نورة الصديق
صورة الذات والآخر في رواية “الموتشو” لحسن أوريد
ـ ملخص
تتناول هذه الدراسة قضية الذات والآخر في رواية “الموتشو” لحسن أوريد، وتسعى إلى الكشف عن صورة الأنا والآخر ومعالجتها من صورهما، والتعمق في دراسة جدلية العلاقة بينهما، وإبراز الهوية المغربية والعربية والأجنبية، وإبراز ثقافتهما في فترة من تاريخ المغرب، كما تسعى إلى تسليط الضوء على كيفية تفاعل الأنا والآخر وتصوير علاقتهما، ورصد مجمل الأفكار والرؤى والقيم التي تشغل وجدان وثقافة الشعب المغربي، وإبراز تجليات الصراع والمواجهة الحضارية بين العرب والغرب في الرواية، باعتماد المنهج التحليلي المقارن..
وتوصلت الدراسة إلى عرض الرواية صورًا فنية عن التحولات التي شهدها الواقع العربي، وعلاقة الذات بالآخر، وعلاقات العرب بالاحتلال وبإسرائيل، وعملت على تصوير الواقع العربي والتعبير عما تعيشه الذات من ظروف مريرة، وعما كان يهددها في مخاطر داخلية ومواجهة الآخر، ورصدت صور الذات في موطنها وثقافتها وأيديولوجيتها، وكشفت عن دوافع الذات وانبهارها بالآخر، والبحث عن الخلاص والملاذ عبر اللهاث وراء مغريات الآخر/ الغرب، مثل الدوافع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تنخر جسد العربي، وتؤثر في واقعه كالقمع والظلم والفقر وغياب العدالة وتحقيق الذات…
الكلمات المفاتيح:
الصورة، الذات، الآخر، العلاقة، الرواية…
The image of the self and the other in the novel El Mocho by Hassan Aourid
Abstract
The study deals with the issue of the self and the other in the novel “The Mocho” by Hassan Aourid. It seeks to reveal the image of the self and the other and treat it from their images, delving into the study of the dialectic of the relationship between them, highlighting the Moroccan, Arab and foreign identity, and highlighting their culture in a period of Moroccan history. It also seeks to shed light on On how the ego and the other interact and depict their relationship, and monitor the totality of ideas, visions and values that occupy the conscience and culture of the Moroccan people, and highlight the manifestations of the conflict and civilizational confrontation between Arabs and the West in the novel, by adopting the comparative analytical approach
The study concluded that the novel presents artistic images about the transformations that the Arab reality witnessed, the relationship of the self with the other, and the relations of the Arabs with the occupation and with Israel. And its culture and ideology, and revealed the motives of the self and its fascination with the other, and the search for salvation and refuge by panting after the temptations of the other / the West, such as the political, social and economic motives that gnaw the body of the Arab, and affect its reality such as oppression, injustice, poverty, absence of justice and self-realization …
Keywords: image, self, other, relationship, novel.
تمهيد
تعدّ جدلية الذات والآخر مسألة قديمة في تاريخ الفكر البشري، ومن أبرز الثنائيات حضورًا بشكل جوهري في تشكيل الخطابات الإبداعية قديمه وحديثه، يلجأ إليها الأدباء لإثبات الهوية والانتماء الخاص بكل فرد من الجماعة، وهي مسألة حاضرة بكثافة في العقود الأخيرة، التي عرفت صراعات كثيرة بين الدول، وانفتاح البلدان على بعضها البعض، وشهدت تطور وسائل الاتصال وثورة المعلومات، جعلت العالم قرية صغيرة، وجعل الذات تحمل تصورًا ونظرة للآخرين، إذ لن يكون لها معنى دون الآخر الذي تتعرف من خلاله على ذاتها، وعلى الآخر في سياق التفاعل بينهما بأشكال مختلفة من صراعات وحوارات، إذ لا يمكن الكشف عن الذات إلا من خلال الآخر والحياة الاجتماعية.
ومن بين الألوان الأدبية التي تحفل بجدلية الذات والآخر فن الرواية، بوصفها تعكس الإنسان في المجتمع، تنقل واقعه وحياته، ترصد تحولاته المختلفة، تحلل مشاكله وقضاياه، تتناول معاناته كذات تواكب التحول الحضاري والتغيبر الاجتماعي في مكان وزمان معينين. وتم اختيار رواية “الموتشو” للروائي المغربي حسن أوريد الصادرة بدار المتوسط سنة 2023، لحداثتها، ولكون الروائي من الروائيين والمفكرين المغاربة، الذي يتناول قضية الآخر في كتاباته، وارتأت هذه الدراسة أن تتناول صورة الذات والآخر في الرواية ومعالجتها من صورهما، بعد أن تبلورت الإشكالية التالية: ما مدى حضور الآخر في رواية الموتشو؟ وما هي الصور التي تشكلت فيها؟ وما هي أنواعها؟ وما أثرها في الأدب المغربي؟
وتسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن صورة الذات والآخر في الرواية، والتعمق في دراسة جدلية العلاقة بينهما، وإبراز الهوية المغربية والعربية والأجنبية، وإبراز ثقافتهما في فترة من تاريخ المغرب، كما تسعى إلى تسليط الضوء على كيفية تفاعل الذات والآخر وتصوير علاقتهما، ورصد مجمل الأفكار والرؤى والقيم التي تشغل وجدان وثقافة الشعب المغربي، وإبراز تجليات الصراع والمواجهة الحضارية بين العرب والغرب في الرواية.
واعتمدت هذه الدراسة على المنهج التحليلي المقارن الذي يقوم على كشف دلالات الذات والآخر لرصد الصور المرتبطة بالذات والآخر، والوقوف على الإطار المكاني والزمني ومعرفة الآخر، ومظاهر ثقافته وقيمه وسبل حياته، وأهم العوامل التاريخية والمؤثرات الخارجية في مضمون الرواية حسب سياق الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
ـ 1ـ الإطار المفاهيمي
سيتناول هذا المبحث تعريف مفهوم الصورة، والذات والآخر، وتقديم نبذة عن حياة الروائي حسن أوريد وعرض ملخصا عن روايته “الموتشو”:
ـ 1ـ 1ـ مفهوم الصورة
اهتمت مجموعة من الدراسات الأدبية بدراسة الصورة لأهميتها في العلاقات بين الشعوب من أجل معرفة اتجاهات الرأي العام العربي إزاء الغرب، ومعرفة صورة الآخر في النص الأدبي تبعًا للفترة الزمنية وللنوع الأدبي. وتعد الصورة مجموعة من تمثّلات يشكلها الفرد أو الجماعة، وواقعًا ثقافيًا يكشف به عن الفضاء الثقافي الذي يقع ضمنه، وعن الأنماط التي يمكن تمييزها في الأنساق الثقافية التي تحكم بسلوكات الفرد، إذ تصف الصورة الأفكار والرموز، “إن المتخيل الثقافي هو بمرتبة الإطار.”[1]فالصورة يكونها المتخيل عن الآخر، وتكون إما إيجابية او سلبية.
تقوم الدراسات الأدبية المقارنة بتحليل صور الشعوب، وتبرز خلفياتها التاريخية، وتحلل مضامينها الفكرية، وتبين مواطن التشويه فيها، يقول حسين العودات: “ولا تكتفي الدراسات الصوراتية بالتحليل المضموني للنص، بل تدرس أيضا.”[2]، فهي تعرض الواقع الثقافي المجسد من خلال الفرد أو الجماعة التي شكلتها. وتدرس صورة شعب كما يصورها أدب شعب آخر، أي دراسة صورة الآخر/الأجنبي تمثل أفكار ثقافة ما وتحولها إلى المتخيل بوصفه مرآة تعكس تاريخ الأوضاع الاجتماعية والنفسية والسياسية في تصور الذات والآخر، أي أن الصورة تعرض واقعًا ثقافيًا من خلال تشكل الفرد أو الجماعة لها، فيها يكشفون عن الفضاء الثقافي الذي يقعون ضمنه، فالصورة” تعبير أدبي أو غير أدبي، ذي انزياح ذي مغزى بين منظومتين من الواقع الثقافي”[3]، أي أنّ معرفة الصورة الذهنية والثقافية والقومية التي يقدمها العمل الأدبي للشعوب الأخرى، ويمثلها بنجاح وصدق، إذ الصورة ” تعبر عن صاحبه وأغراضه أكثر مما تعبر عن حقيقة الآخر”[4]
إن أهمية دراسة صورة الآخر تكمن في فهم الذات، وربط علاقات مع الشعوب الأخرى بعيدا عن التشويه ومحو سوء الفهم الذي يصيب صورته عند الآخر.
ـ 1 ـ2 ـ مفهوم الأنا/ الذات
إن الذات عند فرويد هي” حالة وسطية بين الهو والأنا الأعلى، ليشكل بذلك حلقة اتصال بين العالم الخارجي والحاجات الغريزية، فالأنا يقوم بنقل ما للعالم الخارجي من تأثيرات إلى الهو وما فيه من نزعات، ويحاول أن يضع الواقع محل مبدأ اللذة الذي يسيطر على الهو”[5]ويؤكد أن الأنا هي” كل ما يشتمل عليه الذات من خصائص وسمات نفسية وعقلية ومزاجية ودفاعية وغيرها”[6]
ويعرف ويليام جيمس الأنا بأنها “تيار من التفكير يكون إحساس المرء بهويته الشخصية، بينما كولي أن الذات أو الأنا هي من مركز شخصياتنا، والأنا لا تنمو، لا تفصح عن قدرتها إلا من خلال البيئة الاجتماعية”[7]، أي أن صورة الأنا هي نسق تصويري تطوره الكائنات البشرية أفرادًا أو جماعات تتبناه وتنسبه إلى نفسها، وتتمثل في خصائص مختلفة وعادات… فالذات هي “نقيض الآخر بما تمثله على المستويات الشخصية والقومية والفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية”[8]
ـ 1 ـ 3 ـ مفهوم الآخر
إن جدلية العلاقة بين الأنا والآخر هي ثنائية قائمة في طبيعة الحياة، إذ يشترط لوجود الآخر وجود الأنا، كشرط أساسي له” تحتاج إلى الوعي لتجسيد الذات، ويصبح الآخر شرطا لتحررها ولا تتحقق ذاتيتها إلا بالتفاعل مع الآخر”[9]، حيث تشعر الذات بعلاقته بالآخر، لتنشأ بذلك ثنائيات مختلفة: الذات والآخر، العدو والصديق… وهي صورة تتشكل في ذهن الذات عن الآخر، ويتغير بتغير الزمن والظروف، “بين الأنا والآخر علاقة جدلية لا ينبغي إلغاؤها أو تجاهلها والسكوت عنها، فعلاقة كل واحد منها بالآخر هي ثنائية قائمة في طبيعة الحياة، يعدّ كل شطر منها شرطا لوجود الشطر الآخر وفهمه ووعيه والاعتراف به”[10]، إذ لا يتشكل وعي الإنسان إلا حين يكون في علاقة مع الآخر الذي يعدّ مكملًا للذات ونقيضًا لها، يختلف معه في الجنس والعرق والانتماء والهوية والديني والثقافي والفكري والاجتماعي.. حيث لا يمكن فهم الذات دون الآخر الذي هو الطرف المقابل للذات، لأن “الآخر حضور يحتد فيه شعور الذات بذاتها، وتزداد رغبتها في الاكتمال عبر الامتزاج به أو ما يرمز إليه”[11].
وتقف الرواية في عوالمها وجهًا لوجه مع الآخر/الغرب، هذا الأخير بمثابة مرآة من خلالها تشاهد الذات، وهو مصدر تناقضات مختلفة، حيث انقسم الأدباء في رؤاهم إلى مواقف، منها موقف يقلد كل التيارات الفكرية والثقافية التي تهدد الأدب العربي وتحط من قيمته، رغم أنه ينبهر به وبمنجزاته، يهرب في عمله الأدبي بخياله إلى الغرب من مجتمع متخلف على جميع الأصعدة، وموقف يؤيد تيارات متعددة، وموقف يقف ضد هذه التيارات كلها…
إن إشكالية الأنا والآخر في الأعمال الأدبية، تنقل الصراع الحضاري الذي نشأ بعد الاحتلال العربي للشرق وغرب إفريقيا، هذا الحديث أنتج مجموعة من الأعمال التي نسجت حيثيات الصراع بين الشرق المتخلف والغرب المتقدم، من بينها رواية “الموتشو” لحسن أوريد.
ـ حسن أوريد والرواية
– حياته
حسن أوريد مفكر وكاتب وسياسي مغربي، ولد بقصر تازموريت قريبا من مدينة الراشيدية سنة 1962، تتلمذ إلى جانب الملك محمد السادس في المدرسة المولوية سنة 1977، حصل على البكالوريا وتخرج بشهادة الإجازة في القانون العام، ودبلوم الدراسات المعمقة من كلية الحقوق والعلوم السياسية بالرباط، وحصل على دكتوراه الدولة في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، وتم تعيينه كأول ناطق رسمي باسم القصر الملكي، له مجموعة من المؤلفات، منها ربيع قرطبة، رباط المتنبي، سيرة حمار…
– ملخص الرواية
تتحدث الرواية عن أوضاع العالم العربي، خاصة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو جوهر عمل الرواية التي تبدو غنية بحوارات تعكس رؤى مختلفة ومتضاربة، و تبرز نزاعًا عاطفيًا من أجل الوجود، تتناول ما يتوزع العالم العربي وعلاقته بالآخر، منذ الفترة المؤسسة مع حلم الوحدة، وما رافقها من انكسار إلى الربيع العربي فالأصولية حتى موجة التطبيع، تحكي تجربة قاسية بعد أوضاع مدة الثورة العربية، وبعد الحلم العربي. ومن شخصياتها:
ـ أمين الكوهن: الموتشو، أكاديمي مغربي مختص في التاريخ اليهودي، ومناضل يساري وصحفي محرر في جريدة إعلامية بالبيضاء، عضوا في حركة 20 فبراير، تشبع بعمقها وروحها الثورية، واكتوى بإخفاقاتها ومدها وحلمها، مسكون بقلق السؤال، مثل سؤال فشل حركة 20 فبراير والحلم الربيع العربي، وإرهاصات النكسة والنكبة وسراب الحركات الإسلامية، وهوس الشعارات الفارغة…
ـ محمد بنيس الذي أصيب في حادثة سير أفقدته الذاكرة، بعد أن كان شاهدًا على التحولات الكبرى التي جرت في العالم العربي، تخلت عنه زوجته اليهودية سوليكا.
– نعيمة بلحاج: بعد حادثة بنيس، يتردد الموتشو على مستشفى ابن رشد، خلالها يتعرف على نعيمة بلحاج طبيبة، تتطور العلاقة بينهما في ملابسات متشعبة بين إقدام وإحجام بينهما، يحاول التقرب منها لكنها ترفض وتبدي امتعاضها منه ومن سماجته أو سذاجته، تقابله كلما زار محمد بنيس، تكره الدين الإسلامي الذي فصلها عن أمها اليهودية التي اعتنقت الإسلام، لكنّها تتزوج ديفيد اليهودي، وتنزع الحجاب، وتغير اسمها وتغادر المغرب إلى إسرائيل.
ـ إستير كوهن: في علاقة الموتشو بالجيران، تعرف عليها، وهي إسرائيلية مثقفة من أصل مغربي، شاركت في حرب 1973، ضد مصر، وهي يهودية مسنّة تكره العرب والمسلمين، وتحب جمال طبيعة المغرب وحضارته الضاربة في تاريخ اليهود.
ـ 2 ـ صورة الذات في الرواية
تمثل الذات في الرواية شخصية أمين الكوهن أو الموتشو، هو في قلق حاصل لديه، وفي ثنايا تشابك وصراع مع شخصيات أخرى، طرح أسئلة راهنة بتلاوين مختلفة أزعجت شخصيات مشاركة شكلت عنصرًا معاكسًا لها، وأحيانا يكتفي بالتلميح لها رغم معرفة الخلفيات الإيديولوجية للشخصيات. وتتجلى جدلية الذات والآخر في الرواية في مشاهد متعددة وفي حوارات تشكل بنية الصراع الحاصل بين الشخصيات التي اختلفت كثيرا، ويمكن الفصل بين الذات في الجيل القديم، والجيل المتوسط، والجيل الجديد، وإبراز نظرة الذات إلى العربي، وإلى العلاقة بينهما:
2 ـ 1 ـ الذات عند الجيل القديم
كانت أرض الشرق منبعًا للعروبة والأمجاد والعز، وفي الحاضر يصور الروائي صورة العرب قديمًا المتميزة بالقوة والوحدة والاتحاد، حيث “كان الإسلام حينها الدين الغالب، بحمولة حربية، يستحث كما ليبدو، الجماعات…الغلب نوع من الليبدو …الأمور مختلفة الآن.. الفرس قاموا بثورة باسم الإسلام، والأتراك يربطون الصلة بتراثهم العثماني، والأمازيغ متعلقون بالإسلام”[12]. إذ قامت مجموعة من الدول باستعمال الدين من أجل الهيمنة كالإيرانيين والأتراك وكان لها أثر في الشرق الذي “أصبحت أرضه جرداء، لم تعد تنبت قيادات ولا أصحاب رؤى ثاقبة، محاربين ربما، سياسيين يتقنون اللف والدوران.. وهواة في كل شيء، حتى اليهود لم يعودوا ينجبون أنبياء، منذ بنَ غوريون يفضلون صورة الملك داوود، صورة لماكيافيلي”[13].كما أصبح هذا الشرق يعرف بضحالة فكره وقصور ذاته، إذ لا يمكن لحضارة أنجبت في السابقين.. جهابذة في كل أوجه الحياة العلمية في بغداد وفي قرطبة وسرقسطة والقاهرة وفاس وتونس وصقيلة أن تكون قاصرة.. وكانت في أولى احتكاكها بالغرب واعدة”[14].
2ـ 2ـ الذات عند الجيل المتوسط
يصور الراوي حالة الأنا في عهد الحماية، ويمثله محمد بنيس الذي “انغمر في الحركة الوطنية، وتلظى بالنفي وتعرض للتضييق والأذى بسبب الحوت الكبير، وأنه هو من أرسى القواعد ونمَّط المجتمع، والحوت الكبير لم يظهر للعيان، كان يقتات من التهام الأسماك كلها”[15].
ـ الذات / الشرق
يمثّل الشرق/ الغرب طرف ثنائية متناقضة قائمة من القدم، وتتجلى الذات في الرواية في الشرق الذي يعد بؤرة للصراعات والحروب على لسان الآخر/ اليهودي الذي تمثله شخصية إستير كوهن، وهي يهودية مغربية يعيش بين إسرائيل والرباط، شاركت في حرب 73مجندة في سيناء، “هذا الشرق الأوسط الذي ينتهي بمشاكله وجنونه ويجر العالم إليه، لا يدري أهو لوحة قيادة العالم أو بؤرة صراعه أم مستوع فضلاته الإيديولوجية”[16].
يقدم الراوي الشرق كذلك في صورة متعددة متناقضة يقول أمين الكوهن :”هذا هو العالم العربي ديالك اللي كتْحْلمْ به، الخراب من جهة، والبطش من جهة ثانية، مدرَّح بالنفاق، واجهات للديمقراطية وحرية التعبير وإسلام الطقوس، صلاة القياد، الجمعة، والأعياد”[17]. هذه الأوضاع الحالكة، والتغيير الكبير على مستوى الأخلاق والمبادئ والقيم تشي بموت العرب وانتهاء أمرهم لانتشار النفاق والفساد، يقول أمين الكوهن:”تحيد من حْداه يدير عليك اجتماع وبلاغ وعرائض تنديد، واتهام الخامس، حفدة ليوطي، المتصهينون، المتأمزغون الجدد، إكرام الميت التعجيل بدفنه، العالم العربي قد انتهى”[18]. وهنا يشير الكاتب في روايته إلى الذات / الشرق، ويبدو هذا جليًّا في حوار أمين الكوهن مع محند الأمازيغي بعد فصله من الجريدة، وإعطائه كل مستحقاته عند حديثهما عن قضايا الحرية والكرامة والعدالة، التي سلبت وديست علانية.. ذلك أن الأنا الجمعي يخفي مظالم كثيرة …
ويصور الروائي العرب في أزمتهم الثقافية العقيمة بلا طموح ولا سردية تُذكر، “والدليل هو الكتابات الفكرية أغلبها مترجم.. أما الإسلاميون فلا ينتجون فكرًا.. لم يبرحوا دائرة علم الكلام من منطلق موضوعي، حاله الاحتقان، وكلبية الغرب، واستفراد الأوليغراشيات”[19]. يريد الروائي حسن أوريد أن يبين أن مكانة العرب اضمحلت وانتهت نهايتهم بعد فشلهم، يقول في حوار:
” ـ لم تعد ممكنا ان تنتظر شيئا من العالم العربي للأسف، قرن من الزمن من أجل لا شيء…
العالم العربي.. لا يوجد…
– لا يوجد لأنه أخفق، لو أنه نجح لما كان الموضوع ليثير أسئلة عن وجوده من عدمه.. ما فشل هو عملية البناء، أما مواد البناء فموجودة، قضايا مشتركة، ذاكرة، لغة..”[20].
وتبرز الرواية إضافة إلى صورة الفشل والاضمحلال، صورة التصدع والجمود والانكسار والغضب الذي عرفه العرب، “منذ سقوط بغداد ونكبة ابن رشد، حمل الإسلام مثالب الديانيين، الطقوسية، أضحى المسلم في حالة استكانة، وحينما استفاق عبّر عن صحوه بالغضب… لكن الغضب ليس حلًّا.. ينبغي بناء عقلي ومعرفة دقيقة بتجاويف الحضارة الغربية”[21]. فالذات/العرب أضحى تحت تأثير الآخر الذي يصوغ القاعدة لتلحقه اللعنة إلى الآن.
ـ الذات/ الفلسطيني
يصور الروائي حسن أوريد صورة الفلسطينيين في صراعهم مع إسرائيل “التي حكمت عليهم بالطرد والنفي”[22]. حيث طردهم الآخر من أرضهم ومزق أشلاؤهم، يقول البطل: “شعب في أرض أزيح من قبل جماعة، ضاعت أسطورة شعب، واستولت على أرض، من منطلق القوة، القوة المادية والمعنوية”[23]، إذ تحدث عن تقتيلهم في دير ياسين وكفر قاسم، وصبرا وشاتيلا وجنين وغزة… ومعاناتهم في نقاط التفتيش، أو نقص الغذاء والماء في غزة، ومنع المصلين من ارتياد المسجد الأقصى.. وهي معاناة إنسانية تستدعي إيجاد حلّ للنزاع العربي وفق معادلة السلام… وهي صور قاتمة عن المواطن الفلسطيني وأوضاعه القاسية، وصورة سلبية للآخر الفتاك ذي البطش…
2ـ 3ـ الذات عند الجيل الجديد
يمثله الروائي في شخصية أمين الكوهن الذي يلقبه محمد بنيس بالموتشو، مثَل الجيل الثائر على الوضع والمتمرد على المعتقدات والأعراف والحالات التي يعيشها الشعب العربي، مما يجعله ينظر إلى الآخر نظرة مغايرة، لهذا قدّم الراوي أمين الكوهن بأنه ليس إسلاميا، انتهى به المطاف صحافيا بالجريدة لانضوائه في حركة 20فبراير في خضم “الربيع العربي”، حيث أثار اهتمام الناشطين، بقوة تحليله ونظرته الثاقبة وثقافته الواسعة، وبازدواجية ثقافته وتكوينه وإتقانه للغتين الغربية والفرنسية، أكمل تعليمه في شعبة التاريخ، أعد رسالته حول اليهود الذين هجروا من الأندلس بعد سقوط غرناطة 1492، متشبث بهويته السياسية، يقول الراوي: “حينما يُسأل عن هويته السياسية كان يرد :”حرية، عدالة، كرامة”[24].
وجد البطل نفسه ممزقًا في مفترق طرق وبين مآسي وقضايا مؤرقة في بلده وفي إقصاء جارح ودونية واحتقار، يقول: “لم أكن أعاني الاضطهاد.. الاضطهاد كلمة كبيرة، ولكن التهميش نوع من الاضطهاد… المسألة تنصرف لقومي، من هم في الجبال يعانون الخصاصة، ويعيشون الشظف، ومن منهم في السجون لأنّهم عبّروا عن مطالب اجتماعية، واستعادة تاريخهم وخصوصياتهم الثقافية”[25]، يقدم الروائي صورًا سوداء وخانقة يعرف بها كل عربي، ناهيك عن خيانته لبني جلدته، أي خيانة الذات لذاتها وللآخر الذي تشترك معه اللغة والدين، يقول الراوي: “عربي في المغرب يدافع عن العرب، عن لغتهم ودينهم، لعبة سهلة ومزجية تستعيض عن التفكير بالصراخ…والكل يصيح للصراخ… لكنّ التفكير لا ينتهي لكل الآذان”[26]، كما أنه عاش ويلات الحرب على العراق وتلظى بآلامها ودمارها مما دفعه إلى انغماره في أتون” الربيع العربي” الذي اندلع في بعض الأقطار العربية ضد الاستبداد والفساد واستغلال الثروات، وظّف الراوي شخصيته لتفكيك فكرة التطبيع وفق محددات الصراع الموجودة، إذ التطبيع مع من يحب الوطن غير ممكن، أي أنه مع المشروع الصهيوني كاستمرارية عنصرية استعمارية، وهذا ما أعرب عنه في استجواب صحفي بعد إلقائه محاضرة بمعهد موشي ديان بإسرائيل:
” ـ ألا تخشون من ردود فعل في بلادكم؟
– لدي الشجاعة الكافية لأعبّر عن أفكاري، والمعادون لإسرائيل في بلدي فئات هامشية، مؤدلجة تحسن الضجيج، لكن الاتجاه العام هو من أجل التطبيع مع إسرائيل”[27]. فالذات تعلن انتماءها إلى الآخر وتقبله لمنحه كل ما يملك، ومن يتحمل المسؤولية هنا هو نحن/ الجماعة، لأننا قبلنا هذا الاحتلال والهزيمة بالسكوت دون ردّة فعل عن نتائجها الوخيمة، فقد ترعرع في بيئة يهودية/ يهودي الجد وخير دليل على ذلك اسمه الكوهن الذي سبّب له مشاكل عدة وحال بينه وبين تحقيق طموحاته وأمانيه، في الشغل وفي الدين والثقافة، وترسخت لديه مبادئ الصهيونية والديانة اليهودية، أي أنه جزء من اليهودية بيولوجيا من خلال ما يفصح به، وما يبوح به لإناثه.
ومن خلال الرواية نلفي أن الحوار يعبّر عن شخصية قائليه، ويصور أفكاره ومشاعره، استخدمه الروائي بأساليب مختلفة في رسم شخصياته، بوصفه “الجزء الذي يقترب من الناس، وهو على قدر عظيم من الأهمية، وله قيمة عظمى أيضا في عرض الانفعالات والدوافع والعواطف، والحوار في محل الروائي الذي يميل إلى الطريقة التمثيلية يحل محل التمثيل والتعليق”[28]
في حوار البطل أمين مع زميلته دلال التي لقبته بالصهيوني نسبة إلى اسمه العبراني(كوهن)، يشير إلى صورة الذات المتمسك بالهوية العربية الاسلامية وانتفاضته لكل ما يجرح كرامته ويمس هويته وقوميته، يقول:
” ـ احتم على أعراضك، أ الصهيوني.. ردّ أمين في حدة:
ـ الصهيوني هي أختك…..انتفض أمين ثم توجه صوب طاولة دلال، أمسكه محسن من ذراعيه بقوة”[29].
يقدم الروائي شخوصه تقديمًا يبعث في القناعة لدى القراء، لأنه يعرفها ويتعاطف معها، ويكشف عن أبعادها النفسية والجسمية والاجتماعية ليحدد هويتها التي تبرز صورتها الفردية، وفي الرواية يعمل على تداخل الهوية المغربية مع الهوية اليهودية، في وصف ملامح وصفات وسرد حياة كل من شخصيتي إستير جارة أمين وسوليكا زوجة محمد بنيس، ونعيمة بلحاج التي لم تبح بهويتها له إلا بعد رحيلها في رسالة له.
ـ الذات/ المثقف
يعتمد تحديد الأنا على تحديد هوية الفرد والجماعة المتأثرة بالعوامل التي يعيشها، يقدم الراوي البطل أمين الكوهن، شخصية أكاديمية مثقفة مشتت التفكير، وعند تأمل رؤاه وانشغالاته، يتبين أنه يفسر بعمق عند حديثه عن مواضيع معاصرة، وكأن الكاتب أراد في هذا البطل أن يجسد الإنسان العربي المشتت، ذو تفكير معطوب، يبحث عن ذاته، وعن هويته الحقيقية، وهو يعرف أن جده يهودي، ومن الاسم يظن الآخر أنه يهودي، والذي عرقل له وصوله لأهدافه، وهذا يعني أن ماضي البطل فاشل..
يتمثل شخصية أمين الكوهن الذات/ المثقف الذي يكمن شغله الشاغل في استنهاض العالم العربي والقضية الفلسطينية التي لا يؤمن بها الفلسطينيون أنفسهم كما جاء على لسان اليهودية إستير”[30] ، يتأرجح ما بين التاريخ والسعادة (حب المرأة).
يشير الروائي إلى صورة المثقف المغربي/ العربي في الماضي يوم كان في أوج عطائه، أما اليوم فهو بمثابة إناء فارغ لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يقدم ولا يؤخر، ويقصد في كلامه المفكر المغربي عبد الله العروي، يقول: “كان مثقف مغربي قد كتب في السبعينات كتابًا جيّدًا عن أزمة المثقفين العرب، والإيديولوجيا العربية المعاصرة، وكان بحق مثقفًا جدّيًا لا مكان عنده للمعرفة التقريبية، ويتحلى بالصرامة العلمية، ولو أنه أضحى هو نفسه معبّرًا في خريف عمره عن الأزمة، لأنه لم يعد شيئا سوى أوان فارغة…”[31]. كما يتذكر البطل كلمات هذا المثقف المغربي في إحدى محاضراته، حينما قال في عز حراك “الربيع العربي”، يقول:”إما هَبَّة وإما عودة الاستعمار في شكل جديد… الخيار الثاني هو الأكثر احتمالا”[32].
ـ الذات/ الصحفي
تبرز الرواية صورة الصحفي الذي يقدمها الروائي، كشخصية جذابة، نصيرة للحق وعاكسة للمجتمع، نشر مقالات حول “الثورة المضادة” والعالم العربي موضع رهان قوى إقليمية”، ويبدو ذلك في حوار مع الطبيبة نعيمة بلحاج مع الموتشو:
“ـ توقع أن يكون عمل” الصحفي جذابًا…
ـ فعلا، حين يكون نصيرًا للحق، وهو الأسوأ حين يكون ظهيرًا للباطل..
ـ أقدر أنّ الصحافي هو كالمسبار يرصد جسم المجتمع.
ـ هو كذلك حين يكون عاملًا لرؤية، ومسلحًا بزاد معرفي ومنظومة قيمة”[33]، لكن حين يتم فصله كما هو حال أمين الكوهن، يقول الراوي؛” يجد نفسه أمام المشاكل الحقيقية والتي كان يتحامى.. الوحدة، التمزق،.. عدم الاستقرار، الخصاصة، تقفز كل المشاكل..”[34]
ويصور الروائي حسن أوريد الذات العربية في صورة المغلوب على أمره والمحروم من حرية التعبير عن آرائه ورؤاه من القضايا المخالفة، يقول أمين الكوهن كصحفي يستنكر ما يمارس على الصحفي من ضغط وسلطة جائرة عليه من عدم نشر مقالاته التي تمس بالقضايا الوطنية أو العربية، وفي حالة تم نشر مقال تنتقم منه الأجهزة الخاصة باتهامات زائفة، مثل :”علاقات جنسية، مراجعة ضريبية، تحويلات مالية، التشهير..”[35]. يقول:
” ـ أشنو دور الصحافة إلا ما قالت داكشي لي يخاصو يتقال..
ـ حنا في العالم العربي، اللي يحل فمه يسيل دمه”[36].
في مشهد آخر يفصح الروائي عن واقع العالم الغربي وواقع الصحافي العربي في القضية الغامضة للصحافي السعودي جمال خاشقجي الذي دخل مبنى قنصلية بلاده بإسطنبول ولم يخرج منها، يقول أمين في حوار مع صديقه محند الأمازيغي:
“- العالم العربي لا يريد فكرًا ثاقبًا..
– قضية مهدي بنبركة مكررة.. أتمنى أن يفرج عنه وتعرف الحقيقة بشأنه”[37]. فجريمة الصحفي السعودي ذكرته بقضية وطنية شغلت الشعب المغربي خاصة الوطنيين إلى اليوم…
– الذات/ الأمازيغي
تمثله شخصية محند الأمازيغي، وهو زميل أمين الكوهن في الجريدة، يشتركان في النهم المعرفي وشغف القراءة بسبب هامشيتهما، يتساءل الراوي: “هل أنتما هامشيان؟ أم أن شغفكما بالقراءة ما جعلهما هامشيًا؟ لم تكن القراءة بالمغرب، ولا في العالم العربي طقسًا أو جبلية في كلمة متوارية”[38]. وكان يعزو ذلك “لضعف التجريد في العالم العربي والميل للمظاهر لمن غلبتهم شقوة الحياة، وسيادة المعتقدات على الفكر”[39]. فالراوي يقدّم صورة الذات العربية بأنها غير مزدهرة فكريًا تابعة للفكر الغربي وللآخر، تطغى عليها المظاهر المزيفة والمعتقدات التافهة والطقوس القديمة، غير مهتمة بالقراءة التي تغذي الفكر وتنمي العقل لتبقى متلهفة للأخر الذي يقرأ وهي أصلا أمة “اقرأ”.
ـ الذات/ الريفي
تقدم الرواية الصحفية ابتسام، محجبة ومكلفة بالتحقيقات، تتمثل مهمتها في تغطية حراك الريف لربط علاقتها مع ناشطي الحراك بالحسيمة التي شهدت غليانًا شعبيًا، “لتندد بضعف التجهيزات الاجتماعية والنكران التاريخي الذي تشكو منه، باجتزاء ذاكرتها والتنميط الذي أجرته السلطة على منطقة لها خصوصية ثقافية وتاريخية”[40]، يبرز الراوي صورة الريفي الغاضب الثائر على التهميش والإقصاء والفقر، وعلى الأوضاع المزرية التي يعيشها، والمأساة العميقة التي تتكرر عبر العصور، “شبيبة يحكم عليها بأحكام قاسية”[41].
كما يقدم الراوي شخصية المناضل الريفي علي حمامة على لسان محمد بنيس على أنه من منح له الوجود بالقاهرة، كان من الوطنيين الذين يمثلون المغرب، لفظ أنفاسه الأخيرة مع المناضل التونسي لحبيب التامر، حين سقطت الطائرة التي تقل وفدًا من جامعة الدول العربية من كراتشي، يقول:” لم يكن بنيس يُسفر عن رؤاه بشكل منتظم، وإنما عبر لمع متناثرة إلى أن وقعت الواقعة وانقلبت السيارة، وفقد الوعي، وأخذ يهدي، وضاعت بشهامة”[42]. أراد الكاتب أن يبيّن أن الإنسان العربي ذهب ماضيه ومجده وضاع تاريخه..
ـ الذات / الجامعي
تصوّر الرواية الواقع الجامعي بالمغرب الذي يتم بالعنف والإقصاء ومعاناة الطلبة داخل الحرم الجامعي في تحقيقٍ أعده الصحفي محسن حول تلك الأوضاع بعد مقتل طالب إسلامي بفاس من قبل عناصر قاعدية، يقول الراوي:” تبين حينها أن العنف عرف لأسباب أعمق كي يرد إلى مجرد اعتبارات هوياته، وإنّه يخفي أسبابًا اجتماعية موضوعية، ومنها ظروف السكن والأوضاع المزرية التي يعيشها الطلبة وانسداد الآفاق”[43]، يبين صورة الطالب الجامعي المُعنَّف والمقهور، في واقع أكاديمي ضعيف المردودية. في جامعة عجوز، يقول الراوي: “الجامعة هي مكان الفهم، لكن الجامعة شاخت من دون أن تعرف فتوة الشباب، انتقلت من الطفولة، في براعمها الأولى، مما أخذته عن الجامعة الفرنسية، ثم دخلت مرحلة الشيخوخة، نقلت مصطلحات من قبيل مختبر كذا، ووحدة كذا، والماستر، مما يعني التمكن ولا تمكن…تحول سلم القيم…”[44].
ــ الذات / السوداني
يعمل محسن صحفي في الصحيفة، ذو دماثة خلق ومحب لمهنته، حلّ بالمغرب وهو طفل في الرابعة من عمره صحبة أخيه الأكبر، كان شيوعيًا، فرّ من انعطافة نظام جعفر النميري نحو المد الإسلامي… أتى أخو محسن طالبا واستقر في المغرب، غار في مغامرات نسوية، ومحسن في تنافر مع أخيه الذي عاقر الخمر، فأصبح نقيض أخيه بتوجهه الإسلامي، ولكون الجريدة قريبة من التوجهات الإسلامية. وهو نموذج العربي المغلوب المقهور بسبب الحروب الأهلية، والصراع بين الأنظمة السياسية والعسكرية، ويكون المواطن هو الضحية خاصة الشباب الذي يغامر بحياته من أجل البحث عن البديل عند الآخر…
ـ الذات / المرأة
لم تتخلف المرأة عن الحضور في الخطاب الروائي عند حسن أوريد، تأتي صورة المرأة في صور متعددة، بوصفها معطى ثقافي، وصورة تقليدية تكونت ملامحها في الأدب العربي شعرًا ونثرًا، وتبلورت صورتها على يد أدباء كبار، كتحفة جمالية تضفي حركية وجمالية فنية على العمل الأدبي…
يقدم الكاتب صورة المرأة في الرواية كأنثى للمتعة وتحقيق الشهوات، ليكرس بذلك نظرة المجتمع للمرأة كجسد وجد لإرضاء الرجل وشهواته، وكأداة ظرفية للاستئناس والاستمتاع، وتخفيف وطأة الغربة والبعد عن الوطن والأهل والأقرباء، وهو ما أقدم عليه هذا البطل/ الفحل في سيرورة أحداث الرواية وله علاقات مع الشخصيات النسائية التي صادفها على امتداد أحداث الرواية، رغم رجاحة عقله ورزانته، لم يسلم من الانصياع لنزواته ونزوات الأنثى/الشهوة، وهذا يشي تهميش الأنثى واستصغارها أمام سلطته، وهي مفارقة تبرز الواقع المعيش بعناصره المضمرة المختبئة في النص الروائي يمرر الروائي من خلالها صورة المرأة في الثقافة العربية.
من خلال الصور السابقة المشار إليها آنفًا، لم تنج المرأة العربية من هذا الدمار والخراب الذي بسببه عانت الويلات وتشردت الأسر في البراري والبحار والأدغال الأوروبية وشوارع الأقطار العربية، في الرواية يصور الراوي واقع المرأة السورية التي مزقتها الحروب بين الدروب المغربية، فالبطل أمين عند ذهابه إلى المحطة “استوقفته امرأة، تلبس السواد وتحمل لوحة” إحنا من سوريا” ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” أخرج من تبقى من فئة مئة درهم التي اشترى بها الجرائد.. أعطاها للمرأة”[45].
في ظل التحولات التي عرفتها الدول العربية في الآونة الأخيرة، بهتت صورة العربي وهوت إلى الحضيض في صور نمطية مختلفة، يصورها البطل أمين قائلًا: “الحقيقة هي ما نرى، دكتاتورية عسكرية في مصر، خراب في سوريا، دمار في اليمن، حرب أهلية في ليبيا، تنظيم إرهابي في العراق، ممارسات تعود إلى العصور الوسطى، فالسبي والرمي من شاهق، العرب غير قادرين على القواعد الدنيا للتعايش”[46]، فهي مظاهر وصور مأساوية تضفي السوداوية والفجائعية على الواقع، الذي خرب جزءا كبيرًا منه جراء صنيعة الآخر / إسرائيل.
3 ـ صورة الآخر في الرواية:
يبرز هذا المحور صورة الآخر عند الجيل القديم والمتوسط والجديد، كما يلي:
3ـ1ـ الآخر عند الجيل القديم
إن العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر قائمة في الرواية بشكل كبير، أعرب البطل أمين الكوهن في حديثه مع زميله محسن عن كون الذات لا تقبل الآخر: “الاتجاهات القومية والإسلامية لا تقبل بالآخر، تداري فقط”[47] ، ذلك الآخر هو الجحيم، مرآة تعكس الأنا، يقول أمين في حواره مع الطبيبة:
“- سهل أن يقول المرء أن الجحيم هو الآخرون..
ـ الآخر هو الذي أجهز على الحلم.. هل يكون الآخر مرآة ؟ هل يمكنه أن يكون أداة للخروج من اضطراب عالم أو كما كان بنيس يسميه بسترا في شاعريته وفوضاه وشغبه”[48].
تكمن الإرهاصات الأولى للعلاقة بين العرب والغرب، منذ نشوء الصراع بينهما وتحول الأوضاع في البقاع العربية، “حين حلّ اليهودي ليس كضيف، وليس كقريب نزل عند قريبه، ولكن كقريب يُخرج العربي من أرضه… كان اليهودي قد تخلص من الميتافيزيقا وعمد لتوظيفها، ومنذ ذلك الحين ساءت العلاقة بين القريبين… أضحت مواجهة، يغلب غليها التوتر دوما، وكان لليهود حس التنظيم ورؤية عقلانية، وفي 67 وجّه اليهودي الضربة القاضية للعربي على حلبة التاريخ… مزهو بالنصر ومسكون بالخوف.. الخوف المتواتر لقرون… صاغ هوية جديدة تقطع مع ما تواتر لألفي سنة…أما العالم العربي فقد تناثر عقده… لم يعد يمثل شيئًا مذكورًا”[49]. فهذا العبء اليهودي الذي أثقل كاهل العربي، يجب أن يتخلص من بطشه وأوهاقه عن طريق فوضى المعارك معه للحد من حركاته، لكن ما يؤكده الروائي بهذا الصدد ما جاء على لسان الراوي أنَّ “اليهود لم يعد الآخر، ولا الغير في أوربا، وأصبح الآخر والغير هو المسلم”[50].
يقدم الراوي صورة الإنسان في الجيل القديم، من خلال قراءته كتاب” إذا كان هذا إنسانًا” لبريمولوفي، إذ كان يُهدَم كالقطيع، يتعرض للاستبداد والاضطهاد والاعتقال والفتك، يقول الراوي:” كان البشر يساقون إلى المعتقلات ويمتهنون، يتركون عراة، عرضة للجوع والبرد والعطش، ثم يتضاءلون، يوما عن يوم…حالة لا حومة فيها لا للأطفال ولا للنساء ولا الشيوخ ولا العجزة، هدم الإنسان”[51]، هذا في ما يتعلق بالجانب السلبي للآخر، أما الجانب الإيجابي له، فيحكي عنه محمد بنيس عند زيارته لإسرائيل في نهاية التسعينات، يقول الراوي: “تحدث عن عالم عصري، منظم، صارم، العلم فيه ثقافة، والقراءة جبلية أو طبيعة ثانية، ثم عن انسياح علاقات حميمية خلال مقامه…الرجل الذي آمن بالقومية العربية ورموزها وعايش حروبها، يزور إسرائيل كمن يضرب صفحا عن مرحلة، وما اعتراها من حروب وتمزق”[52] ، إنها حقيقة الآخر التي تدلي بها الأنا/ الذات، وانبهرت بها وهي تعيش في تناقض عما يتميز به الآخر، في ظل الصراع العربي الإسرائيلي، النزاع الذي تغلب عليه العاطفة الجياشة، وليست النزاع على الأرض إلا الجانب البارز منه، يقدم الراوي طبيعة العلاقة بينهما التي تكمن في الصراع والحرب من أجل الوجود، “ولكي يوجد الواحد ينبغي أن يجهز على الآخر”[53].
3ـ2ـ الآخر عند الجيل المتوسط
ـ الآخر/ اليهودي
تصور الرواية علاقة الأنا بالآخر، علاقة العربي باليهودي، وعلاقة الرجل المغربي بالمرأة اليهودية التي ينتاب هويتها شرخ الانتماء وتصدعات متشعبة بسبب الهوية المزدوجة، وهو ما حدث لشخصية محمد بنيس الذي يوجد في غيبوبة إثر حادثة سير، التي يحكي عنها البطل الأمين الكوهن للطبيبة نعيمة بلحاج، يقول: “كان متزوجا من يهودية ووقعت تحت تأثير الصهيونية، ورحلت إلى فلسطين… وهو الجرح الذي يغيد في فهم حياة محمد بنيس” ص 23. فالآخر / اليهودية سوليكا، لا تقبل بالأنا، بوصفها ذات تنفر من الآخر/ الزوج من أجل اعتناق الصهيونية التي تأثرت بها، فالرواية تصور توجه الأنا العربي مقابل الآخر / اليهودي الذي يهمله ويدوس على كرامته ويهينه.. وفي حالة الآخر كذلك يلفيها القارئ في حالة إستير جارة البطل اليهودية التي تزعجه كل مرة، يصور الراوي حالة تداخل الأزمنة وتوزع بين العاطفة والإيديولوجية وإلى انفصام الشخصية، يصور الراوي حالة الاضطراب عند الآخر، وشرح الهوية والهامشية بين الصهيونية والعربية.
ويبرز كذلك حالة القلق التي تعتري الإنسان العبراني والبروموتي، قبل وبعد وصاية ياهو، تقول إستير: “نحن قلقون…الإنسان العبراني قلق…حتى لما كلمنا ياهو لم يقبل وصايته”[54].فهي تمثل الآخر الإسرائيلي وإن كانت مغربية الأصل والدم، فإنها كذلك يهودية الفكر والتربية، وأصبحت تنتمي إلى المجتمع الإسرائيلي…
كما يقدم صورة اليهودي التي تكمن في القوة والانتصار، ويبرز سرمدية هذه الجدلية القائمة منذ القدم ولا تزال تلاحق الآخر في مقابل الأنا، وهذا ما تفصح عنه شخصية إستير لأمين الكوهن في ليلة سرية، يقول: “من حقنا أن ندافع عن أنفسنا لمن يتهددنا، نحن رغم غلبتنا نمدّ اليد إليهم، تصور لو انتصر العرب علينا، أكانوا سيمدون لنا اليد؟ … ماذا اجترحت؟ فررت من إسرائيل كي أهرب من هذه النقاشات البيزنطية، لكن أجدها هنا تتعقبني في الرباط، ومع شخص أصوله يهودية”[55].
3ـ3ـ الآخر عند الجيل الجديد
ـ الآخر /المرأة
تبرز علاقة شخصية البطل بالمرأة رؤية الروائي التي تشير إلى دور الذات في السماح للآخر / المرأة اليهودية بالسيطرة عليها، فافتتانه بجسد المرأة وغرقه في ملذاتها، يتماهى مع الآخر وثقافته، يهدم أنساقًا ثقافية محملة بشحنات عاطفية ودينية وفكرية، مما يشي بضعف الذات وعجزها عن مقاومة الآخر، في الحين الذي كانت الذات غارقة في الضعف والقهر والشهوات، كان الآخر يخطط في إقامة وطن قومي يجمع أشتاتهم من جميع أركان المعمور ويبذل الغالي والنفيس لتحقيق غايته بتوظيف المرأة لجلب القلوب وسلب عقل الآخر وإلهائه.
أما شخصية الأم كالآخر، فهي شخصية ثانوية ترمز إلى الأرض وجذورها، إذ كلما ألم مكروه بالبطل أمين الكوهن واشتد ضيقه، اتصل بأمه بمدينة فاس لينال من دعواتها والتخفيف عن آلامه ووعثائه النفسية والوجودية، إذ تتمثل صورة الأم في علاقات البر والإحسان هما بلغ مستوى وفكر الأبناء، فهو يربطه بأمه التي تتشبث بابنها علاقات قوية، وبدوره يتشبث بأمه، وهذا يعني أن الأرض ستبقى عربية، ولن يستطيع أحد محوها وطمس معالمها.
ـ الآخر/ الإسرائيلي
يقدم الراوي صورة الآخر الإسرائيلي الذي لقبه أمين الكوهن بفرعون بجبروته وطغيانه على الأنا/ الجماعة( العربية) التي شرّدها يقول البطل: “كيف للجماعة التي عانت الاضطهاد تحت فرعون، وفرّت من بطشه، ووضعت وصايا هي الأرضية إلى اليوم لحقوق الإنسان ولشعب عاش في العيتومات، وتحت الذمة ثم المحرقة، أن يجترح مظلمة كبرى بأن يزيح شعبًا، ويخرجه من أرضه، ويحلم عليه بالنفي والتشريد”[56]. فهذا الآخر تعدّه الذات محتلا يقول البطل: “إسرائيل دولة احتلال ودولة أبارتيد”[57].
4ـ انبهار الذات بالآخر
أشارت الرواية إلى لهاث الذات وراء الآخر وارتمائها في أحضانه في الوقت الذي يبدي فيه الآخر احتقاره له وكرهه له، فالراوي انبهر بقدومه إلى تل أبيب من أجل إلقاء محاضرة في معهد موشي ديان، يقول: “كان أمين منبهرًا…مدينة عصرية..، ذكرته بالمدن الأندلسية، عدا ما يميزها من كتابات بالعبرية في البيانات الطرقية والإعلانات..”[58]، إذ ذهل بشاعرية وجمال المكان وتنظيم المدينة، وقد أفصح الراوي عما يخلد في ذهن البطل، “لم يكن مخطئًا في الجري وراء سراب وحدة العالم العربي، والقضية الفلسطينية، وكتابات العرب”[59]. فهذه الجملة السردية تظهر لغة التهكم والندم على ضياع وقته، وتيهه بين براثن العروبة المزيفة.
إن الانبهار بمنجزات الآخر حضاريًا وثقافيًا وعلميًا، وبمعالم التقدم الهائل الذي حققه وبمغريات مختلفة، سعى المفكرون والأدباء إلى النداء إلى اقتفاء أثر الآخر والسير على خطاهم وتوفير الذات ما تصبو إليه. هذا الذهول والإغراء بحضارة الآخر يدل على حالات الوهن والشلل التي تعاني منها الذات العربية وقوته وتنميته زمانًا ومكانًا، مما جعلها في صدمة كبيرة في مواجهة الآخر من خلال العناية والاستقبال التي يلمسها المرء في إسرائيل، وهذا ما عبر عنه الراوي في الرواية حين وصف مشاعر الفرح والسعادة إثر الانتقال من المغرب إلى إسرائيل، بدأت الذات في مواجهة الآخر من خلال إفصاحه بما يخالجه من مشاعر الفرح، إن لغة السرد تظهر الاحتفال بالآخر، وتصور الرغبة فيه، يقول أمين من خلال تغييره موقع الذات (المغرب) أو الشرق عامة، الذي ينتمي إليه الراوي إلى موقع إسرائيل/ الغرب حيث يتمنى أن يكون، يقول ” قد يكون البلد الذي أتيت منه قد هيأتني لهذه الخطوة، وهو أرض تلاقي مكونات عدة، عاش فيه اليهود جنبًا إلى جنب مع المسلمين، واحتضن من طردوا من الأندلس جراء محاكم التفتيش…ليس هناك ما هو أكثر ثورية من حقيقة آن أوانها…هي المصالحة العربية الإسرائيلية.. وقد أصحت مُلحة…أعبر لكم عن خطئي ذاك..”[60]..
كما تصور الرواية صورة الآخر الإيجابية وتعلق الذات السعيدة به، بوصفه مصدر القوة والحضارة، وبلد السلام، يقول أمين: “أشعر بسعادة عامرة، إسرائيل دولة طبيعية، للسلام، وتمد يدها للسلام، ما كان انطباعي منذ وطئت أرض إسرائيل، أصبح اقتناعًا راسخًا من خلال لقائي مع فعاليات أكاديمية.. إيديولوجيات العداء والكراهية نفقت”[61] ، وأفصح عما يضمره لشخصية الآخر من احتقار الذات وما تخفيه من أطماع وجبروت، إذ الصورة المنبهرة بالآخر تتناقض مع ما يضمره من مطامع ومجازر من أجل السيطرة على الأمة العربية وإخضاعها له، وتحقيرها، ففي حديثه عن احتقار الآخر للعرب يقول: “من لم يتلَظَّ بندوب الاحتقار لا يمكن أن يدرك حقائق الاحتقار”[62]، ما دفعهم لكراهية الآخر بشكل فظيع تنثاله تصدعات شارخة، يقول أمين: ” العرب يكرهون أنفسهم، ويكرهون بعضهم البعض، فلا غرو أن يكرهوا الآخر” ص318، إن شخصية البطل أمين يفتتن بصورة الرخاء والرفاهية عند الآخر الناتج عن استغلال الثروات وخيرات الأقطار العربية، ولكن يستمر في هذا النعيم الباذج، عليه أن يستمر في القهر والنهب والسرقة على الذات الضعيفة الطامعة، وهذه صورة أخرى سلبية للذات التي لا تزال تنشد في موطن الآخر الخلاص من معاناتها في بلدها وعذاباتها التي تنتهي، وتعدّه نموذجًا مبهرًا في النهضة والتقدم على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بسبب ظروفها القاسية التي يتجرعها، وانطباعها الإيجابي عن الآخر، إضافة إلى أسباب أخرى دفعت الذات لاقتفاء خطواته واتباع نهجه، يقول أمين: “العالم العربي قصة لم تعد تستهويني، النور يشرق من الغرب”[63].
وتبدو صورة أخرى على الآخر من خلال الرؤية السردية، أظهر البطل أمين الكوهن تعالي وطغيان الآخر على الذات، وأضمر أمورًا أخرى تعمل على تطويع الآخرين وإخضاعهم وهي صورة سلبية يقدمها الراوي قائلا: “ارتمت في أحضان الآخر، منذ اتفاق كامت ديفيد، وعولت على الغرب، فما أسماه توفيق الحكيم بعودة الوعي، ولا أدري عودة وعي، وتم الإجهاز على الروح.. أضحت فئة من القطط السمان كما ينعتهم نجيب محفوظ تتبختر اليوم في فورسيرنس بجاردن سيتي، تأكل الكافيار وتشرب الشامباني وتختال في الغردقة… ولم يعد يحرك الغلبانين إلا الحفد…لأن السدى انحل، ولأنهم أضحوا من غير حلم”[64].
إن جدلية الذات والآخر تتجلى في حوارات تشكل بنية الصراع وسوء التفاهم بين الشخصيات، من خلال تشكل صورة عن الآخر يقول محند للبطل أمين:
“ـ كيف تلقي بالتعلَّة على إسرائيل؟ أنت؟
ـ وكيف تنزه إسرائيل، وتنظر إليها كمثال. أنت؟
ـ إسرائيل دولة ديمقراطية.
ـ لساكنتها ، كما كانت أمريكا ديمقراطية لساكنتها البيض، من غير الإنسان الأسود…اسمع يا محند، نبع الغرب آسن، ومن يقول لك بهذا نتاج للغرب، من خلال ثقافته، ومنظومته الفكرية…”[65].
تستغرب الذات/ الأنا لهذا الآخر متناقض المبادئ والهوية، إذ كيف يمكن للطبيبة نعيمة بلحاج أن تقرأ كتاب” السجن اليهودي” يتحدث عن اليهودية بقلم فرنسي يهودي، لا يمكن فصل الانتماء عن رموز كاللباس مثلا وبعض الطقوس، يقول الراوي، يقول الراوي: “الهويات قابلة للانفجار، وكان أمين يدرك أنها اختلاق، ونظرة هلامية للماضي، وغيرية مع الآخر، إذ يصبح الآخر غيرًا عوض أن يكون مكملًا، ونرجسية مع الأنا، تقضي إلى تضخيمه..”[66]، كذلك الشأن بالنسبة لمحمد بنيس وأمين الكوهن اللذان “يلظان، لأن الصراع العربي الإسرائيلي يجعلهما في تمزق كما في صراع بين جدهم من أبيهم وجدهم من أمهم… يلظان لأنهما جعلا قضية العروبة قضيتهم، ولكنهما لم يريدا أن يطمرا البعد اليهودي الثاوي في وجدانهما حتى ولو أن أجدادهما تحولوا للإسلام”[67].
يطوّر الروائي في الرواية تداخل الهوية في شخوصه، إذ أن شخصية أمين حين إلقائه المحاضرة في معهد موشي ديان قال: “يستحسن بالنسبة إليكم أن أبقى عربيًا.. حينما سأعود للمغرب… سأقرر هل سأكون عربيًا أم لا.. أنا هنا…في إسرائيل عربي حتى إشعار آخر”[68]. ويدل كلام الراوي على حال الضعف والشلل التي تعاني منها الذات العربية إزاء الآخر، وتفوقه وسلطته منذ بداية الصراع، مما جعلها تعيش صدمة كبيرة في مواجهة الآخر، أسفرت عن انبهار الذات بمستواه الراقي والمتقدم في كل المجالات، وبالعناية التي يتلقاها في الغرب، وهذا ما عبّر عنه أمين الكوهن حين وصف حرارة استقباله من طرف أطر المعهد، وانبهر بالآخر، وبانتقاله من موطن الذات إلى موطن الآخر، يسجل مفارقات تراوحت بين الدهشة و الانبهار، وتتضح هذ العلاقة في الخطاطة التالية:
الأنا/ الذات الآخر
الضعف انبهار القوة
وبالمقابل تتجلى صورة الأنا / الذات (العرب) عند الآخر، بوصفه مطرحًا لفضلاته التي يئس منها، يقول البطل: “بي لهج أن أقف على الغرب أسسه، وانزياحه، وأزمته، لأنه في أزمة، ولأننا الساحة التي يجري فيها صراعاته، نحن المطرحة التي يلقى فيها فضلاته، هناك في الغرب صناعة لتحويل النفايات.. ولا خيار لنا إلا أن ندرس هذه النفايات التي تسمى مشاريع مجتمع حداثي وديمقراطي”[69]، فالوضع أكثر تعقيدًا بين الأنا والآخر، الأنا يوجد في ثنايا الآخر الذي أضحى موجودًا في الآخر، يقول الراوي: “الأنا والأخر أصبحا متداخلين، الشرق في الغرب، والغرب في الشرق، امتزجت الأمشاج، لا يمكن فهم الواحد دون الآخر… مما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا” [70]، فهي أفكار تداعب ذهنه، ومفارقات تعكس القيمة التي يريدها الروائي، من ذكر المكان وتوظيفه ودلالته (أرض العرب) وأثره على الشخصية.
ـ خاتمة
إن جدلية الذات والآخر في الرواية من الأساليب التي وظّفها الروائي المغربي حسن أوريد في روايته “الموتشو”، عرضت صورًا فنية عن التحولات التي شهدها الواقع العربي، كما كشفت عن علاقة الذات بالآخر، وعلاقات العرب بالاحتلال وبإسرائيل، أضفت عليها الحركية والانفتاح وبعد المدى، وأغنت عوالمها بالتوتر والإثارة، من خلالهما يمكن الكشف عن صور الأنا والآخر، وقد أفاضت هذه الدراسة النتائج التالية:
– عملت الرواية على تصوير الواقع العربي والتعبير عما تعيشه الذات من ظروف مريرة، وعما كان يهددها في مخاطر داخلية ومواجهة الآخر، ورصدت صور الذات في موطنها وثقافتها وأيديولوجيتها، وكشفت عن دوافع الذات وانبهارها بالآخر، مثل الدوافع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تنخر جسد العربي، وتؤثر في واقعه كالقمع والظلم والفقر وغياب العدالة وتحقيق الذات… أمور جعل الذات تبحث عن الخلاص والملاذ عبر اللهاث وراء مغريات الآخر/ الغرب.
ـ أبرزت الرواية صورة الاستبداد في موطن الذات، وقدمت صورة عن الصراع الحضاري في علاقة الذات بالآخر من خلال انبهارها بقوته وعظمته ومنجزاته ورفاهيته.
ـ أفصح السرد في الرواية عن سلبية الذات الضعيفة ومعاناة تخبطها مع الذوات الأخرى في موطنها إزاء الآخر القوي الرغيد العيش، وأظهر طبيعة العلاقة بينهما المحكومة بموقف الانبهار والإغراء، فإسرائيل العدوة هي مساحة مغرية للذات بعد التخلص من براثن الواقع المرير الذي تلتقم آلامه وتعيش في فلكه، والتشبث بتلابيب الآخر والانبهار برقيه الذي لا يتوقف.
ـ صورت الرواية قوة الآخر التي تبلورت عبر نظرة التعالي والتفوق والسلطة والضغط والطغيان على الذات، والتي جاءت على لسان بعض الشخصيات، صورة الإسرائيلي المحتل تجسدت في شخصيات نساء فاتنات ماكرات: إستير، سوليكا، نعيمة بلحاج…وهي صور سلبية لكونهم شاركوا أمين الكوهن لحظات حميمية ولقاءات مختلفة وفي النهاية تخلوا عنه. أما الصور الإيجابية للآخر فلقيت احتفاء من قبل الذات، بوصف موطن الآخر ملجأ آمنًا، متحضرًا وحرًا وموطن الذات ميدان الحروب والتشرد والفقر والضيق، لذلك تهفو الذات إلى بلد الآخر رغم ما يضمره من احتقار الذات، وما يخفيه من أطماع في البلاد والثروات، إذ صورت الرواية الصورة المبهرة التي يقدمها الغرب مناقضة مع ما يضمره من مطامع ومجازر وتقتيل من أجل السيطرة على الشعوب.
ـ عبّرت ثنائية الذات والآخر عن تداخل الهوية السياسية لبعض الشخصيات، وانتمائها المزدوج للإسلام واليهودية، حاربت الآخر المقابل لها، وواجهت المعادي لإيديولوجياتها السياسية، حيث رفضت كل طرف أي اهتزاز يمكن أن يمس أركان بلدها.
ـ عمدت ثنائية الذات والآخر والمرأة إلى الكشف عن الهوية الثقافية للبطل أمين الكوهن المترنحة بين تداخل الهويات للمرأة أمام ملاحقتهما له كفحل سلطوي ينصاع لنزواته وتقلباته العاطفية.
(نورة الصديق – طالبة باحثة، مختبر الثقافة والعلوم والآداب العربية )
الهوامش:
[1] نادر كاظم، تمثيلات الآخر، صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004، ص37، 39.
[2] حسين العودات، الآخر في الثقافة العربية، بيروت، دار الساقي، 2010، ص19.
دانييل هنري باجو، الأدب العام المقارن، تر: غسان السيد، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1997،ص 91. [3]
نادر كاظم، تمثيلات الآخر، صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، ص 47.[4]
[5] الأنا والهو، سيجموند فرويد، تر: محمد عثمان نجاتي، ص42-43
عبد الحميد شاكر، الذات والآخر في عملية الإبداع، مجلة جسور، 1996, ص63[6]
ابو زيد إبراهيم، سيكولوجية الذات والتوافق، دار المعرفة الجامعية، 1987, ص84[7]
محمد كمال سرحان، الذات والآخر في رواية حب في كوبنهاكن لمحمود جلال، ص243، [8]
حسين العودات، ، الآخر في الثقافة العربية، ص21 [9]
حسين العودات، الآخر في الثقافة العربية، ص19[10]
حسين العودات، الآخر في الثقافة العربية، ص7[11]
[12] حسن أوريد، رواية الموتشو، منشورات المتوسط، ط1، سنة 2023، ص120
[13] نفسه ، ص105
[14] نفسه، ص110
[16] نفسه، ص31
[20] نفسه ، ص129
أمين أحمد، النقد الأدبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، القاهرة، 2012، ص 112[28]
المراجع:
ـ أبو زيد إبراهيم، سيكولوجية الذات والتوافق، دار المعرفة الجامعية، 1987.
ـ أمين أحمد، النقد الأدبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، القاهرة، 2012
ـ سيجموند فرويد، الأنا والهو، تر: محمد عثمان نجاتي.
ـ حسن أوريد، رواية الموتشو، منشورات المتوسط، ط1، سنة 2023.
ـ حسين العودات، الآخر في الثقافة العربية، بيروت، دار الساقي، 2010.
ـ دانييل هنري باجو، الأدب العام المقارن، تر: غسان السيد، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1997.
ـ عبد الحميد شاكر، الذات والآخر في عملية الإبداع، مجلة جسور، 1996.
ـ محمد كمال سرحان، الذات والآخر في رواية حب في كوبنهاكن لمحمود جلال
ـ نادر كاظم، تمثيلات الآخر، صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004.
almarajie:
ـ ‘abu zayd ‘iibrahim, saykulujiat aldhaat waltawafuqi, dar almaerifat aljamieiati, 1987.
ـ ‘amin ‘ahmadu, alnaqd al’adbi, muasasat hindawiun liltaelim
walthaqafati, masr, alqahirata, 2012
al’ana walhu, sayjmund firuyid, tir: muhamad euthman najati.
hasan ‘uwrid, riwayat almutshu, manshurat almutawasiti, ta1, sanat 2023.
husayn aleawdat, alakhr fi althaqafat alearabiati, bayrut, dar alsaaqi, 2010.
danyil hinri baju, al’adab aleamu almuqarani, tur: ghasaan alsayida, dimashqa, atihad alkitaab alearabi, 1997.
eabd alhamid shakiri, aldhaat walakhir fi eamaliat al’iibdaei, majalat jsur, 1996.
muhamad kamal sarhan, aldhaat walakhir fi riwayat hubin fi kubinhakin limahmud jalal
nadir kazim, tamthilat alakhar, surat alsuwd fi almutakhayil alearabii alwasiti, bayrut, almuasasat alearabiat lildirasat walnashri, 2004.