بناء القصيدة لدى الشاعر عثمان عبدالله يحيى: دراسة أدبية  تحليلية

د. عبدالكافي عثمان البشير

د. عبدالكافي عثمان البشيرقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية كلية محمد غوني للشريعة والقانون والدراسات الإسلامية ميدغري.

للقصيدة في الشعر العربي بنيتها الخاصة، وقد جعل الشعراء والنقاد هذه البنية قوام أعمالهم، وتتشكل من عدة أقسام، وكل قسم مقدم للقسم الثاثي، فالبيت الأول من القصيدة أو البيتين الأليين من القصيدة هو المطلع، وأحيانا يأتي بعد المطلع التشبيب أو النسيب ثم التخلص فالمقطع، وقد يكون بالدعاء أو طلب الخلود للشخص الذي تنظم القصيدة من أجله. وقد استهل الباحث بنبذة يسيرة عن الشاعر ثم تعرض إلى  تعريف بناء القصيدة فتناول الحديث عن المطالع، والتخلص، والاختتام أو الإنتهاء، ثم الخاتمة التي هي عبارة عن ملخص المقالة.

الكلمة المفتاحية: بناء القصيدة، المطلع (براعة الاستهلال)، التخلص، الخاتمة (النهاية).

المقدمة:

الحمد الذي أدب نبيه بالقرآن، وأطلق على لسانه جوامع الكلم والبيان، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد خير عباد الله أجمعين، القائل: “أنا أفصح العرب بيد أني من قريش.”[1] وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

كان لبناء القصيدة العربية منذ ولادتها حتى نضجت ونقلها الرواة إلينا، نمط معروف خاص بها، تبتدئ بذكر الديار والبكاء على الأطلال والوقوف عليها[2]، وقد ينتقل الشاعر من بعدها إلى وصف الناقةأو الإبل أو الفرس، ويتوقف أحياناً لذكر المشاهد التي شاهدها، ثم يتخلص بعد هذا إلى الغرض الأساسي الذي يرمي إليه ويقصده،

ولقد كان الشاعر عثمان عبدالله يحيى يلقي قصائده في أسلوب قيم جذاب مفعم بالحيوية والجودة، مما يساعد في كون أفكاره واضحة أمام الجمهور، ودقيقة في المعاني، باستخدام ألفاظ تلائم المعاني التي يسعى وراءها، وتراكيب خلابة توضح غرضه في القصائد. وليبين الباحث كيفية ذلك وما له من قيمة فنية كتب هذه المقالة بعنوان: بناء القصيدة لدى الشاعر عثمان عبدالله يحيى دراسة أدبية  تحليلية، وتكون المقالة بعد المقدمة على ما يلي:

  • لمحة وجيزة عن الشاعر
  • عوامل تكوينه الأدبي
  • بناء القصيدة لدى الشاعر
  • الخاتمة.

المتن الرئيسي للمقال:

لمحة وجيزة عن الشاعر

1/ مولده ونشأته:

هو الداعية الفقيه الأديب اللغوي، صاحب الفضائل الشائعة والمكارم الذائعة، أبو حامد عثمان عبد الله يحيي ولد بقرية تَتَاكُرَا، الواقعة في منطقة رَانْ التابعة لحكومة إِنْغَالاَ المحلية سابقا، حكومة كَالاَبَلْغِي لاحقا، سنة 1956م.

نشأ في بيت علم وأدب حيث أن والده الغُونِي عبد الله يحيى، “ولد إنْغَاسِي” من كبار العلماء والحفاظ في المنطقة، وله خمسة إخوة كلهم حفظة لكتاب الله العزيز، وكان جده يحيي ممن يشار إليهم بالبنان في العلم والتقوى، وهكذا كانت أسرته متمسكة بالدين وحب العلم[3].

2/ رحلته العلمية:

بدأ تلقي العلم منذ نعومة أظفاره عند والده الشيخ عبد الله يحيي، ومن ثم أرسله إلى الخلوة مع معلم اللّوَان إلى “تِكَالَه” بأرض “إنغُمَاتِه” ولما عاد صادف انتقال والده من تَتَاكُرَا إلى غَمْبُورُو، وفيها أرسل إلى معلم ومؤدب هو الشيخ عبد الكريم يحيي، فقرأ عليه القرآن والعلوم الدينية واللغة العربية، وعنه أخذ الطريقة التجانية. ثم التحق بكلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية، فى مدينة ميدغرى وتحصل على شهادة الدبلوم في الدراسات الإسلامية واللغة العربية والهوسا، سنة 1986م[4]. وتحصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها من جامعة ميدغري سنة 1993م.

عوامل تكوينه الأدبي:

البيئة:

إن ما أنتجه الشاعر عثمان عبد الله يحي من دواوين وقصائد يثبت شاعريته في جميع المستويات، ذلك أن البيئة التي عاش فيها الشاعر تهئ له الجو ليكون شاعرا ذات عبقرية تتلاطم أموج البحور الشعرية فيه.

استهل الشاعر حياته في هذه البيئة الاجتماعية الطيبة، في بيت كريم بالدين جليل بالفقه، توارث أهله خدمة العلم والنقابة الصوفية، فنشأة الشاعر تحت هذه الدوحة المشرقة التي ضاءت ساحتها بالعلم والثقافة الإسلامية والعربية الواسعة، فدفعه كثرة تردد طلاب العلم إلى حلقة شيوخه أن يحرض رغبته العميقة للانضمام إلى الحلقة قبل نعومة أظفاره[5].

وأول ما كَوَّن قريحة الشاعر عثمان عبد الله يحي الشعرية هو قراءته للشعر، وقديما قالت العرب إذا أردت أن تكون شاعراً فاقرأ الشعر، فقد لازم الشاعر قراءة الدواوين الست للشيخ إبراهيم إنياس الكولخي، وكان يحفظ هذه الدواوين عن ظهر قلب، وأصبحت ديدنه وشغله اليومي، حتى استطاع أن ينظم القصائد، وذلك بعد أمنيات طويلة تحققت له في الآونة الأخيرة، وقد عالج في شعره بعض القضايا الاجتماعية وأعطى فيها رأيه مستهدفا إصلاحها متوخيا الارتفاع بها إلى مستوى المثل للتحقيق بمجتمع أفضل، وكان أسلوبه هو الأسلوب التعليمي البعيد عن المداورة، وعن كل زخرف وإطناب، وهو أسلوب التعليم في جفافه، وأسلوب النصح في تسلسله، وهو أسلوب الإقناع في رصانته وصرامته، لأنه يهدف إلى الإفصاح والإفهام والإصلاح.

بناء القصيدة لدى الشاعر:

يعود المعنى اللغوي للبناء حسب وروده في القواميس والمعاجم اللغوية إلى نقيض الهدم، من بناه يبنيه بِنْيًا وبِناءً وبنيَانًا،[6] أي أقام الجدار، ونحوه في قوله تعالى:﴿ﱡإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾[7] وتستعمل الكلمة مجازا في معان كثيرة منها: تعمير المدن، وتكوين الرجال، كما وردت في قول الشاعر:

يبني الرجال وغيره يبني القرى  **   شتان بين قرى وبين رجال[8]

وتخيل النقاد في عالَمهم الداخلي صورة بناء القصائد مع البناء الحقيقي فأدركوا أن هناك علاقة ومشابهة بينهما فربطوا هذه الصورة بتلك وشبهوها بها.[9]

كان لبناء القصيدة العربية منذ ولادتها حتى نضجت ونقلها الرواة إلينا، نمط معروف خاص بها، تبتدئ بذكر الديار والبكاء على الأطلال والوقوف عليها[10]، وقد ينتقل الشاعر من بعدها إلى وصف الناقةأو الإبل أو الفرس، ويتوقف أحياناً لذكر المشاهد التي شاهدها، ثم يتخلص بعد هذا إلى الغرض الأساسي الذي يرمي إليه ويقصده، ويعتبر مقدمة للغرض الأساسي من القصيدة على نحو ما يرى في قصائد الشعر العمودي، بالأخص المختارات من الشعر الجاهلي، كالمعلقات وغيرها[11]. ويختم قصيدته بالحكمة أو بشيء من الطرافة، يقول ابن رشيق: “للشعر مذاهب في افتتاح القصائد بالنسيب لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل والميل إلى اللهو والنساء.[12]

وقد امتد هذا الأسلوب إلى ما بعد العصر الجاهلي عند بعض الشعراء، بل إلى ما بعد العصور المتتالية، كما يشاهد حتى اليوم في أشعار بعض العلماء الذين عاشوا في القرن التاسع عشر الميلادي، وما بعده كالكانمي في قصيدته “نسيم الصبا” و”عبد الله بن فوديو” في بعض أشعاره، وغيرهما، وذلك لشدة ارتباطهم بإنتاج شعراء الجاهلية وما كتب على منهجهم وأسلوبهم من المدائح، كــ”بانت سعاد” لكعب بن زهير، و”البردة للبوصيري”، و”دالية اليوسي” في مدح شيخه، وغير هؤلاء، وكذلك لعدم تأثر بعضهم بمؤلفات النقد والشعر المخصصة[13].

وقد حدد النقاد العرب للقصيدة العربية ملامح أساسية، وأشاروا إلى أنها تنقسم إلى ثلاثة أجزاء وهي: المطلع، والتخلص، والمقطع، وعلى الشاعر أن يجدّ ويجتهد فيها مع مراعاة استعطاف الجمهور واستمالتهم[14]، ويرى هؤلاء النقاد أن الشاعر المجيد هو من يعدل بين هذه الأقسام، من غير إطالة تبعث الملل إلى السامع، أو تقصير تودّ النفس معه أن لو كان الشاعر أطال.[15]

هذا، وإن بناء القصيدة من الأشياء الضرورية لدى الشاعر الشيخ عثمان عبدالله يحيى، وذلك اقتداء بالقدامى في قرض الشعر، وقصائده مشتقة المعاني، لا يفاجئ السامع أفكارها ومعانيها عن الموضوع الذي يتناوله، وإن بناءه تام الخلق والتكوين، فصار واضح الاتجاه في معانيه، مصورا الظروف والمناسبات التي من أجلها نظم قصائده وصورها تصويرا صادقا وأمينا، وأن جلَّ بنائه على درجة الصدق الأدبي والأمانة الفنية.

أولاً: براعة الاستهلال أو (مطلع القصيدة)

مطلع القصيدة هو أن يجعل مطلع الكلام من الشعر  أو الرسائل دالاً على المعنى المقصود من ذلك الكلام: إن كان فتحاً ففتحاً، وإن كان هناء فهناء، أو كان عزاء فعزاء، وكذلك يجري الحكم في غير ذلك من المعاني[16].

وأطلق النقاد على المطلع حسن الابتداء، وبراعة الاستهلال، وعنوا به عناية كبيرة، فإنه أول ما يطرق السمع من الكلام، فإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده توفرت الدواعي على استماعه، واستمتاع ما يجيء بعده من الكلام، وعدوا إجادته دليلا على مقدرة الأديب شاعراً كان أم ناثراً، فقد سئل بعضهم عن أحذق الشعراء، فقال: “من أجاد الابتداء والمطلع. وقال بعض الكُتّاب: أحسنوا معاشر الكتّاب الابتداءات فإنهن دلائل البيان[17].

وقد اختلف وجهات نظر النقاد والأدباء في مفهوم المطلع، فيرى البعض أنه: البيت الأول من القصيدة، والبعض يلجأ إلى أن المطلع لا يراد به أول البيت، إنما يراد به أول كلام مبني على كلام سابق ومرتبط به، فنهاية الكلام السابق تسمى فصلًا، وبداية الكلام اللاحق والمبني عليه تسمى مطلعًا، كما أن الكلام اللاحق نفسه يسمى وصلاً.[18] والبعض يرى أن المطلع هو البيت الأول من القصيدة.[19]

فيرى الباحث أن المطلع في القصيدة أولها، لأن الابتداء والافتتاح، والاستهلال، والمطلع، ما هي إلا تعبيرات لأن المقصود بها البدأ في كل شيء.وقَبِل النقاد من المطلع ما كان بيّنا واضحا لا غموض فيه، سهل المأخذ، لا تعقيد في تركيبه، ولا صعوبة في فهم معناه[20]،

وخلاصة القول إن أدب فحول الشعراء المجيدين في ابتداء القصائد أن يذكروا الأطلال والديار، ثم يتخلصون إلى النسيب، ثم بعد ذلك يدخلون في وصف الرحلة والناقة وغير ذلك، ثم ينتقلون إلى غرض القصيدة، وأما المراثي فيبدءون فيها بالتفجع واللوعة على ماحل بهم من المصائب.

ومن خلال دراسة الباحث لقصائد الشاعر لاحظ أن الشاعر له عدة أساليب في استهلال قصائده على النحو التالي:

أ – فتارة يستهل الشاعر قصيدته يستهل قصيدته بجذب انتباه قرائه وساميعه إلى أهمية مدحه لممدوحه باستعمال أسلوب الأمر البليغ الخارج عن مقتضى الظاهر، كما في قصيدته: (حديث الأقلام)

قف بالمحصب لامتداح السيد                **   نجل البتول قناة سنة أحمد

فقوله :” فق” بالمصحب يقصد به الإنتباه والإعتناء بمدح ممدوحه، وليس الوقوف بالمصحب حقيقة، وهذا الأسلوب من الأساليب البلاغية الجميلة.

ب –  وتارة يستهل قصائده بأسلوب النداء، فينادي ممدوحه على سبيل التلطف والتودد، وذلك كما في قصيدة أيا سلمى.

أيا سلمى بشأنك فأخبرينا   **                   ولا تكدى لسائلك اليقينا

وقصيدة:  بنت عبدالله:

بنتُ بنتِ وبان عنك غباء   **   فالدنايا أرض وأنت سماء

جـــــ وتارة يستهل قصيدته بالدخول في موضوعه مباشرة ومخاطبة من قام برثائهم والترحم عليهم كما في قصيدة بكتكم:

بكتكم سماء وأرض بكت    **    وصارت دموع دما إذهمت

وهذا فيه إشارة إلى أن الشاعر في موقف لا يقدر فيه أن يسيطر على نفسه حتى يستهل قصيدته بغير هذا الأسلوب.

د – وتارة يستهل قصيدته بأسلوب الإستفهام البليغ الخارج عن مقتضى الظاهر لجذب العقول إلى الحدث الذي سيتحدث عنه كما في قصيدته: ما بال داديري.

ما بال داديري تغير وضعها    **   وبها القلوب نوابض أوصالها

فقد دل هذا المطلع على عظم الحدث الذي سيتحدث عنه الشاعر، واستعمل فيه الشاعر أسلوب الاستفهام البليغ لجذب انتباه قرائه وسامعيه إلى ذلك، وليس لأنه يستفهم حقيقة.

ه-  وتارة يستهل الشاعر قصيدته بالبسملة والحمدلة والتصلية ثم يشرع في موضوعه وذلك كما في قصيدته: رفع الشكوى:

باسم الإله ابتدئ تبركا              **            نظمي وأرجو يا كريم بركا

الحمدلله  وصلــــــــــى الله                **    علـــــــــى نبييـــــــه الـــذي أولاه

وقصيدته: أيا احمد

حمـدا لمن أكرمنـا بأحمد   **  ثم الصلاة والسـلام سرمدا

قصيدة منظومة العصا:

تدرعت بسم الله للحصن أولا                 **     فلا ضرني من سام أو من تجاهــلا

وبالله حولي واعتصامي وقوتي                 **     فمن رام ضري فهو في قبضة البلا

إلا أنه حذف البسملة في قصيدته: يا أحمد، وحذف، الحمدلة، والتصلية في قصيدته: منظومة العصا علما بأن الواحد منهن تكفي في استهلال امثال هذه القصائد الدعائية التى يتوسل فيها ويتقرب إلى الله دفعا وجلبا. وهذه الأساليب كلها معروفة يستعلها بعض الشعراء الإسلاميين أحيانا في قصائدهم.

ثانياً: حسن التخلص:

ويأتي بعد المطلع في البنية الشعرية التخلص، وهو الذي يحتوي على هيكل القصيدة ومضمونها[21]، وصورته على حد ابن الأثير هي: أن يأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني، فبينما هو فيه إذ أخذ معنى آخر غيره، وجعل الأول سببا إليه فيكون بعضه آخذ برقاب بعض من غير أن يقطع كلامه، ويستأنف كلاماً آخر، بل يكون جميع كلامه كأنه أفرغ إفراغاً…[22]

ولم يقتصر الأمر في بدء الكلام أو الخروج من النسيب إلى غرض القصيدة فقط كما يشعر هذا القول، بل يشمل أيّ تخلص من فكرة إلى أخرى في أي جزء من أجزاء النص، وهذ يفهم من قول بعض النقاد إذ يقول عن حسن التخلص: “هو أن يستطرد الشاعر المتمكن من معنى إلى آخر بتخلص سهل يختلسه اختلاسا رشيقا دقيق المعنى.[23]

فنفهم من هذه العبارة أن التخلص يتمثل في الخروج من معنى إلى معنى مع ايجاد ربط وثيق بين المعنى السابق واللاحق، بحيث يكون السابق تمهيداً إلى اللاحق، وأنه يحتاج في تمثيله إلى نوع من الإحكام والإتقان بحيث يكون الخروج من معنى إلى آخر من غير قطع الكلام واستئناف كلام آخر، بل يكون موصولاً مع توفر ربط داخلي وثيق بين معنيين (السابق واللاحق)، ومما مثلوا به للتخلص الحسن قول أبي تمام:

تقول في قومس قومي وقد أخذت   **   منّا السّرى وخطا المهــــــــــريّة القود

أمطلع الشمس تبغي أن تــــــؤمّ بنـــا    **   فقلـت كلّا ولكن مطلع الجود[24]

يلاحظ كيف تخلص الشاعر من وصف سيره ومقصده إلى المدح، إن حسن التخلص مثل هذا مما اعتنى به المتأخرون دون الشعراء الجاهليين ومن جرى مجراهم من المخضرمين، لأن الشعراء القدماء ومن حذا حذوهم يقولون عند فراغهم من النسيب ونعت الإبل وذكر القفار وماهم بسبيله، “دع عنك ذا” و “عد عن ذا” ويأخذون فيما يريدون.[25]

وقد نهج الشاعر الشيخ عثمان عبدالله يحيى هذا المنهج في قصائده، يتخلص من فكرة إلى أخرى بصورة لطيفة سلسة، حتى يكون القارئ لا يكاد يشعر بالانتقال من معنى إلى آخر إلا أن يجد نفسه في ذلك. ومن أحسنها قوله:

سعــدتم وســـادت بكم شعبكم   **    ولولاكم شعبكم ما سمت

يلاحظ أن الشاعر إلتزم أسلوب الخطاب من بداية القصيدة إلى نهايتها إشارة إلى الاهتمام والعناية بموضوعه وبالحدث الذي هو فيه، كما في قصيدة: (بكتكم) من أولها إلى آخرها، فكأن الأشخاص الثلاثة الذين رثاهم ماثلين أمامه يخاطبهم ويترحم عليهم، وهذا الأسلوب فيه ما فيه من الحسن لمناسبة الحال.

وأحياناً يتلخص الشاعر إلى موضوعه بأسلوب التنبيه والتشويق ليستعد القارئ أو السامع إلى التلقي، كما في قصيدته: (يا أحمد) .

فهذه سلسلتي الوافيه   **  لجمعها رجال علم حاوية

وفي قصائد التوسل الأخرى يتخلص الشاعر بعد الاستهلال بالبسملة والحمدلة والتصلية إلى الموضوع بادئاً بمناجاة الله بأسلوب الخطاب من البدايات إلى النهايات. كما في قصيدة: منظومة العصا ورفع الشكوى إلى عالم السر والنجوى. وهو أسلوب حسن فيه ما فيه من الشعور بعظمة الخالق والوقوف بين يديه بالأدب والتعظيم والمشاهدة والمراقبة وعدم الالتفات إلى غيره.

وبالجملة، فإن الشاعر تختلف أساليبه عند التخلص إلى موضوعه، وكلها حسنة مناسبة لواقع الموضوع الذي من أجله ألف القصيدة.

ثالثا: حسن الإنتهاء ( براعة الختام)

إذا كان المطلع مفتاح الشعر ومدخله، كان أجدر أن تكون الخاتمة قفلة ومسده، لأنها اللبنة الأخيرة التي يضعها الشاعر في بناء القصيدة، فينبغي للشاعر أن يحسنها ويجوّدها، لأن الخاتمة أبقى في السمع، وألصق بالنفس لقرب العهد بها، فإن حسنت حسن الكلام وإن قبحت قبح الكلام والأعمال بخواتيمها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم[26].

وقد أشار النقاد إلى ضرورة إحكامها وتجويد السبك فيها لكونها قاعدة القصيدة، وآخر ما تبقى منها في الأسماع، فلا يستحسن الزيادة عليها كما لا يستحسن أن يأتي الشاعر بعدها بأحسن منها.[27]

إذن حسن المقطع أو الخاتمة هو مراعاة حسن آخر البيت أو القصيدة، ولم يكن أقل شأنا من مراعاة جودة الابتداء في القصيدة، ولذلك اهتم البلغاء أن ينهوا كلامهم بأبلغ لفظ وأجمل معنى، واهتموا بأن يكون آخر بيت في القصيدة أجود بيت فيها[28].

ومما مثلوا به للمقاطع الجيدة قول الشاعر في آخر قصيدة حث بها جنود سيف الدولة للقاء الروم في بعض المغامرات؛ لخوفهم على الجنود لكثرتهم. قائلا:

وما الخوفُ إلا ما تَوقعهُ الفَتى   **    ولا الأمن إلا مَا رآه الْفَتى أَمْنا

فقد لخص الشاعر ما قاله من تشجيعهم في صورة واضحة بأسلوب بين وبطريقة يحفظونها في صدورهم وتثبت في أذهانهم خلال مغامراتهم مع العدوّ.

ومن مقاطع الشعر الجيدة قول الشاعر ابن الزبعري في آخر قصيدة يعتذر فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويستعطفه فقال:

فخذ الفضيلة عن ذنوب قد خلت   **    واقبل تضرّع مستضيف تائب

فالشاعر جعل نفسه مستضيفا، ومن حق المستضيف أن يضاف، وإذا أضيف فمن حقه أن يصان، ثم ذكر تضرعه وتوبته مما سلف، وجعل العفو عنه فضيلة، وبهذا جمع في هذا البيت جميع ما يحتاج إليه في طلب العفو.

وبالرجوع إلى مقطع قصائد الشاعر الشيخ عثمان عبدالله يحيى المختارة نجدها صبغت بهذا اللون الاختتامي فبعضها فيها الحكمة والموعظة، والبعض مؤثرة فيها من الدعاء، أو بالصلاة والسلام على النبي المختار صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وآل بيته الكرام، وفي هذا الصدد يلجأ الشاعر إلى استخدام الرقة في أسلوبه، حيث يستخدم لغة سهلة عاطفية شيقة.

وكان النقاد يحسنون ذلك في مدح الملوك، والأمراء، والحكام، والمدائح النبوية، وما له علاقة بها. لما يتجلى فيها من المعاني الروحية التي تصور تعلق الشعراء الصوفيين بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومكانة مشايخهم.[29] وإما أن يكون مقطع القصيدة يوحي غالبا بانتهاء الكلام، وذلك إما بالحمدلة والصلصلة، أو الدعاء للمتوفى كقول أمير المؤمنين محمد بلّو يرثي عمه الشيخ عبد الله بن فودي رضي الله عنه، قائلا:

فالله يغفر للجميع بفضــــــله   **    ويجود فضلا للجميع بوهبه

فله المحامد والفضائل والعلى  **    وصـــلاتــــه أبــــدًا لحــــــائز قربه

والآل شيعته الكرام وصحبه  **    والصادقـــــين القائمــــين بحبه

فالشاعر جعل المقطع يوحيبشدة تغلب عاطفته الدينية على عاطفته الأدبية، لذا اختتم مرثيته بالدعاء؛ طلبًا للمغفرة والرحمة من الله ذي الفضل والكرم، وصلى على النبي المختار صلى الله عليه وسلم في ألفاظ سهلة وتعبير رائع.

وبمجرد استعراض هذه القصائد على هذا المفهوم للخاتمة تتجلى أمامنا عناية هذا الشاعر بالخاتمة عناية فائقة،وسلك هذا المسلك في مقاطع قصائده المختارة حيث يطابق هذا النظام ويضع المقطع في شكل خلاب جذاب يبقى في ذهن السامع كما اشترط النقاد، وكلها تنم عن الغرض الذي سيقت من أجله.

وقد لاحظ الباحث بعد إمعان النظر في نهايات هذه القصائد المدروسة أن الشاعر نهج عدة أساليب على النحو التالي:

  • أحيانا يختم قصيدته بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والآل، وذلك كما في قصيدته: بكتكم

ثم الصـلاة مع السلام على النبي  **  والصحب من بنفوسهم جادوا بها[30]

وهكذا بالنسبة لقصائده: حديث الأقلام وبنت عبدالله و مابال داديري) ( يا أحمد)  منظومة العصا على من طغى وعصى.

ب – وأحيانا يختم بخاتمة جميلة تدل على أنه وصل فعلا إلى آخر ما يقصده من قول، كما في آخر قصيدته :” أيا سلمى” قال في ختامها:

فخذ بيدي وأوصلني وقل لي               **    مريدي هاهنا اشرب معينا

فقد دلت هذه الخاتمة على أن الشاعر أتى إلى نهاية القصيدة بإتيانه إلى آخر غرضه من ممدوحه وهو أن يقبله ويوصله إلى المعرفة والعلم واليقين بالله تعالى.

وكذلك قصيدته في رثاء الحفاظ الثلاثة قال في ختامها:

وساعة ربي إذا حصلت    **    فلا مفر مما قضى لا فلت

ففــــــــردوس أنزلهـــــــم ربيــــــــا    **    وقــــوِّ قلــــــوبا  وقهـــــا الفلت

فقد دل هذا الختام الدعائي على أن القصيدة قد انتهت ولا ينتظر القارئ أو السامع إلى شيء آخر.

وبهذا يستطيع الباحث أن يقول: إن الشاعر يحسن الانتهاء في عمله الشعري كما دلت عليه هذه القصائد المدروسة.

الخاتمة:

يمثل ما مر في المقالة بناء القصيدة بناء القصيدة لدى الشاعر عثمان عبدالله يحيى دراسة أدبية تحليلية، وقد استهل الباحث بالمقدمة مبيّنا فيها أهمية المقالة ودورها في توضيح موهبة الشاعر في صناعة الشعر، ثم أتى بلمحة وجيزة عن تاريخ الشاعر فبيّن حياته من حيث الولادة والنشأة والتعلم، وما قام به من أدوار فعالة في خدمة الأدب العربي. بعد ذلك انتقل الباحث إلى بناء القصيدة فعرّفها تعريفا معجميا واصطلاحيا، ووضح أن النقاد قد اهتموا بها كثيرا لما لها من دور فعال في إيصال رسالة الشاعر. ومن هنا شرع الباحث يفصل القول في قصائد الشاعر؛ من حيث الافتتاح، والتخلص، والاختتام. وقد ظهر جليا أن الشاعر يهتم ببناء القصائد في قصائده ويصوغها في قالب جذاب وبأسلوب جيد مما أثبت براعته في الشعر العربي. وهذا ما قصده الباحث.

(د. عبدالكافي عثمان البشير ، قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية كلية محمد غوني للشريعة والقانون والدراسات الإسلامية ميدغري )

قائمة الصادر والمراجع

  1. القرآن الكريم
  2. ابن الأثير، ضياء الدين محمد بن محمد، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق الدكتور أحمد الجوفي وغيره، مكتبة النهضة، مصر، ط1، السنة 1381ه 1969م، ص: 96
  3. ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ط/5، دار الجيل بيروت، 1981م، ص: 296.
  4. ابن منظور، الإفريقي المصري، العلامة، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الفكر للطبع والنشر والتوزيع، 1965م، ج/4، ص: 89
  5. أحمد أحمد بدوي، (الدكتور)، أسس النقد الأدبي عند العرب، مطبعة نهضة مصر، القاهرة، عام 1996م، ص: 294
  6. البغوي، الحسين بن مسعود، الإمام، شرح السنة، تحقيق شعيب الأرناؤوط -محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي -دمشق ـ بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ -1983م، 1/96، ص: 213
  7. الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، ط/4، سنة 1990م، ص: 324.
  8. الحموي، تقي الدين أبوبكر علي بن عبد الله، خزانة الأدب وغاية الأرب، ط:1، 1987م، دار مكتبة الهلال ببيروت، ج/1، ص: 329
  9. عبد الرحيم رائد مصطفى حسن، فن الرثاء في العصر الملوكي، ط1 دار الرازي عمّان، 2003م، ص: 303
  10. عبدالله عمر زُورُ، فن الرثاء لدى الشيخ جنيد محمد زاريا: دراسة أدبية تحليلية، رسالة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه، بقسم اللغة العربية جامعة عثمان بن فودي صكتو، 1440ه.
  11. العسكري، أبو هلال،الصناعتين، مطبعة محمد علي صبيح، بدون تاريخ، ص: 415
  12. فيروز آبادي، القاموس المحيط،ج/4، دار الفكر بيروت، 1398هـ – 1978م، ص: 305
  13. كياري إبراهيم الشريف (الدكتور)،البردة الجيمية للشيخ يوسف عبد القادر القرقري، تحقيق ودراسة أدبية، رسالة الدكتوراه في الدراسات العربية جامعة بايرو قسم اللغة العربية أغسطس 2001م، ص: 450.
  14. محمد خلف الله أحمد، مطلع القصيدة العربية ودلالته النفسية في دراسة الأدب ونقده، مطبع الهيئة المصرية للكتاب، 1987م ص: 97.
  15. نور عتيق بَلَارَبِي، فن المديح لدى القاضي عبد القادر الغُسَوِي، دراسة تحليلية، بحث مقدم لجامعة عثمان بن فودي صكتو، تكملة لنيل شهادة الماجستير في اللغة العربية، 1435هـ  2014م، ص: 81
  16. يوسف حسين بكار، (الدكتور)، بناء القصيدة في النقد الأدبي القديم، ط/1، بيروت لبنان، 1982م، ص: 212.

الهوامش:

  1. ينظر: البغوي، الحسين بن مسعود، الإمام، شرح السنة، تحقيق شعيب الأرناؤوط -محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي -دمشق ـ بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ -1983م، 1/96، ص: 213
  2. ينظر: يوسف حسين بكار، (الدكتور)، بناء القصيدة في النقد الأدبي القديم، ط/1، بيروت لبنان، 1982م، ص: 212.
  3. ينظر: دنامة محمد إبراهيم، الشعر العربي في منطقة إنقالا دراسة أدبية تحليلية، رسالة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية، قسم اللغة العربية، جامعة ولاية نصراوا، كيفي، 2012م، ص: 157.
  4. ينظر: بشير أحمد عمر، مختارات من شعر الرثاء في ولاية برنو في القرن العشرين، دراسة أدبية تحليلية، بحث قدم لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية جامعة باريرو كنو، عام 2008م ص: 79
  5. ينظر: عبد الكافي عثمان البشير، صور من المدح والرثاء في شعر موسى كليم القالي دراسة أدبية تحليلية، بحث مقدم لنيل شهادة الماجستير في اللغة العربية، قسم الدين والفلسفة جامعة جوس، 2017م، ص: 75
  6. ينظر: فيروزآبادي، القاموس المحيط،ج/4، دار الفكر بيروت، 1398هـ – 1978م، ص: 305
  7. سورة الصف الآية (4).
  8. ينظر: ابن منظور، الإفريقي المصري، العلامة، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الفكر للطبع والنشر والتوزيع، 1965م، ج/4، ص: 89
  9. ينظر: نور عتيق بَلَارَبِي، فن المديح لدى القاضي عبد القادر الغُسَوِي، دراسة تحليلية، بحث مقدم لجامعة عثمان بن فودي صكتو، تكملة لنيل شهادة الماجستير في اللغة العربية، 1435هـ  2014م، ص: 81
  10. ينظر: يوسف حسين بكار، (الدكتور)، بناء القصيدة في النقد الأدبي القديم، ط/1، بيروت لبنان، 1982م، ص: 212.
  11. ينظر: أحمد أحمد بدوي، (الدكتور)، أسس النقد الأدبي عند العرب، مطبعة نهضة مصر، القاهرة، عام 1996م، ص: 294
  12. ينظر: ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ط/5، دار الجيل بيروت، 1981م، ص: 296.
  13. ينظر: كياري إبراهيم الشريف (الدكتور)،البردة الجيمية للشيخ يوسف عبد القادر القرقري، تحقيق ودراسة أدبية، رسالة الدكتوراه في الدراسات العربية جامعة بايرو قسم اللغة العربية أغسطس 2001م، ص: 450.
  14. ينظر: العسكري،أبو هلال،الصناعتين، مطبعة محمد علي صبيح، بدون تاريخ، ص: 415
  15. ينظر: يوسف حسين بكار، (الدكتور)، كتاب بناء القصيدة في النقد العربي القديم، مرجع سابق، ص: 203
  16. ينظر: عبد الرحيم رائد مصطفى حسن، فن الرثاء في العصر الملوكي، ط1 دار الرازي عمّان، 2003م، ص: 303
  17. المرجع نفسه، ص: 305.
  18. ينظر: محمد خلف الله أحمد، مطلع القصيدة العربية ودلالته النفسية في دراسة الأدب ونقده، مطبع الهيئة المصرية للكتاب، 1987م ص: 97.
  19. المرجع نفسه، ص: 12
  20. ينظر: ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدبه ونقده، ج/1، مرجع سابق، ص: 145
  21. ينظر: ابن الأثير، ضياء الدين محمد بن محمد، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق الدكتور أحمد الجوفي وغيره، مكتبة النهضة، مصر، ط1، السنة 1381ه 1969م، ص: 96
  22. ينظر: الحموي، تقي الدين أبوبكر علي بن عبد الله، خزانة الأدب وغاية الأرب، ط:1، 1987م، دار مكتبة الهلال ببيروت، ج/1، ص: 329
  23. ينظر: أحمد أحمد بدوي، (الدكتور)، أسس النقد الأدبي عند العرب، مرجع سابق، ص: 308
  24. ينظر: ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدبه ونقده، ج/1، مرجع سابق، ص:109
  25. ينظر: الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، ط/4، سنة 1990م، ص: 324.
  26. ينظر: الحموي، تقي الدين أبوبكر علي بن عبد الله، خزانة الأدب وغاية الأرب،مرجع سابق، ص:123
  27. ينظر: ابن رشيق القيرواين، العمدة في محاسن الشعر وآدبه ونقده، ج/1، مرجع سابق، ص: 147
  28. ينظر: عبدلله عمر زور، مرجع سابق، ص: 198.
  29. ينظر: أبو هلال العسكري، الصناعتين، مرجع سابق، ص: 429
  30. ينظر: ابن رشيق القيرواني، العمدة، مرجع سابق، ص: 32