دور الأدب الحديث في التعايش السلمي بين أهل الأديان المختلفة

محمد بوتان غودان

عاشت تحت الحكم الإسلامي في الأقطار العربية أقليات غير إسلامية كالمسيحيين واليهود والمجوس لقرون. وما كانوا يجبرون لإعتناق الدين الإسلامي، ولذا كانوا يتمتعون بحرية الدين وحفظ حقوقهم في أيامهم الغابرة. ولكن الأمر قد إختلف بعد تغلب المستعمرين على الأقطار الإسلامية والعربية، وكادوا يكيلون الأمور بكيلين وأرجفوا بين أصحاب الديانات المختلفة الأراجيف، وشرعوا يغرس جراثيم العداوة والشحناء في نفوس أصحابها كما بدت في الهند البريطانية في آخر حكم الإنجليز الإستعماري ، وهكذا كانت كل أحوال البلاد العربية تقريبا. فزال الإخاء بين الشعوب المختلفة وأهل الأديان. ما أروع قول الأديب المهجري إلياس قنصل في هذا الصدد ساخرا منددا أسلوب الإستعمار إذ يقول:

غير سياستك التي أجريتها

معنا وإلا فالحسام يغير

ماعاد يخدمنا سراب لامع

مما بيتك الخبيثة يخبر

فاترك بلادا لايريدك أهلها

فلأنت وحش عن حماها يزجر[1]

وكانوا يعتمدون على سبل التفريق بين بني الأوطان والأديان. عندما نشب الخلاف بين الأقباط وبين المسلمين بمصر في العقد الأول من القرن العشرين أرسل المسؤولون إلى إسماعيل صبري للصلح في هذه القضية لما يحتل صبري من منزلة في نفوس المصريين، كادت الفتنة أن تعم وتمزق وحدة الأمة، وتمكن لمصلحة المستعمر الإنجليزي لولا قامت الأمة المصرية صفا واحدا تلقاء التفرقة، ونادوا بصوت واحد” أن مصر وطن للجميع والأقباط ظلوا هذه القرون المديدة منذ الفتح حتى اليوم لا يجدون من إخوانهم المسلمين في الوطن إلا كل مودة، وحسن عشرة، يقول صبري في تلك المناسبة :

ويحكم ما كذا تكون النصارى       راقبوا الله بارئ العذراء

مصر أنتم ونحن إلا إذا قامت      بتفريقنا دواعي الشقاء

مصر ملك لنا إذا ما تمسك        نا وإلا فمصر للغرباء

لا تطيعوا منا ومنكم أناسا          بذروا بيننا بذور الجفاء

فلا تولوا وجوهكم شطر من                 عكر ما في قلوبنا من صفاء

ويعلق الأستاذ عمر الدسوقي على أبياته قائلا : “وهو شعر سامي الغرض ، سهل المعاني ، قريب المأخذ ليفهمه الخاصة والعامة[2]

كان أمير الشعراء أحمد شوقي من أولئك الذين هتفوا شعار المودة بين أهل الأديان المختلفة لا سيما بين المسيحيين والمسلمين وهو يقول :

لا تجعلوا الدين باب الشر بينكم

ولا محل مباهاة وإذلال

مالدين إلا تراث الناس قبلكم

كل امرئ لأبيه تابع تالي

ليس الغلو أمينا في مشورته

مناهج الرشد قد تخفى على الغالي

لا تطلبوا حقكم بغيا ولا صلفا

ما أبعد الحق عن باغ ومحتال

ويدعونا شوقي إلى التسامح ويجعله أسمى معاني المروءة ويحث على الصفح جاعلا مناط السعادة في هذه الحياة فيقول :

تسامح النفس معنى من مروءتها

بل المروءة في أسمى معانيها

تخلق الصفح في الحياة به

فالنفس يسعدها خلق ويشقيها

وكان شوقي يعامل مع غير المسلمين بأسلوب التسامح والإنسانية حتى “عرف عن شوقي سماحته الدينية وعدم تعصبيته لدينه، وهو بهذا ينطلق من منطلق إسلامي بحت، فهو حين يخاطب المسيحيين يذكرهم بأنهم أصحاب رسالة ، وأنهم جيران المسلمين في ديارهم ، وأن عليهم أن يحافظوا على الجوار وأن يصونوا البلاد التي تحفظ لهم حسن الإقامة وطيب الجيرة، إذ يعلم شوقي أن القرآن الكريم منبع يرشدنا بها سواء السبيل، لم يكن يوما ليوغر صدر المسلم على الذمي أو يهضم المسلم للذمي حقا، أو يخفر له ذمة ” [3]

ومن قول شوقي في الحث على التعايش السلمي بين المسيحيين والمسلمين وقيامهم في صف واحد لأجل إنشاء بلد يتمتع بالحرية الدينية و الأخوة الإنسانية:

نعلي تعاليم المسيح لأجلهم

ويوقرون لأجلنا الإسلاما

الدين للديان جل جلاله

لو شاء ربك وحد الأقواما [4]

إن إختلاف الأديان حقيقة ثابتة لا تنكر ومع أن أصل كل دين يدعو الإنسان إلى السلام والحياة المطمئنة لأجل سعادة كل الأجناس وأهل الديانات المختلفة، ولكن هذا لا يتحقق إلا إذا اعترفت بها المتدينون ،

وهذا الشاعر أحمد محرم يطلب الجميع أن يعاملوا في معاملاتهم اليومية مع الآخرين بالرفق والرأفة وإن كانوا يعتقدون بعقائد شتى فيقول:

تعالوا إلينا إنما نحن إخوة         وإني رأيت الأخذ بالرفق أحزما

تفرقنا الأديان والله واحد          وكل بني الدنيا إلى آدم انتمى [5]

ولم يكن حافظ إبراهيم بأقل شأنا في الدعوة إلى الإخاء الإنساني لأنه كان يرغب أن يحيا جميع أهل الأديان حياة سعيدة كبني أب واحد، المسلم والمسيحي والقبطي ، وهذا هو الموقف الإنساني الحق الذي لا مراء فيه، لأن السلام العالمي لا يتحقق إلا بتحقيق السلام الوطني، ولذلك نجد الأدباء غير المتعصبين من كل دين يؤيدون هذا الموقف الإيجابي، فيقول الشاعر:

قد ضمنا الم الحياة وكلنا        يشكو فنحن على السواء وأنتم

إني ضمين المسلمين جميعهم   أن يخلصوا لكم إذا أخلصتم [6]

ولم يكن الأدباء من مصر وحدهم حركوا أقلامهم لأجل السلام الديني والتعايش السلمي ونبذ التعصب ولكن أدباء المهجر أيضا تحملوا على كواهلهم نفس المسؤولية، وهذا الأديب المهجري “إلياس فرحات” لم يأل جهده في تشديد الحملة على المستعمر فيقول في قصيدته التي بعنوان “غلة الأغنام”.

       والفاتحون الخائنون وعودهم        كانت وما برحت وعود لئام

دخلوا البلاد محرمين حلالها            وهوى القناع فحل كل حرام

ذهبوا بما ادّخرت من الذهب الذي       يرجى لدفع أذى ونيل مرام

وكم ادعوا نشر السلام وأننا              بوجودهم بتنا بغير سلام

عزلوا الأباة المخلصين وأوقفوا       بمكانهم صفا من الأصنام

وجنوا على الأقلام فهي أسيرة         خرسا ملجمة بألف لجام [7]

ولما حدثت مشكلات وتوترات في المجتمع الراهن لم يترك الشعراء أقلامهم إلا وجهوا بها نحوها معلنين مواقفهم الإنسانية الواضحة تخليصا للأمة وحلا ملآئما لها.

ولم يكن في وسع الرصافي أن يغفل ما حل بالمجتمع العربي من فرقة واختلاف بين المسيحيين والمسلمين باسم الدين والوطن، رأى أن العنصرية تتلاعب بالحياة الآمنة ويترصد الأعداء لهدم الإخاء ونشر البغضاء بين العرب، فتصدى لتعزيز العلاقات الإنسانية بين مختلف الأديان فيقول في ذلك :

أما آن أن تنسى من القوم أضغان          فيبنى على أس المؤاخاة بنيان

أما آن أن يرمى التخاذل جانبا               فتكسب عزا بالتناصر أوطان

علام التعادي لاختلاف ديانة                وأن التعادي في الديانة عدوان

وما ضر لو كان التعاون ديننا               فتعمر بلدان وتأمن قطان

إذا جمعتنا وحدة وطنية             فماذا علينا أن تعدد أوطان

إذا القوم عمتهم أمور ثلاثة         لسان وأوطان وبالله إيمان

فأي اعتقاد مانع من أخوة           بها قال إنجيل كما قال قرآن

كتابان لم ينزل الله ربنا             على رسله إلا ليسعد إنسان [8]

ولئن كان حافظ إبراهيم مصريا عربيا شرقيا في إجتماعياته فقد كان أيضا إنسانيا يتسع قلبه لبني الإنسان تحت كل سماء وفي كل مكان. وعندما ضرب الزلزال مدينة مسينا في جنوبي ايطاليا سنة 1908م رثى حافظ المصابين ويرثي معهم الفن والجمال، ويدعو كل إنسان في الدنيا لمساعدة أخيه الإنسان ، قال:

        أنت مسين لن تزولي كما         زالت ولكن أمسيت رهن الأوان

        إن إيطاليا بنوها بناة فاطمئني   مادام في الحي باني

        فسلام عليك يوم توليت             بما فيك من مغان حسان

        وسلام عليك يوم تعودين           كما كنت جنة الطليان

        وسلام على امرئ جاد بالدمع   وثنى بالأصفر الرنان

        ذاك حق الإحسان عند بني ال   إنسان لم أدعكم إلى إحسان[9]

وكان الرصافي يتحسّر برؤية أحوال اليتامى والأرامل من كل جنس ومن ذلك لما نشبت الفتن بين الترك والأرمن ذهب الشاعر ليشارك بعاطفته الرحيمة مع يتامى الأرمن وبؤسهم، وصور أوضاعهم البائسة بأبدع تصوير في قصيدة “أم اليتيم” إذ يقول :

        رمت مسمعي ليلا بأنة مؤلم      فألقت فؤادي بين أنياب ضيغم

        وباتت توالي في الظلام أنينها      وبت لها مرمى بنهشة أرقم

ثم بدأ الشاعر يصف بيتها وبؤسها وجوع ابنها الصغير، يبكي جوعا وتتحرق حزنا ولا تجود إلا بالدموع ويسأل أمه أين ذهب أبوه؟

       فقالت له والعين تجري غروبها   وأنفاسها يقذفن شعلة مصرم

        أبوك ترامت فيه سفرة راحل     إلى الموت لا يرجى له يوم مقدم

        ولولاك لاخترت الحمام تخلصا   بنفسي من أتعاب عيش مذمم

        فأنت الذي أخرت أمك مريما عن الموت أن يودى بأمك مريم [10]

بعد إيراد القصيدة بطولها يكتب شوقي ضيف:

“هذه القصيدة تتيح لنا أن نستشف من خلالها اتساع العنصر الإنساني في شعر الرصافي، فهو يتنازل عن حواجز الدين واللغة، ليقف في صف الأرمن، وكأنه يؤمن بوجوب الروح وإطلاق سراحها من قيود التعصب الديني” [11] ولذلك نراه معاتبا على الظالمين:

فليس بدين كل ما يفعلونه              ولكنه جهل وسوء تفهم

لئن مثلوا الأرض الفضاء        جرائما فهم أجرموا والدين ليس بمجرم [12]

يشارك الشاعر بنغماته الإنسانية في آلام المجتمع ومشكلاته ولم يعد الشاعر الحديث يعيش في برجه العاجي بعيدا عن مجتمع ولم يكن منزويا على ذاته ونفسيته. هكذا شارك الأدباء مشاركة فعالة في تقوية أواصر الود والمحبة والوئام لما أحسوا أن العداوة والفرقة تدب إلى نفوس المجتمع.

وإن كانت المدنية المعاصرة تُعد أثرا من آثار الحياة الراقية فإنها على العكس، تتآمر على قتل الفضائل الإنسانية العليا وصفاتها الآدمية السامية، حيث لا معبود لأهلها إلا المال، ولا دين لهم إلا الجمع، ثم أن حياتهم مليئة بالأثرة، وفي مقابل هؤلاء فئة أخرى من الناس يكدحون لأجل لقمة من العيش صباح مساء، هكذا أفلست الحضارة المعاصرة وبدت متجردة من القيم الإنسانية وروح المودة، فيكون من اللازم على كل واحد ممن يحبون البشرية، إيجاد وعي بين أفراد هذا المجتمع، وبث روح التعاون إلى شرائح المجتمع، ولا يتمكن من ذلك إلا بغرس عناصر الإيمان وآثار الطمأنينة بين أفراده بكل الوسائل المتاحة.

خاتمة

وختاما إن البشرية لا يسود فيها السلام إلا بتبادل الحب بالحب، بحب مماثل، وبعطف مماثل،فلذا نرى الأدباء والشعراء لا سيما الأدب العربي المعصار ينادي إلى التسامح الدين والقومي لفظا ومعنا في الأبيات والسطور. وكان الشعراء أمثال أحمد شوقي وإلياس قنصل والرصافي،وحافظ إبراهيم وغيرهم ممن قاموا في هذا الصدد. ونرى فيهم نداء إلى إزالة الحواجز الت تكون بين إنسان وإنسان كالتمييز العنصري أو العرقي أو الديني ضد الأخوة والمحبة الإنسانية.

الهوامش

1.عباس، د. احسان ،اتجاهات الشعر العربي المعاصر. ص: 143

2.الدسوقي ،د.عمر فى الأدب الحديث. ص2:/381

3.شوقي, د. عزت فارس, النزعة الإسلامية في شعر. دار يافا العلمية, أردن, عمان, 2010, ص 204،205

4.الشوقيات ص 3/144

5.هيكل،/ أحمد، تطور الأدب الحديث فى مصر. ص: 131

6.ديوان حافظ ص: 1/291

7.ادب المهجر /د/ عبد البديع ص: 587

8.ضيف، د.شوقي, دراسات فى الشعر العربي المعاصر, ص 61، دار المعارف, مصر, ط2, 1989  

9.حنافاخورى. تاريخ الأدب العربي . ص 147، 148

10.ضيف، د.شوقي, ص:67:

11.ضيف، د.شوقي   ص: 68

12.البديع، ، د. عبد. أدب المهجر. ص: 587

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *