تمظهرات الفلسفة اليونانية بين سياقات البناء الفكري وأفق تجديد المعنى.

زهير اتباتو 

زهيراتباتو -أستاذ و باحث بسلك الدكتوراه ، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية اآلادا والعلم انإسساسية فاس-سايس

إن الوصول إلى الحقيقة، هو في أساسه سيرورة من العمليات المتعاقبة في تطورها السياقي والإيديولوجي، وكل تصور ذهني كيفما كان نمطه أو نمط هيكلته إيديولوجيا، يستدعي بالأساس الوقوف على أسسه المنهجية، ومن هنا ينبثق هذا البحث في الكشف عن التمثلات الأولى والإرهاصات العميقة لبناء الفلسفة عند اليونان، محاولين الكشف عن سياقات بناء الدلالة والكشف عن المعنى للبحث عن الحقيقة، ومن حيث المنهج اتبعنا منهجا تاريخيا استقصائيا، حول البنيات الأولية لنهضة الفلسفة معتمدين على أهم روادها (المدرسة السوفسطائية، المدرسة الأفلاطونية، المدرسة الآرسطية…)، محاولين كشف النقاب والتنقيب عن خبايا الفلسفة، ومنه عن ثيمات بنا المتخيل الفلسفي عند الإنسان، وفهم مجرى تطور التاريخ بمختلف خلفياته الفكرية والإيديولوجية.

كلمات المفاتيح:

-الفلسفة اليونانية-التمثلات الفكرية- المدارس الفلسفية-السفسطة.

مقدمة:

لطالما كان “اليونان يعتقدون أنهم أصليون في جزيرتهم، والحقيقة أنهم جاؤوها من آسيا، فهم آريون أو هنديون أوروبيون. وكانوا يدعون سكان بلادهم الأولين بالبلاجين ويدعون أنفسهم بالهلانيين، وكانوا أربع قبائل كبرى مختلفة خلقا ولهجة: الأوليون والدوريون في الشمال، والآخيون والأيونيون في بلوبونيسيا”[1].

وقد وقع بين هذه التجمعات صراعات وقتالات عدة إلى أن وحدوا في النهاية تحت تكوين اليونان في شكل “دولتان عظيمتان اشتهرتا بين جميع ممالك اليونان أحدهما (إسبارطا) والأخرى (آثينا) وإلى هذه الأخيرة ينسب ترقي اليونان المادي والأدبي القديم الذي ملأت الآفاق شهرته”[2] في مختلف المستويات سواء الشعرية أو الفلسفية أو على مستوى الصناعة والتنظيم السياسي وغيرها.

وبخصوص الفلسفة موضوع بحثنا، فإن المرحلة التأسيسية للمنطق الفلسفي، كانت قد فردت لنفسها أرضية سياقية لبناء التمثلات الفكرية المؤطرة للفكر البشري آنذاك، ومحط انطلاقة للفلسفات المتعاقبة عبر العصور، فمن المعروف أن أي دارس للفلسفة لا بد له من الوقوف على الجذور التأسيسية لهذا الحقل المعرفي الزاخر بالمعرفة، والتشبع من مبادئه الأساسية عبر معرفة الجذور الأصلية لمنطلقات والتصورات الذهنية.

الحكمة اليونانية وانبثاق الفلسفة:

إن الاستقرار في اليونان كان دائما مضطربا بنزاعات وصراعات مع كثرة الخصومات السياسية، وفي نفس الوقت قد قويت حركة توسع الدولة اليونانية الاستعمارية وكذا تنظيمها الاجتماعي، “ونبع فيهم رجال معدودون أشهرهم: ((الحكماء السبعة)) على ما هو متواتر، ولو أن القدماء اختلفوا في عددهم وأسمائهم، ومنهم على كل حال سولون المشرع المعروف، وكاليس أول الفلاسفة. هؤلاء الحكماء كان مقصدهم الأكبر إصلاح النظم والأخلاق، وقد ذكر أفلاطون بعض حكمهم فإذا هي عبر عملية استخرجوها من تجاربهم الشخصية وصاغوها في عبارات موجزة ذهبت أمثالا. قال(أفلاطون):”واجتمعوا في دلف وأرادوا أن يقوموا لأبولون في هيكله بواكير حكمتهم فاختصوه بالآيات التي يرددها الناس الآن مثل: ((إعرف نفسك)) و ((لا تسرف)) و ((الصلاح عسير))، فكانوا مصلحين ومشرعين ولم يكونوا فلاسفة بمعنى الكلمة. وشاع هذا النوع من الحكمة وظهرت ((أمثال أيسوب)) وهو شخص أسطوري يرجعون عهده إلى النصف الثاني من القرن السابع، ثم ظهر شعر الحكمة فيه أمثال منظومة ونقد لأخلاق الناس”[3].

على المستوى الفلسفي:

المدرسة السفسطائية:

حين توسعت الدولة اليونانية كانت تحتاج في تكوينها لقادة يستطيعون حكم زمام الأمور، “فأصبح القادة الجدد الذين تتطلبهم الدولة قادة ممتازين من حيث الفكر والثقافة، فكان واجب التربية في هذه الفترة أن تعنى بالإنسان لا من حيث الناحية الجسمية ولكن من حيث التفكير العقلي. لهذا كان المطلوب من كل من يقوم بالتربية في ذلك العهد أن يربي المواطن على فضائل الدولة، لكن مهمة السوفسطائيين لم تكن مهمة تربية رجال الدولة جميعا لكي يؤدي كل مواطن ما عليه، بل كان الغرض أن تكون متجهة إلى إيجاد طبقة من القادة تستطيع أن تسير أمور الدولة”[4].

إن عمل السوفسطائي لا يطلب منه أن “يخلق قادة من حيث لا تسمح الطبيعة بإيجاد القادة، فإن هذه الصفات التي تستلزمها القيادة مثل حضور الذهن والمثابرة والإقدام…نقول إن هذه الصفات صفات فطرية وليس للسفسطائي، أو لأي كائن من كان، أن يخلقها في نفس الرجل، ولكن الشيء الذي يمكن، بل ويجب أن يربى عليه الإنسان هو الخطابة، والقدرة على التأثير في الناس، أي الناحية الشكلية في الروح الإنسانية. لذا سيكون الغرض الأصلي للتربية متجها إلى الناحية الصورية في الرجل، فهي إذن مبدأ صوري في الشخص الذي تكون فيه”[5].

وقد حكم تيار السوفسطائية حسب عبد الرحمان بدوي ثلاث نزعات/خاصيات:

الخاصية الأولى: “من خصائص الروح اليونانية عي أنها روح تؤمن بالتغير الدائم…وثل هذه الروح التي تجعل الأشياء في تغير دائم لا تقول بالحقائق الثابتة الموضوعية، بل إن شأنها أن تجعل الحقائق نسبية ما دامت متغيرة هي فهي نسبية إلى الأفراد”[6].

الخاصية الثانية: “هي أن هذه الروح (الروح اليونانية) هي روح عقلية، وهذه الروح العقلية تقتضي أو ما تقتضي الاستقلال في الفكر، مما يجعل الإنسان يحكم على الأشياء كما يراها هو لا كما يراها الناس، ولذا يجعل المحتمل صفة للحقائق، ويجعل التسامح فضيلة من الفضائل لأن التسامح معناه إمكان الاختلاف، ومعنى إمكان الاختلاف أن الحقائق ليست واحدة ثابتة، بل متغيرة حسب الأفراد. وهذه النزعة العقلية تقوم على الفردية، ما دامت تقوم على الاستقلال الفكري وبالتالي على الحرية”[7].

الخاصية الثالثة: “من خصائص الروح اليونانية هي أنها تميل إلى النضال، وميلها إلى النضال يظهر أولا في الحياة الجسمانية كما هو ظاهر في الألعاب الرياضية في بلاد اليونان، فلما انتقلت، في القرن الخامس المنافسة في الميادين الجسمانية المتصل بالصفات والفضائل الحربية إلى الميدان الفكري، أصبحت أداة المنافسة في الكلام والخطابة ولذا كان للخطابة المكان الأول في الحياة الروحية في اليونان”[8].

ويعتبر “السوفسطائيون أول واضعين حقيقة لعلم الخطابة ولقد كان هذا العلم العلم الذي يجب أن يوضع في هذا العصر من حيث أنه الممثل الحقيقي لروح هذا العصر، وذلك لأن قول بروتاغوراس المشهور وهو أن الإنسان يستطيع أن يقول شيئين متعارضين بالنسبة إلى شيء واحد، لا يجد مجالا لتطبيقه والتعبير عنه خيرا مما يجد في الخطابة”[9].

 كانت الخطابة تعتبر من الناحية الأولى على حين قول “جورجياس عن الحقيقة لأن الحقيقة العقلية هي تناقض ونزاع، فما يعبر تعبيرا حقيقيا عن هذا التناقض والنزاع سيكون العلم الحقيقي، ومن أجل هذا لم ينظر السوفسطائيون إلى الخطابة بوجه عام على أنها جدل أو وسيلة للتأثير فحسب، بل وأيضا على أنها العلم الحقيقي، فجورجياس يقول إن الخطابة هي الفن والفن الحقيقي وليست أداة للتأثير فحسب”[10].

كما أصبحت الخطابة عند “ترازيماخوس نظرة في الوجود ونظرة في السياسة وعند أنتيفون أصبحت الخطابة طب النفوس، والوسيلة التي بها ترتفع الحياة الباطنة ارتفاعا كبيرا، وعند هيباس أصبحت الخطابة ارتفاعا بالروح ولطفا فيها وسموا فب التفكير العقلي”[11].

وعلى العموم فالخطابة أصبحت جزء مهما من مكونات الفكر اليوناني، فتكوين القادة كان يبتغي بالدرجة الأولى تربيتهم على امتلاك القدرة للوصول لأعلى المراتب وكذا الحفاظ عليها، وما كان لذلك أن يتم دون التأثير في الناس عن طريق الوسيلة الأكثر نجاعة ألا وهي الخطابة.

وقد عرف السوفسطائيون على أنهم كانوا “مجادلين مغالطين وكانوا متجرين بالعلم، أما الجدل فقد وقفوا عليه جهدهم كله، خرجوا من مختلف المدارس الفلسفية لا يرمون لغير تخريج تلاميذ يحذقون، وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء، وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل والمواقف، ومن كانت هذه غايته غهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن وسائل الإقناع والتأثير الخطابي، ولم يكن ليتم لهم غرضهم بغير النظر في الألفاظ ودلالاتها، والقضايا وأنواعها، والحجج وشروطها، والمغالطة وأساليبها، فخلفوا في ذلك الناحية من الثقافة أثرا حقيقيا بالذكر”[12].

كما اعتبروا كذلك من الملمين بالعلوم “إلماما ما ساعدهم على استنباط الحجج والمغالطات وعلى التظاهر بالعلم، فتناولوا بالجدل المذاهب الفلسفية المعروفة وعارضوا بعضها ببعض، وتطرق عبثهم إلى المبادئ الخلقية والاجتماعية فجادلوا في أن هناك حقا وباطلا وخيرا وشرا وعدلا وظلما بالذات، وأذاعوا التشكك في الدين، فسخروا من شعائره واختلقوا عل آلهتهم الأقاويل، ومجدوا القوة والغلبة، وكان الأمر إلى الديمقراطية تتعدد فيها القوانين وتتناسخ فيدخل على النفوس أن القانون والحق ما يريده القوي”[13].

ويعتبر بروتاغوراس أهم رواد هذا التيار، فبعد “أن طاف أنحاء إيطاليا الجنوبية واليونان يلقي فيها الخطب البليغة قدم أثينا حوالي سنة 450 ولم تطل إقامته فيها لأنه كان قد نشر كتابا أسماه ((الحقيقة)) وردت في رأسه هذه العبارة ”لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين فإن أمورا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم أخصها المسألة وقصر الحياة))، فاتهم بالإلحاد وحكم عليه بالإعدام وأحرقت كتبه علنا ففر هاربا ومات غرقا في أثناء فراره”[14].

ويقول يوسف كرم في ختام فصله الذي تحدث عبره عن السوفسطائيين: “ومما يقال من أنهم (السوفسطائيون) أخرجوا الثقافة من المدارس الفلسفية ونشروها في الجمهور وأنهم مهدوا للمنطق وللأخلاق فقد كادوا يقضون على الفلسفة لولا أن أقام الله سقراط لينتشلها من هذه الورطة المهلة”[15].

ويعلق عبد الرحمان بدوي في كتابة “ربيع الفكر اليوناني” قائلا: “لعل تيارا من التيارات الفلسفية لم يصادف من الاختلاف مثلما صادف تيار النزعة السوفسطائية، خصوصا فيما يتصل بمركز السوفسطائية داخل التفكير الفلسفي العلمي. وأول ما نشاهد هذا الاختلاف في العصر القديم نفسه، إذ نجد أفلاطون يحمل على السوفسطائية حملة عميقة شعواء، ونلاحظ أن هذه الحملة كانت منصبة بوجه عام على آرائهم في السياسة والأخلاق، لا على آرائهم العلمية… وقد اكتفى آرسطو بأن سار نفس السيرة التي سارها أفلاطون من قبل، وبها محا كل ما للسفسطائية من مكانة في تاريخ الفلسفة، واستمرت هذه الحال كذلك حتى جاء مؤرخو العصر الحديث في القرن التاسع عشر، هناك ابتدأ فهم السوفسطائية يقرب إلى الصواب، فقد ارتفع هيغل بالنزعة السوفسطائية ارتفاعا كبيرا وذلك في كتابه ((تاريخ الفلسفة)) وجعلها أساسية من لحظات تطور الفلسفة عند اليونان”[16].

وآية القول فإن المدرسة السوفسطائية بروادها وقوامها وأسسها قد شكلت مرحلة مهمة في التاريخ الفلسفي العالمي واليوناني بالخصوص، وبين مؤيد ومعارض للفكر الذي أسست له هذه المدرسة يبقى النقاش إلى يومنا هذا قائما حول خصوصية هذه المدرسة ولا يتضارب على أهميتها عاقلان في ما قدمته للحقل الفلسفي على مستوى إعمال العقل والمنطق الطبيعي في التحليل لأي ظاهرة كيفما كان نوعها أو الميدان التي برزت فيه.

سقراط وأفلاطون

نشأت الفلسفة اليونانية، في المرحلة الزمنية التي تمتد بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، واستمرت بالتطور مع أبرز روادها، سقراط أفلاطون وأرسطو، معهم أخذت الفلسفة منهجها التأملي الإشكالي الذي تعرف به إلى حدود الآن، وتناولت مختلف المواضيع التي كانت مطروحة في المجتمع اليوناني مثل الفلسفة السياسية، وعلم الوجود، والأخلاق، والمنطق، والبلاغة، وعلم الأحياء، وعلم الجمال.

وقد حققت الفلسفة اليونانية نقلة نوعية مع الفيلسوف الأثيني سقراط، حيث انتقلت من طابعها الميتافيزيقي الأسطوري، إلى طابع عقلي تأملي، وركزت الإشكالية الفلسفية التي وضعها، على محاولة إيجاد حقيقة كونية، يمكن بها تفسير ماهية الإنسان.

ويمكن اعتبار مجيء سقراط بمثابة المرحلة الفاصلة في تاريخ الفكر اليوناني والفكر الإنساني بصفة عامة، فرغم أنه كان استمرارا لكل المحاولات السابقة في طرح الإشكاليات فلسفية إلا أن كل هذه المحاولات، لم تكن ناجحة وكانت تفتقد إلى المنهج، ولهدا نجد “نيتشه” نفسه يصف هده المرحلة فيقول ‘’ في البداية كانت الأشياء مختلطة ببعضها ثم جاء العقل ليبدع النظام’’.[17]

 ويمكن تحديد فكر أرسطو من خلال النقط الآتية، فمن حيث الحوار الفلسفي كانت الفلسفة قبل سقراط مجرد حديث للنفس عن الحقيقة والوجود، وكان الفيلسوف يقدم عرضاً ذاتياً لآرائه. لكن معه أصبحت حواراً مع الآخرين، وليست تأملا للذات مع ذاتها، وكان يحاور الناس ويناقشهم في كل مكان، في الأسواق والشوارع والبيوت وساحات القضاء، وكان الغرض من حواره دعوة الناس جميعاً والشباب بخاصة إلى الفكر والفلسفة.

أما من حيث السؤال، فقد تجلت عبقرية سقراط في السؤال الفلسفي الذي يوجهه إلى الآخرين، وتميز هذا السؤال بخصائص واضحة، منها أنه سؤال موجه بهدف معرفة الحقيقة. وأصبحت مهمة المفكر أن يبدأ بوضع السؤال قبل سرد الأفكار والآراء. ويمتاز السؤال السقراطي أيضاً بأنه سؤال عن “الماهيات” أي عما هو الشيء.

ولعل الخطة الأولى في محاولته هي إرغام الإنسان على أن يرى بنفسه أن أفكاره الحالية خاطئة أي ناقصة، وفي سبيل ذلك كان عليه أن يستخدم نوعا خاصا من التندر بالذات أو التواضع، وهو المنهج الذي عرف باسم “السخرية السقراطية”، ومنح ذلك سقراط سمعة عظيمة خاصة بين الشباب الذين طربوا لرؤية الأفكار العتيقة لشيوخهم تتحطم تحت وطأة سخرية سقراط.

والنقطة الأخرى التي يمكن الإشارة إليها في خضم الحديث عن فكر سقراط، هي أنه اشتهر بمنهج آخر، يسوده، التهكم والتوليد. إذ اتخذ التهكم خاصية من خصائص منهجه، في اكتشافه لجهل الآخرين وعدم معرفتهم بحقيقة الأشياء التي يتحدثون عنها، أما خاصية السخرية فهي تعبر عن موقفه من الجهل.

لقد كانت حكمة سقراط وفضيلته في أنه كان يعلم بأنه يجهل الحقيقة، بينما كان يدعي الآخرون معرفتهم بالحقيقة، وهم جاهلون بها. ولذلك اتخذ التوليد كأهم خاصية تعبر عن فكره، وهو يقصد بها توليد الأفكار من العقول.

وفي الوقت الذي ترك فيه سقراط فكره الفلسفي غامضا وغير محدد، جاء تلميذه أفلاطون بدرجة تأملية أعلى، عمل من خلالها على تعريف الفكرة على أنها الموضوع الحقيقي للمعرفة الإنسانية، من الطبيعي أن يقع أفلاطون تحت تأثير رؤية أستاذه سقراط، بحكم علاقة المعلم والتلميذ، وبحكم أنه احتفظ بفلسفة أستاذه ودون أفكاره، لأنه لم يصل لنا شيء مما كتبه سقراط.

وقد أسس أكاديميته الفكرية، ومارس فيها نشاطه الفلسفي، وكتب مجموعة مؤلفات ضمنها آراءه وما تعلمه من أستاذه سقراط، وقد حظيت هذه المؤلفات بعناية كبيرة من دارسي الفلسفة وكذاك الفلاسفة، وعدها بعض المؤرخين من أعظم الأعمال الفلسفية والأدبية في تاريخ الفكر الإنساني، و تكاملت على يديه الفلسفتان الأخلاقية والكونية، واشتهر بنظرية المثل.

وأسس أفلاطون الفلسفة المثالية وعرفها على أنها السعي الدائم لتحصيل المعرفة الكلية الشاملة التي تستخدم العقل، كوسيلة لها وتجعل الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها، و أوجد ما عرف من بعد بطريقة الحوار، التي كانت عبارة عن دراما فلسفية حقيقية، عبر فيها عن أفكاره من خلال التمثيل بشخصية سقراط، الذي تمثله إلى الحد الذي بات فيه، من الصعب جدا التمييز بين عقيدة التلميذ وعقيدة أستاذه الذي لم يترك أصلا أي أثر مكتوب، بخلاف أفلاطون الذي ينسب إليه نحو أربعين كتابا، بينها سبع وعشرون محاورة موثوقة، في حين يعد الباقي إما مشكوكا في نسبته إليه أو منحولا بالكامل.

وقد تألق في الحوارات الأولى، المسماة “السقراطية”، إذ تم فيها رسم صورة سقراط بطابع مثالي، كما يتضح ذلك من خلال نظريته في الصور المعقولة أو المثل التي هي أساس فلسفته.[18] والجمهورية هي أحد أهم أعمال أفلاطون الفلسفية والأدبية، وهي تنتمي إلى ميدان الفلسفة السياسية، وفلسفة الأخلاق، رغم أن السياسة لم تكن هي هدف أفلاطون الرئيسي من وراء هذا العمل، لكنه أراد أن يوضح أهمية الاستقامة والعدالة على مستوى السلوك الفردي. فاختار أفلاطون أن يوضح ذلك عن طريق الدولة. لان الدولة تعتبر تكبيرا للفرد. فأراد أن يستخلص النتائج والعبر من دراسة الدولة وإسقاط تلك النتائج والأحكام على الفرد.

يقول أفلاطون إن سكان جمهوريته أو سكان أي دولة ينتمون إلى ثلاث طبقات: طبقة الحكام وطبقة الحراس وطبقة العمال التي تشمل أصحاب الحرف اليدوية والفلاحين. ووضع خطة للإعداد وتهيئة كل طبقة من الطبقات الثلاثة التهيئة المثلى. لكنه أولى اهتماما خاصا لتهيئة الحكام والحراس أكثر من طبقة العمال لذلك يرى الكثيرون أن أفلاطون كان نخبويا.

ويقول أفلاطون إن الحكام في الدولة الفاضلة ينبغي أن يكونوا من الفلاسفة ويتعلل في ذلك بنظرية مملكة الأفكار. هذه النظرية هي أهم ما يميز أفلاطون ويميز مدرسته الفلسفية وعندما نسمع بمصطلح الأفلاطونيين فان المقصود يكون تحديدا من يؤمنون بنظرية ملكة الأفكار أو ما يشابهها. ويمكن توضيح هذه النظرية كالتالي: إذا تخيلنا طاولة ما. فأننا نعلم أن للطاولات أشكالا مختلفة بعضها مستدير والآخر مربع والبعض الآخر مستطيل أو غير ذلك من الأشكال بعضها يمتلك ثلاث قوائم والبعض يمتلك أربع قوائم والبعض الآخر غير ذلك. لكن المهم انه عندما يشاهد أي إنسان أي طاولة فإنه يدرك فورا أن ما يراه  طاولة. ولكن لماذا؟ هنا يقول أفلاطون بان هناك طاولة مثالية وهي عبارة عن فكرة موجودة في العقل وكل الطاولات الموجودة في الحياة ما هي إلا محاولات لتقليد الطاولة المثالية الموجودة في عالم الأفكار.

  • نموذج أرسطو

تميز أرسطو عن أفلاطون في تفكيره المنطقي القائم على التحليل، وانطلاقه من الواقع المادي الملموس، وتفكيره المنطقي التحليلي يبدوا واضحا في منهجه، الذي اعتمده في صياغة مجمل أفكاره، حيث ركز من خلاله على المسائل اللغوية، وعلى النزعة العلمية في التحليل، إضافة إلى ممارسة التجربة والملاحظة واستخلاص النتائج، أما فيما يخص نزعته الواقعية، فهي تبدوا واضحة في فلسفته التي انطلق فيها من العالم الطبيعي، باحثا عن العلل والأسباب، ليرتقي نحو عالم غير مادي، ومن ثم دراسة المبادئ المطلقة للوجود.

وقد عرف أرسطو بأسلوب عام في البحث، يبين من خلاله نوع تفكيره وسعة معارفه، ويبدو ذلك في قوله في كتابه «ما بعد الطبيعة»: “البحث عن الحقيقة عسير جداً، من جهة، وسهل، من جهة أخرى. وما يبرهن على ذلك أن لا أحد يدرك الحقيقة إِدراكاً كاملاً, ولا أحد يجهلها جهلاً كاملاً. فكل فيلسوف يجد ما يقوله في الطبيعة, وكل قول من هذه الأقوال, إِذا نظرنا إِليه على انفراد هو لا شيء, أو هو شيء زهيد جداً, بالنسبة إِلى الحقيقة, غير أن مجموع الأقوال يأتي بنتائج مثمرة. فمن العدل إِذن ألا نشكر الذين نتفق وإِياهم في الأفكار وحسب, بل الذين يختلفون عنّا في الآراء. لقد أسهم هؤلاء في البحث عن الحقيقة، لكونهم أنمو فينا القدرة على التفكير.”

وبما أن الحقيقة صعبة الإِدراك، كما أشار إلى ذلك في القولة السابقة، فإن أرسطو اتبع أرسطو منهجا من أربع مراحل يوضحها في الكتاب نفسه، حيث يقوم المرحلة الأولى بتعيين المنهج المتبع، وتحديد موضوع البحث, ليتمكن إيجاد  الدليل الذي يلائمه لأنه كما يقول، ” البعض لا يقبل إِلا لغة الرياضيات, والبعض لا يريد إِلا أمثلة, والبعض يريد الاستشهاد بالشعر, والبعض يحتم في كل بحث برهاناً محكماً”، ويقوم في مرحلته الثانية، بسرد الآراء المضادة لآرائه وتمحيصها، بقصد الوقوف على شتى الآراء في الفروع جميعها. فالذي ” يسمع الحجج المتعارضة جميعاً يكون موقفه أفضل للحكم”. ويقوم، في مرحلته الثالثة، على ” فحص الصعوبات، لأن الباحث من دون هذا الفحص، يشبه مسافرا يجهل الوجهة التي ينبغي له أن يتجه إِليها… فهدف البحث لا يظهر إِلا لمن عرف قبلا الصعوبات “. أما في المرحلة الرابعة، فإنه يقوم بالنظر في المسائل التي هو بصدد دراستها ويقوم بالفحص والبحث عن حلولها، مستعينا بالنتائج المستخلصة من المراحل السابقة.

لقد اعتبر أرسطو الطبيعة، مجموعة تحولات متتابعة من “المادة” إلى “الصورة” لكن لم يرى في المادة إلا مبدأ الانفعال، ونسب كل فعل إلى الصورة التي أرجع إليها بداية الحركة وغايتها ومع هذا فإن نظرية أرسطو المثالية في “الصورة” هي – في نواح عدة – « أكثر موضوعية من مثالية أفلاطون، وأبعد منها مدى وأكثر منها يقينا، ومن ثم فهي في فلسفة الطبيعة أكثر مادية في الغالب  « إن أرسطو يقترب كثيرا من المادية ». ويرتبط المنطق الصوري عند أرسطو ارتباطا وثيقا بنظرية الوجود ونظرية المعرفة ونظرية الحق، لأن أرسطو رأى في الأشكال المنطقية أشكالا للوجود في الوقت نفسه.

اتسعت فلسفة آرسطو لتشمل نظريات دقيقة وعميقة في المعرفة فبحث في وسائل المعرفة المختلفة وخاصة الإحساس والعقل وقيمة كل وسيلة من هذه الوسائل في اكتشاف حقيقة الوجود والعامل الخارجي كذلك في تحديد المعرفة العلمية والتمييز بينهما وبين أنواع المعرفة الأخرى المختلفة وخصها باليقين والضرورة ثم تناول بالدراسة المستفيضة صورة الفكر ليبين الصواب منه والخطأ فوضع أساس علم المنطق الذي ارتبط باسمه على مدى التاريخ.

وقد تعمق في البحث انطلاقا من أن وسائل اكتساب المعرفة لدى الإنسان والحيوان تعتمد بداية على عمل الحواس، فالإدراك الحسي هو أول خطوات المعرفة ومن تكراره تتولد الذاكرة ثم الخبرة وهذه كلها مشتركة بين الإنسان وبعض أنواع الحيوان.[19]

واعتمد على القول بنظرية غريبة وطريفة إلى حد ما، فهو يقول إن العضو الحاس يتلقى صورة المحسوس في الأشياء بعملية تجريد مؤداها أن العضو الحاس يجرد الصورة الحسية عن مادتها فينطبع بها، أي أن الإحساس هو انتقال الصورة الحسية إلى الوجود بالفعل في العضو الحاس كالعين مثلا تتلون واليد تسخن بالحرارة والأذن تتحد بالصوت.

ونظرية المعرفة أهم مباحث الفكر الإنساني، وهي دراسة قديمة قدم الفلسفة، إذ  أن أفلاطون وأرسطو وضعوا في المعرفة كانت بلا شك بحوثا مستقلة لديهما وواضحة المعالم فقد خصص لها أفلاطون عدة محاولات أهمها : ثياتيتوس والسوفسطائي، وخصص لها آرسطو “النفس” والذاكرة والتذكر” و”الكتاب الأول من الميتافيزيقا” وغيرها من المؤلفات والأبحاث المتعددة، ورغم أن كتاب النفس عنده كان يمثل بشكل عام نظريته في النفس بجانبيها التجريبي والتأملي إلا أن هذه النظرية بجانبيها كانت محكومة بمبادئ آرسطو الميتافيزيقية العامة من جانب، وباهتماماته في المعرفة والأخلاق من جانب آخر، فقد كان هذا الكتاب نقطة لتلاحم المبادئ الميتافيزيقية، وتتمة ضرورية للأخلاق كما يلقي الضوء أساسا على منطق أرسطو ونظريته في المعرفة، ومن هنا فهو يشكل المفتاح لمذهب أرسطو.

لقد أدى شغف أرسطو الشديد بالمعرفة – معرفة أي شيء من كل شيء – إلى انشغاله الشديد بالبحث في وسائل المعرفة الإنسانية، ومدى ما يمكن أن نصل إليه من خلال هذه الوسائل، ولما وجد أن غالبية الناس يعتقدون أن حواسهم هي وسيلتهم في المعرفة بدأ بحثه الغير مسبوق في طبيعة الحواس ووجد أن طبيعتها تؤكد قصورها ومحدوديتها ومن ثم بحث فيما يمكن أن يؤديه العقل ووجد نفسه أنه قادر على أن يحلل ما تعطيه الحواس ويبني منه ما يسمى بالمعرفة الإنسانية فالإنسان هو العقل ويستدل ويقيس أساسا وليس هو فقط ما يستقرئ فالحيوان يشاهد كما يشاهد الإنسان إلا إن الإنسان هو القادر وحده على تنظيم مشاهداته والاستفادة منها من تكوين بناء متكامل للمعرفة عن هذا العالم من خلال قدراته العقلية الفذة.[20]

ولعل ذلك ما جعله يركز اهتمامه على دراسة العقل وإمكاناته المعرفية من جانب ومحاولته من جانب أخر وضع القوانين اللازمة لضبط التفكير العقلي حتى لا يبتعد العقل على المجال المعرفي الصحيح ومن هذا كان تأسيس أرسطو للمنطق وفصله عن بقية العلوم كما كان بحثه في نظرية المعرفة ومن هنا أيضا كانت بحوثه المتعددة في هذا المجال مرتبطة ب بعضها البعض ارتباطا صعب عليه كما صعب على من جاء بعده الفصل بينهما وربما كان هو نفسه على وعي بمدى الاختلاف بين مجال هذه الدراسات المتعددة.

-خاتمة:

ومن هنا يمكن القول، إن الفلسفة اليونانية هي مبادئ أساس، وضعت من لبنات متينة لفتح المجال أمام سرح ثقافي تطورت عتباته عبر التاريخ، وفي كل عباءة تلبسها تتخذ شكلا جديدا، وتجدد المعاني من جانب، وتفني المعنى من جانب آخر، لغرض إعادة بناء المعنى لا نفيه من أجل النفي.

وبهذا تصبح الفلسفة اليونانية بمختلف مشاربها، مصدرا أساسيا لكل باحث عن المعرفة ومحب للثقافة ومريد للفلسفة، وعلى هضبتها بنيت المتخيلات الفلسفية المتعاقبة بمختلف تلاوينها وإيديولوجياتها السياقية، وكمل أشار هيغل في معقل حديثه عن الفكر أن لكل مرحلة عقلها، ولكل وسياق فلسفي تاريخه وظروفه وأسس اشتغاله، ومنطلقا لما بعده، بتغير العوامل والفرضيات، وبظهور نظريات جديدة تتعاقب وتتغير، لكنها في نهاية المطاف تخدم الإنسان من حيث كونه إنسانا عاقلا، يسبر أغوار اللامعقول للبحث عن الموجود المعقول، في عتمة التغيرات ودجى الأفكار.

البيبليوغرافيا المعتمدة:

  1. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1300هـ – 1936م.
  2. محمد فريد وجدي: دائرة معارف القرن العشرين، دار الفكر، بيروت- لبنان، ط3، 1971م، م10.
  3. عبد الرحمان بدوي، ربيع الفكر اليوناني، مكتبة النهضة المصرية-القاهرة، الطبعة الثالثة،1942م.
  4. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1300هـ – 1936م.
  5. فريديريك نيتشه، مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد، دار الحوار للنشر والتوزيع ، ط1.
  6. تاريخ الأدب العربي، مجموعة من الأساتذة المختصين، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر-دمشق، ج1.
  7. الدكتور مصطفى النشار، نظرية الفلسفة عند أرسطو ، دار المعارف للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة الطبعة الثالثة، 1995.
  8. الدكتورة أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 1998 طبعة جديدة.

الهوامش:


[1]– يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1300هـ – 1936م، ص1.

[2]– محمد فريد وجدي: دائرة معارف القرن العشرين، دار الفكر، بيروت- لبنان، ط3، 1971م، م10، ص:1051.

[3]– يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص7-8.

[4]– عبد الرحمان بدوي، ربيع الفكر اليوناني، مكتبة النهضة المصرية-القاهرة، الطبعة الثالثة،1942م، ص167.

[5]– نفس المرجع السابق، ص167-168.

[6]– نفس المرجع السابق، ص170.

[7]– عبد الرحمان بدوي، ربيع الفكر اليوناني، مرجع سابق، ص171.

[8]– نفس المرجع السابق والصفحة.

[9]– نفسه.

[10]– نفس المرجع السابق، ص172.

[11] -نفسه.

[12]– يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، عن لجنة التأليف والترجمو والنشر، 1300هـ – 1936م، ص58.

[13]– نفس المرجع السابق والصفحة.

[14]– نفسه، ص59.

[15]– نفس المرجع السابق، ص63.

[16]– عبد الرحمان بدوي، ربيع الفكر اليوناني، مرجع سابق، ص165.

[17] – فريديريك نيتشه، مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد، دار الحوار للنشر والتوزيع ، ط1، ص167

[18] تاريخ الأدب العربي، مجموعة من الأساتذة المختصين، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر-دمشق، ج1، ص 39

[19]– الدكتور مصطفى النشار، نظرية الفلسفة عند أرسطو ، دار المعارف للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة الطبعة الثالثة، 1995، ص:58.

[20]-الدكتورة أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 1998 طبعة جديدة، ص:78