا الروح لا تتضح في أسلوبه فحسب وإنما هي شائعة في فكره و أدبه و نقده ، إلا أنه لم يتنكر للأدب العربي في قراراته يوما، وإن ألبس قواعد لباسا ظاهرا من النقد الأوروبي وساق الأدب العربي على طريق الأدب الأوربي بصورة عامة والأدب الفرنسي بصورة خاصة، وفتح هذا الباب أمام مجموعة كبيرة من النقاد المتأثرين الذين اندفعوا إلى مؤازرته مطبقين بذلك معالم المنهج التأثري الجمالي، و لعل من أشهرهم : شفيق جبري، يحي حقي، شوقي ضيف وإحسان عباس.[3]

عاش الأستاذ طه حسين حر الرأي والتفكيـر، وعاش حياة حافلة بالأعمال الجليلة في النقد والوصف والتـراجم والأدب والمقالة والقصة. وهو صاحب مدرسة ومنهج في النقد الأدب العربي الحديث. وكتب كتبا عديدة ذات أهمية بالغة ومستوى عال من البحث والعرض والتحليل والتحقيق وتناولت جوانب مختلفة من الأدب قديمه وحديثه، ومن أبرزها الجانب النقدي الذي كانت له فيه إسهامات كبيـرة لا ينكرها أيّ باحث للحركة الأدبية والنقدية، وكأنه علم بارز في النهضة الأدبية الحديثة.  

وأما الإبداع الأدبي عند الأستاذ طه حسين ليس مجرد وسيلة مباشرة لتقديم خدمة ما، أي أن وظيفته أوسع من أن تكون وظيفة تعليمية توجيهية في صورتها المباشرة، يظهر موقفه هذا من خلال معارضته للنقاد الذين طالبوا أن ينزل الأديب إلى الشعب كما كان يرى الأستاذ أحمد أمين أن يكون الأدب خادما للشعب، فعلى عكس هؤلاء يرى الأستاذ طه حسين أن يبقى الأدب في مكانته اللائقة به كفن وعلى الناس محاولة الصعود إليه، لأن نزوله إليهم يفقده الكثيـر من خصائصه الفنية وهو يقول:

“الفن الرفيع لا ينـزل وإنما يرقي إليه طلابه ومحبوه وليس الأدباء مكلفين بأن يعلّموا الناس ويبلغوا بهم من التعليم والثقافة إلى حيث يستطيعون أن يذوقوا الآداب الرفيعة والفنون الجميلة……. وكل ما يطلب من الأديب ألا يكون أدبه ممعنا في الغرابة”.[4]

وهنا نستطیع أن نبحث عن أول انتاج أدبى نقدی ساهم به الدكتور طه حسین اسهاماً فعالا فی نشأة نقد الأدب الحديث فی مصر، وهو كتابه ”ذكری أبی العلاء“ الذي حصل به على شهادة الدكتوراه .

إن اتجاه طه حسین النقدی، بدأ منذ أن كان طالباً فی الأزهر، ولكنه تخلی عن ذلك الاتجاه إلی اتجاه آخر بمجرد التحاقه بالجامعة . وهو بتحدث عن اتجاهه الأول، وعن مذهبه فی الأدب والنقد حین كان یتلقی دروس الأدب على أستاذه سید بن على المرصفی الذي لزمه وعمره ست عشرة سنة، أی منذ عام 1905م إلی أن بلغ العشرين من عمره. وقد تأثر بمذهب أستاذه هذا تأثراً واضحاً في أول الأمر، فكان لاینظر إلی الأدب إلا بمثل منظاره ولایقیسه إلا بمثل مقیاسه. لم يكن طه حسين بعيدا عن تأثير هذه الحركة الأدبية والنقدية التي كانت في الأزهر والجامعة المصرية أو ما كان منها في البيئة الثقافية العامة بل كان راصدا جيدا لها، متأثِّرا بها، مؤثِّرا فيها بنشاطه الفكري والأدبي، فهو يكشف لنا،عن ارتباطه المبكِّر بالحركة الأدبية فيخبرنا أّنه تأّثر مثل أبناء جيله بأهم كتاب نقدي، في ذلك الوقت، وهو “الوسيلة الأدبية” للشيخ حسين المرصفي.

ولكن لما التحق طه حسین بالجامعة  وجد فیها من دعاه من المستشرقین ليدرس بها من الإیطالیین والفرنسیین والألمان، فدرس علىهم الأدب بمذهب جدید یختلف كل الاختلاف عن مذهب أستاذه المرصفی . فالحياة الجديدة التي استقبلها في الجامعة؛ وما أخذها من انصراف إلى دراستها، واستغراق فيها؛ والتزام دائم بتبعاتها؛ لم تضعف صلته العاطفية والعقلية بأستاذه الذي ظلّ يمثّل له الحرية المطلقة التي لا تعبأ بما تفرضه ضرورات الحياة.

فقد قلنا ان باكورۃ إنتاجه النقد الأدبی التی هی كتابه ”ذكری أبی العلاء“ وقد انتهج فی هذا الكتاب منهج أساتذته المستشرقین فی دراسة الأدب وتاریخه، وكان الكتاب بذلك أول كتاب، بل أول بحث نقد أدبی، فی الآداب العربية على منهج حدیث وخطة جدیدة مرسومة، وهو یقول عن منهج بحثه فی هذا الكتاب.

جعلت درس أبی العلاء درساً لعصره واستنبطت حیاته مماأحاط به من المؤثرات ولم أعتمد على هذه المؤثرات الأجنبیۃ وحدها، بل اتخذت شخصية أبی العلاء مصدراً من مصادر البحث، بعد أن وصلت إلی تعیینها وتحقیقها وعلى ذلك فلست فی هذا الكتاب طبعیاً فحسب، بل أنا طبعی نفسی، أعتمد فیه ما تنتج المباحث الطبعية ومباحث علم النفس معاً. [5]

ولم یقتصر طه حسین على ما وضحه فی قوله هذا بل استعان فی بحثه بالمنطق ایضاً. فمنهجه تاریخی شخصي، وفني كذلك بدراسته وتحلیله لآثار أبی العلاء وقد سلك هذا المنهج فی دراسته لهذا الشاعر ولغیـره من الشعراء الذين درسهم بعد ذلك فی العصر الجاهلي وغیـره، مع التفاوت فی الإطالة والتفصيل والإجمال.

وإذا توصلنا إلى أن.. طه حسين مؤرخ فلا يبقى أمامنا إلا البحث في تفاصيل أسلوبه ومنهجه كمؤرخ. فهو حين اختار الحياة الأدبية في الإسلام، فمعنى هذا أنه يريد أن ينظر إلى التاريخ الإسلامي نظرة الأديب الفنان الذي تجذبه وتؤثر فيه الصورة الجميلة. ولعل هذا ما أراد قوله صراحة حين قدم الجزء الأول من كتابه “على هامش السيرة”، حيث يقول:

“إلى هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأولين، قصدتُ حين أمليت فصول هذا الكتاب؛ ولست أريد أن أخدع القراء عن نفسي ولا عن هذا الكتاب؛ فإنِّي لم أفكّرفيه تفكيرا، ولا قدرته تقديرا، و…إّنما دفعت إلى ذلك دفعا…ورأيتني أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسي، ويفيض بها قلبي… وإذا أنا أملي هذه الفصول… فليس في هذا الكتاب إًذا تكلف ولا تصنع،…وإنما هو صورة لسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التي… لا أَملُّ قراءتها والأنس إليها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها، وحرصي على أن يقرأها الّناس”[6].

تعرض الدكتور طه حسین فی دراسته للمعری لمعایبه ومحاسنه فی جمع شعره ونثره، فما أخذه علىه فی شعر صباه، الإحالة، والتقلید وكثـرۃ المبالغة، وكثرة التكلف والصنعة، ومن ذلك تعليقه على بیت المعري:

              ونادبة فی مسمعی كل قینة         تغرد باللحن البرئ من اللحن

علق علىه بأن هذا المعنى وإن كان جميلا فإنه یبدو غیر ناضج فی هذا البیت مع ما فیه من جناس متكلف، وبدیع مصطنع، وأن المعري قد أدی نفس هذا المعنی عندما نضج عقله فقال:

              أبكت تلكم الحمامة أم غن           ت على فرع غصنها المیاد

ثم أشار طه حسین بما فی البیت الأخیر من جمال وابداع.

ولكن طه حسین أخذ على المعري بوجه عام فی جميع شعره ونثره كثرۃ الغریب، وغموض أغراضه، حتی لاتكاد تفهم ما یعنیه، ثم مدحه بأنه متمیز بالعفة المطلقة فی ألفاظه.

ولا شك أن الأستاذ طه حسين قد اطّــلع على بعض ما كتبه المستشرقون من بحوث، في مطلع العصر الحديث، في صحة الشعر الجاهلي وأسباب النحل فيه. وقد يكون كارلونَلِّينو[7] هو الذي  أول من أخذ  الدكتور طه حسين منه  الفكرة الأولى  بالشكوك في صحة الشعر الجاهلي[8]، كما يمكن الافتراض بأنه أخذها أيضا عن ماسينيون أو جويدي، أو من أساتذته الآخرين في الجامعة المصرية القديمة . وربما كانت من الأسباب التي دفعته إلى استخدام منهج الشك (المنهج الديكارتي) في دراسة الأدب العربي، اتخذه فيه هو المنهج الفلسفي الذي جاء به “رينيه ديكارت[9]”((Rene Descartes للبحث عن حقائق الأشياء. يريد ديكارت في كتابه  “Discourse de la method” ألا يتوجه بالحديث إلا أولئك الذين يستعملون  عقلهم الفطري السليم . وكذلك يطلب طه حسين من الذين لا يستطيعون أن ينزّهوا  أفكارهم المسبقة، ويقوموا بتحرير أنفسهم من العواطف والانفعالات والأهواء ألا يقرؤوا كتابه لأّنه لن يفيدهم في شيء ما داموا لم يتحرروا من الماضي ورواسبه، فيقول بكل صراحة ليست فوقها صراحة:

“وأنت ترى أّني غير مسرف حين أطلب منذ الآن إلى الذين لا يستطيعون أن يبرؤوا من القديم ويخلصوا من أغلال العواطف والأهواء حين يقرؤون العلم أو يكتبون فيه ألا يقرؤوا هذه الفصول؛ فلن تفيدهم قراءتها إلا أن يكونوا أحرارا حّقا”.[10]

ويقول عنه الأستاذ غالى شكري:

“أن المنهج الذي اتبعه الشيخ طه حسين قد استعاره من ديكارت الفيلسوف الفرنسي، وهو منهج الشك في كل شيئ، والقاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيئ كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاما”[11].

وانبهرت عينه ببريق نظرية الشك الديكارية وأصبح داعيا نشيطا بل كان من أكبـر دعاتها للأخذ بها و بتطبیقها على الأدب العربی القدیم. يقول الأستاذ طه حسين:

“أريد أن اصطنع هذا المنهج الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العص، والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيئ كان يعلمه من قبل… يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى عواطفنا الدينية وكل ما يتصل بها، وأن ننسى ما يضاد هذه العواطف القومية والدينية”[12]

وهذا المنهج يحدثنا عنه أيضا بقوله الصريح:

“أريد أن أقول إّني سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث”[13].

وإنه هو المنهج الذي أسس عليه بحثه في الشعر الجاهلي الذي لم يكن سائدا ولا معروفا في مصر ولا يألفه المفكِّرون والنّقاد العرب المعاصرون له، رغم أن أصوله موجودة في الدراسات العربية القديمة؛ فلم يكن الأستاذ طه حسين أول من تحدث عن مسألة النحل في الشعر العربي القديم، أو حاول الوقوف على أسباب هذا النحل وناحليه، إّنما تلك أمور خاض فيها علماء الأدب واللغة ابتداء من القرن الثاني للهجرة[14].

وكان أول الباحثين المحدثين الذين تناولوا هذا الموضوع بالتفصيل هو المستشرق الألماني تيودور نيلدكه، في سنة 1861 م. حدد نيلدكه أوليات الشعر العربي بحوالي سنة 500 م، وقال إن كلّ شعر أقدم من هذا التاريخ يثير الشك في صحته.[15]

والحقيقة أن ما دعاه الإستاذ طه حسين إليه (منهج الشك)  كما فعله الأوربیون قبله بآدابهم، وذلك حین وقفوا على عبث الیونان بالآداب اللاتینية وبالأنساب والتاریخ والسیر. كذلك لجأ الأستاذ طه حسین لاتخاذ نظرية الشك وسیلة  لدراسة الأدب العربی القدیم الذي مرت علىه ظروف مماثلة. [16]؎  ويخبرنا بأن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كلّ شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوّا تاما.

ثم ظهرت نظرية الشك واضحة  فی كتابه ”فی الأدب الجاهلی“ حین جعل فكرۃ الانتحال هی الأساس الذي قام علىه الكتاب ویحمل على كتاب الأغانی والطبری وأمثالهما، ولایعتبرها كتب أدب وتاریخ بالمعنی الصحیح، لأن المنهج الذي قامت علىه هذه الكتب المهمة لیس صحيحا و لا یوافق المنهج الذي یتطلبه الأدب والتاریخ، ومن ثم لا یتأتی الاعتماد بهذا الرأي، ما قاله الرافعي من أننا بجب أن نقبل اللغة كما ورثناها دون أن ندخل فیها شیئا من عند أنفسنا. ومن أسباب الوضع والنحل عنده أن الكثير من الرواة… قد كانوا يصنعون الشعر وينسبونه إلى كبار الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام، أو كانوا ينحلون شعر الرجل غيره أو ينحلون الرجل غير شعره ويزيدون في الأشعار.

بذل الأستاذ طه حسين الجهد في أن يبـرر استخدام هذا المنهج بمزيد من التفاصيل بعد تلك الردود القوية التي أثارها كتاب “في الشعر الجاهلي”، لاسيما ما اتهم به من خروج على القيم الدينية، وكانت حجته أن الأمر طبيعي؛ فقد أثار استخدام هذا المنهج نفس المشاعر، وتلقي نفس الردود، أو بالأحرى أّنه كان يتوّقع مثل هذه الردود وهو يقول:

والنّاس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرا، وأّنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأّنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم والفّنانين في فنونهم، وأّنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث. فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء، ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كلّ ما قيل فيهما من قبل، وخلصنا من كلّ هذه الأغلال الكثيرة الّثقيلة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورؤوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة، وتحول بيننا وبين الحركةالعقلية الحرة أيضا.[17]

هذا المنهج هو الذي اصطنعه طه حسين عندما تعرض لما قاله القدماء حول الشعر العربي القديم؛ فهو لا يقف منه موقف التقديس بل موقف المتسائل المتشكّك فهو يقول:

” نحن بين اثنين: إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء، لا نتناول ذلك من الّنقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كلّ بحث، والذي يتيح لنا أن نقول: أخطأ الأصمعي أو أصاب، ووّفق أبو عبيدة أو لم يوّفق، واهتدى الكسائي أو ضل الطريق، وإما أن نضع علم المتقدمين كّله موضع البحث. لقد أنسيت؛ فلست أريد أن أقول البحث، وإّنما أريد أن أقول الشك، أريد ألا نقبل شيئامما قاله القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت…والفرق بين هذين المذهبين في البحث عظيم؛ فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث على الاطمئنان والرضا، والشك الذي يبعث على القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود. المذهب الأول يدع كلّ شيء حيث تركه القدماء لا يناله بتغيير ولا تبديل، ولا يمسه في جملته وتفصيله إلا مسّا رفيقا. أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسا على عقب وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئا كثيرا”.[18]

كان يرى طه حسين في أنصار القديم أّنهم عقول مغلقة،غير قادرة على التجديد ، الذين لا يعملون إلا على ترميم أعمال قديمة لأّنهم في الواقع، غير قادرين على التجديد.وهو يقول:

“لأنصار القديم أن يرضوا لأنفسهم بهذا النحو من أنحاء الحياة العلمية. أما نحن فنأبى كلّ الإباء أن  نكون أدوات حاكية أو كتبا متحركة، ولا نرضى أن تكون لنا عقول نفهم بها ونستعين بها على النقد والتمحيص في غير تحكم ولا طغيان”[19].

ويعدد طه حسين أهم الأفكار التي تحكم نظرة معاصريه لأسلافهم القدماء، فيقول:

“فهم يؤمنون بمجد القدماء من العرب وجلال خطرهم وتقديس مكانتهم وهم يضيفون إليهم كلّ خير وينزهونهم عن كلّ شر ويصفونهم بجلائل الأعمال، ويرفعونهم عن صغائرها وهم يّتخذون ذلك قاعدة من قواعد البحث ومقياسا من مقاييس النقد”[20].

و يقول طه حسين:

“اللغة؛ فاللغة، عند هؤلاء ما زالت وسيلة إلى فهم علوم الدين، ومن حيث هي كذلك، فهي مقدسة، ومن حيث هي مقدسة فإن شيوخ الأدب لا يرضون أن تخضع اللغة للبحث العلمي الصحيح الذي قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار، والشك على أقلّ تقدير”[21].

وقد عاد إلى نزع طابع القَدَاسَة عن اللغة وآدابها، ودراستها من حيث هي غايات لا وسائل. فيوم يتحرر الأدب، كما يقول:

“من هذه التبعية ويوم تتحّلل اللغة من هذا التقديس يستقيم الأدب حّقا ويزهر حّقا ويؤتي ثمرا قيما لذيذا حّقا.[22]

وقد أضاف طه حسین فی موضع آخر:

“أننا فی تطویر الأدب العربي ، وفی جعله ملائما لحیاتنا الحاضرۃ ینبغی أن نسیروسطاً بین القدیم والحدیث، فلا نغلو فی ایثار القدیم على الحدیث، ولا نغلو فی ایثار الحدیث على القدیم.[23]

وفیماقاله طه حسین عن النقد واالنقاد ذكر:

” أن الناقد الحق هو من لاینبغی النقد للنقد، وإنما یدعوه إلیه حبه للحق لیجعله یعلو على الباطل، فوجب إذن أن یتنزه الناقد فی نقده، وأن یرجع إلی الصواب إن نبه إلیه. هنایبدی هو حرصه على أن یكون ذلك الناقد المثالی، ولو أنه یری أن صناعۃ النقد لیست محببۃ إلی النفس، فهی تكلفها الكثیـر من المكروه والألم.[24]

ثم بین أن وظیفۃ النقد الشاقۃ هذه هی:

” تمحیص العلم والأدب والفن  ولیست وظیفته الثناء والتقریظ أو الذم والتجریح، ولذا وجب أن یكون النقد حراً من كل قید یعوقه عن أداء وظیفته، فلا تقیده المجاملۃ أو نحوها، ولایشتط فیتخذ النقد وسیلۃ للطعن فی أخلاق الأحیاء أو استنباط أخلاقهم، فاستنباط الأخلاق سبیل یسلكها الباحث مع القدماء الذين أصبحت حیاتهم ملكا للتاریخ”.[25]

ومازال طه حسین یری فی النقد إقراراً للحق فی نصابه، ودفاعاً عن الفن وتبصرۃ لما فی الآثار الفنیۃ من جمال أو قبح، وإذن فالنقد مفید للأدب والأدباء معاً إذا استغل توجیهه، وقدرت قیمته، وعندما وازن طه حسین بین حافظ وشوقی، كان محتاطاً فی حكمه عليهما.[26]  وقد اتخذ فی ذلك مذهباً صحیحاً فلم یفضل أحدهما على الآخر، ولم یر أن أحدهماأشعر من أخیه، بل رأی أن كلیهما أشعر، لأن لكل منهما من الممیـزات الخاصۃ لفظیۃ كانت أو معنویۃ أو موضوعیۃ، مایجعل من المستحیل الحكم لأحدهما على صاحبه.[27]  فكما أن حافظاً یمتاز فی الرثاء، وفی تصویر آلام الشعب وآماله، وفی الاحساس بالألم وتصویره، والإبداع فی شكوی الزمان، كذلك شوقی أخصب منه طبیعۃ وأغنی مادۃ، وانفذ بصیرۃ، وأسبق للمعانی، وأبرع فی تقلید الأقدمين، ثم هو بعد ذلك یمتاز فی الغناء والوصف، وهو منشئ الشعر التمثیلی فی اللغۃ العربیۃ.

اتسم الأستاذ طه حسین فی نقده ونقاشه لغیره بالهدوء والنزاهة، والبعد عن السباب والهوی، ورفع النقد الأدبي بمهمته الاستكشافية، الوصفية إلى مرتبة العلوم النظرية والتجريبية فيما يخص الموضوعية  ونجده  يرفض كثيـرا من الروايات التاريخية التي أحصاها المؤرخون من غيـر تثبت ولا تحقيق، لقّلة نصيبهم من الّنقد، يرفضها إذا دلَّ البحث العقلي والإجتماعي على غير ما تدلُّ عليه[28] ویدعم حججه بالبراهین كما فعل مع رفیق العظیم فیما دار بینهما من نقاش حول القدیم والجدید، وحول المذهب الصحیح الذي ینبغی أن ینقد به التاریخ.

ونقوم بمقارنة موجزة بین منهج طه حسین فی الدراسة الأدبية والنقدية وبین منهج العقاد فإنهما أعظم االنقاد الذين وضعوا الأسس الأولی للنقد الأدبی الحدیث ولعل فی هذه المقارنة مایوضح بإجمال كیف كانا یعالجان النقد وكیف كانا یتجهان به.

نلاحظ أن طه حسین یحفل بالأنظریات العامۃ، ویضع علىها مؤلفاته، وذلك كاحتفاله بنظریۃ الشك، ونحن حین نقرؤه لانحس بأنه یعنی بمقاییس نقدیۃ عدیدۃ تبدو واضحة فی كتاباته. وعكس ذلك هو مانجده عند العقاد، فالمقاییس النقدیۃ عنده تطل علىنا بوجهها فی كل صفحۃ من الصفحات . ثم نحن لانحس بأنه یرید أن یوقفنا على مقاییس بعینها، ویدعونا للأخذ بها، كما هی الحال عند عصر بعینه، عند العقاد، إنما نحس بأنه یستهدف دراسۃ شاعر بعینه، أو أن هذه الدراسۃ هی التی تقتضیه أن یعرض لما یعرض له من مقاییس، فحینئذ لابأس عنده من التنبیه إلیها. ثم لانجده أبداً یعقد فصلا خاصاً یشرح فیه مقیاساً من المقاییس أو نظریۃ من الأنظریات، اللهم إلا فی أحایین قلیلۃ كماكتب عن المثل الأعلى والذوق الأدبی فی كتابه ”حافظ وشوقی“ وكان فیما كتبه أدیباً اكثر منه ناقداً ولكن حین نقرأ لصاحبه فإنا نجد بصدد إنتاج حافل بالمقاییس والأنظریات النقدیۃ، وحافل بالفصول التی تشرح ذلك، فنجد العقاد فی كتابه ”مطالعات فی الكتب والحیاۃ“ الحریۃ والفنون الجمیلۃ والشعر ومزایاه. وكذلك فی كتابه ”مراجعات فی الآداب والفنون“ نقرأ عن الأشكال والمعانی معنی الجمال فی الحیاۃ و الفن    فی الأسالیب، وهكذا…

وإننانستطیع أن أجمل الفرق بین منهج طه حسین ومنهج العقاد فی أن منهج طه حسین یقوم اكثره على كیفیۃ دراسۃ الأدب، ومنهج العقاد یقوم أكثـره على كیفیۃ نقده، وعلى توضیح أصول ذلك النقد ومقاییسه.

وآخر القول، إنه يصعب، حقيقة، حصر نتائج النقد عند طه حسين، ومدى تأثيره في مسيرة النقد العربي الحديث؛ فقد ظهرت مدارس في النقد مع ظهور طه حسين، غير أننا مقتنعون بأن جهوده في خدمة النقدالعربي والأدب العربي هي أكبر بكثير مما جاءت هذه الدراسة الوجيزة.

توفي الأستاذ طه حسين في 28/10/  1973م [29] تاركا تاريخا وراءه كما هائلا من الكتب المهمة والمؤلفات الثمينة منها: “دعاء الكروان” و ” شجرة البؤس” و “المعذبون في الأرض” و ” على هامش السيرة” و ” حديث الأربعاء ” و”من حديث الشعر والنثـر” و ” مستقبل الثقافة في مصر” و”مرآة الضمير الحديث”و “خصام و نقد” و “بين بين” و “نقد واضح” و “من بعيد” و ” قادة الفكر” و “جنة الحيوان” و “تقليد و تجديد” و “خواطر” و “رحلة الربيع و الصيف”و “من لغو الصيف” و “قصص تمثيلية” وغيرها كثير.

الهوامش:

  1. شوقي ضيف ، الأدب المعاصر في مصر ، صـ 277 دارالمعارف بالقاهرة 1979
  2.  طه حسين ،الأيام جــ1 صــ31
  3.  حلمي مرزوق ، تطور النقد والتفكيرالأدبي الحديث في الربع الأول من القرن العشرين،صـ 29 – 30 ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ،الاسكندرية 2004م
  4. طه حسين ، خصام و نقد ، صـ 36 – 37  دارالعلم ،بيروت 1966
  5. تجديد ذكرى أبى العلاء لطه حسين صـ13 دار المعارف مصر 1951
  6. طه حسين، على هامش السيرة، المجموعة الكاملة، المجّلد 3، جـ1  صـ 10 بيروت: دار الكتاب اللبناني،1973م
  7. هو مستشرق إيطالي    1872 ــــــــ 1938 Carlo Alfonso Nallino
  8.    ناصر الدين الأسد “حول كتاب في الشعر الجاهلي صـ 127 الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة ، 1977م
  9. كان فيلسوفا و رياضيا فرنسيا يلقب بـــ “أبو الفلسفة” ولد سنة 1591م في مدينة “لاهاي” وتوفي سنة 1650م عن عمر ناهز53 عاما .
  10.  طه حسين ، في الأدب الجاهلي ، صـ 70.
  11. غالي شكري ، النهضة والسقوط في الفكر المصري ،صـ 247 – 248 ، دار الطليعة بيروت 1982م.
  12.  طه حسين ، في الشعر الجاهلي صـ 11 -12
  13. طه حسين ، في الأدب الجاهلي صـ 67
  14. دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ترجمها عن الألمانية والفرنسية عبد الرحمن بدوي ،دارالعلم للملايين،  بيروت 1979 ص 5
  15. محمد شنوفي، تطور النقد المنهجي عند طه حسين ، رسالة مقدمة لنيل درجة دكتوراه 2005 –  2006 (غير مطبوع)
  16. طه حسين ، حديث الأربعاء ، جـ 1 صــ181 دارالمعارف مصر 1957م.
  17. طه حسين ، في الأدب الجاهلي صـ 68.
  18.     نفس المصدر صـ 62
  19.    نفس المصدر صـ 177
  20.      طه حسين ، حديث الأربعاء ، صـ 126 ، جـ 2
  21.    طه حسين ، في الأدب الجاهلي صـ 56
  22. نفس المصدر صـ 58
  23.     طه حسين ، حديث الأربعاء جــ 3 صــ 11[
  24. نفس المصدر جــ 3 ، صـ 78
  25. نفس المصدر جــ 3 ، صــ 91
  26. طه حسين ، حافظ و شوقي ، صــ 222
  27. .  أحمد الشائب ، أصول النقد الأدبي صـ 117
  28.  طه حسين ، تجديد ذكرى أبي العلاء صـ21
  29. .  أبوقاسم محمد كرو ، طه حسين والمغرب العربي صـ  353 مؤسسات بن عبدالله للنشر والتوزيع تونس 2001م.

المصادرالمراجع

  1. أحمد الشايب،  أصول النقد الأدبي . مكتبة النهضة المصرية 1994م          
  2. أبوقاسم محمد كرو،  طه حسين والمغرب العربي. مؤسسات بن عبدالله للنشر والتوزيع، تونس، 2001م    
  3. حلمي مرزوق ، تطور النقد والتفكيرالأدبي الحديث في الربع الأول من القرن العشرين. دار الوفاء الاسكندرية، 2004م
  4. شوقي ضيف ، الأدب المعاصر في مصر . دارالمعارف بالقاهرة 1979م                        
  5. طه حسين ، الأيام بأجزائه الثلاثة. الطبعة الثالثة والعشرون، الناشر، دار المعارف بمصر، القاهرة1992م      ــــــــــــــــ ، خصام و نقد. دارالعلم ، بيروت 1966
  6. ــــــــــــــــ ،  تجديد ذكرى أبى العلاء. دار المعارف، مصر 1951 
  7. ــــــــــــــــ ، على هامش السيرة. دار الكتاب اللبناني، بيروت: 1973م
  8. ــــــــــــــــ ، في الأدب الجاهلي. مطبعة فاروق بالقاهرة.                      
  9. ــــــــــــــــ ، في الشعر الجاهلي .  الهيئة المصرية العامة للكتاب  1926 م
  10. ــــــــــــــــ ، حديث الأربعاء. دارالمعارف مصر 1957م
  11. ــــــــــــــــ ، حافظ و شوقي . مكتبة الخانجي بالقاهرة.
  12. عبد الرحمن بدوي ، دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجهلي .دارالعلم ، بيروت 1979
  13. غالي شكري ، النهضة والسقوط في الفكر المصري. دار الطليعة بيروت 1982م      
  14. محمد شنوفي ،  تطور النقد المنهجي عند طه حسين . رسالة مقدمة لنيل درجة دكتوراه 2005 –  2006
  15. ناصر الدين الأسد ، حول كتاب في الشعر الجاهلي. الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة ، 1977م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *