الشعر العربي في الهند بين الإبداع والمحاكاة 

د.عبد الماجد القاضي  

يتضمن هذا البحث ثلاث وحدات تربط بين أجزاء الموضوع بسلك من المنطقية التي تؤدي إلى نتائج، وهي:

1- ما هوالشعر

2- مدى إمكانية الشعر العربي في الهند

3- تحليل ظاهرة الشعر العربي في الهند

ما هوالشعر

شغل الشعر بال النقاد منذ القديم وجذب انتباههم تأثيره القوي وجماله الأخاذ واحتاروا في تعريفه وتحليله، وتعليل أسباب قوته وتأثيره النافذ إلى أعماق النفس البشرية، ودهشوا بسحره عبر مبانيه الصوتية القليلة، وإمكانياتها المعنوية الهائلة، فهو يمتع الأسماع ويثير الوجدان ويدق على أبواب القلب. وانطلقت قرائحهم في البحث عن أسراره، وذوبوا مهجهم لاستكشاف أسباب الطاقة الكامنة في الوحدات الصوتية التي تختزن الروعة الموسيقية والمعاني الجميلة. وقد عرفه قدامة جعفر بأنه “قول موزون مقفى يدل على معنى”[1]

وعرفه ابن رشيق فقال: إنه مكون من أربعة أشياء، وهي اللفظ والوزن والمعنى والقافية” واشترط النية كذلك[2]

إن معظم تعريفات الشعر قاصرة عن الإحاطة بحقيقته الموضوعية واستأثرت الهيكلة الصوتية بعنايتها ومن ثم اقتنعت بالقشور دون النفوذ إلى اللباب ولذلك هي تمثل وجهة نظر العروضيين فقط.

ولعله من أجل الشعور بصعوبة التعريف المنطقي الجامع أن غالبية النقاد أحجمت عن الخوض في هذا المجال الشائك، ولذلك مالوا إلى تعداد صفاته وميزاته. بينما نجد أدباء الغرب يحومون أقرب إلى حمى الشعر في وصفهم له، حيث تتجلى فيه أواصره القريبة مع الشعور، فيقول ملتن: يجب أن يكون الشعر ” بسيطا شعوريا ومؤثرا” وعرفه الشاعروردورث:”إنه الحقيقة التي تصل إلى القلب رائعة بواسطة العاطفة” كما يقول رسكن:” إنه عرض البواعث النبيلة للعواطف النبيلة بوساطة الخيال” وعرفه إمرسن بقوله: ” هو المحاولة الخالدة للتعبير عن روح الأشياء”، ويتضح لنا من دراسة هذه التعريفات شمولها للفنون الجميلة الأخرى، وعدم اختصاصها بالشعر. وقد حاول ستدمان جمع عناصر الشعر ومقوماته في تعريفه للشعر، حيث قال:” الشعر هو اللغة الخيالية الموزونة التي تعبر عن المعنى الجديد والذوق والفكرة والعاطفة وعن سر الروح البشرية”[3]، ولا يخفى علينا أن محاولته للاستيعاب أدته إلى التكرار والإطالة، فقد ذكر المعنى الجديد مع الفكرة وسر الروح البشرية وأقحم فيها كلمة الذوق كذلك.

وقد عرفه الناقد المعروف أحمد الشايب” بأنه الكلام الموزون المقفى الذي يصور العاطفة والعقل”[4] وقد يبدو أن إصراره على العقل لا طائل له، إذ أن عالم العواطف لا يخضع دائما لسلطان العقل، بل كثيرا ما تندفع العواطف في الاتجاه المعاكس له.

وقد لاحظ النقاد أن الإيقاع الموسيقي ظاهرة صوتية تلقائية تجد العواطف في موجاتها وسيلة للتنفيس، يقول أحمد الشايب: “إن الموسيقى الخالصة أدق الفنون وألصقها بتصوير العاطفة، وإثارتها معتمدة في ذلك على الألحان” ثم يقول: “وإذا كان الوزن في الشعر أبرز خواصه الصورية أولا، وكان نتيجة محتومة لتصوير العاطفة ثانيا- فمن البديهي أن تكون العاطفة أهم عناصر الشعر وأساسه الأول، والشعرإذا لم يعالج معنى عاطفيا فقد وظيفته، وخرج عن مجاله الصحيح، وإن يكن متزنا في لغته”[5]

وعلى هذا يستخلص الشايب إلى أن الوزن أو الصورة الموسيقية للشعر تغطي حاجة التعبير عن العاطفة، وغني عن البيان أن الشعر بدون العاطفة من الترف ونوع من العبث. وهناك لفتة تحليلية واعية في حديث ابن رشيق عن الشعر حيث قال: “وإنما الشعر ما أطرب وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذي وضع له وبني عليه، لا ما سواه”[6]. وقد كان تحليل سيد قطب لطبيعة الشعر ووظيفته دقيقا ومقنعا للبحث العلمي، حيث عرف الأدب بأنه “تعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية”[7]، ويرى أنه ينطبق تماما وحرفيا على الشعر دون غيره من فنون الأدب، ويقول: “الشعر ليس تعبيرا عن الحياة، وإنما هو تعبير عن اللحظات الأقوى والأملأ بالطاقة الشعورية في الحياة”[8] ويقول: ” إنه الغناء …. الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات”[9]، كما يرى أن الإيقاع الموسيقي المقسم والقافية ميزتان بارزتان للشعر العربي، لكن خاصته الجوهرية هي الروح الشعرية، إذ أن “هناك تجارب شعورية معينة تثير انفعالات شعورية خاصة لا يستنفدها إلا التعبير الشعري”[10] والشاعر خلال هذه التجارب يرتفع فوق مستوى حياته العادية ويرتفع انفعاله إلى “درجة التوهج والإشراق” وكلما كانت درجة الانفعال أقوى جاء التعبير أجود”. والتعبير الشعري وحده يكون وسيلة متكافئة “لاستنفاد الطاقة الشعورية المتضخمة”[11] في مثل هذه الحالات.

ومن الجدير بالملاحظة أن سيدا يعتبر موسيقى الشعر جزءا من دلالته فيقول: “لا يكون الإيقاع في الشعر ولا التعبير اللفظي المشعّ نافلة، فإن للإيقاع وظيفة خاصة يؤديها في استنفاد الطاقة الشعورية، وهو جزء من دلالة التعبير، كالدلالة المعنوية اللغوية، أما الصور والظلال فهي استنفاد لطاقة الحس والخيال المصاحبة للتجربة الشعورية القوية الفائضة عن التعبير اللفظي المجرد”[12]

ومن طبيعة الشعر أنه لا يقبل الفكر إذا استقل بنفسه وأثقل التعبير وأخل بالجو الشعري اللطيف وحوله من اتجاهه الوجداني إلى مخاطبة العقل جهارا وصراحة، يقول سيد قطب: ” إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غير سافر، ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبا في وهج الحس والانفعال، أو موشى بالسبحات والسرحات، ليس له أن يلج هذا العالم ساكنا باردا مجردا”[13]

ولقد أخفقت جميع المحاولات التي جعل فيها الشعر مطية للأفكار المجردة والتجارب الذهنية والتي لم تسبقها حالات غير عادية من الانفعال الطافح، لأن التعبير الشعري ظاهرة لغوية غير عادية لا تنقاد للتجارب الشعورية العادية وليس من مجالها.

خصائص الشعر

وإذا كانت طبيعة الشعر الغامضة حيرت عقول العباقرة والفلاسفة الذين يعدون من أذكى أذكياء العالم من أمثال ابن خلدون ونقاد الأدب الآخرين، وصعب عليهم النفوذ إلى جوهره في تحليلهم له، فما ظنك بالمثقفين من المستوى العادي أو فوقه شيئا ما أو دونه قليلا، ما عسى أن يدركوا كنهه ويسبروا أغواره. لقد أسيء فهمه على نطاق واسع، واعتقد كثير منهم أنه عبارة عن كلام موزون مقفى وكفى، وليست له حقيقة وراء مدلول هذه الكلمات المعدودة. بينما فهم بعضهم أنه الكلام الذي حشاه صاحبه بالألفاظ الغريبة حتى أعجز القارئ عن فهمه، واضطر إلى الرجوع المتكرر إلى القواميس.

الشعر بطبيعته غير محدود، هو صورة من صور الحياة التي لا يأتي عليها الحصر، كما أنه صدى لمناجاة الطبيعة مع الحياة، وهمس مسموع للعوطف البشرية في عفويتها الصريحة، وقد لازم الإنسان عبر رحلته في فجاج التاريخ، وظلت أبواب منادمته مفتوحة لجميع طبقات البشر، ولكافة مستويات العقول. وظل ترجمانا قديرا لكمية هائلة من العواطف الإنسانية، ومن ثم سجلا حافلا بها. وإذا كانت الطبيعة مصدر إلهام الشعر ومشهد الجمال الكوني- فإن الشعر لوحة تختزل ذلك الجمال وتخزنه في قوالب من الحرف والصوت. والشعر حاجة طبيعية[14] للبشرية التواقة إلى التنفيس عن همومها، والتعبير عن أشواقها، وله دور حيوي في الحياة لأنه يخدم الحقيقة والجمال.[15]

الشعر كمايراه الشعراء

وقد تحدث الشعراء أنفسهم عن عظم شأن الشعر ورسالته ودوره في الحياة، فهو أوثق حديث وألصق تعريف لأنه من صاحب البيت الذي هو أدرى بالبيت، واعتبروه فنا محترما، واشتد الاهتمام به والتنويه بمكانته في العصر الحديث، وذلك بعد حقبة من التخلف والركود الفكري الذي منيت به فنون الأدب والتي تحول الشعر خلالها إلى مسخرة وألعوبة في أيدي العابثين. وقف الشاعر الحديث يناضل لحرمة الكلمة وإعادة اعتبارها من جديد. نجد عبد الرحمن شكري أنه يعتبر الشاعر طائرا من الفردوس، ويخاطبه في قصيدته عصفور الجنة فيقول:

ألا يا طائر الفردو               س إن الشعر وجدان

وفي شدوك شعر النف           س لا زور وبهتان

فلا تقتد بالناس                  فما في الخلق إنسان

ثم يقول:

سيبقى لك في قلبي            مودات وتحنان

فإن ملّك أحب          اب وإن عقك إخوان

وإن رابك من عيشِ             ك لوعات وأحزان

  فجرب عندها قلبي            فقلبي منك ملآن

وأسمعني من الشعر              فإنا فيه خلان

وقد سجل في هذه القصيدة إعجابه بالشعر وحبه له، كما أشار إلى أبرز ميزاته من كونه لسانا للوجدان.

وكان أحمد زكي أبو شادي في طليعة دعاة التجديد في الشعر، وإعادة مجده ودوره الأصيل في الحياة، وانتقد في قصيدته التي دبجها بعنوان “الجديد” الشعراء الذين أولو الشكل جل اهتمامهم على حساب المضمون، والذين انصب اهتمامهم في الزخرفة اللفظية معتبرين إياها قبلة غايات الفن. ورغم أنه كان يفسر موقف المذهب الرومانسي من الشعر ولا نتفق معه في كثير من الآراء، إلا أنه لم يتجاوز الحقيقة الموضوعية قيد شعرة في بيان رسالة الشعر ودوره ومصادر قوته. وقد عد في قصيدته من خصائصه الأصيلة من الجمال والتأثير والحرية والأصالة، واستيحاؤه الدائم من الطبيعة والحياة، بدأها بقوله :

أنا في اللحن لا أجاري هزاره         بل أغني جديدة أشعاره

طائر بينما يلذك إسما               عا يهز المشاعر المستثاره

ثائر يرفض الإسار فعذرا            كل حي الشعور يأبى إساره

وأعرب الشاعر عن موقفه الواعي حول ظاهرة الشعر الذي لا تنبعث داعيته من داخل نفس الشاعر، والذي لا يكون ترجمة لعواطفه الخاصة، بل يكون تلبية لدوافع خارجية، وعالج الشاعر بدرجة ملحوظة من الاستياء العبث الذي تعرض له الشعر خلال العصور الأخيرة، حينما حيل بينه وبين الحياة والطبيعة، وانقلب وسيلة في أيدي المرتزقة والمخدوعين، يقول:

أوضاهي الجنيب يعبث بالفك        ر وبالحس واللغة والإشارة

بين مدح وتهنئات وأنوا              ع جنون وسكرة ودعارة

واحتيال على الأنام وإفسا            د كأن الرباح منه الخسارة

واغتباط بباذخات من الأل          قاب في دولة له منهارة

كانت مثل هذه القصائد أصداء لانتفاضة الشعر ضد الاضطهاد والتشويه والاستهانة التي تعرض له عبر القرون الأخيرة، وتعالت الأصوات المدعمة لهذه الحركة المباركة. وقد ساند الزهاوي هذا الموقف ودعا إلى مناصرته في قصيدة له تحدث فيه عن الشعر والشاعر، وضمنها آراءه في هذا الموضوع. بدأها بالإشارة إلى الخلفية التاريخية عن انحطاط الشعر وتراجعه عن معركة الحياة، يقول:

بعد غمض نظرا             فرأى ما نكرا

وجد البيت الذي            شاده قد دثرا

ورأى البحر الذي            مده قد جزرا

حصر الشعر أنا             س غووا فانحصرا

  فقد الشعر بهم               سمعه والبصرا

      إنهم قد هضموا              الشعر حتى انتحرا

ثم يتحدث عن الشاعر الذي ينال هذه التسمية عن حق وجدارة:

لا يجلي شاعر                  لم يكن مبتكرا

شاعر العصر إذا                قال شعرا سحرا

وذكر من الشروط الأساسية لجودة الشعر الابتكار في المقام الأول وبناءه على تجربته الشعورية الصادقة، دون الاحتفال بالعواطف المفتعلة.

وقد قارنوا بين صدق التجربة الشعرية وتلقائيتها مع الظروف الموحية بالطائر وبثه همومه في تغاريده. والطائر رمز للحرية وصدق التعبير، وكذلك الشاعر الذي يتحلق في أجواء الخيال الفسيحة، ويتفاعل مع مظاهر الوجود، ويلتقط من كتاب الطبيعة مادته الفكرية، ويمارس حريته في الفكر والتعبير عن طريق الإبداع الفني، وبذلك يشق طريقه في عالم الفكر والفن. يقول الزهاوي:

هو يبني شعره               مثلما قد شعرا

كهزار قد نزا                 فوق غصن خضرا

وانثنى منقبضا              وجثا مستترا

ثم من مجثمه               هب يعطو حذرا

ثم أدنى سمعه               ثم ألقى نظرا

ثم غنى غردا                و شدا مقتدرا

وقد أسلفنا الحديث عن قصيدة شكري، وقد نادى فيها الشاعر واصفا إياه بطائر الفردوس وعصفور الجنة. وكذلك لاحظنا عند أبي شادي أنه شبه الشاعر بالطائر في قوله:

طائر بينما يهزك إسما       عا يهز المشاعر المستثارة

وإذا رجعنا إلى محيط الشعر الأردي نجد إقبالا ير مز للشاعر بالبلبل.

مدى إمكانية الشعر العربي في الهند

إن دراسة ظاهرة الشعر العربي في الهند تطرح أمامنا عديدا من الأسئلة الحرجة، وليس من الميسور إهمالها أو تجاهلها ما دمنا ملتزمين بالموضوعية في تقدير النصوص وتحليلها. السؤال الأول والأخطر بطبيعة الحال هو: هل يمكن للعجم وللهنود بالأخص أن يقرضوا الشعر باللغة العربية؟ ويتسم هذا الشعر بالأصالة والفنية التي تؤهله لتسميته بالشعر العربي، أي أن يكون شعرا ويكون عربيا كذلك؟ ويؤسفنا أن إجابتنا على هذا السؤال هي نفي شبه مؤكد في ضوء التجربة التطبيقية من خلال تراث النظم العربي في الهند. ولو أنا من الناحية النظرية لا نعد هذه الإمكانية من باب المستحيل. ولسنا مسؤلين عما يكنه المستقبل في ضميره، إلا أن الماضي كتاب مفتوح لمن درس واعتبر.

وهذا لا يعني الاستهانة بدور الهنود في إثراء اللغة العربية وخدمتها، ولا يعني كذلك تجاهل تلك المكانة المرموقة التي يتبؤها عدد كبير من الهنود الأفذاذ في علوم اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية الأخرى، والتي اعترف بها العالم العربي نفسه من الخليج إلى المحيط.

إن الشعر إبداع, وهي قضية مختلفة تماما لا تقاس إلا على نفسها، فلها طبيعة خاصة ولها شروط صارمة تفرضها طبيعتها، وترجع معظمها إلى العوامل النفسية والتربوية والأحيائية والاجتماعية المعقدة والتي بأدوارها المنوطة بها في انسجام وعفوية. واللغة كأداة للتفاهم وسيط غير متكافئ للتعبير عن العواطف لأنها أصلا لم توضع لهذه الغاية. وإنما يقتصر عملها الوظيفي في التعبير عن العلوم. والشاعر عندما يبث عواطفه في قوالب التعبير اللغوي فإن ذلك يكون بثا غير مباشر، لأن اللغة هنا تكون ترجمة عن العواطف، وهي بدورها تخاطب الوجدان، بينما اللغة العادية تخاطب العقل. وكثيرا ما يخفق الفنان في هذه الترجمة لأنها تتطلب الإبداع في الاستخدام اللغوي، ولا يغربن عن البال أن هذا الحديث كله بالنسبة للغة الأم.

والشعر يمثل ظاهرة تعبير غير عادي في منشأه ومنتهاه، فهو يحول اللغة من وسيلة عادية إلى قطع موسيقية متناغمة، ويخزنها بطاقة معنوية من العواطف التي تسري فيها سريان الروح في الجسم. ولنحاول فهم هذه القضية في سياقها الصحيح. إن شاعرنا عائش في بيئته اللغوية في الهند، وليست العربية لغته الأم وإنما اكتسبها بجهد وكد عن طريق التربية والتلقين. وقد أجادها وبرع فيها، لكن لغة التفكير والتعبير هي لغته الأم. فإذا حاول القريض بالعربية فإنها تكون ترجمة عن الترجمة، لأنه يترجم عن عواطفه إلى لغته الأم التي يتفكر فيها ويتصور بها المفاهيم، ثم يترجمها إلى العربية، وكثيرا ما تتشوه صورة المعاني وتضعف قوة العواطف بهذه العملية الطويلة التي تكثر فيها الوسائط وتضيع فيها صورة الانفعال التلقائية. فاللغة لا تصلح أن تكون وسيلة للتعبير الشعري مالم تكن لغة الوعي واللاوعي، واللغة التي تسجل الأحاسيس والتي تسمع دقات القلب وترافقها وتخالطها وتعبر عنها.

إن عملية الإبداع الشعري تجعل اللغة تنصهر في بوتقة العواطف، وتنطبع بها وتتشكل بأقدارها وأحجامها، وبها تكتسب هوية جديدة تكتب لها الخلود. والشاعر الهندي لا بد أن يقف موقف المتأدب في حرم اللغة العربية، ثم يتصرف فيها في إطار من الحيطة والحذر، وبمراعاة لقواعدها الصارمة، فلذلك لن تلين له اللغة العربية، ولن تستطيع عواطفه تطويعها وإذابتها لتتقولب بها، ولن يستطيع ممارسة الحرية الإبداعية التي تجعل من اللغة وسيلة مرنة تعمل حسب هواه في نقل المشاعر والأفكار. ولن تكون لغة الشعرغير اللغة التي تتغلغل في أعماق نفس الشاعر وتخامر عقله وشعوره، والتي يناجي بها نفسه، والتي يعد بها ويسب بها والتي تكمن فيها جوهر هويته، والتي تخزن ذكريات طفولته وتعكس أماني شبابه وغايات مستقبله.

واللغة لها دور عملاق في التجربة الشعرية، لأنها وسيلة للبلوغ إلى الغاية، وهي في الوقت ذاته تتحول إلى جزء من الغاية إذا ما أوصلت إلى الغاية ، لتلاحم قيم الجمال فيها. ومن الصعوبة بمكان مراعاة الاتزان وتفادي الشطط في إبقاء اللغة على صفتيها كوسيلة وجزء من الغاية. ولكن وظيفة اللغة تختلف تماما خارج سياق الأدب، إذ أنها وسيلة لا غير في مجال العلوم والحياة.

وهناك بعد تاريخي واجتماعي لدراسة ظاهرة الشعر العربي في الهند بالمقارنة إلى الشعر الفارسي فيها. فقد كانت الفارسية لغة رسمية وإدارية لقرون عديدة في الهند، كما أنها كانت لغة الثقافة والشعر والأدب، وتوثقت أواصر قرباها مع لغات الهند المحلية، وكانت أنماط التفكير والتعبير في اللغات الهندية والفارسية متماثلة لانتمائها جميعا إلى فصيلة اللغات الهندية الأوربية. وكانت لها جذور ضاربة في أعماق الأرض الهندية، ولذلك أنجبت الهند عددا ملحوظا من شعراء اللغة الفارسية الذين تلمع أسماؤهم على خارطة الشعر الفارسي من أمثال أمير خسرو وميرزا عبد القادر بيدل وفيضي وميرزا غالب وإقبال في نهاية المطاف. أما اللغة العربية فإنها كانت لغة الدين والعلوم والفكر ولم يتعد نفوذها خارج إطار العلوم فلذلك لم تتح لها فرصة التداول والتدخل في شؤون الحياة. واللغة التي لا تكتسب مكانة لغة الحياة وتبقى بمعزل عنها لا تصبح لغة الشعر والعاطفة، ومن ثم جاءت نتائج التجارب الشعرية في اللغتين متباينتين جملة وتفصيلا.

وقد يغتر بعضنا ويقول : إذا لم يكن شعر الهنود من ذاك الطراز الجيد فلماذا لم تحذفه الأجيال المتتالية من ذاكرتها؟ وكيف استطاع البقاء في وجه عواصف الفناء؟ أولم يثبت صلاحه وجدواه حسب السنة الكونية أن البقاء للأصلح؟.

نعم، هو باق في صفحات الدواوين التي تراكم عليها الغبار واصفرت أوراقها، والمطبوع منها في عداد المخطوط لعدم تداولها في عالم الأدب، ولم تتلق عناية القراء والدارسين والباحثين، اللهم إلا الباحثين الهنود الذين يرجعون إليها لإعداد الأطروحات الجامعية، ويبذلون قصارى جهودهم لإثبات منزلة سامية لها، ليتسنى لهم تبرير اختيار الموضوع أولا، والبرهنة على تواجد رصيد ضخم من تراث الشعر العربي في الهند ثانيا، وهي بالذات حاجة في نفس يعقوب فيما يخص الجهات المعنية. وهذه الظاهرة لا تمثل الوعي الموضوعي في مواقفنا العلمية مع هذا التراث.

آن الأوان لإعادة النظر والدراسة والبحث في تراث اللغة العربية في الهند، وتحليله الموضوعي وتقييمه المنصف، بعد أن كثرت الدراسات السردية التي اتخذت منهج المجاملة والمبالغة. ولقد جاوزنا مرحلة الاستطلاع والدراسة الأولى التي اتسمت بمواقف الحيرة والاندهاش على إسهامات الهنود في اللغة العربية وآدابها، وشغفهم بها وإجادتهم لها على الرغم من البعد الجغرافي عن بلاد العروبة، وضآلة المردود الاقتصادي أو الحوافز المادية في متابعة الاهتمام باللغة العربية عبر العصور. وكان مبعث إعجاب كثير من الباحثين هو استعصاء هذه الظاهرة على منطق الجدوى المادية، وتضمنها رباطا روحيا مقدسا يستسهل المتاعب والعقبات في سبيل تعلم اللغة العربية والتقدم في مجال ثقافتها.

والشعر الجيد كالزهرة الزاهية الفواحة تبصرها العيون وتشمها الأنوف مهما كانت خافية في أوراق الغصون. وكما أن جمال الطبيعة يلفت إليه حاساتنا بالبداهة البادية، من أجل الميثاق الأزلي بين الروح والجمال- فكذلك الشعر لا يحتاج إلى تلقين أو وساطة أو سمسرة ودعاية، لأنه إذا كان تمثيلا لظاهرة جمالية تهفو إليه الروح تواقة مشتاقة. وإذا لم يكن الأمر كذلك ترتد على أعقابها نافرة عاتبة.

هناك قائمة طويلة لشعراء اللغة العربية في الهند عبر العصور، وقد تفاوتت نوعية انتاجهم الشعري من ناحية الكمية والكيفية. ونجد أغلبيتهم من علماء الدين الذين عكفوا على البحث والدراسة والتأليف في مجال العلوم الإسلامية، وكانوا يزاولون النشاط الشعري أحيانا على هامش أنشطتهم العلمية والتدريسية. وهناك شعراء شبه محترفين لهم دواوين واشتهروا بصفتهم شعراء وادعوا أنهم رجال هذا المجال منهم الشيخ عبد المقتدر والشيخ باقر آكاه وآخرون. ويعد مولانا غلام علي آزاد البلكرامي أكبرهم وأشهرهم وقد لقب بحسان الهند لدواوينه العديدة في المديح النبوي.

وقد اخترناه نموذجا لهذه الدراسة وقمنا بالتركيز على مجموعة دواوينه السبع التي سماها “مظهر البركات”. وقد ذكر آزاد الظروف التي لابسته خلال تأليفه هذه المجموعة، فيقول: “وجاء ابن ابنه السيد أمير حيدر بن السيد نور الحسين حسب طلبه من بلكرام إلى أورنقاباد، وكلف جده أن ينظم ديوانا مردّفا على طريقة شعراء الفرس”[16].

هذا النص يدل بصراحة على الدافع الذي حفزه على تأليف هذا الديوان، كما يتضمن دلالات حول فهمه لوظيفة الفن، إذ أنه لم يمسك بقلمه تلبية لنداء منبعث من قلبه، أو مدفوعا بمبدأ خامر لبه وجاش به صدره، وإنما وقف موقف الجد العطوف الذي يستسلم أمام رغبة حفيده المدلل- والذي لا تكفيه قصيدة أو قصيدتان بل لا يرضيه إلا ديوان كامل لأنه زبون الأدب بالجملة.

وقد حدد الزبون المواصفات الصناعية، واشترط عليه نوعية المنتج المطلوب بأن يكون مردّفا على طريقة شعراء اللغة الفارسية. وانطلق الجد بدوره لتحقيق هذه الأمنية الغالية ليثبت للعالم مدى حبه لحفيده أولا، ومدى قدرته على نظم القصائد بهذه السرعة الفائقة، حتى أنجز هذه المهمة الدقيقة في غضون أشهر عديدة. وللقصة بقية نسمعها من صاحبها حيث يقول: “وقد كان في خاطره أن يجعل مظهر “البركات” سبعة دفاتر، ولكنه اكتفى بأربعة منها، فكلفه ابن ابنه السيد أمير حيدر بن السيد نور الحسين أن يتم الدفاتر السبعة حسب ما أراد، فنظم الدفاتر الثلاثة البواقي في سنة ست وتسعين ومئة وألف، وكمل سبعة دفاتر”[17]

نعم، للحفيد يد من حديد يتصرف بها لضبط النوعية حسب الصيغة الجديدة، ولا يتهاون في شأن الكمية المطلوبة كذلك، ولا يترك جده ليتعلل بأي شئ من أعذار الشيخوخة أو الشواغل الأخرى، وهكذا تبدأ هذه اللعبة الجديدة في اللغة العربية بتواطؤ من الحفيد اللعوب والجد الولوع. ولم يخطر ببال امرئ القيس الملك الضليل، ولا المتنبي الحكيم، ولا المعري الفيلسوف أن يخضعوا الشعر لمثل هذه التجارب الشكلية ليبرهنوا على أنهم آخذون بناصية الشعر لأنهم عرفوا حرمته وكرامته بصفته فنا رفيعا، فتأدبوا معه، وعرفوا كذلك أن مجال الإبداع الفني أدق وأعمق بكثير من الغايات اللفظية والشكلية.

ويعرفنا آزاد بمصطلح الرديف في الشعر الفارسي فيقول: “والرديف عبارة عن كلمة مستقلة فصاعدا تتكرر بعد الروي، والشعر المشتمل عليه يسمى مردّفا من الترديف، وهو يزيد الأشعار جمالا، يلبس بنات الأفكار خلخالا، وبه يتنوع الشعر الفارسي على أنواع لا تحصى وأقسام لا تتناهى”[18]، وذكر قصيدة له كنموذج للشعر المردف، ومن أبياتها:

يتمخض العشاق في نار الهوى       لب السبيكة في الصلاء يلوح

أخذ الفراش عن السراج صباعه           نور البقاء من الفناء يلوح

قصدت ظباء النجد أن يقتلننا         أسلوبهن من الهواء يلوح

سيصير ترب النجد أحمر من دمي         تصميمهن على الجفاء يلوح

الخوف من طرز الخرائد واجب      شنآنهن من الولاء يلوح

ثم يقول:

ظلمت سعاد ولا غياث يغيثنا        إنصافنا صبح الجزاء يلوح

غدارة تبكي على مقتولها                أثر السرور من البكاء يلوح

آزاد عبد يا أميمة فائق           ووفاؤه بعد الشراء يلوح[19]

قد يستغرب القراء المعاصرون ويقول قائلهم: ما بال هذا الرجل الهندي – في الربع الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي- يشكو من ظباء نجد ، ويعرب خوفه من القتل على أيديهن، بل إنه يتكهن بصفة جازمة أن تربة نجد ستتضرج بدمائه وأنها خطة مدروسة ستنفذ عما قريب. والله يعلم أن ظباء نجد بريئة من هذه التهمة براءة الذئب من دم يوسف، حسب ما يقول العرب. ما بال هذا العاشق الذي يتقمص بهويات شعراء نجد ويغازل عشيقاتهم، ثم يقتل على أيديهن في جولة خيالية تائهة. ألم تكن أرض الله واسعة للعاشق الهيمان فيتفكر في التربة التي هو منها فيتحلق في أجوائها – وكيف ضاقت له أرض الهند بما رحبت، وكيف تجمدت ينابيع خياله وألجأته إلى المحاكاة السافرة والتقليد البليد، وبذلك حول التجربة الفنية إلى مهزلة ساخرة.

زد إلى هذا أنه يغازل سعادا فيقول:

ظلمت سعاد ولا غياث يغيثنا        إنصافنا صبح الجزاء يلوح

وفي هذه القصيدة نفسها يغازل “أميمة” فيقول:

آزاد عبد يا أميمة فائق              ووفاؤه بعد الشراء يلوح

وبذلك يبدو عاشقا محترفا تتسنى له مغازلة عشيقات متعددة وبصفة متزامنة، وهذه الظاهرة بمنتهى السخف، وليس من الميسور تبريرها. نحن هنا أمام احتمالين في تحليل هذه الظاهرة، أحلاهما مر، وذلك لأننا إذا افترضنا أن حديث حبه نابع عن التزام عاطفي مع أهداف متعددة بانت لنا شخصيته صورة للانحلال الخلقي الذي لا يرضاه قانون ولا يقبله مجتمع. وأما إذا احتملنا أنه يمثل دورا مزورا، ويفتعل عواطف الحب الزائفة، ويشبب بأسماء النساء اللاتي خلدهن الشعر العربي بغية محاكاة للشعراء العرب، ويبدو أنه أرجح الاحتمالين، إلا أنه يجعله عرضة لتهمة العبث.

وكلما ازددنا معرفة بمحتوى دواوينه التي جمعها في “مظهر البركات” ازدادت حيرتنا على ذلك التعب الذي تجشمه في متابعة البهرجة الشكلية وتنميق الهيكل اللفظي، وقد أجهد نفسه في زخرفة شعره حسب الذوق العجمي حتى أخرجه من صبغته العربية، وإليكم نموذج من هذه الممارسة التي يعرفنا بها فيقول: “ثم نظم سنة إحدى وتسعين ومئة وألف ديوان “المستزاد” وسماه “لا نظير” وهو تاريخ نظمه أيضا، وأثبت هنا شيئا من المستزاد تشحيذا لطبائع النقاد، قال آزاد سلمه الله تعالى:

لا أطلب من غصون روض الورعا             قطف الثمرات

بل أطلب من سماع صوت الورقاء          سفح العبرات

أستعطف ناظرا أستأذنه                         أن أجلس قدر طرفة بالغناء تحت الأثلات

أطوي طول الزمان في زاوية              والعين تفيض في فراق البيضاء

                                                                 حمر القطرات

قد أخبرني مسافر عاين أن               ألقت سلمى ذبيحها في الصحراء

                                                    بين التلعات

ومن عادته إقحام لقبه الشعري “آزاد” في الأبيات الأخيرة من قصائده حسب تقليد شعراء الفارسية والأردية، يقول:

آزاد كلامه لكم تبصرة     راقت روح الأمين فوق الخضراء

                                                   هذي الكلمات [20]

وهكذا يتجلى تشبثه بمظاهر القالب اللفظي، وعنايته المفرطة بها على حساب المضمون والدلالات الشعورية. وقد برهن التاريخ أن ذوق الشعر العربي لم يستسغ هذه التمارين البنيوية المتعسفة، واطرحت مثل هذه التجارب في ذبالة التاريخ.

وقد كان آزاد البلكرامي مزدوج الثقافة في دراسته وممارسة انتاجاته الفنية، فكان يقرض الشعر بالفارسية والعربية، وكان لديه إلمام بتقاليد الشعر الموروثة في كلا المحيطين اللغويين. ورغم أن دراسة الأدب تخضع لاعتبارات ظروف الزمان والمكان اللذين يمثلهما حسب الحكمة السائرة التي تقول إن الأشياء مرهونة بأوقاتها، فإن الأدب الذي يقوم بإنشائه أديب مزدوج الثقافة – يمثل ظاهرة فريدة من نوعها، لأنه يظل متنقلا بين ثقافة لغتين خلال نشاطه الفني، ويمارس الانتاج بلغتين وبذلك يتبوأ مكانة خاصة تؤهله للتطلع إلى مشاهد الإبداع عبر آفاق اللغات، ومن ثم تخوله للاقتباس من محيط أدب اللغتين. ومن المفترض أن تتوسع آفاقه الفنية وتتجلى آثارها في انتاجاته الأدبية. وقد شهد تاريخ الأدب أمثلة فذة من أدباء الثقافتين من أمثال عبد الله بن المقفع.

ويلاحظ على البلكرامي أنه أخفق في التجسير الواعي والهادف بين تياري الثقافتين. واسمحوا لي أن أقول إن جنايته على الشعر العربي أنه اكتفى بنقل المعاني السقيمة والمنبوذة من شعر الغزل الفارسي إلى الشعر العربي، فانحطت هذه التجربة الفنية إلى نوع من السخرية الهازلة، بيد أن الشعر الفارسي يمثل أروع تقاليد الفن وأثراها على النطاق العالمي. ومن أمثلة تلك المعاني المبتذلة شكواه من عشيقته بالغدر والعداء، وتنفيها خطة قتله، وقد أسلفنا الحديث عن قصيدته المردفة تضمنت بيتيه التاليتين:

ظلمت سعاد ولا غياث يغيثنا        إنصافنا صبح الجزاء يلوح

غدارة تبكي على مقتولها            أثر السرور من البكاء يلوح

كما يقول في هذه القصيدة التي وصفها ب”المستزاد”

قد أخبرني مسافر عاين أن      لقت سلمى ذبيحها في الصحراء بين التلعات

نعم، جازت الخطة ونفذت الجريمة، وقد أفاد بذلك مصدر موثوق وهو شاهد عين أن سلمى دعت عاشقها إلى مكان بعيد خارج المدينة وذبحته، ثم نقلت جثته إلى الصحراء وألقتها في مكان مختف عن الأنظار بين الجبال. وهذه المعاني معادة مئات المرات في الشعر الفارسي والأردي وهي في الحقيقة تستحق أن توصف بكونها مطروحة في الطريق على حد قول الجاحظ.

ومن تجارب تعديله في القالب الشعري ما سماه ب”القصيدة الجامعة بين المستزاد والرديف” وقدمها نموذجا لهذا النوع المستورد من الشعر الفارسي، يقول:

لا أترك من أوقعني في الألم         مقصوري أن أموت تحت القدم الله الله

من يهو يجب أن يرى ميتته         روح العشاق في فضاء العدم الله الله

آزاد يضاهي عربا عاربة            من يبلغه من شعراء العجم الله الله[21]

ويستمر في نظم القريض حسب خطته المرسومة على هذه الشاكلة من العناية المفرطة بالمحسنات اللفظية، وإهمال القيم الشعورية التي تحل من الهيكل اللفظي محل الروح من الجسد.

وإذا قمنا بتحليل نفسيته في ضوء آرائه ووصفه لنفسه من جانب، ولاحظنا صلته بالتصوف- على الصعيد الآخر- بان لنا التناقض الفاضح بين ما يقول وما يعمل. وأول ما نفاجأ به خلال دراسة آثاره هو إعجابه بنفسه بقدر أكثر من اللازم، وقد مر بنا بيته الذي يقول فيه:

آزاد يضاهي عربا عاربة      من يبلغه من شعراء العجم الله الله

كما يقول في بيت آخر:

قول آزاد كله محمود         ليس في نظمه سوى المقصود[22]

ارتفعت هنا نبرة اعتزازه بالنفس إلى مستوى ملحوظ، وهنا تكمن مخاطر جمة لأن الفوارق الفاصلة بين الاعتداد بالنفس والكبر قد لا تتضح للقراء والمتلقين. ومن العيب أن يتعالى الفنان ويفاخر جهارا ثم يدعي لنفسه مكانة روحية في دنيا التصوف.

وكثيرا ما يلفت انتباهنا، بادعاء الأولية في مجالات عديدة، منها قوله:

“ثم نظم سنة اثنتين وتسعين ومئة وألف الديوان السادس، وفيه الترجيع الذي هو نوع من الشعر، أنشأه في نهاية من الرقة ولم ينظم الترجيع العربي قبله أحد من الشعراء”[23]، ويتحدث عن ديوانه فيقول: “ولم يتفق لأحد من شعراء العرب والمقلدين لهم من شعراء العجم مزدوجة على هذه الكيفية”، ثم يقول: “وما سمع قط من أهل الهند من يكون له ديوان عربي، ومن يكون له شعر عربي على هذه الحالة”، وذكر حول مكانته في المديح النبوي قائلا: “وحسان الهند (يعني نفسه) مدح النبي صلى الله عليه وسلم في الدواوين السبعة، وأوجد في مدحه معاني كثيرة نادرة لم يتيسر مثلها لأحد من الشعراء المفلقين، وأبدع في قصائده المدحية مخالص لم يبلغ مداها فرد من الفصحاء المتشدقين”[24].

وإذا قرأنا هذه العبارات التي تحدث فيها عن خصائص دواوينه وعدده، وبالتالي قرأنا دواوينه كذلك، أمكن لنا استخلاص رؤيته في فن الشعر، وهي بكل بساطة تدور حول الصورة اللفظية، وترى فيها مزية المزايا. واتضح لنا كذلك شعوره بمكانته المتفردة في الشعر وعلو كعبه فيه. ورغم أنه شغل نفسه وسخر كافة مواهبه في الزخرفة الشكلية، فإنه يعد نفسه ذا مكانة رفيعة في إبداع المعاني النادرة التي لا تتأتى مثلها لكبار الشعراء. ويقول حول خصائص شعره في الغزل: “وله في التغزل طور خاص قلما يوجد في كلام غيره، يعرفه أصحاب الفن”[25].

ولا شك أن له شأنا في الغزل، ولكن غزله أشبه شيئ بالوصف، وتتجلى براعته في رسم صورة الأنثى بكافة التفاصيل البنيوية، وإليكم نموذج منه:

صدغها اللام وهي لاستغراق        تلك قيد لجملة العشاق

حاجب فوق أعين كسلى            طاق دار الشفاء للمرضى

ثديها المستدير رمان                لارتفاع الجمال برهان

أخذ الخصر رقة العشاق            هو والله موضع الإشفاق

يا لعجزاء ربة الثقل                 رمت العاشقين بالجبل

إنما الغصن مفرح الأطيار           مقلق القلب قده الخطار[26]

ومما يستدل به على تفوقه في وصف الجمال الأنثوي قصيدته بعنوان “مرآة الجمال” وهي تتضمن مئة وخمسة أبيات، وصف فيها أعضاء المرأة من الرأس إلى القدم بصفة دقيقة وأخاذة ثم شرحها شرحا ضافيا.

وقد يؤخذ عليه أن حديثه عن المرأة لا يتعدى حدود الجسد، وأن وصفه لها إنما ينحصر في الجانب الحسي والمادي من الكينونة الأنثوية مع أن للجمال دلالات أدق ومعاني أشد إيغالا في دواخل النفس، فلذلك يبدو فهمه لهذا الموضوع سطحيا وحائما حول المتعة المادية الغريزية. وإذا رجعنا من هذا الوصف الذي يشبه التصوير الإشعاعي عبر النظرات المخترقة للأستار، وحاولنا العثور على معالجة معاني الغزل من مشاعر الحب الرقيقة لم نجد لها أي أثر في شعره، لأن شخصية المرأة عنده تتشكل من عنصرين: هما الجمال الفاتن والجفوة والعداء مقابل الحب والوفاء. وقد أكثر من وصفه لجمال النساء في قصائد كثيرة، وتفنن فيها، وأطال فيها النفس، أما المحاسن المعنوية من الأخلاق النبيلة فينفيها عنهن ويصر على غدرهن. ومما يؤخذ عليه أنه لم يتحشم في وصف جسد الأنثى ولم يتوقف عند حد حتى وصف سرتها كذلك فقال:

سرة في نهاية الفيحان        موضع المسك سرة الغزلان[27]

وهناك شبه عجيب بين شعره وبين وصفه للنساء حيث أن هناك تركيز على الظاهر في كليهما. ولعل مرجع ذلك إلى أن رؤيته للفن قاصرة عن استيعاب مكانته ورسالته ودوره في الحياة، أي أن الفن عنده لم يرتق إلى مستوى الفن الجميل، ولذلك لم يتجاوز حدود النفعية المادية، ومن ثم نجده يتصرف في آفاق ضيقة محدودة، وهو مقتنع نفسيا وعقليا بالتحلق في هذه الأجواء.

ويمكن أن نتناول هذه القضية الفنية والنفسية من المنظور الاجتماعي، آخذين باعتبار وقائع المجتمع التي تمثله البلكرامي، فنرى أنه كان ينتمي إلى طبقة علماء الدين والمتصوفين، وهذه الطبقة تحرص كل الحرص على محافظة على التصور المنوط بها من الالتزام ونزاهة الذيل، وقد يعتبر من التناقض الخطير في ذلك المجتمع أن يقرض الشاعر “المولوي” قصيدة في الغزل بمعنى الكلمة، أي كونه تعبيرا عن عواطف الحب بالصورة الحقيقية، وتسجيلا لتباريح الصبابة الواقعية- لأن مكانته الدينية والروحية لن تسمح له بذلك. وإن الوازع الديني عينا ساهرة تحرس نوازع الشوق وتكبحها. وإن نظام القيم الخاصة الذي فرضه المجتمع على هذه الطبقة – وبتعبير آخر قبلته هذه الطبقة وألزمت به نفسها عن طواعية – إن هذا النظام لم يسمح بتحقق ظاهرة الغزل المادي في أوساط هذه الطبقة. ولكن هذا النظام تسامح في إبقاء الغزل كنوع من الترف العقلي، وجاز للعلماء ممارسته وإشباع رغباتهم بالحيل اللفظية، الفارغة من المعاني والعواطف. وهكذا أسهمت هذه العوامل الاجتماعية في نشأة الهزل مكان الغزل.

ويذكر من ميزات البلكرامي أنه يرجع إليه الفضل في استنباط سبعة وثلاثين ضربا من البدائع التي لم يهتد إليها أحد قبله واستخدمها في شعره[28]. ولا شك أن ذلك كان مجاله وكان دقيق الملاحظة في علم البلاغة.

وقد تجذب انتباهنا ظاهرة أخرى، والتي هي من رواسب عصور التخلف، ألا وهي: تتبعه للكلمات الغريبة واختياره لها، نرى من ذلك تفضيله كلمة مزبر على القلم، يقول:

يكتب النقل مزبر الناظم             من أكول لبطنه خادم[29]

وهو مولع بالكلمات غير الشعرية، ويصر على إدراجها في نظمه، منها “كارع” بمعنى شارب في بيته:

إنني من عصابة الشعراء            كارع من مناهل العرباء[30]

ومن ذلك أيضا كلمة “العيطموس” أي المرأة الجميلة، ويكثر من استخدامها، يقول:

كانت العيطموس تعشقه      في أشد الغرام ترمقه[31]

والأمثلة كثيرة على العجمة التي تلازم شعره من ذلك قوله في المديح النبوي:

يهدي إلى “آزاده” وغلامه         أرج العقيق مع الشمال محمد[32]

وإذا كان البلكرامي متساهلا في هذه النواحي الفنية الهامة فإنه على الصعيد الآخر كان متعنتا في نقد الآخرين. وارتفعت معنوياته في مجال الشعر والأدب فوق المستوى المعقول، ولقد سولت له نفسه أن يتتبع شعر المتنبي وينبه القراء على أخطائه المزعومة. ثم نصب نفسه أستاذا للمتنبي وقام بتصويب تلك الأخطاء، وألف في ذلك كتابه “شفاء العليل”، وفي سياق حديثه عن هذا الكتاب يقول: “وهذه الرسالة الفائقة دالة على علو طبيعته ورشاقة صنيعته”[33]، ولا يوافق معه محقق كتابه د. محمد فضل الدين ويحمل “علو طبيعته” على إعجابه بنفسه، ويعتبر ملاحظاته النقدية نابعة عن عجمته وخطئه في تقدير الفن، ولا شك أنه رأي وجيه، يقول: “ويعلم من يراه أنه كل ما أصلح فيه بزعمه أفسده بتمامه”[34] .

خصائص شعر البلكرامي

أول ما يصادفه الدارس في آثاره أن شعره راكد لا يمثل الحياة ولا يعبر عنها، بل يبدو امتدادا طبيعيا لعصور التخلف من بلاد العروبة إلى شبه القارة الهندية وبزيادة عنصر العجمة المتأصلة فيها.

وتتلخص هذه الظاهرة الشعرية في محاكاة في المعاني وعبث في الشكل، وهي بمجموعها دولة منهارة من القوافي، وأطلال دارسة من القوالب الصوتية الموزونة. فالشعر كالكائن الحي له جسد وروح، المقاطع الموسيقية جسده والعاطفة الصادقة روحه، وإذا تجرد عن الروح لم يبق شعرا مهما كان شكله موزونا. والفرق بين الشعر الحقيقي والشعر المختلق هو الفرق بعينه “بين الصورة والحقيقة وبين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة”[35]. وإن صلة الشعر بالحياة وثيقة جدا، وتنحصر حياة الشعر في درجة هذه الصلة قوة وضعفا ويتحقق بينهما إسهام متبادل.

وانطلاقا من تعريف الشعر التقليدي بأنه كلام موزون مقفى كثر النظامون والمتشاعرون الذين تكلفوا المواقف وعبروا عن العواطف المفتعلة الزائفة. بينما الشاعر الحقيقي يلبي نداء ضميره عندما يسجل ثمار قريحته الوقادة ويودعها صفحات القرطاس بدافع داخلي ملح[36].

إن الباحث في آثار البلكرامي لا بد أن يعترف بمقدرته اللغوية الواسعة، وتضلعه من علومها وتعمقه فيها واهتمامه بمواضيع متنوعة من التاريخ والتصوف والأخلاق وما إلى ذلك. غير أن معالجته للأحداث التاريخية تتطلب المراجعة والتثبت لأنه لم يراع الدقة والواقعية فيها.

وقد ركزت هذه الدراسة على كتاب “مظهر البركات” الذي حشاه المؤلف بحكايات بعضها من الأساطير والخرافات التي يتناقلها الغفل ولا يقبلها العقل، وكان دوره فيه كحاطب الليل الذي يجمع كل ما تقع عليه يده.ثم إن معظم هذه الحكايات لا تتضح معانيها وأهدافها، فكثيرا ما تنتهي الحكاية ويبقى القارئ في حيرة من أمره في استخراج مغزاها. وتمثل حكاياته ذوق الشعر الفارسي وأساليبه على غرار كلستان وبوستان سعدي وبندنامه لفريد الدين عطار. ويمكن إدراج هذه الحكايات في الشعر التعليمي نظرا للأهداف الخلقية التي توخاها المؤلف.

الهوامش

1-قدامة بن جعفر: نقد الشعر، قسطنطينية، مطبعة الجوائب ط/    1302 ه ص 3

2-أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي، القاهرة مكتبة النهضة المصرية ط/10 1999 ص 295

3. أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي، القاهرة مكتبة النهضة المصرية ط/10 1999 ص 297- تعريفات النقاد الغربيين وملاحظاتهم حول الشعر مستفادة من كتاب الشايب.

4. أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي، القاهرة مكتبة النهضة المصرية ط/10 1999 ص 298

5.أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي، القاهرة مكتبة النهضة المصرية ط/10 1999 ص 300

6.أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي، القاهرة مكتبة النهضة المصرية ط/10 1999 ص 301

7. سيد قطب: النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الفكر العربي ،بدون تاريخ وبيانات النشر ص: 54

8. سيد قطب: النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الفكر العربي ،بدون تاريخ وبيانات النشر ص: 57

9. سيد قطب: النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الفكر العربي ،بدون تاريخ وبيانات النشر ص:58

10. سيد قطب: النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الفكر العربي ،بدون تاريخ وبيانات النشر ص: 56

11. سيد قطب: النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الفكر العربي ،بدون تاريخ وبيانات النشر ص: 56

12. المصدر السابق : ص 56-57

13. المصدر السابق : ص 58

14 ميخائيل نعيمة: الغربال، بيروت ،دار صادر و دار بيروت ط/ 7 1964 ص 80

15. ميخائيل نعيمة: الغربال، بيروت ،دار صادر و دار بيروت ط/7 1964 ص 85

16. العلامة مير غلام علي آزاد البلكرامي: مظهر البركات تحقيق الدكتور محمد فضل الدين، حيدر آباد، فضل بك دبو ط/1 2001م، مقدمة المحقق ص يب

17.المصدر السابق : مقدمة المحقق: ص ير

18. نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص يب

19. نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: يب يت

20. العلامة مير غلام علي آزاد البلكرامي: مظهر البركات تحقيق الدكتور محمد فضل الدين، حيدر آباد، فضل بك دبو ط/1 2001م، مقدمة المحقق ص: يث يج يح

21.نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: يح يخ يد

22. العلامة مير غلام علي آزاد البلكرامي: مظهر البركات تحقيق الدكتور محمد فضل الدين، حيدر آباد، فضل بك دبو ط/1 2001م، ص:200

23. نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: يد

24. نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: يد

25.نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: ير

26. العلامة مير غلام علي آزاد البلكرامي: مظهر البركات تحقيق الدكتور محمد فضل الدين، حيدر آباد، فضل بك دبو ط/1 2001م، ص:194-195

27. العلامة مير غلام علي آزاد البلكرامي: مظهر البركات تحقيق الدكتور محمد فضل الدين، حيدر آباد، فضل بك دبو ط/1 2001م، ص:129

28. نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: سد

29. العلامة مير غلام علي آزاد البلكرامي: مظهر البركات تحقيق الدكتور محمد فضل الدين، حيدر آباد، فضل بك دبو ط/1 2001م، ص:256

30. نفس المصدر السابق: ص: 307

31. نفس المصدر السابق: ص: 244

32. نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: يغ

33. نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: ير

34. نفس المصدر السابق: مقدمة المحقق ص: نج

35.هذه العبارة مستفادة من د.أحمد أمين في مقال له عن” الدين الصناعي”

36.ميخائيل نعيمة : الغربال، بيروت، دار صادر و داربيروت ط/ 7 1964 ص 86

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *