دراسة نقدية ﻠِأيام في الحلال: قصة لإحسان عبد القدوس

د. ناصر ثناء الله 

إن الأسرة هي مؤسسة مهمة للثقافة الإنسانية ، والمرأة هي لبنة أساسية لها ، فلا تكاد تجد ثقافة إنسانية استهانت بالأسرة أو أزاحت المرأة من مهامها الرئيسي إلا واضطربت أطنابها حتى أشرفت على الزوال ، ولكن التيار العلماني الأنثوي (الفيمني) الذي يرفض كل القيم الدينية والمنهج الديني ونظمه ورؤيته للإنسان والكون وخالقهما ، ضرب على جذور هذه المؤسسة الثقافية المهمة وأغرى المرأة بشعارات كاذبة خادعة لتحريرها من القيود ” الغير الإنسانية ” مستخدما الأدب بأسلوبه الجزل والسهل ، والكاتب إحسان عبد القدوس كاتب القصة وروائي علماني في أتم معنى الكلمة فإن الجنس والدعوة الصريحة إلى الرذيلة والخروج على مؤسسة الأسرة والاستهزاء من شرف المرأة هي من أهم الموضوعات التي لا تكاد تخلو قصة من قصصه منها ، وفي هذا المقال قمنا بدراسة نقدية فكرية ل” أيام من حلال” دون الاعتناء بالقيمة الفنية لها.

هذه قصة فتاة مخطوبة ، تعمل في مؤسسة الإنشاءات الكبرى سكرتيرة لمديرها ، كانت تتميز بجمالها الهادئ الذي يشد ولكن لا يثير، وذكاءها الذي جلب لها اعتماد زملاؤها ، وكان بينها وبين أختها – اعتماد – أكثر مما يكون بين الأختين عادة ، فقد كانت كل منهما تعيش في داخل الأخرى منذ نشأتهما ، وتفتح للأخرى كل آرائها وكل خواطرها وكل أحاسيسها.

كانت أسرة الأختين – عدلية واعتماد – أسرة صغيرة فقدت رب بيتها الذي ترك خلفه زوجه والابنين والابنتين ، وكان “كريم” أكبر الأولاد وذهب إلى أمريكا في بعثة دراسية وتفوق فيها فعين مدرسا في إحدى الجامعات الأمريكية ، ثم لم يرجع منها وتزوج في أمريكا فتاة مصرية  وضعفت صلاته مع الأسرة ، والابن الثاني – حسام – التحق بكلية عسكرية، وعين مستشارا لمكتب قائد القوات بعد تخرجه منها ، ثم تزوج شقيقة أحد زملائه ، وأما اعتماد فقد فضلت الالتحاق بالجامعة لمواصلة التعليم على الزواج ، وكانت أمها وأختها عدلية تعيشان مع اعتماد وزوجها ، ولا نعرف لم لم تكونا تعيشان مع حسام ، ربما يصيب به اضطراب في الخيوط الفكرية للقصة فلا تصلح للمشروع المقصود .

وكانت عدلية قد تخرجت من كلية السياسة والاقتصاد ، ولم تتعود الاهتمام بأحد ، إن ذكاءها كان يفرض عليها أن تهتم بنفسها فقط ، وأن تخضع ابتسامتها لذكائها ، ولهذا السبب لم يستطع أي شاب إثارة اهتمامها به في الجامعة أو خارج الجامعة ، وكل الشبان الذين كانت عدلية تعرفهم ، لم تكن تعرفهم لإعجابها بهم ، وإنما لشيئ آخر تريده وهو النجاح في الحياة وتكوين شخصية تحس دائما بأنها تثير الاحترام والإعجاب.

حققت عدلية كل ما تمنته وكانت تقضي أيامها في الشركة مليئة بشعور الفوز والنجاح ، حتى جاءها يوما مدير الشركة وعرض عليها أن ابن شقيقه – مدحت – يريد أن يتقدم بخِطبتها ، وكانت عدلية تعرف مدحت وقد التقت به مرات عائليا وتبادلا الآراء ونظراتهما في الحياة ، فأعلنت خطوبتها لمدحت ، وكان ذكاءها قد أقنعها بالزواج من مدحت ، ولم يترك الكاتب الحب ينمو بين مدحت وخطيبته بل قال : ” ولكن حتى بعد الخطوبة ظل العقل هو الذي يجمع بينها وبين مدحت ” لم؟ ربما لأن القصة تقتضي بغيره.

وكانت الأيام تنقضي بهدوء حتى زار يوما الشركة رجل أعمال شاطر ذكي – مجدي عبد الحميد – وكانت هذه زيارته الأولى منذ عينت عدلية سكرتيرة للمدير، كان مجدى متزوجا وأبا لثلاثة أولاد وعدلية مخطوبة ورغم ذلك نمت بينهما علاقات الصداقة والحب ، ولكن لهذه الصداقة ولهذا الحب كان لهما معنى آخر لدي عدلية ، مختلفا تماما مما كان لهما من المعانى لدي مجدي.

ولما أخبرت عدلية أختها وصديقتها – اعتماد – بها ، حذرتها اعتماد من التورط في هذا المصيد، ولكن مجدي كان قد أثار اهتمام عدلية بل دهشتها فلم تستطيع أن تهدأ وتسترد ثقتها حتى خرجت للقائه في الموعد، فطافا شوارع القاهرة في سيارة مجدي وتحادثا حول ما بينهما من علاقات، وأصرت فيه عدلية على أن تكون بينهما صداقة فحسب ولو كان كل منهما يريد أن تتطور الصداقة يوما فيوم.

وبعد ذلك قررت عدلية أن تتزوج مدحت على الفور وقبل تأثيث الشقة حتى تستطيع مقاومة حبها مع مجدي ، إنها فتاة عجيبة لا تريد ” خيانة ” خطيبها ولا تريد الابتعاد من حبيبها بل تفضل – ورغم تحذير أختها – على أن تجمع بين زوجها و حبيبها ، هذا من ريشة قلم الكاتب الذي يستطيع أن يخلق لقصته مثل هذه البطلة لترويج الأفكار التي لا وجود لها إلا في عقله هو، يستطيع أن يستدرج بطلة قصته ومن ثم جميع النساء إلى مزج الأفكار الإسلامية والعلمانية وبين نماذج الحياة الإسلامية والغربية في حياتهن.

تقدم عدلية مجدي إلى خطيبها مدحت ، ثم يتم الزواج بينها والحب دون أن يشهد الحب أي انفصال ، ومن الطريف أن مجدي يرفض أن يقدم عدلية إلى زوجته الأولى سهاد فتستسلم لإرادته عدليه، ثم أنجبت عدلية من مدحت ابنها الوحيد – شريف – ثم مات مدحت. ورفضت عدلية أن تعيش مع أختها في بيتها وأصرت على أن تعيش بمفردها حتي تتمتع ب “حريتها المزعومة الخادعة ” وانتهز مجدي – وكان دائما بالمرصاد – هذه الفرصة ، فرصة الوحدة المفروضة بنفسها وانقلب الحب انقلابا آخر فأخذ مجدي يتردد شقتها في أوقات لا تناسب زيارة الغريب للغريب فيها وكانت عدلية تستقبله استقبالا حارا ولم تتفكر يوما بأن العلاقة بينها وبين مجدي إنما هي الصداقة ولكن أدركت أن الصداقة قد حل محلها الحب ، والحب إذا تطور يسخر من التردد أو الارتباك الذين قد يشعر بها أحد الطرفين ، فشاع هذا الخبر بين الناس وخشيت عائلة عدلية على شرفها أي شرف العائلة ، فجاء حسام – أخو عدلية الشرطي – وقبض عليهما ملتبسين بالجريمة ووجه المسدس إليهما وطالب منهما أن يتزوجا الساعة ، ولكن عدلية حاولت الرفض لأنها كانت تريد مجدي حبيبا لا زوجا ، وكانت تريد أن تبقى الحب بينهما كما كان. ولكن حسام رفض إلا أن يتم الزواج بينهما وقد جاء المأذون وتم كتابة العقد في صمت ووقع حسام كشاهد ووقع معه حارسه الخاص.

ولم ينته القصة هنا لأن العودة إلى الحياة الطبيعية بعد فترة من الزيغ والضلال لا يطيق لكتاب القصص ، فقد فشل الزواج أن يحل محل الحب القديم ، لأن عدلية لا يعجبها هذا الزواج وتقول لمجدي عندما زارها في الصباح : إنك لن تضطر أن تستسلم لهذا الزواج .. سنبقى فترة إلى أن ينسى أخي حسام الموضوع كله .. ثم نعود كما كنا بلا زواج ”   

ولأن مجدي لا يملك إبلاغ هذا النبأ إلى زوجته الأولى فقد خصها بجميع الليالي ولم يقض ليلة واحدة مع زوجته الثانية المحبوبة القديمة في بيتها ، وإنما كان يزورها صباحا مساء ليقضي بعض الساعات معها ، وبدأت عدلية تشعر أنها زوجة مظلومة ، وأن مجدي لا يعطيها حقها ولكنها سرعان ما تذكر بأنها   “عشيقة شرعية ” لا زوجة وأنها لا يمكن أن تعطى نفس الحقوق ، وكذلك كانت تخشى على ابنها الوحيد لأن مجدي قد كتب أرض المنصورية بإسم أولاده من الزوجة الأولى ولم يخص شريف بشيئ ، كانت كل هذه الأفكار تضايق عدلية وهي تتعذب ولكن لا تريد التخلص من هذا الرجل الحبيب.

وقد سافر مجدي بها يوما إلى جنيف وقضيا هناك عشرة أيام وليالي ، وكانت هي أول مرة قضت ليلتها ومجدي بجانبها ، ولكن عندما رجعا من جنيف إلى القاهرة بل إلى الحياة الأولى التي عودها مجدي فيها أن يقضي معها بضعة ساعات في المساء ثم يتركها ليقضي ليلته مع الأخرى ، فتضاعف الشعور بالوحدة وتعذبت أكثر مما كانت متعودة به. وكان مجدي يشعر بما تعاني منه عدلية ولكنه لم يجد إلى حل من سبيل ، ويسافر بها بين حين وآخر ولكن القلق لم يترك عقلها وقلبها ، فطرح عليه يوما أن تهاجر إلى سويسرا لتتحرر من كل ما يقيدها في مصر وسيعيشان هناك كزوج وزوجة ويكون مجدي لها كله ، يزورها في كل شهر ليقضي معها أسبوعا أو عشرة أيام ، وسيكون لشريف هناك مستقبلا أقوى وأوسع ، ووافقت عليها عدلية ولو بعد تردد ومصارحة تحذيرات من أختها ، فأقامت في سويسرا ، وأخذ مجدي يزورها في كل شهر لبضعة أيام ثم يتركها ليعود إلى مصر ، والتحق شريف بالمدرسة وعدلية وهي وحيدة في سويسرا لم تجد صديقة تملأ فراغ حياتها بالحديث معها ، فأخذت تطوف الشوارع والحدائق بعد ما تترك ابنها في المدرسة حتي بدأت تشرب الخمر وأصبحت سكيرة ، فلم يطيق لها الحياة في الجنيف وأعدت الحقائب ورجعت مع ابنها إلى القاهرة دون أن تخبر أحدا ، ثم أخبرت مجدي واعتماد وغيرهما وقررت في الطلاق لتتخلص من مجدي وقد أقامت في بيت أختها اعتماد وأخبرت مجدي بأنها قررت الانفصال ولكن الحب لا يزال يحفر في أعماقها ، ثم زارت أخاها الكبير كريم في أمريكا لتقضي معه بضعة أيام حتى تسترجع ثقتها واعتمادها.

وتتضح الأفكار العلمانية على لسان وسلوك كريم بوضوح ، فهو يعكس المجتمع الحديث العلماني وتقاليده ونظرته إلى الحياة والحرية والشرف والحب وزواج المرأة وغيرها. فهو يقول عن الحب مثلا :

“قد تقرر الإرادة الحرة أن تكون صورة الحب هي الزواج ، وقد تقرر أن تعيش الحب بلا زواج حتى مع استكمال كل مطالب الحب بين الرجل والمرأة ، وقد تقرر الإرادة الحرة للحب الفراق…..”

ويقول عن الحلال والحرام :

        “كله سواء .. الحرام والحلال ..مادام لم يتحقق بالإرادة الحرة……”

        “إن كل ما أريد أن أقوله هو أن طريق السعادة يتساوى في الحرام والحلال…”

ويقول عن شرف العائلة :

“هذه أحاسيس رجعية لم تعد تحتمل الحياة الحديثة…إن العائلة مهما بلغ تماسكها يحتفظ كل فرد فيها بشخصيته وذاتيته الخاصة.. وهو حر التصرف في حياته مادامت تصرفاته لا يمس باقي أفراد العائلة .. إن كل المجتمعات الحديثة تعطي الابن أو الابنة حق الانفصال عن العائلة بعد سن السادسة عشر ويصبح مسئولا عن نفسه……ولا يصبح أحد من أفراد العائلة مسئولا عنه إلا في الحدود التي يقبل فيها تطوعا حمل هذه المسئولية …..الفرد هو المسئول عن نفسه أمام الله وأمام المجتمع وأمام القانون.. ….وكل العائلات فيها الفالح والفاشل ..فيها الطيب والدنيء..فيها الشريف والمجرم..دون أن يكون أحدهما مسئولا عن الآخر…”

هذه الأفكار التي يلتقطها الكاتب من المجتمع الأمريكي وهو مجتمع علماني بل كما وصفه أحد أبرز العلمانيين من مصر ، وهو د. فؤاد زكريا بأنه ” مجتمع مادي ” بل من ” أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر” ويرفض زكريا القيم المادية السائدة في المجتمع الأمريكي ويضع مقابلها “القيم الإنسانية والمعنوية [1][ii][2]  إلا أن كاتبنا يريد استبدالها بالقيم الإسلامية والشرقية التي هي خيرا منها بألف مرة ، وليس لهذا الاستبدال مبرر أعتقد أن هذا النموذج من العلمانية هو نموذج علمانية متطرفة شاملة تريد تغيير القيم والمعايير تغييرا جذريا.

وفي الختام نجد أن مجدي يتصل بكريم هاتفيا وطلب منه السيدة عدلية على التيليفون ، ففرحت عدلية واستأذنت كريما أن تدعوه إلى البيت فأذنها كريم ، وجاء مجدي واستقبل استقبالا حارا على طريقة أمريكية ، ثم تركوهما لوحدهما ، ولما استأذنت عدلية كريما للخروج مع مجدي ، فاجأها بسؤاله : هل تعودين الليلة ؟ فخرجت تطوف مع مجدي في الشوارع القريبة ورجعت مساء ، ووعدته أن تبقى معه في اليوم التالي حتى يركب الطائرة وكان وقت إقلاع الطائرة الساعة السادسة صباحا ، خرجت من بيت أخيه ووصلت إلى الفندق التي كان مجدي يقيم فيه بعد منتصف الليل ودخلت غرفته فتبادلا القبلات والضمات ولكن لما حاول مجدي فك أوزار ثوبها ابتعدت عنه قائلة : لا أستطيع يا مجدي .. وسأتركك وآخذ غرفة أخرى لنفسي وسأعود لأوقظك في الرابعة والنصف حتى تلحق بالطائرة..” فشد مجدي ذراعها ونزلا إلى حديقة الفندق وجلسا على الأريكة حيث شعرت عدلية بالنوم فمالت برأسها إلى كتفه ونامت ، ولم يقلقها مجدي ، دقت الساعة الرابعة والنصف وهي لا تزال نائمة فأيقظها مجدي فدهشت من أمرها ، ” وقفزت تقبله قبلة سريعة على خده كأنها تشكره على احتماله لها ..تشكره على حبه لها ..” ولما ركب مجدي الطائرة قال كلمته التي يكررها وهو يودعها ” سأراك ” ولم تكن عدلية ترد عليه بنفس الكلمة ولكنها قالتها له هذه المرة وهي تودعه وبين شفتيها ابتسامة تكتم بها دموعها: سأراك.

لماذا هذا الخضوع ، ولما خضعت عدلية ، بل لما ولمن أخضعها الكاتب ؟ فقد أخضعها للحب والإرادة الحرة التي تسمحها بممارسة الحب مع مجدي ، ونسيت بل أنساها الكاتب الدموع والجراح والتجارب الكريهة ، وهكذا قدس الكاتب الحب الذي حل محل الزواج الشرعي وسخر منه ومن شرف العائلة ومن التقاليد الاجتماعية والقيم الدينية والشرقية والإنسانية.

والحل الأمريكي لقضية عدلية هو يرمز إلى أن الكاتب يقول أن القضايا التي تعاني منها المجتمع المصري ومن ثم جميع المجتمعات العربية الإسلامية لا يمكن التخلص منها إلا بالحلول المستوردة ، وقد شلت هذه الحلول حياة هذه المجتمعات وعرقلت نهضتها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ، ولكن العلمانيين العرب ، ولو رجع منهم كثيرون إلى الإسلامية[3] ، لا يزالون يصرون على هذه الحلول المستوردة ويعتبرونها السبيل الوحيد للخروج من الأزمات والمشاكل والتخلف والأمية والبطالة والفقر.

(د. ناصر ثناء الله من مواليد كشمير الهندية ، وهو حاصل على شهادة الدكتوره من الجامعة الملية الإسلامية ، بدلهي الجديدة ، وله عديد من المقالات التي نشرت في المجلات العربية والإنجليزية .)

 االهوامش


[1] انظر: د. عبد الوهاب المسيري ’ العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ’ ج/1’ ص : 71

[2]. من أهمهم د. عبد الوهاب المسيري ’ ود. محمد عمارة ’ والمستشار طارق البشري ’ و الأستاذ مصطفى محمد وغيرهم

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *