السيد/ شعيب تي
القصة الطويلة (الرواية) هي أجمل فن حظي باهتمام أبلغ في العالم وقد ساعدت على تطورها في العالم العربي رحلات المثقفين والأدباء العرب إلى أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر. تبعا لاختلاط هؤلاء العرب مع الأوروبيين، تذوقت القصة العربية من تغيرات عديدة في مضامينها وأشكالها حتى قطعت أشواطا في هذا المجال الخلاب. وإذا أنعمنا النظر إلى مسيرتها التنموية، نجد أن الرواية المصرية مرت من حيث تغييرها الفني ثلاثة مراحل مهمة – مرحلة نشوء الرواية (ما قبل الحرب العالمية الأولى) ومرحلة ما بين الحربين العالميين ومرحلة تأصيل الرواية المصرية (مرحلة نجيب محفوظ) وإليك تفصيلها:
(i) مرحلة نشوء الرواية المصرية (1980 – 1914):
وقد ولد فن القصة العربية المعاصرة في منتصف القرن التاسع عشر في شكل المقاومات وخاض إلى مرحلة التعريب حتى ظهرت القصة الطويلة (الرواية) بأنواعها التاريخية والاجتماعية وبالمسرحية النثرية والشعرية والأقصوصة. وهذه المرحلة (ما قبل الحرب العالمية الأولى) هي التي نسميها فترة نشوء القصة ذات الطابع الفني في الأدب العربي الحديث. وفيها “كانت مصر والشام تحملان لواء هذا الفن، فقد امتزج كُتاب مصر والأقطار الشامية في عملية بناء وتركيب القصة، ويغلب كتاب القصة والأقصوصة والمسرحية من أبناء الشام على غيرهم وكانوا قد أقاموا في مصر وأخرجوا فيها إنتاجهم، ومن رواد القصة في هذه المرحلة سليم البستاني وجميل نخلة المدور وفرح أنطوان ونقولا الحداد ويعقوب صروف وأمين الريحاني وجرجي زيدان وفرنسيس مراش ولطفي جمعه ومحمد حسين هيكل”1.
وعندما نطل على استهلال الرواية المصرية، لا ننسى أدباء لبنان الذين زرعوا بذور الرواية في حقل العالم العربي خاصة في بلد مصر. غادر عدد منهم لبنان واستقروا في مصر كي يتخلصوا من معانات بشعة وعقبات بغيضة في بلدهم الحقيقي. ومن أهم هؤلاء سليم البستاني وفرح أنطوان ويعقوب صروف ونقولا حداد وغيرهم.
“زرع البذور الأولى في تربة لبنان الكاتب الرائد سليم البستاني سنة 1870م ومضى يحملها إلى تربة مصر تلميذه الأمين سعيد البستاني الذي جعل (ذات الخدر) محورا لمعماره الفني المتأثر بسليم البستاني سنة 1884م، كما شكل معماره حول (سمير الأمير) سنة 1892م على الشاكلة ذاتها.”2
وقد أتى بعده جورجي زيدان موسعا في أبعاد الرواية التاريخية التي وضع لها رائدنا الأول سليم البستاني حجر الأساس والتي مضى فيها جميل نخلة المدور على النهج ذاته عندما تناول في روايته التاريخية (حضارة الإسلام في دار السلام) أيام هارون الرشيد.انطلق جرجي زيدان في مستهل كتابته التارخية إلى منابع تاريخ الإسلام ثم إلى العصور الأموية والعباسية والأيوبية حتى وصل إلى مصر الحديثة وإلى ما كتبه من روايات التاريخ القديم، إحدى وعشرون رواية ابتداء من عام 1891 حتى عام وفاته 1914م.
ومن الملاحظ أن روايات جرجي زيدان جذبت الناشئين بلا حدود لما مزجت بين الأحداث التاريخية والأدب الروائي. ومن أهم دلائله روايته التي تناولت فيها عصره المعاصر له وهي التي نشرت سنة 1912م3. ويعد فرح أنطوان المهاجر4 العملاق بثقافته الواسعةوالأبعاد الفلسفية والإجتماعية من أعظم الكتاب هذه المرحلة. وهو الذي أصدر مجلة (الجامعة) سنة 1899م التي استمرت إلى سنة 1909م. وكان متاثرا بالمدرسة الرومانسية الأوروبية. ترجم أنطوان عدة روايات ومنها رواية (الكوخ الهندي) ورواية (بول وفرجيني) للكاتب الفرنسي الرومانسي برناردين سان بيير ورواية (أتالا) للروئي شاتوبريان و(ثلاثية) الكسندر دوماس الأب. وكتب روايته (أورشليم الجديدة) و(فتح العرب بيت المقدس) و(الدين والعلم والمال) و(الوحش الوحش) و(سياحة في أرز لبنان).
ومن أهم مساهمي هذه المرحلة أيضا الكاتب الإجتماعي الصيدلي نيقولا حداد اللبناني المهاجر إلى مصر. وكانت له علاقة أسرية مع الأديب فرح أنطوان وهو زوج اخت أنطوان. وقد غلبه الحرص على طرح القضايا الفلسفية والإجتماعية أمام الشعب، فحاول حسب مقداره الفني تزيين المضمون الروائي بالفلسفات والإجتماعيات. فكتب (اللص الشريف) و(كله نصيب) و(حواء الجديدة) و(إيفون موفار) و(آدم الجديد).
ولا ننسى في هذه المرحلة أيضا خطوات الدكتور يعقوب صروف الذي تجاوز إطار المرحلة الأدبي آنذاك والذي حمل لواء المعارضة في هذا المجال ولكنه لم يتمكن من الصمود في وجه الذوق العام وقد نشر مجلته المعروفة (المقتطف) وكتب الروايات لمجلته وأصدر فيها روايات تاريخية واجتماعية وغيرها، ومن رواياته المشهورة رواية (فتاة مصر) و(فتاة الفيوم) و(أمير لبنان) وغيرها.
رواية (زينب) للكاتب محمد حسين هيكل:
كان حسين هيكل5 ثمرة تزاوج المجتمعين العربي والأوروبي حين نشر روايته الأولى رواية (زينب) في سنة 1914. تعتبر هذه الرواية أول رواية مصرية في العصر الحديث (بإتفاق النقاد) وفق المقاييس المعروفة لدى الغرب وقد أراد هيكل تصوير مجموعة من مناظر وأخلاق ريفية فيها. فبدأ كتابتها من باريس في إبريل سنة 1910م، وفرغ منها في مارس سنة 1911م. وكتب قسما منها في لندن وقسم آخر في جنيف أثناء عطلة الجامعة في أشهر الصيف حين كان طالبا لشهادة الدكتوراه في الحقوق بباريس. وبعد أن عاد هيكل إلى مصر في منتصف سنة 1912م، “بدأ تردده في نشر هذه الرواية يزداد، خشية مما قد تجني عليه صفة الكاتب الروائي على اسم المحامي لكن حبه الفني لهذه الثمرة من ثمرات الشباب انتهى بالتغلب على تردده، ودفع به ليقدم الرواية إلى مطبعة (الجريدة) كي تنشرها، مكتفيا بوضع كلمتي (مصري فلاح) بدلا من اسمه. ولقد دفعه لاختيار هاتين الكلمتين شعور شباب لا يخلو من غرابة، فقدم كلمة (مصري) حتى لا تكون صفة للفلاح، ذلك أنه إلى ما قبل الحرب كان يحس كما يحس غيره من المصريين، ومن الفلاحين بخاصة بأن أبناء الذوات وغيرهم ممن يزعمون لأنفسهم حق حكم مصر ينظرون إلى جماعة المصريين وجماعة الفلاحين بغير ما ينبغي من الاحترام6”
دور الصحافة:
وقد ساهمت الصحف والمجلات العربية في الحقل العربي عامة وفي لبنان ومصر خاصة بأبرز الأدوار في ازدهار فن الرواية وتطورها وانتشارها وإثارة الاهتمام بها كما كان لها دور جلي في التحول الجديد في التركيب الإجتماعي ونشوء الطبقة الوسطى. وأما الصحف الكبرى فما زالت تتخصص بالرواية القصصية في أعدادها ونشرت ما يجر القارئ الجديد إليها وأصبحت الرواية المنشورة سبيلا للتعبير عن معانات المجتمع واحتياجاته ومتوقعاته من السلطة كما اتخذتها ستارا لطرح مشاكل الطبقة الوسطى وعراقلها أمام السلطة غير مباشر. وكانت صحيفة (الجنان) اللبنانية من أولى الصحف التي اختطت لنفسها هذا النهج في هذه المرحلة.
ومن أهم الصحف والمجلات في هذه المرحلة في مصر صحيفة (وادي النيل) في القاهرة سنة 1866م و(الأهرام) أصدرها آل تقلاّ في القاهرة عام 1870م وصحيفة (حديقة الأدب) أصدرها نجيب غرغور في الإسكندرية عام 1888م و(مسامرات الشعب) أصدرها خليل صادق في القاهرة عام 1904م وصحيفة (الروايات الجديدة) لنقولا رزق الله في القاهرة سنة 1910م و(المقتطف) التي أصدرها يعقوب صروف وفارس نمر في لبنان سنة 1876م ونقلاها للقاهرة سنة 1885م و(الهلال) أصدرها جرجي زيدان في القاهرة سنة 1892م و(الضياء) أصدرها إبراهيم اليازحي في القاهرة سنة 1898م و(فتاة الشرق) أصدرها لبيبة هاشم في القاهرة سنة 1906م.
(ii) مرحلة ما بين الحربين العالميتين:
تفجرت الحرب العظمى الأولى سنة 1914م بتغيير العالم وتحويله فغيرت تركيب المجتمعات العربية وقيمها وموازينها ومفاهيمها وعلاقاتها وروابطها ووعيها القومي وانتفاضاتها كما طورت ثقافتها وسياستها وأحزابها. وقد أفضت جميع هذه العناصر إلى معمار فني جديد للتعبير عن تحولات المجتمع الجديدة. أما الأدب العربي فكان لجامها في أيدي لبنان حتى بداية الحرب العالمية الأولى (كما عرفنا) إلى ان تكثفت أرض مصر بالمهاجرين اللبنانيين. أخذ المناخ المصري يتطلع نحو التحرر والاستقلال كما أقبل شعبه على العلوم الجديدة. تولدت الأحزاب السياسية الجديدة ورفعت لافتات تدعو إلى النضال وتجمعت الصحف والجرائد والمجلات وشاركت بجد في تنقل مناهج النضال إلى الشعب وتحدثت عن معانات الشعب في سبيله ومن أجله. وأخذ الأدب المصري بأسره يعبر عن الروح الوطنية والألم الشعبي حتى بذر جيلا جديدا أديبا يفكر في الروايات التي تصف لهم نواحي الحياة ومعانيها في بلادهم.
اجتمعت مجموعة من الذين كانوا يعرفون القصة ومكانتها وقدرها الفني في الأدب الغربي. هم الذين كانوا يتحسرون على أن الأدب العربي خال من المستوى الفني والقصصي الذي في الغرب. فدعوا الى التجديد والتحديث وأصبحوا رواد هذه النهضة الجديدة ومنهم أحمد ضيف، وحسين هيكل وطه حسين ومنصور فهمي، ومصطفى عبد الرزاق وغيرهم. وكان محمد تيمورا يحمل بين جنبيه إيمانا قويا بهذا البعث الأدبي بعد أن رجع من فرنسا. فبث روحا جديدة بين أدباء النشأة الحديثة ونشر مجموعة من القصص وأمد المسرح بألوان من التمثيليات. وبفضل دعاة الفكر الجديد، ازدهر الوعي الأدبي بين طلبة الجامعات والأسادتذة والأدباء والمثقفين فأعلنوا ما يعتلج في خواطرهم من آراء ومعاني. وكان في طليعتهم أحمد خيري سعيد ومحمود طاهر لاشين وحسين فوزي وإبراهيم المصري وزكي طليمات وحسن محمود ويحيى حقي ومحمود عزمي ومحمود تيمور. ولإمتدادهم وسرورهم، ظهرت مجلة الفجر بعد مجلة السفور التي كانت لسان حال لتلك الدعوة الأدبية وقتئذ.
وبعد سنوات قصار تجلى طه حسين وتوفيق الحكيم والمازني والعقاد وشوقي الذين سقوا الفن القصصي حسب الحاجة وأقاموا صرحه بما أولوه من تقدير وعناية “فاتسقت للقصة المصرية مكانة مرموقة جذبت إليها ذلك السيل الذافق من الأدباء القصصيين وأصبح القراء يتفقدونها في كل صحيفة ومجلة وكتاب. حتى لقد صارت كلمة القصة عنوانا جذابا للكتب، وإن لم يكن لها صلة بالفن القصصي. فرأينا كتاب (قصة الأدب في العالم) بل (قصة الفلسفة الحديثة) بل (قصة الميكروب. كيف اكتشفه رجاله).”7
تأثير أوروبا في تطور رواية مصر:
ومن أهم خصوصية هذه المرحلة أن الثقافة الأوروبية كانت موردا أساسيا في تطور الفكر العربي. خاضت هذه الثقافة عن طريق أصحابها في تركيب حركات العرب الجديدة في حقل الوعي السياسي والإجتماعي والوطني. أسِست المعاهد التعليمية والتربوية العليا في مصر واتخذت سبيلها حسب المناهج المتبعة لدى الغرب كما انطلقت تلك المعاهد نحو الإتجاهات العلمية الحديثة وتطورت جامعة الأزهر ودار العلوم والجامعة المصرية الأهلية8. وأسست الجامعات الكبرى مثل جامعة الإسكندرية وجامعة عين الشمس وغيرها كما أقيمت المدارس العليا وأرسيت القواعد للتعليم القومي على أسس حديثة.
تبعا لجميع هذه الثورة التعليمية انقلب الجو المصري رأسا على عقب وشعر المثقفون المصريون بوجود أنفسهم أمام ذلك الوجود الأوروبي، وفوجئوا بظهور صحيفة (السفور) بعد أن احتجبت صحيفة (الجريدة). وأوت اليها مجموعة من الكتاب ومنهم: منصور فهمي ومحمد تيمور ومصطفى عبد الرزاق وعلي عبد الرزاق وحسن محمود وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم وعقدوا لهم برامج عمل في الصحافة والسياسة والأدب وعملوا بجد لتمديد روح الشعب المصري كما قارنوا بين متطلبات المجتمع الحديث وأحداث التاريخ المصري القديم. “ولعل من أقوى المحركات الجديدة التي ألهبت الروح القومية وجددت من عزم الشبان المثقفين وفتحت أمامهم آفاق النضال في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والأدبية… تلك الثورة القومية التي جمعت الجهود ووحدت الإتجاه وحركت العزائم حين هبت مصر في سنة 1919م بجميع فئاتها، وناضلت…. وناضلت…. وانتهى نضالها إلى استقلال، أو إلى شبه استقلال في عام 1922م.9” وكل هذه العناصر أدت إلى تطور الرواية في هذه المرحلة بشكل بارز.
دور الصحافة في هذه المرحلة:
شرع الشبان والمثقفون يفكرون في مناهج عمل وبرامجه يطبقونها في المجتمع كما احتاجوا الى عجلات تنقلها الى الشعب فاختاروا لها صحفا وجرائد. من أهم هذه الصحف (السياسة) منذ1922م تنطق باسم الأحرار الدستوريين و(البلاغ) منذ سنة 1923م تنطق بلسان الوفد، و(الجريدة) تنطق بلسان حزب الأمة، و(اللواء) تنطق بلسان الحزب الوطني كما وجدت الصحف الأسبوعية كـ (السياسة الأسبوعية) سنة 1926م و(البلاغ الأسبوعية). رغم ذلك، أصدر بعض خريجي الجامعات صحفا ومجلات ومنهم سلامة موسى الذي أصدر مجلته (المجلة الجديدة) سنة 1929م. وكانت تجديدا لمجلة (الجامعة) لفرح أنطوان وكذا الأستاذ أحمد حسن الزيات أصدر مجلة (الرسالة) سنة 1933م وأصدر مجموعة من الشبان الجامعيين مجلة (الرواية) سنة 1937- 1939م.
الدواعي السياسية والاجتماعية في هذه المرحلة:
كانت مصر تعاني من الاحتلال الأجنبي الشنيع والقمع الحكومي البغيض. العقبات في الحياة العادية والمعانات فيها أثارت الشباب ورجال الفكر. وكانت أهم المحركات التي أثارتهم في هذه المرحلة “تلك المعاهدة الظالمة التي عقدها رجال الحكم في مصر مع الإنكليز سنة 1936م التي زلزلت أعصاب الشباب، وهزت أعماقهم وخلقت صورة بشعة من صور الإحباط لديهم. وزرعت في صدورهم خيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها بعد هذه النشاطات واليقظة المتدفقة. وممارسة السلطة في تجمعات حزبية نشطة. ورأوا نتائج هذه المعاهدة تتمثل في احتلال بغيض تمارسه سلطات الإنكليز وجيشها وجيش خلفائها يستبيحون الشوارع. وكأن كل شيئ ملكهم يعيثون فيه فسادا، في الموارد، في المنتجات، في المحاصيل، في الناس، في النساء، في كل ما تصل إليه أيديهم دون وازع ورادع!.”10
وبعد الحرب العالمية الأولى ضعفت مسيرة الأدب واضمحلت في لبنان. وأخذ لواءها المصريون الذين دفعتهم دواعي الحياة السياسية الجديدة ومحركاتها الى أن يأخذوا به. وكل ما لدى الشعب هو القمع والإخماد من السلطة من جانب ومعانات الحياة البغيضة من جانب آخر. فالكتاب الجدد الذين عانوا من ذلك التخاذل السياسي والاجتماعي صوروا تيارات الإنسانية والعوامل القومية والوطنية في منتجاتهم الأدبية مثل ما فعل طه حسين في (الأيام) وفي (أديب) وفي (دعاء الكروان) سنة 1941م11 وتوفيق الحكيم في (يوميات نائب في الأرياف) و(عصفور من الشرق) و(عودة الروح) سنة 1933م. ومحمود تيمور في (نداء المجهول) سنة 1939م وغيرهم من الكتاب.
ولا شك في أن كل الروايات في هذه المرحلة تناولت القضايا الإجتماعية لأنها وجدت من أجل إيجاد الحلول لها ومعالجتها وإصلاحها. فأعادت الحياة المصرية من رؤية جديدة متطورة كما تناولها المصلحون كالأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى عبد الرزاق ولطفي السيد. وهذا ما نرى في روايات (إبراهيم الكاتب) و(عودة الروح) و(الرغيف) و(دعاء الكروان) و(سارة) وغيرها بشكل وضاح.
دور الطبقة الوسطى:
هبت ريح الثورة القومية في كافة أنحاء مصر في 1919م حشدت فيها جميع الفئات من الطبقة الوسطى حول الزعيم سعد زغلول حتى فتحت أمامها آفاق النضال في المجالات السياسية والإجتماعية والفكرية والثقافية والأدبية. دخل الكتاب بعدها إلى شكل جديد من الروايات تعبر عن أفكار الطبقة الوسطى وأحلامها وهمومها ومطامحها وقيمها وموازينها وعلاقاتها تعبيرا صادقا.
وبدت في هذه المرحلة مناهج التحليل النفسي وأثرها في الأدب. وحمل لواء هذا الإتجاه الجديد الكاتبان العظيمان إبراهيم المازني وعباس محمود العقاد اللذان اعترضا على الأسلوب الجاري آنذاك ولم يستسلما له أبدا. فنظفر هنا بمجموعة من الكتب كمثل (إبراهيم الكاتب) سنة 1931م و(إبراهيم الثاني) سنة 1943م و(عود على بدء) سنة 1943م و(ميدو وشركاء) سنة 1943م و(ثلثة رجال وامرأة) سنة 1944م و(عالماشي) سنة 1944م.
“ويزيد العقاد على المازني في مجالات التحليل والتأثر بمدرسة التحليل النفسي الغربية.. يزيد في إرساء قواعد المنطق في بناء العلاقات، وما تقوم عليه من أسباب ومسببات، تقف مواجهة معارضة للمبالغات العاطفية في أدب المنفلوطي ومن اتبعه، وقد ظهر ذلك كله متمثلا في رواية (سارة) سنة 1938م التي كانت صورة واضحة من منهج العقاد التحليلي التعليلي المنطقي العلمي.”[12
وكذلك، نُشرت عدة روايات قصيرة في القاهرة في منتصف هذه المرحلة كمثل رواية (ثريا) سنة 1922م لعيسى عبيد و(حواء بلا آدم) سنة 1934م لطاهر لاشين و(رجب أفندي) سنة 1928م و(الأطلال) سنة 1934م لمحمود تيمور وغيرها. وكل هذه الروايات صورت روحا جديدة تتعلق بثقافة الطبقة الوسطى في أرض مصر.
وبخلاصة القول، إن هذه المرحلة جلت برسالتها الفنية ودوافعها النابعة كما ظهرت فيها مواقف الكتاب من معاناة الشعب وقضاياه المعاصرة ومواقعهم في ميادين الصراع الإجتماعي والفني. فغاية روايتهم الحقيقة فنية ودوافعها داخلية وكتابتها رسالة للعالم لأن مصدرها هو الواقع العربي المعاصر الذي يهتم به الكاتب كي يحرك المجتمع إلى الأمام وإلى المستقبل الزاهر.
(iii) مرحلة تأصيل الفن الروائي:
هذه هي المرحلة التي وصلت فيها الرواية إلى أوج العزة وقمة الذروة في مصر. فُتحت آبواب جديدة أمام كتابها حتى سهل لهم تجديد الأفكار وتحريكها ونقلها الى الشعب عن طريق منتجاتهم الأدبية. فتناولوا في رواياتهم كل الإتجاهات من الرومانسية والواقعية والرمزية وغيرها.
تسمى هذه المرحلة بمرحلة تأصيل الفن الروائي13 أو مرحلة نجيب محفوظ كما يدعوها الأدباء. لأنه هو أبرز كاتب قاد مسيرة الرواية منذ بداية هذه المرحلة إلى نهايتها وتناول كل أنواع الرواية حتى حاز على جائزة نوبل في الأدب سنة 1988م. وفي حقيقة الحال، هذه المرحلة تستهل من الثلاثينيات (خاتمة المرحلة الثانية). “ولعل من الغريب القول بأن مرحلة نجيب محفوظ دخلت في المرحلة التي سبقتها مدة لا تقل عن عشر سنوات. وتفاعلت معها وانتفعت بكل تطلعاتها وتأثرت بها ورصدتها ونظرت إليها بعيون يواقظ ولكنها، بعد هذا كله، لم تمض امتدادا لها بل اختارت لنفسها منطلقا جديدا. ومضت في هذا المنطلق الجديد مدة لا تقل عن الأربعة عقودا. وكان هذا المنطلق الجديد ثمرة لعوامل جديدة ومحركات لم تكن ميسرة على الوجه الأكمل في المرحلة السابقة”14
الجيل الجامعي ودورهم في تطوير الرواية في مصر:
وقد أنجبت مصر في هذه المرحلة جيلا جديدا يجري على المناهج الأكادمية والأصول العلمية وحسب المنهج الحديث المتطور. فتناولوا علوم النفس والفلسفة والقانون والإجتماع وغيرها من العلوم لما اضطرت الجامعات المصرية إلى أن تأخذ نفسها خطة منهجية جديدة حديثة. قبلت الصحف والمجلات الجيل الجديد باسطة يديها. فتكثفت نتاجات الكتاب وضخمت أمواج الإنتاج الروائي. وحاولوا أن تنقذوا رواياتهم من كل عيب ونقص كما انطلقوا الى كل أنواع الرواية وآفاقها حتى تجاوزوا حدود الإطار الروائي الموروث. فاستثمروا كل جهودهم وأفكارهم وإخلاصهم في سبيل ترقيتها وتزكيتها وازدهارها كما بذلوا حكمهم وتعاليمهم في مواجهة الآداب الغربية وفي المنافسة معها حتى فازت محاولتهم وتولدت عدة منتجات أدبية عارية عن العيوب خالية عن الإعوجاج والنقص.
ومن أهم هذا الجيل الجامعي الذي تبرع في تطور الرواية نجيب محفوظ خريج كلية الآداب قسم الفلسفة وأحمد باكثير خريج كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية وعبد الحميد جودة السحار خريج كلية التجارة والإقتصاد ويوسف السباعي خريج الكلية الحربية وإحسان عبدالقدوس خريج كلية الحقوق وثروت أباظة خريج كلية الحقوق وعبد الحليم عبد الله خريج دار العلوم والدكتور يوسف إدريس خريج كلية الطب وغيرهم.
دور نجيب محفوظ:
نجب محفوظ هو من أبرز الكتاب الذين بذلوا حياتهم وجهودهم في تطور الرواية العربية كما تحدثنا عنه آنفا وكان عزةً لهذه المرحلة بدون شك. لم تترك جهوده الروائية حركة من حركات المجتمع المصري إلا لاحظت أبعادها ومضت معها فكان أصدق ممثل لهذه المرحلة حتى سميت بمرحلة نجيب محفوظ. تناول نجيب محفوظ أربع مراحلة روائية مهمة بين كتاباته هي المرحلة التاريخية (1930 – 1938) ((عبث الأقدار) و(رادوبيس) و(كفاح طيبة))، والمرحلة الاجتماعية (1939 – 1952) ((القاهرة الجديدة) و(خان الخليلي) و(زقاق المدق) و(السراب) و(بداية ونهاية) و(الثلاثية) – (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية))، والمرحلة الفلسفية (1959 – 1975) ((أولاد حارتنا) و(اللص والكلاب) و(السمان والخريف) و(الطريق والشحاذ) و(ثرثرة فوق النيل))، والمرحلة التراثية (1977 – 1983) ((ملحمة الخرافيش) و(ليالي ألف ليلة) و(رحلة ابن فطومة) و(قشتمر)).
وقام نجيب محفوظ بتصوير “الطبقات الوسطى والشعوب وما تخضع له من الظروف المختلفة في البيئة والمجتمع في أسلوب خلاب يخاطب عقول العامة والخاصة رجالا ونساء. وكان نجيب من أكمل الأدباء فنا وأثقلهم وزنا في الرواية الأدبية كما يتضح من رواياته (اللص والكلاب)، (عبث الأقدار)، (كفاح طيبة)، (السكرية) و(أولاد حارتنا)”15
وبالجملة، إن الرواية الحديثة هي من أشهر أنواع الأدب في اللغة العربية وأكثرها ذيوعا وانتشارا. وقد أسهمت بدور محوري في إيقاض المصريين من جمودهم الأدبي الذي غلب عليهم في القرون السابقة حتى أصبحوا رواد الأدب العربي في العالم شرقا وغربا. لأن مصر هي أول دولة دبت فيها أمواج التجديد للفنون الحديثة والمعارف الجديدة وانتفعت بالتيارات العلمية والإتجاهات الأدبية والثقافات الحديثة. ولا شك في أن المحاولات والمجهودات للشيخ جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده قامت وراء الكتاب والمصلحين الجدد، إنهما أرشداهم إلى مفاهيم الدين والأمة والغيرة، وأَيقظا الشعب المصري من الاحتلال والاستحصال والجهل والظلم. وهكذا علت أصوات الشعراء والأدباء والروائيون ضد الفرنسيين والإنجليزيين كما فعل الأدباء الروائيون مثل محمد حسن هيكل وتوفيق الحكيم ومحمد تيمور ونجيب محفوظ. استهدفوا الى تدمير قوى الاحتلال برواياتهم كما كشفوا الستار عن السيئات الاجتماعية عبر سطورها. وأما كاتبنا العظيم نجيب محفوظ فيطالع “أطرافه وأكنافه بنظر عميق ويبحث في أصحابه ومدينته وحكامه ورجال مجتمعه، وانتقد انتقادا حارا السلطة الإنجليزية، وأبرز البواعث القومية والنزعات الوطنية والثقافية الفرعونية فيها، وقام بخطوة عنيفة خلاف الطبقات الأرستقراطية وذكر قصص المضطهدين وأوضاع الطلبة المتخرجين وقضايا البائسين والمحتاجين وأشار أهمية الاشتراكية بالنسبة إلى الإسلام”16
وبطبيعة الحال، جرى العديد من الروائيين في كل المراحل التي ذكرناها آنفا حسب مقدارهم الفني. وليس المجال هنا بالوسعة لذكر جميع كتاب الرواية المصريين خاصة كُتاب المرحلة الأخيرة. وقد ساهموا برواياتهم دورا واسعا في حياة المجتمع المصري خاصة والمجتمع العربي عامة. وقد صوروا الشعب المصري وما يعانيه من أوضاع في كافة المجالات وفي جميع الفترات خاصة من حكم الملك فاروق17 والاستعمار البريطاني لمصر وثورة 23 يوليو 1952م وحكم الرئيس عبد الناصر والسادات وحسني مبارك والثورة ضد سلطته وغيرها من أحداث ووقائع في تاريخ المجتمع المصري حتى واصلت الرواية المصرية تمسك بلجامها كي تحرك أمتها إلى الأمام وتؤدي رسالتها الرفيعة إلى هذه الآونة.
الهوامش
- نجيب محفوظ من قوت القلوب إلى جائزة نوبل، الدكتور رحاب عكاوي، دار الفكر العربي، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2006م, ص – 8، 9.
- في الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1999م، ص – 46.
- وهي رواية فتاة القيروان. أصدرت في مطبعة الهلال سنة 1912م.
- هاجر نقولا حداد الى القاهرة سنة 1897م.
- وكان أول إنتاجه الأدبي قصة «زينب» عام 1914، وهي أول رواية مصرية تحولت إلى شاشة السينما عام 1928
- ينظر: في الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1999م، من ص – 55 إلى ص – 59.
- 7. في الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1999م، ص – 63، 64.
- انشأت الجامعة المصرية الأهلية سنة 1908م وأعيد تسميتها باسم جامعة فؤاد الأول في سنة 1940م ثم بجامعة القاهرة سنة 1952م.
- في الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1999م، ص – 65.
- في الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1999م، ص – 67.
- يمتد هذا النوع الأدبي في منتجاته الأدبية إلى ما كتبه بعد 1941م – من (شجرة البؤس) و(القصر المسحور) و(أحلام شهرزاد)
- في الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1999م، ص – 69.
- هذه المرحلة هي التي قامت بالحقيقة بتأصيل الرواية العربية على مستوى الشكل والمضمون ولهذا سميت مرحلة تأصيل الفن الروائي.
- في الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1999م، ص – 86.
- مقالة نجيب محفوظ كمجدد الرواية للأستاذ الدكتور محمد مصطفى شريف، كتاب نجيب محفوظ في ميزان النقد، أعده وقدمه البروفيسور محسن العثماني الندوي، المعهد المركزي للغة الإنجليزية واللغات الأجنبية، حيدراباد – الهند، الطبعة الأولى، ص – 81.
- مقالة القاهرة – دراسة نقدية للأستاذ الدكتور أبو سفيان الإصلاحي، كتاب نجيب محفوظ في ميزان النقد، أعده وقدمه البروفيسور محسن العثماني الندوي، المعهد المركزي للغة الإنجليزية واللغات الأجنبية، حيدراباد – الهند، الطبعة الأولى، ص – 99.
- الملك فاروق هو آخر ملوك المملكة المصرية وآخر من حكم مصر من الأسرة العلوية. تولى الحكم سنة 1936 وتنازل عنه 1952.
المصادر والمراجع:
- فنون الأدب في لغة العرب، الدكتور إبراهيم عوض، دار النهضة العربية، القاهرة – مصر، 2008م.
- فن الأدب، توفيق الحكيم، دار مصر للطباعة، مكتبة مصر، الفجالة – مصر.
- في الجهود الروائية من سليم البستاني الى نجيب محفوظ، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1999م.
- نجيب محفوظ في ميزان النقد، أعده وجمعه البروفيسر محسن العثماني، المعهد المركزي للغة الإنجليزية واللغات الأجنبية، حيدراباد – الهند، الطبعة الأولى.
- نظرات في تاريخ مصر، جمال بدوي، دار الشروق، القاهرة – مصر، الطبعة الثانية، 1415 هـ – 1994م.
- نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية، الدكتورة فاطمة موسى، مهرجان القراءة للجميع، مكتبة الأسرة برعاية السيدة سوزان مبارك، 2001م.
- Naguib Mahfouz – The Pursuit of Meaning, Rasheed El-Enany, Routledge, London, 1993.
- اتجاهات الرواية العربية، الدكتور شفيع السيد، دار الفكر العربي، مدينة نصر – مصر، الطبعة الثالثة، 1996م.
- في الثقافة المصرية، محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، دار الثقافة الجديدة، القاهرة – مصر، الطبعة الثانية، 1988م.
- الأصول التاريخية لنشاة الدراما في الأدب العربي، سعد الدين حسن دغمان، دار الأحد، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1973م.
- النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمي هلال، دار العودة، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1973م.
- نجيب محفوظ من قوت القلوب إلى جائزة نوبل، الدكتور رحاب عكاوي، دار الفكر العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2006م.(شعيب تي، الباحث في الدكتوراه في قسم الدراسات العربية بجامعة اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية حيدرآباد – الهند)
بارك الله فيكم جميعا