الاستفهام في الحديث النبوي من منظور مباحث التداولية

الأستاذة ناغش عيدة  

لقد كان أسلوب الاستفهام كغيره من الأساليب الطلبية محلّ اهتمام الدراسيين المعاصرين حيث ذهب أحدهم ويدعى (كولينجوود Collngwood) ) إلى التركيز على دلالات الاستفهام، إذ لاحظ هذا الدارس أهمية السؤال في حياتنا الثقافية فإذا كانت كل معرفة في حقيقتها مجرّد جواب على سؤال معين، فإن الفعل الاستفهامي أو إثارة السؤال هو الفعل الأكثر أهمية ضمن الأفعال اللغوية(1)

كما يعتبره آخرون من الآليات اللغوية التوجيهية “ بوصفها توجّه المرسل إليه إلى خيار واحد وهو ضرورة الإجابة عليها، ومن ثم فإن المرسل يستعملها للسيطرة على مجريات الأحداث، بل وللسيطرة على ذهن المرسل إليه، وتسيير الخطاب تجاه ما يريده المرسل لا حسب ما يريده الآخرون…”(2).

ويجد الدارس لعلم التداولية أن أسلوب الاستفهام من الآليات اللغوية المستعملة ضمن المباحث الرئيسة لهذا العلم، وسنتطرق إلى استعمال هذا الأسلوب ضمن كل مبحث على حدة.

1– الإشاريات: تعتبر الإشاريات الاجتماعية صنفا من أصناف الإشاريات، وهي ألفاظ وتراكيب تشير إلى نوع العلاقة الاجتماعية بين المتكلمين والمخاطبين من حيث هي علاقة رسمية أو علاقة غير رسمية فنحن نستعمل في حياتنا اليومية أسئلة ليس الغاية منها توجيه المرسل إليه لإنجاز فعل في المستقبل لكنها توجهه إلى التلفظ بخطاب جوابي فقط، ومثال ذلك الأسئلة التي نسأل بها عن الصحة، والحال والتي تحمل وظيفة تداولية تتمثل في التضامن والتقريب بين طرفي الخطاب.

كذلك يستعمل هذا الأسلوب لتحقيق مبدأ التأدب حين يكون الكلام موجها إلى شخص له سلطة أو مكانة فمثلا حين يريد طالب التحدث مع أستاذه خارج المحاضرة فإنه يستعمل صيغة: أيمكن أن تمنحني دقيقة من وقتك، أريد أن أستشيرك في مسألة؟ في حين أنه لا يطلب ذلك من زميل أو صديق لأنه قد يقول له بصيغة الأمر: انتظر لحظة أريد أن أستشيرك في أمر يهمّني.

2– الافتراض المسبق: لأي خطاب كان رصيد من الإفتراضات المسبقة مستمدة من المعرفة العامة وسياق الحال “وهذه الإفتراضات المسبقة لا يصرح بها المتكلمون، وهي تشكل خلفية التبليغ الضرورية لنجاح العملية (التبليغية) وهي محتواة في القول، سواء تلفظ بهذا القول إثباتا أو نفيا”(3)، ومثال ذلك أن يسأل شخص شخصا آخر كيف حال زوجتك؟ وأولادك؟ إن هذا يفترض بأنّ الطرف الآخر متزوج وله عائلة كما أن العلاقة الاجتماعية التي تربطهما تسمح للطرف الأول إلقاء مثل هذا السؤال، و بذلك يرد الطرف الآخر: هي بخير شكرا أو الأطفال في عطلة.

إنّ الافتقار إلى مجموع الافتراضات المسبقة الضرورية للتبليغ يمكنه أن يكون سببا في فشل العملية التواصلية وهذا يؤدي إلى سوء الفهم، فمثلا في المثال السابق إذا كانت الخلفية الإخبارية غير مشتركة بين الطرفين فإن الطرف الآخر قد يجادل في السؤال، أو يدلي بالخبر الضروري، أو يرفض الإجابة عن السؤال أو يحاول أن يتهرب كأن يقول أنا لا أعرفكم، أو أنا لست متزوجا … إلخ.

3- الاستلزام الحواري: يرى جرايس أن الاستلزام نوعان: الأول عرفي، والآخر حواري، ويستعمل أسلوب الاستفهام في الاستلزام الحواري كونه يتغير دائما بالسياقات التي يرد فيها، كان غرايس يرمي من خلال إرسائه لمفهوم “مبدأ التعاون” إلى أنّ الحوار بين البشر يجري وفق ضوابط كما تحكمه قواعد يدركها كل من المخاطب والمتكلم، فحين يسأل زوج زوجته: أين مفاتيح السيارة؟ فتجيب: على الطاولة، نجد أن مبادئ التعاون قد تمثّلت في هذا الحوار إذ أجابت الزوجة إجابة واضحة من حيث الطريقة وصادقة من حيث الكيف، كما أنها استخدمت القدر المطلوب من الكلمات من حيث الكم، وأجابت إجابة ذات صلة وثيقة بسؤال زوجها من حيث المناسبة لذلك لم يتولّد عن قولها أي استلزام(4).

أمّا خرق مبادئ الحوار فإنّه يوّلد الاستلزام(5)، فمثلا حين تقول أم لولدها أتشعر بالنعاس؟ فيجيب: لا أرغب في تنظيف أسناني(6)، فإننا نجد الطفل قد أجاب إجابة غير مناسبة عن السؤال ولكن ما الذي جعل الطفل يخرق هذا المبدأ؟ وفق مبدأ التعاون نجد أنّ الإجابة تستلزم رفض الطفل النوم لعدم رغبته في تنظيف أسنانه.

4- المقاصد: يستعمل أسلوب الاستفهام أيضا في معرفة مقاصد الآخرين من خطاباتهم، فكثيرا ما نسأل الطرف الآخر في الحوار: ماذا تقصد من كلامك؟ ماذا تعني بقولك كذا وكذا؟ إلى ماذا تهدف بتصرفك هذا؟ وهذا ما يضطر الآخرين إلى تبرير تصرفاتهم أو أقوالهم “ فبدون معرفة المقاصد لا يمكن أن يستدل بكلام المتكلم على ما يريد، لأن المواضعة وإن كانت ضرورية لجعل الكلام مفيدا فهي غير كافية، إذ لابد من اعتبار المتكلم أي قصده”(7) فالقصد بوصفه المعنى ضروري لإنجاز أفعال لغوية متعددة في سياقات متنوعة، بخطاب ذي شكل لغوي واحد مثل خطاب الاستفهام.

وتتجلى المقاصد من خلال التعبير بأسلوب الاستفهام، مثلا من خلال التعبير بالهمزة، فحين تتصدر الهمزة الفعل فإن الشك في الفعل نفسه، أما إذا تصدرت الاسم فإن الفاعل هو مدار الشك، كما أن ورود الهمزة مع الفعل الماضي يختلف عن ورودها مع الفعل المضارع، ففي الحالة الأولى يكون غرض المتكلم تقرير المخاطب، وهو الغرض المقصود من ورود الهمزة مع الفعل المضارع الدال على الحال، أما في الحالة الثانية وهي ورود الهمزة مع الفعل المضارع الدال على المستقبل فالغرض منه الإنكار.

5.الأفعال الكلامية: تنقسم الأفعال اللغوية من حيث دلالتها على القوة الإنجازية المقصودة إلى قسمين هما: الأفعال اللغوية المباشرة والأفعال اللغوية غير المباشرة، وتعتبر أدوات الاستفهام من أكثر الأدوات استعمالا لإنجاز الأفعال اللغوية مثل:

أَحَضَرْتَ الندوة؟

أنا أسألك أنت عن حضور الندوة.

رغم أن كل من المثالين يحقق القصد، ويحمل نفس مضمون الخطاب، إلا أنّ المثال الأول يستعمل فيه المرسل الخطاب إستراتيجية مباشرة ولكن بآلية مختلفة وهي أداة الاستفهام (الهمزة الاستفهامية).

إن استعمال هذه الآلية حسب أوستن تساعد المرسل إليه على فهم القصد كما أن استعمالها يزيل شبهة الخلط بين الصيغ الخبرية والإنشائية(8) وهذا عامل يساعد على إزالة اللبس وإدراك القصد.

6-الانجاز: يخرج الاستفهام في كثير من الحالات عن مراده الحقيقي، والمتمثل في طلب الإفهام ولكونه طلب ارتسام صورة ما في الخارج في الذهن لزم أن لا يكون حقيقة، إلا إذا صدر من متشكك مصدق بإمكان الإعلام فإنّ غير متشكك إذا استفهم يلزم منه تحصيل الحاصل وإذا لم يصدّق بإمكان الإعلام انتفت عنه فائدة الاستفهام إلى انجازات أخرى يتحول بموجبها من استفهام حقيقي إلى استفهام بلاغي(9).

وهذا الاستفهام البلاغي لا يهدف المرسل من خلاله إلى الحصول على إجابة، بل يهدف منه تحدي المخاطب أن يستطيع الإنكار أو حتى الإجابة، فخروج الاستفهام الحقيقي إلى الاستفهام البلاغي يهدف إلى تحقيق أفعال إنجازية، وهذا يقتضي من المخاطب ألا يقوم بقراءة حرفية للملفوظ.

وتظهر القوّة الإنجازية الاستفهامية للسؤال البلاغي ضعيفة، لتحل محلها قوّة إنجازية أخرى كالتقرير أو الأمر مثلا، كما علينا أن نشير إلى أنّ الاستفهام قد يظهر بصورتين، فإمّا أنّـه يُطرح مباشرة (مثلا يكون حرف الاستفهام في بداية الجملة)، أو أنّه يأتي بصيغة إخبارية تتحدث عن وقوع السؤال، (السؤال يكون متضمنا).

حاولنا أن نبسط بعض المفاهيم التداولية، باعتبارها إجراءات وآليات توظف في التحليل التداولي، قبل أن نجعل من بعضها آليات نعتمدها في تحليل الأحاديث النبوية المشتملة على أسلوب الاستفهام.

6- الأفعال الكلامية في الأحاديث النبوية “دراسة وفق تصنيفات سيرل”:

سنحاول الكشف عن الدور الذي تؤديه الأفعال الكلامية في إحداث الإقناع والتأثير، ولقد ارتأينا اختيار مجموعة من الأحاديث حتى تكون نموذجا للتحليل، وسيكون اختيارنا للأحاديث وتحليلها وفق تقسيم سيرل أي الأحاديث التي تحتوي تقريريات، ووعديات وأمريات وإيقاعيات وبوحيات.

تعتبر الأفعال الكلامية من أهم المرتكزات في التحليل التداولي، وتعرف بأنها أصغر وحدة تحقق فعلا عن طريق الكلام بإصدار أمر، أو توكيد، أو وعد … الخ والذي من شأنه إحداث تغيير في وضعية أو موقع المتكلمين، بحيث يتوقف فك شفرته على إدراك المتلقي للطابع القصدي لفعل المتكلم، وهذا يعني أنّه بمجرد النطق بأفعال الكلام تتحول هذه الأفعال إلى إنجاز للفعل، لأنه لا يوجد من وسيلة أخرى يمكن أن يقوم بها الشخص مثلا بفعل الأمر، أو التوكيـد أو الطلب سوى أن ينطق بصيغة الأمر أو التوكيد أو الطلب “فكلما أدّى الفرد فعلا كلاميا فإنّه يعبّر بذلك عن حالة نفسية تجاه القضية المعبر عنها، فمن يقرر فهو يعبر عن اعتقاد، ومن يعد فهو يعبر عن نية ومن يصدر أمرا فهو يعبر عن رغبة أو إرادة”(10).

وقد يتكون فعل الكلام من كلمة واحدة أو أكثر، مثلا للشكر نقول كلمة: (شكرا) أو (شكرا على كل شيء)، والأفعال الكلامية لكي تتحقق يجب توفر المعرفة اللغوية، أضف إلى الاستعمال المناسب للغة حسب الثقافة الخاصة بتلك اللغة، وبالتالي يحقق الناس أفعال معينة من خلال استعمالهم للغة، وفق قواعد معينة.

6-1التقريريات Assertive: هناك مقاصد يقصد إليها المتكلم في الأفعال اللغوية باستعمال الأساليب الملائمة كأسلوب الاستفهام وذلك حين يريد أن يضمّن كلامه معنى آخر غير المعنى الظاهر كالإنكار أو التقرير وحين يكون المقام مقام تعليم وإرشاد، فإن الجمل التقريرية أكثر ملائمة لتحقيق هذا الغرض وهذا ما ترمي إليه التداولية وهو تحقيق الإفادة والتأثير والإنجاز مع توفر القصد ومن شواهد ذلك في الأحاديث النبوية الحديث الذي روته عائشة (رضي اللَّه عنْهُا) عن الرسول  حين قال للنفر الثلاثة الذين قدموا إلى بيته يسألون عن عبادته:” أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كذا وكذَا ؟ أَما واللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للَّهِ وَأَتْقَاكُم له لكِني أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصلِّي وَأَرْقُد، وَأَتَزَوّجُ النِّسَاءَ، فمنْ رغِب عن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّى”(11).

الغرض من هذا الحديث تصحيح المفاهيم لدى هؤلاء النفر فاستفتح الرسول  حديثه بأسلوب الاستفهام الإنكاري إنكارا منه على ما ذهبوا إليه من مغالاة، ثم بين لهم بأسلوب خبري مؤكد بالقسم والأداة “ إنّ “ مع (لام التوكيد)

ولقد قسم البلاغيون العرب الخبر إلى ثلاثة أضرب:

الأول: ضرب ابتدائي وهو ما لا يحتاج فيه إلى مؤكد.

الثاني: ضرب طلبي وهو الذي يحتاج إلى مؤكد واحد.

الثالث: ضرب إنكاري وهو ما يضم مؤكدان فأكثر وهذا الأخير، نجده مستعملا في هذا الحديث وهذا من الأوجه البليغة في الاهتمام بالملتقي واستحضاره عند إنتاج الخطاب و”في هذه الإشارات المادية إلى حضوره قيمة تداولية كبيرة تتمثل في أنه لا يمكنه إنتاج الخطاب الذي يريد دون استحضار سامعه”(12).

والأسلوب الخبري نافع في تلقي المتعلم العلم إذا ما توفر البعد التداولي المتمثل في نية المرسل واستجابة المتلقي، والرسول في هذا المقام يرشد هؤلاء الثلاثة إلى التوازن ويحذرهم من الانقطاع عن العبادة لأنّ النفس البشرية لها طاقة محدودة فإن تجاوزتها كلّت وملّت كما أنّ للنفس عدة جوانب مطلوب من المرء أن يوازن بينهما فيعطي لكل جانب حقه.

إن كان الاستفهام من باب التذكير بحقيقة غير مختلف عليها، فذلك من باب التقرير وليس القصد منه حقيقة الاستفهام، وقد توخّى الرسول  هذه الدلالة في بعض استفهاماته كما في قوله: “ أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِليه مِن مَالهِ ؟” قالوا: يا رَسولَ اللَّه ما مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِليه قال: “ فَإِنَ مَالَه ما قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثهِ ما أَخَّرَ “(13)، فالرسول  بدأ حديثه بهذا الاستفهام ليكون ذلك مدخلا لافتا، وليدمج المتلقين في الحوار فلا يسمح لهم بالحياد والتلقي فقط، بل يشركهم في تكوين المعنى.

ومن ذلك أيضا نجد الحديث الذي رواه عمرو بن العاص قال: أقبل رجل إلى نبي الله  فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: “هَلْ من والديكَ حي؟” قال: نعم بل كِلاهُمَا، قَـالَ: “فتبتغي الأجـر مِنَ اللهِ تَعَالَى؟” قَالَ: نَعَمْ قـَال: “فَارْجِعْ إِلىَ والديْكْ فَأَحْسِنْ صُحْبتهِمَا”(14).

ويُعدّ الاستفهام من الأفعال الكلامية المتضمنة في القول وغرضه الاستعلام وطلب الفهم إلاّ أنّ الجمل الاستفهامية الصادرة هنا من الرسول  ليست كلها من باب الاستعلام ولكن الغرض من ذلك التقرير فالرسول  وجّه سؤالا للصحابي يستعلمه فيه عن والديه إن كانا على قيد الحياة، فالاستفهام في هذا المقام هو ما عبّر عنه السكّاكي بقوله: “ إنّ الاستفهام طلب وليس بخفي أن الطلب إنما يكون لما يهمك ويعنيك شأنه لا كما وجوده وعدمه عندك بمنزلة”(15) فبعد أن علم الرسول  بأنّ الوالدين على قيد الحياة كلاهما استفهم الصحابي استفهام تقرير قرره فيه عن رغبته في دخول الجنة، فأجاب الصحابي بـ “ نعم” وهنا وجه الرسول  هذا الصحابي إلى الطريق المؤدي إلى مبتغاه وهو الفوز بالجنة.

كما نلاحظ في هذا الحديث استعمال النبي  لأسلوب الاستفهام لتفعيل الحوار والحوار أداة تعزّز آليات التواصل بين الناس، ولذا فإنها تستغل للمساهمة في إفادة المتلقي لتقويم فعله   من جهة، وجعله يشارك في بناء المجتمع الإنساني من جهة أخرى.

وهذا ما نجده في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص  قال: أُخْبِر النبي  أنّي أقول: وَاللَّهِ لأَصومَنَّ النَّهَارَ، ولأَقُومنَّ اللَّيْلَ ما عشْتُ، فَقَالَ رَسُولُ الله : “أَنْتَ الَّذِي تَقُول ذلك؟” فقلت: له قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: “فَإِنكَ لا تَسْتَطِيعُ ذلِكَ، فَصُمْ وأَفْطرْ، ونَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحسنَةَ بعَشْرِ أَمْثَالهَا، وذلكَ مثْلُ صِيامٍ الدَّهْرِ” قُلْت: فَإِنِّي أُطيق أفْضَلَ منْ ذلكَ، قالَ: “فَصمْ يَوْماً وَأَفْطرْ يَوْمَيْنِ” قُلْت : فَإِنِّي أُطيق أفْضَلَ منْ ذلكَ، قالَ: “ فَصُم يَوْماً وَأَفْطرْ يوْماً، فَذلكَ صِيَام دَاوود u، وَهُو أَعْدَل الصِّيَامِ” فقُلْت: فَإِنِّي أُطيق أفْضَلَ منْ ذلكَ، فُقَالَ رَسُولَ اللَّه : “لا أَفْضَلَ منْ ذلك” وَلأنْ أَكْونَ قَبلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيَّامِ الَّتِي قال رسولُ اللَّه  أَحَبُّ إِليَّ منْ أَهْلِي وَمَالِى(16).

إنّ استفهام الرسول  كان بغرض التثبت حول ما سمعه بشأن سلوك عبد الله  في العبادة، وفي ذلك قال ابن حجر:” لم يكتف النبي  بما نقل له عن عبد الله حتى لقيه واستثبته فيه لاحتمال أن يكون ذلك بغير عزم …. وفيه أنّ الحكم لا ينبغي إلا بعد التثبيت”(17).

فالنبي  استفهم عبد الله عن صحّة ما تناهى إليه بشأن سلوكه في العبادة، قبل أن يوجهه إلى السلوك الصائب، إذ أنه كلما كان مطلعا بشكل مباشر على المسألة كان أكثر إلماما بالقضية فبعد تقرير الرسول  لعبد الله  قدم توجيهاته بشأن الاعتدال والموازنة بين حاجات الروح ومتطلبات الجسد والأهل، والزوج، والحياة العامة، مستعملا في ذلك أسلوب الحوار لما له من أهمية في عملية التبليغ والإرشاد، فالحـوار محبب إلى النفس يضفي الحيوية على الموقف الكلامي ويبعد الملل والشرود عن المتلقي، فيشد انتباه السامع ويجعله أكثر إقبالا على المتابعـة، كما يجعل ذهنه أكثر تفتحا وتجاوبا مع المرسل فالحوار الجيد يجب أن يحتوي على صفتين أساسيتين: التركيز والإيجاز، إذ إنّ الطول في العبارة الحوارية يميت الحيوية أثناء العملية التواصلية.

وأسلوب الحوار من الأساليب التي شكلت ظاهرة لافتة في الحديث النبوي، وتنوعت أشكاله ومستوياته، وذلك لأهميته في نشر الدعوة، فالحوار أسلوب متقدم في الفكر البشري إذ يُقرّب المسافات بين النفوس، بعد عملية الكشف عما تخفيه، ومعرفة الحقائق والآراء المهمة التي كان من الممكن أن تذهب هباء لولا الكشف عنها، ولذلك وجه الله  نبيه إلى هذا الأسلوب في الدعوة كان الحوار هو الطابع العام في الأحاديث النبوية.

6– 2الوعديات promises: تتضمن الأفعال الكلامية المندرجة ضمن هذا الصنف معنى الوعد والغرض منها التزام المتكلم بالقيام بعمل ما في الزمن المستقبل، ومن الأحاديث التي تندرج ضمن هذا النوع الحديث الذي رواه حارثة بن وهب  قال: سمعتُ رسولَ اللَّه  يقول: “أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجنَّةِ؟ كُلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَم عَلَى اللَّه لأبرَّه أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بَأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ”(18).

ألزم الرسول  في هذا الحديث نفسه بتعليم الصحابة أمرا دينيا موظفا بذلك أسلوب الاستفهام “ألا أخبركم؟” فالنبي  لا ينتظر الإجابة من الصحابة  إنما غرضه التنبيه حتى يستعد المتلقون لتلقي الرسالة، والتي تتمثل في إخبارهم عن صفات أهل النار بغرض تحذيرهم من الاتصاف بها، وحثهم على الاتّصاف بصفات أهل الجنة.

وتكرار أسلوب الاستفهام في هذا الحديث دليل على قصدية المرسل في إثارة انتباه المتلقي لتبليغه رسالة تحمل إفادة ومبدأ الإفادة هو الفائدة التي يجنيها المتلقي من الخطاب وهي فائدة تواصلية، ذات أبعاد تداولية تربط بين المتكلم والمستمع، ففي هذا الحديث تحقّق الغرض من فعل الكلام والمتمثل في وعد النبي  بالإخبار فكان قصده تعليم الناس ما ينفعهم والمقصد من الفعل الكلامي هو القول الذي ينوي القائل إنجازه فنحن “ حين نقول شيئا ما فإننا ننجز شيئا ما”(19).

وما سبق ذكره نجده في الحديث الذي رواه أبو موسى  قال: قال لي رسول الله : “يا أبا موسى أَلا أَدُلُّك على كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجنَّةِ ؟” فقلت: بلى يا رسول الله قال: “ لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ “(20).

يشترط في صنف الوعديات صدق المتكلم في فعل الشيء الموعود به، والمتكلم هنا هو النبي الصادق الأمين، والوعد في هذا الحديث يتمثل في جملة الاستفهام “ألا أدلك؟” فالغرض الإنجازي يتمثل في التزام النبي  بهداية الصحابة  إلى سبيل الفوز بكنوز الجنة والرسول  استعمل أسلوب الاستفهام لتنبيه السامع إلى ما سيلقيه إليه فتتحقق بذلك الفائدة التي يجنيها المستمع.

ورد أسلوب الاستفهام في هذا الحديث مستفتحا بأداة العرض “ألا” ليخرج بذلك إلى غرض العرض والتحضيض، وهذا راجع إلى مقصد المتكلم الذي يلجأ إلى استعمال أساليب الاستفهام لإنشاء أفعال أخرى غير الاستفهام الحقيقي، مراعيا بذلك سياق الحال والمقام.

6-3  الأمريات directive: والغرض منها حمل المخاطب على أداء عمل معين وتشمل كل الأفعال الدالة على الطلب بغض النظر عن صيغها نحو أمرتك، أوجبت عليك… ومن ذلك قوله : “مَا بالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلِى السَّماءِ في صَلاتِهِمْ ؟” فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ في ذلك حَتَّى قَـالَ: “ لَيَنْتَهُينَّ عَنْ ذلك أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصارُهُمْ”(21)

يندرج هذا الحديث حسب تصنيفات سيرل ضمن الأمريات وغرضها يتمثل في توجيه المتكلم للمستمع للقيام بأمر ما وتكون الاستجابة بالامتثال، أو الامتناع، والقول الذي يطلب به شيئ ما إما أن يكون أمرا أو نداءً أو طلبا أو نصحا…الخ.

وجه الرسول  في هذا الحديث استفهام إنكاري للصحابة يتضمن نهي فحواه “لا ترفعوا رؤوسكم” فالغرض المتضمن في هذا الحديث هو توجيه الصحابة إلى الانتهاء عن فعل وهو رفع الرأس أثناء الصلاة، وفعل الأمر كما يقول (ديكرو- Ducro .O)  يتطلب نوعا من العلاقة الترتيبية بين الذي يأمر والذي يؤمر(22).

كما نلاحظ هنا مبدأ التأدب الذي انتهجه الرسول في قوله:” ما بال أقوام” وهو موافق للمعروف من خطبه  في مثل هذا أنه إذا كره شيئا فخطب في الناس وذكر كراهيته لذلك دون تعيين فاعله، وهذا من عظيم خلقه ، فهو يقصد من تلك الخطبة الشخص الذي قام بالفعل وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك، دون أن يوبخ الصحابي في الملأ(23).

يتجلى لنا في هذا الحديث أنّ الرسول  كان يتوخى تحقيق مبدأ الإفادة فقوله (ما بال أقوام) كان لغرضين كما يرى ابن حجر فالأول: الستر على الفاعل طالما أن الفائدة تتحقق دون الحاجة إلى الكشف عن شخصيته والثاني: أن في أسلوبه  الذي يجمع الرفق واللطف إلى جانب الحزم والشدة، فأما رفقه فيتجلى في عدم كشفه عن الشخص المقصود بالتوبيخ وما يحمله ذلك من دلالات الرحمة وحفظ كرامة الشخص وأما الشدة والحزم فتتجلى في زجره وتوبيخه لمن يفعل هذا الأمر سواء كان الشخص الفاعل آنفا أو غيره كما يفـيد ذلك التحذير من الفعل والحث على الاحتراز من الوقوع فيه(24).

كما نجد خروج الاستفهام إلى غرض الأمر في الحديث الذي رواه أبو بكر قال: قال رسول الله : “ أَلا أُنَبِّئُكمْ بِأكْبَرِ الْكَبائِرِ؟” قلنا: بلَى يا رسولَ اللَّه، قال: “الإِشْراكُ بِاللَّهِ وعُقُوقُ الْوالِديْن” وكان مُتَّكِئاً فَجلَسَ فقال: “ أَلا وقوْلُ الزُّورِ وشهادُة الزُّورِ” فَما زَال يكَرِّرُهَا حتَّى قُلنَا: ليْتهُ سكتْ(25).

وقد اتفق النحاة على أن فعل الأمر في اللغة العربية يفيد المستقبل أبدا،(26) فإن كان الأمر في الأحاديث العادية يدل على مستقبل محدود ينتهي بانتهاء الأمر والطلب فإننا نلاحظ أن أفعـال الأمر الواردة في الأحاديث النبوية خالدة مستمرة ما دامت الحياة، وفي هـذا الحديث سبق أسلوب الاستفهام بأداة العرض “ألا” لتنبيه السامعين وإثارة رغبتهم في معرفة أمر جديد يجنبهم الوقوع في أمور عظيمة يصفها النبي  بأنها أكبر الكبائر، وتأكيدا لأهمية الأمر وخطورته شوّق النبي  الصحابة باستعمال أسلوب الاستفهام.

انتقل الرسول  إلى العبارة القصيرة التي دعته إلى تغيير جلسته فجأة مع ظهور انفعال على وجهه الكريم ليكون هذا التغيير الجسماني دليلا على خطورة ما سيقول ثم قام بتكرار العبارة “ ألا وقول الزور” ليأخذ هذا التكرار بقلوب الصحابة حتى تمنّوا لو أنه سكت رحمة له والتكرار أبلغ من التأكيد وهو من محاسن الفصاحة ولذا قيل:” الكلام إذا تكرر تقرر”(27).

 يأمر الرسول  في هذا الحديث الصحابة بترك الأمور التي تعد من الكبائر وهي الشرك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور وفعل الأمر ليكون ناجحا “ يجب أن يفهم المرسل إليه أنّه وُجه إليه أمرا مستعينا في ذلك بالتنغيم nonaon أو السياق”(28).

وانطلاقا من مبدأ التعاون المشترك الذي تفرضه طبيعة استمرارية الخطاب بين الطرفين يقتضي الأمر وجود تفاهم بين المرسل والمرسل إليه حول قدر معين من المعلومات والمعطيات والمفاهيم ولكي تحصل الفائدة وهي الإبلاغ والإفهام يجب تضافر عدة مستويات لغوية إذ “ تحيل فكرة الفائدة على طريقة في التعالق بين الإبلاغ والإفهام من ناحية والوظيفة اللغوية من ناحية أخرى”(29).

6-4 الإيقاعيات declaraves: الغرض منها إحداث تغيير في الكون بشرط توفر كل من الإرادة والقصد والاعتقاد وهي تسجل نسبة حضور مكثفة في رياض الصالحين فالإيقاعيات من الأساليب الإنشائية التي تفيد الطلب وهي تساعد على التبليغ نظرا لما تتمتع به من تأثير على المتلقي وقدرة على الإقناع والإثارة ولعلّ وجود الإيقاعيات بكثرة في رياض الصالحين يترجم لنا نية الرسول  وقصده الساعي إلى الإبلاغ والتأثير وإفهام المتلقي.

 ومن الأحاديث التي تندرج ضمن هذا الصنف من الأفعال الكلامية الحديث الذي رواه أبو هريرة  قال: قال رسول الله : “ لا تَدْخُلُوا الجنَّة حَتَّى تُؤمِنُوا ولا تُؤمِنُوا حَتىَّ تَـحَابُّوا أَوَ لا أَدُلُّكُمْ عَلَى شيءٍ إذا فَعلْتمُوه تَـحَـابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلام بَينَكُمْ”.(30)

أسلوب الاستفهام الوارد هنا في هذا الحديث مجازي لأن الرسول  هنا لا يستفهم لطلب الفهم وإنما باستعماله لهذا الأسلوب يسعى إلى إفهام المتلقين مقصوده نظرا لما لهذا الأسلوب من قوة الإيحاء والإبلاغ، والرسول  لم يفرض نفسه على المتلقين بل استعمل معهم الاستراتيجية التضامنية إلى جانب الاستراتيجية التوجيهية، والأولى “تُعنى بالتعامل الأخلاقي أولا، ولكن دون إغفال الاهتمام بتبليغ القصد والتعبيرعنه “،(31)والثانية “ تُعد ضغطا وتدخلا ولو بدرجات متفاوتة على المرسل إليه وتوجيهه لفعل مستقبلي معين”،(32) وهذا مؤدّاه نجاح العملية التواصلية والتي كان الغرض منها إبلاغ الرسالة، ومن ثم فإن أسلوب الاستفهام “ جاء ليؤدي وظيفة تداولية تتمثل في إقناع المتلقي من خلال خروجه إلى الأغراض المذكورة، كما أنه من جهة أخرى وباعتباره فعلا كلاميا مكررا في ذاته يؤدي هذه الوظيفة الإقناعية”.(33)

وقد ركّز العلماء العرب في دراستهم للجملة على مبدأ “الإفادة” لذا بيّن السكاكي أن موضوع علم المعاني هو” تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره”(34)، كما نلاحظ ورود الجملة الفعلية بعد الأداة الاستفهامية وهذا دلالة على الحركية والتغيير لأن الفعل يدل على التجدد والحدوث بينما الاسم يدل على الاستقرار والثبوت.

وهذا الحديث يتساوق مع الحديث الذي رواه مُعاذ  قال: قُلْتُ يا رسُول اللَّهِ أخبرني بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّة، ويُبَاعِدُني عن النَّارِ، قَال: “ لَقدْ سَأَلْتَ عنْ عَظِيمٍ، وإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلى منْ يَسَّرَهُ اللَّه تَعَالى علَيهِ: تَعْبُد اللَّه لا تُشْركُ بِهِ شَيْئاً، وتُقِيمُ الصَّلاةَ، وتُؤتي الزَّكَاةَ، وتصُومُ رمضَانَ وتَحُجُّ البَيْتَ إن استطعت إِلَيْهِ سَبِيْلاً “ ثُمَّ قَال: “ ألا أدُلُّك عَلى أبْوابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ الصَّدَقةٌ تطْفِيءُ الخَطِيئة كما يُطْفِيءُ المَاءُ النَّار، وصلاةُ الرَّجُلِ منْ جوْفِ اللَّيْلِ “ ثُمَّ تَلا: ﴿ تتجافى جُنُوبهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ ﴾  حتَّى بلَغَ ﴿ يعْمَلُونَ ﴾  (السجدة الآية:16). ثُمَّ قال: “ألا أُخْبِرُكَ بِرَأسِ الأمْرِ وعمودِهِ وذِرْوةِ سَنامِهِ ؟” قُلتُ: بَلى يا رسول اللَّهِ، قَالَ: “رأْسُ الأمْرِ الإسْلامُ، وعَمُودُهُ الصَّلاةُ. وذروةُ سنامِهِ الجِهَادُ “ ثُمَّ قال: “ألا أُخْبِرُكَ بـِمِلاكِ ذلكَ كله؟” قُلْتُ: بَلى يا رسُولَ اللَّهِ. فَأَخذَ بِلِسَانِهِ وقالَ: “كُفَّ علَيْكَ هذا “ قُلْتُ: يا رسُولَ اللَّهِ وإنَّا لمُؤَاخَذون بمَا نَتَكلَّمُ بِهِ؟ فقَال: “ثَكِلتْكَ أُمُّكَ وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وَجُوهِهِم إلاَّ حصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ؟”(35).

ومعاذ من أحرص الصحابة على العلم والتعلم، وكان أعرفهم بالحلال والحرام ولذا كان النبي يخصه ببعض العلم دون غيره(36).

إنّ من وسائل إيضاحه  أسئلته التي كان يلقيها على أصحابه ليوقظ بها انتباههم ويرهف بها شعورهم، فيستقبلوا هديه بنفوس متلهفة للمعرفة، فيستقر في أذهانهم، ويعلق بقلوبهم.

استعمل الرسول  أسلوب الاستفهام في هذا الحديث لتنشيط حركة الحديث وإقامة الحوار بينه وبين معاذ  فما إن قال  “ألا أدلك؟” حتى قال له معاذ: “بلى يا رسول الله” والحوار سمة شائعة في الأحاديث النبوية الغرض منه الإرشاد والتوجيه، ووسيلة للإقناع، فالرسول  يمتلك من السلطة ما يخوّل له أن يوجّه الصحابة بطريقة مباشرة فيملي عليهم توجيهاته، ولكنه  لا يخاطب العقول فقط بل ينفذ إلى القلوب أيضا حتى يشحذ الهمم ويقوي العزائم على تقبل ما يقول والعمل به، فيجعل بذلك المتلقين يستجيبون ويعملون بما يقول.

ونرى في هذا الحديث تدرج الرسول  في عرضه للمعلومات وهذا” لأنّ التدرج في الأغراض يوحي بالمنطقية في التعامل مع النفس البشرية من أجل إقناعها،حيث إنّه لا يجب إعطاء معلومات دفعة واحدة إذا كان المخاطب خالي الذهن، فما بالنا إن كان الأمر مرتبط بهدف تغيير اعتقاد”(37).

كما نلاحظ تكرار أسلوب الاستفهام في هذا الحديث والتكرار هو تأكيد على أهمية الرسالة وهذا ما يخدم الغرض التداولي لأننا باستعمالنا لأسلوب التكرار نقرر المؤكد في نفس السامع وتمكّنه في قلبه، ففائدة التأكيد تمكين المعنى في نفس المخاطب، وقد ورد هذا الأسلوب كثيرا في القرآن الكريم فأشار إليه علماء اللغة ومن ذلك التكرار الذي ورد في (سورة الكافرون) وفي (سورة الرحمن) وفي ذلك يقول ابن قتيبة: “ فإنما أعلمتك أنّ القرآن نزل بلغة القوم وعلى مذاهبهم، ومن مذاهبهم التكرار إرادة الإفهام والتوكيد، كما أن من مذاهبهم الاختصار وإرادة التخفيف والإيجاز”(38)، ومن هنا يتحقق مبدأ الإفادة، فالرسول  أراد تعليم المسلمين عامة من خلال معاذ  أسس الإسلام وأركانه، وتبقى الإفادة متعلقة بالمخاطب وما يجنيه من منفعة تقربه من الله U والرسالة التي بلغها الرسول ليست ذات منفعة آنية بل هي رسالة باقية ما بقيت البشرية.

6-5 البوحيات expressve: وهي بمعيار سيرل الأفعال التي تعبر عن حالة نفسية المتكلم فهي التعبير عن المشاعر إزاء الواقع بتقديم الشكرأو الاعتذار، أو الترحيب، أو التهنئة.

ومن الأحاديث التي أراها تندرج ضمن هذا الصنف من الأفعال الكلامية الحديث الذي روته عائشة (رضي اللَّه عنْهُا) قالت: كان النبي  يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتى تَتَفطَّر قَدَمَاه، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رسُول اللَّهِ وَقد غُفِرَ لَكَ ما تَقَدَّم مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: “ أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟”(39).

من الشروط التي يجب توفرها في البوحيات شرط الإخلاص وهذا الأخير يتحقق بإخلاص المتكلم أثناء أداءه للفعل اللغوي فلا يقول غير ما يعتقد ولا يزعم أنه قادر على فعل ما لا يستطيع وهذا الشرط متوفر في أقوال الرسول  بصفة مطلقة، وفي هذا الحديث نجده في الجملة الاستفهامية: “أفلا أكون عبدا شكورا؟”.

فالغرض من أسلوب الاستفهام هنا هو التعبير عن حالة نفسية وهي الرغبة في شكر الله U بفعل العبادة، والحديث هنا رسالة موجهة إلى المسلمين كافة يدعوهم من خلالها الرسول  إلى التقرب من الله عز وجل بالطاعة والعبادة والشكر على النعم. وأيضا يندرج ضمن البوحيات حديث أبي بن كعب  قال: قال رسول الله “يا أبا المنذر أَتَدْرِي أَيّ آيَة مِنْ كِتَابِ الله مَعَك أَعْظَمْ؟”، قلت: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ (آل عمران الآية: 2) فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: “ليهنك العِلْم أَبَا المُنْذِرْ”(40).

تصدرهذا الحديث أسلوب نداء وهذا الأسلوب يعتبر توجيها لأنه يحفّز المرسل إليه لردة فعل تجاه المرسل(41)، وهو من المنظور البلاغي من الإنشاء الطلبي، ويعد في اللسانيات التداولية من الأفعال الكلامية شأنه شأن الأفعال اللغوية الأخرى فهو يشكل القوة الانجازية للجملة(42) والجملة التي هنّأ فيها النبي الصحابي الجليل بما أودعه الله من علم جعلتني أصنف هذا الحديث ضمن البوحيات، كما يُعد الاستفهام الوارد في الحديث المذكور آنفا سؤالا بغرض التوجيه “فالأسئلة الاستفهامية من الآليات التوجيهية بوصفها توجه المرسل إليه إلى خيار واحد وهو ضرورة الإجابة عليها”(43).

إنّ إنجاز المتكلم لفعل خطابي كالاستفهام يقتضي أن يسند إلى نفسه الدور، وفي الآن ذاته يسند إلى المستمع دورا آخر فالمرسل حين يستفهم ينتظر مشاركة المرسل إليه ولكي يتم الإنجاز ويتحقق الفعل الكلامي يشترط فهم المستمع لقوة الفعل الكلامي التي ضمّنها المرسل لاستفهامه فقوة الفعل الكلامي هي كل ما يتعلق بالإنجاز كالأمر والاستفهام …. إلخ.

نلاحظ مما سبق أن أفعال الكلام الواردة في الأحاديث النبوية مؤسسة على منطق التأدب و”الذي من آلياته ألا يفرض المتكلم نفسه على المخاطب، وأن يحعله يختار، ويتجلى هذا المبدأ خاصة في استعمال الاستفهام أو التمثيل لجعل المخاطب يبادر إلى الاقتناع “(44)، فالرسول  لم يكن يستغل سلطته حين فرض الأوامر عليهم أوحين نهيهم.أراد الرسول  أن يبلغ الصحابة  حقيقة الإيمان لتكون لهم القدرة على حمل الأمانة والقيام بالتكاليف، والثبات عند الفتن ولذلك استعمل معهم كل الطرق المؤدية إلى تحقيق هذه المنفعة والغاية المرجوة.

7-تأثيرية الفعل الانجازي: إن اعتماد الأساليب الإنشائية من أهم الخصائص التداولية البارزة في الحديث الشريف لأنها تمنح حرية ومجالا واسعا للتعبير والإقناع والتأثير، وأيضا لأنّها تشغل حيزا كبيرا في نظرية الأفعال الكلامية التي تمثل الجانب المادي في النظرية التداولية.

إنّ ما يؤطر العملية التواصلية هو إنجاز فعل ما، فالمتكلم إذ يتفوه بمثل هذا الملفوظ (الجو جميل) ينجز فعلا تتحدد طبيعته من خلال السياق الذي ورد فيه، كما يرتبط الفعل الإنجازي بمقاصد المتكلم، وهذه المقاصد لها دور مركزي في نظرية الفعل الكلامي لأنّه لا يكفي الفعل الكلامي لوحده، بل لا بد من توفر العرف اللغوي أيضا(45)، ولذا يرى فان دايك بأن ّأفعال الكلام غرض رئيسي للتداولية، وفي حال تكلمنا فإنّنا ننجز شيئا ما، كما يرى بأن الأمر أكبر من مجرد التكلم، إذ أنّ استعمال اللغة ليس إنجاز فعل مخصص فقط، إنما هو جزء كامل من التفاعل الاجتماعي(46)، ولذا ارتأيت أن أقف على الفعل الإنجازي في هذه الأحاديث النبوية بدءا بالحديث الذي رواه ابن مسعود قال: كُنَّا مَعَ رَسُول الله في قُبَّة نَحْوَاً مِنْ أربَعِينَ فَقَال: “ أتَرْضَونَ أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ ؟” قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: “ أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهلِ الجَنَّةِ؟” قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بيَدِهِ، إنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الجَنَّةِ. وذلك أنَّ الجنَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ ومَا أنْتُم في أهْلِ الشِّركِ إلاَّ كَالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ في جلدِ الثَّورِ الأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّودَاءِ   في جلدِ الثَّورِ الأحْمَر”(47).

الفعل الإنجازي في هذا الحديث ما تضمنّه أسلوب الاستفهام “أترضون” وغرضه الإنجازي التقرير، ولقد بين الزركشي أنّ الاستفهام يأتي بمعنى الخبر وبمعنى الإنشاء فالخبر أحدهما نفي ويسمى استفهام إنكار، والثاني للإثبات ويسمى استفهام تقرير، والتقرير حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده(48).

وقوّة الفعل الإنجازي تكمن هنا في تكرار الاستفهام وأيضا في التأكيد بالقسم و”إن”، و”لام التوكيد” ويمكن أن نفهم أنّ التوكيد في هذا الحديث ليس لأنّ المرسل إليه – وهم الصحابة – في شك من أقوال الرسول وإنما جيء به في الخطاب لتأكيد وتعظيم محتوى الرسالة عنده  ويقول في هذا شفيع السيد: “إن” لازمة يستخدمها المتكلم في بداية الكلام، أو في مطالع الفقرات عفوا ودون أن يكون هناك تردد في الحكم من جانب المخاطب”(49).

كما نلاحظ أنّ الحديث جاء بأسلوب حواري وهذا بغرض تحقيق التفاعل بين أطراف الخطاب “ لتصبح أفعال الآخرين اللغوية التي يشاركون بها في السياق التواصلي، هي السياق الدافع لإنتاج الخطاب اللاحق…. إذ لا يحصل التواصل أو إدراك القصد دون تفاعل تعاوني منسق (50).

وعن أبي هريرة  أنّ رسول الله  قال: ألا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟” قالوا: بَلَى، يَا رسولَ اللهِ، قال: ” إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الخُطَا إِلَى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ “.(51)

جيء بأسلوب الاستفهام في هذا الحديث بغرض لفت الانتباه، لأنّ الإخبار المباشر والتبليغ لا يحققان الغرض من الخطاب، والمتمثل هنا في إرشاد الناس إلى منفعة عملية تكسبهم نشاطا وقوة ورضا الله ، فالقيام ليلا للوضوء والصلاة هي أعمال فيها حركة واجتهاد لمقاومة خمول النفس، فهي تبعث النفس على تجديد طاقتها، وكذا القرب من الله U، ولذلك فإنّ تلفظ المرسل بخطاب ينطوي على أسلوب الاستفهام يتجاوز الفعل اللغوي الإنجازي إلى الفعل التأثيري، وهو العمل بهذه الأعمال التي ذكرها .

وقد يراد بالاستفهام الاختبار و”هذا غرض بلاغي القصد منه أن يختبر السائل المسؤول وهو يقتضي أن يكون السائل عارفا بجواب ما يسأل عنه”(52)، وظيفة الاستفهام في هذه الحال تعليمية لأن المرسل باستفهامه يضع المقرّر وكأنه أمام أمر لا بد فيه من الإجابة، ومن ذلك ما ورد عن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رسولَ الله  يقول: “أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهْرَاً بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرنهِ شَيْءٌ ؟” قالوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرنهِ شَيْءٌ قَالَ: “ فَذلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا”(53).

استعمل الرسول أسلوب الاستفهام موظفا الاستراتيجية التضامنية، محققا بذلك التفاعل بينه وبين الصحابة  بدل أسلوب التوجيه المباشر، رغم يقينه بأنّ سلطته تخوّل له استخدام هذا الأسلوب المباشر في التوجيه والإرشاد، هذا التوجيه الذي كان الصحابة  يمتثلون له لأنّ سلطته  دينية والدين مقدس عند المسلمين “ والقداسة أقوى وأعلى من المؤسسة التي تواضع عليها البشر”(54).

كما نلاحظ أيضا استعمال النمط الحجاجي، وذلك باستعمال الاستفهام التقريري، ويعد أسلوب الاستفهام أشد إقناعا للمرسل إليه وأقوى حجّة عليه، فالاستفهام هنا فعل حجاجي بالقصد المضمر فيه، وفق ما يقتضيه السياق، فالمرسل إليه يدرك أنّ هذه الأسئلة ليست استفهاما عن مجهول، وأن المرسل لا يجهل شيئا من هذه المعارف(55)، ولهذا ” فهي حجج باعتبار قصد المرسل لا باعتبار الصياغة والمعنى الحرفي فقط”(56).

وعن عائشة (رضي اللَّه عنْهُا) أَنَّ قريشاً أَهَمَّهُم شَأْنُ المرأةِ المَخزُومِية التي سَرقَت فقالوا: من يُكلِّمُ فيها رسولَ اللَّه ؟ فقالوا: مَن يجترئ عليهِ إلا أُسامةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسول اللَّه ؟ فَكَلَّمهُ أُسامةُ ، فقالِ رسول اللَّه : “ أَتَشفعُ في حدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ تعالى؟” ثم قامَ فَاخْتَطَبَ ثم قال: ” إنما أهْلَكَ من قبلكُم أنَّهُم كانُوا إذَا سرقَ فِيهِم الشَّريفُ تَركُوهُ، وإذا سرق فِيهمِ الضَّعِيفُ أَقامُوا عليهِ الحدَّ، وأيْمُ اللَّه لو أنَّ فاطمَة بنت محمدٍ سرقَتْ لقَطَعْتُ يَدهَا”(57).

الفعل الإنجازي متضمن في استفهامه  “أتشفع في حد من حدود الله” وهو استفهام إنكاري فقد أنكر الرسول rعلى أسامة  سلوكه، بأسلوب الاستفهام وهو بهذا يثير في نفس أسامة التفكير ويدفعه إلى تدبر العواقب، حتى يقتنع بتفكيره الخاص بأنه ما كان ينبغي أن يقع ما وقع.

أمّا في الحديث الذي رواه أبو هريرة  أنّ الرسول  قال:” بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً هَل تَنْتَظِرُونَ إلاَّ فَقْراً مُنْسِياً، أَو غِنَى مُطغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفسِداً، أو هَرَماً مُفَنِّداً، أَو مَوتاً مُجْهزِاً أَو الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وأَمَرُّ ؟”(58)، فنجد أنّ الرسول  استعمل أسلوب الاستفهام في قوله “هل تنتظرون” ثم أجاب مباشرة دون انتظار أن يجيبه الصحابة  بنعم أولا، وذلك لأن قصده من الاستفهـام ليس تلقي الإجابة بل أن تأتي الإجابة باستجابة فعلية فالاستفهام هنا ليس استفهاما حقيقيا بل هو توجيه، وقد صنّف (باخ)(Bakh) الأسئلة ضمن أصناف الأفعال التوجيهية، وهذه الأخيرة “تعبر عن توجّه المرسل إلى أن يُنفذ المرسل إليه بعض الأفعال في المستقبل”(59).

وعن أبي سعيد الخدري  أنّ النبي  خرَج علَى حَلْقَةٍ مِن أَصحابِه فقال: “ما أَجْلَسكُمْ؟ ” قالوا: جلَسْنَا نَذكُرُ اللَّه، ونحْمدُهُ علَى ماهَدَانَا لِلإِسْلامِ، ومنَّ بِهِ عليْنا. قَال: “آللَّهِ ما أَجْلَسكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟” قالوا: واللَّه ما أَجْلَسنا إِلاَّ ذَاكَ. قالَ: “أَما إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهمةً لكُمْ ولِكنَّهُ أَتانِي جبرِيلُ فَأَخْبرني أَنَّ اللَّه يُباهِي بِكُمُ الملائكَةَ”(60).

استعمل الرسول  في هذا الحديث أساليب متنوعة من استفهام “ما أجلسكم؟” واستفهام مع نفي “الله ما أجلسكم إلاّ ذاك؟” وجملة مؤكدة بنفي” أمّا إنّي لم استحلفكم تهمة لكم”، وذلك أنّ المستفهم عن الشيء قد يكون عارفا به مع استفهامه في الظاهر عنه، لكن غرضه من الاستفهام مقاصد أخرى كأن يُري المسئول أنه خفي عليه أمر ليسمعه الجواب، أو لاستدراج المرسل إليه إلى الحوار والذي هو “بنية تداولية يقترن فيها قصد التوجيه بقصد التأثير والتقويم الأخلاقي المقترن بالعمل”(61).

فمعيار نجاح فعل التكلم هو الأثر الذي سيظهر على السامع، والملاحظ أنّ سؤال الرسول للصحابة  جعلهم يتفاعلون معه، إذ إنّ الأفعال اللغوية التي يشارك بها المتلقي في الحوار، تعتبر السياق الدافع لإنتاج الخطاب اللاحق وهو الوصول إلى الخبر الذي أراد  أن يوصله للصحابة  وهو أنّ الله  يباهي بهم الملائكة لجلوسهم بغرض حمده وشكره على نعمه، كما نلاحظ تكرار استعمال أسلوب الاستفهام في هذا الحديث وذلك لأن المقام يستلزم ذلك، وهذا ما ذهب إليه عباس حسن بقوله: “واعلم أنّ التكرار أسلوب من أساليب العربية يؤتى به لتأكيد القول وتثبيته حينما يستلزم المقام ذلك”(62)، والتأثير على الملتقى هو ما يعمد إليه المرسل إليه، فالرسول  في هذا المقام بصدد تربية الصحابة  التربية الدينية التي توصلهم إلى الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة.

وعن أبي عبد الرحمن عَوف بن مالك الأشجعي  قال: كنا عند رسول الله  تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: “أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّه؟” وكُنَّا حَدِيثي عَهْدٍ بِبيْعَةٍ، فَقُلْنا: قَدْ بايعْناكَ يا رسُولَ اللَّهِ، ثم قال: “أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّه؟” فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فَعَلاَم نَبَايِعُكَ؟ قال: “على أَنْ تَعْبُدُوا اللَّه ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً والصَّلَوَاتِ الخَمْس وَتِطيعُوا اللَّه” وَأَسرَّ كلمَة خَفِيةً “وَلاَ تَسْأَلُوا النَّاسِ شَيْئاً “ فَلَقَدْ رَأَيتُ بَعْضَ أُولِئكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحدِهِمْ فَما يَسْأَلُ أَحَداً يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.(63)

الفعل الإنجازي في الاستفهام (ألا تبايعون) والغرض المتضمن فيه هو الأمر أي (بايعوا رسول الله) وبمنظور تداولي علينا أن نحدّد منزلة كل من المتكلم والمتلقي لمعرفة غرض الفعل الطلبي إن كان أمرا أو التماسا، وبما أنّ الفعل صادر من الرسول  -وهو يمتلك من السلطة الدينية والمعنوية ما ليس بخاف-، فإن الفعل الطلبي في هذا السياق هنا يمكن أن يكون أمرا وتكمن قوّة الفعل الإنجازي هنا في تكرار الاستفهام الطلبي، والتكرار يدل على أهمية الأمر الذي كان الرسول  بصدد تبليغه للصحابة .

وبما أنّ الفعل الكلامي، ينتج عنه حتما فعل تأثيري فإن هذا التأثير قد حصل بقرينة قول راوي الحديث: “ فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحد يناوله إيّاه”.

ومن هنا نستنتج أن الاستفهام في هذا الحديث جاء بغرض الطلب كما أنه وباعتباره فعلا كلاميا مكرّرا في ذاته فقد أدى إلى تحقق الوظيفة الإقناعية(64).

وقد يراد بالاستفهام الاعتراف بحقيقة ثابتة وهذا ما نلمحه من خلال الحديث الذي رواه ابن مسعود  أنّ النبي  قال: “ أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِليه مِن مَالهِ ؟” قالوا: يا رَسولَ اللَّه ما مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِليه، قال: “ فَإِنَ مَالَه ما قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثهِ ما أَخَّرَ”(65).

غرض الاستفهـام هنا هو التقرير، والتقرير يكون على ضربين الأول: تقرير المخاطب على فعل مضى ووقع، والثاني: تقرير المخاطب على فعل هو في الحال ليواجه المُقرر بذلك وهناك استفهام يراد به التثبيت، أي الاعتراف بحقيقة ثابتة، وهذا هو غرض الاستفهام الموجّه هنا إلى الصحابة فوضع الكلام في صورة الاستفهام يضع المقرر وكأنّه أمام أمر لابد فيه من الإجابة، والقرينة على ذلك إجابة الصحابة: (يا رسول الله ما منّا أحد إلا ماله أحب إليه).

والمرسل هنا وهو الرسول  يدرك الإجابة يقينا لكنّه استعمل الاستفهام بهدف إثباتها وتقريرها، كحقيقة أكيدة قصد التأثير في المتلقين، ليجيبهم بعدما قرّرهم بقوله: “ فَإِنَ مَالَه ما قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثهِ ما أَخَّرَ” وهذا لأن أفعال التوجيه غايتها حمل الشخص على القيام بأمر معيّن، أو نصحه، أو نهيه عن أمر أتى به، والرسول  لم يعمد إلى استعمال أسلوب الإخبار وإن حمل المعنى نفسه ولكنه عمد إلى أسلوب إنشائي يتمثل في أسلوب الاستفهام وذلك لأن هذا الأسلوب يدمج المتلقي في النص ولا يسمح له بالحياد أو المراقبة فقط بل يشركه في تكوين المعنى.

وعن أسامة بن زيد  قال: بعثنا رَسُول الله  إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَصَبَّحْنَا القَوْمَ عَلَى مِيَاهِهِمْ، وَلَحقْتُ أنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشَيْنَاهُ، قَالَ: لاَ إلهَ إلاَّ الله، فَكفَّ عَنْهُ الأَنْصَاري، وطَعَنْتُهُ برُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ، بَلَغَ ذلِكَ النَّبيَّ  فقال لي: “يَا أُسَامَة، أقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ ؟”، قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا كَانَ متعوِّذاً، فَقَالَ: “ أقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ؟” فما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمنْيَّتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ اليَوْمِ(66).

طرح الرسول  في هذا الحديث استفهاما إنكاريا، إنكارا منه لفعل أسامة والاستفهام الإنكاري معناه إنكار وقوع الشيء ماضيا أو مستقبلا على سبيل التوبيخ، فلا يتم تقرير المخاطب في شيء، وإنما ينكر عليه ويستهجن منه ما حدث، سواء كان قولا قاله أو فعلا فعله ولم يكن ينبغي له ذلك، فيوبّخ على ما صدر منه، وحينما يُلقى الكلام بصيغة الاستفهام الإنكاري فكأن السائل ينتظر من المسؤول جوابا، فهذا الأخير سيفكر ويراجع أفعاله أو أقواله وسيجد نفسه بعد هذه المراجعة في ضيق وحرج،(67) وهذا ما شعر به أسامة  حين قال: (تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) وعن هذا عبّر النووي (رحمه الله) فقال: “ قاله من عظم ما وقع فيه”(68).

فالاستفهام الإنكاري من الأساليب البلاغية المهمّة في البلاغة العربية لما له من وقع في النفس أبلغ وأشد في إبراز الأمر المستفهم عنه، والذي لا ينتظر جوابا عليه، إذ يكون بذلك أكثر تأثيرا في المرسل إليه وردعا له، ومنه فإنّ الفعل التأثيري يكون ناجحا اعتمادا على سلطة المرسل، ونحن هنا بصدد دراسة لغة الحديث النبوي، المرسل فيه هو الرسول  وله من السلطة الدينية والمعنوية ما يخوّل له إصدار الأوامر والنواهي، وتوبيخ المخطئ وزجره.

وينبثق من الفعل التأثيري قوّتان: قوّة إبلاغية هي الوظيفة الكامنة في الفعل الكلامي وقوّة تأثيرية تتمثل في آثار الفعل الكلامي ونتائجه(69)، إذ إنّ للفعل الكلامي قدرة على إنتاج آثار ثانوية قد تكون آنية، وقد تتجاوز اللحظة التي قيل فيها الفعل الكلامي، والفعل التأثيري الناتج عن أحاديث الرسول  باق خالد إلى غاية فناء البشرية.

كما نلاحظ استعماله  لأسلوب النداء في مخاطبته لأسامة وقد تكرر ورود هذا الأسلوب كثيرا في بداية الحديث النبوي مستهلا به الرسول  خطابه، فنستنتج من ذلك أن أسلوب النداء في الأحاديث النبوية يعتبر مدخلا للأفعال الكلامية الأخرى التي يأتي بعدها الهدف من خطابه  مباشرة سواء كان ذلك توجيها أو إخبارا أو إنكارا وغيرها من المقاصد.

وعن أبي بكرةَ نُفيْع بنِ الحارثِ  قال: قال الرسول: “ أَلا أُنَبِّئُكمْ بِأكْبَرِ الْكَبائِرِ؟” قلنا بلى يا رسول الله، قال: “ الإِشْراكُ بِاللَّهِ، وعُقُوقُ الْوالِديْن”، وكان مُتَّكِئاً فَجلَسَ فقال: “أَلا وقوْلُ الزُّورِ وشهادُة الزُّورِ “ فَما زَال يكَرِّرُهَا حتَّى قُلنَا : ليْتهُ سكتْ(70).

إن الميل إلى اعتماد الأسلوب الإنشائي المتمثّل في أسلوب الاستفهام يثمر عنه تفاعل بين طرفي الخطاب، يتجسد في سرعة استجابة المتلقين، فالمتكلم يلجأ إلى توظيف هذا الأسلوب ليبعث في النص “حياة وحركة، ويمنحه أسباب القدرة على الإقناع، والإمتاع، فيستهوي المستمعين ويجعلهم أكثر تفاعلا مع الهدف المنشود”(71).

فالمرسل هنا وهو الرسول  وظّف أسلوب الاستفهام ليخرج الحديث من سياق الإخبار إلى سياق التوجيه (ألا أدلكم) ليصرف عنه البعد الإكراهي، ومن هنا “ يتبيّن لنا مدى تعقيد مهمة الرسول  في إحداث الإقناع واستحضار الإرادة التي تخدم هدف الحديث الذي هو إصلاحي في كل الأحوال”(72).

ويلحظ في كثير من الأحاديث استعمال صيغة (ألا) التحضيضية المكونة من همزة الاستفهام ولا النافية، وهذه الصيغة فيها مبالغة في الترغيب واستثارة الحوار، وهذا ما ذهب إليه الزمخشري في سياق حديثه عن قوله : ﴿أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (التوبة: جزء من الآية 13)، “ دخلت الهمزة على (لا تقاتلون) تقريرا بانتفاء المقاتلة والحض عليها على سبيل المبالغة”(73).

شوّق الرسول  في هذا الحديث الصحابة  لمعرفة الإجابة، لأنّ النفس البشرية تتشوق إلى المعرفة وتشتاق إليها، وتنفر من الجهل، وتأبى أن توصف به، فكيف إذا كان العلم من الرسول  والمتلقون هم الصحابة .

وعن جابر  قال: أُتَيتُ النبي  فَدَقَقْتُ الباب فقال: “مَنْ هَذَا؟” فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَال: “أَنَا أَناَ” كَأَنَّه كَرِهَهَا(74).

إنّ قول جابر (أنا) لا يتضمن الجواب، ولا يفيد العلم بما استعلمه النبي “وكان حق الجواب أن يقول: (أنا جابر) ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه، إذ لم يحصل بقوله (أنا) فائدة ولا زيادة بل الإبهام باق”(75)، ولذلك انتقد النبي  جواب جابر الذي لم يحصل به المقصود من سؤاله حين استفسر عن هوية الطارق بقوله: (من ذا)، وعرف نقده من تعريضه بجواب جابر حين رد عليه مكرّرا قوله: “ أنا أنا”، والتعريض خلاف التصريح من القول إذ إنّ تتابع التوجيه بطريقة مباشرة وكثرته تجعل منه أمرا مملا في كثير من الأحيان، فإذا ما أُدّي من خلال تعريض أو تشبيه أو مثال، أو غيرها من أساليب البيان أصبح أكثر تأثيرا في المتلقي وذلك لأنّ نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب ينشط ذهن السامع ويوقظه، ويجعله أكثر استعدادا لتلقي الرسالة، فالغرض الإنجازي في هذا الحديث متضمن في أسلوب الاستفهام الذي نتج عنه فعلا تأثيريا، والقرينة قول جابر: ̋ كأنّه كرهها̋، إذ إنّه فهم تعريض النبي بجوابه.

وقد يعمد المتكلم إلى أن يصدر كلامه بالسؤال قصدا منه إلى التشويق إليه، لأنّه أمر عظيم أو عجيب، أو ما إلى ذلك من المعاني التي تصاحب معنى التشويق، ومن أمثلة ذلك في الحديث النبوي الشريف الحديث الذي رواه عقبة بن عامر  أنّ رسول الله  قال: “ أَلَـمْ تَرَ آيات أُنزلتْ هَذِهِ الليلة لَـمْ يُرَ مِثْلُهنَّ قَطْ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾”(76).

تصدّر الحديث فعل إنجازي (ألم تر)، والمرسل هنا حين يستفهم لا ينتظر ردا من المتلقي ولكن ما يهمّه هو إحداث التفاعل بينه وبين المتلقي، وتحقيق مبدأ الإفادة، فالخطاب الإنشائي لا يصف الواقع إنّما يدفع إلى التأثير فيه وتغييره والأساليب الإنشائية هي أبرز مظاهر اللغة التي تعرب عن حيويتها(77).

ونجد في بعض الأحاديث أنّ  يأتي في كلامه بما يخفى على المخاطَب، ويكون غريبا عليه فيدعوه ذلك إلى التساؤل والحوار، ثم يستعمل أسلوب الاستفهام ليوضح الأمر للمخاطَب ومن ذلك حديث أبي ذر  أنّ ناسا من أصحاب النبي قالوا له: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بَفُضُولِ أمْوَالهِمْ قال: “أوَ لَيْس قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ، إنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدقَةً، وكُلِّ تَكبِيرةٍ صدقة وكلِّ تَحْمِيدةٍ صدقةً، وكلِّ تِهْلِيلَةٍ صَدقَةً، وأمرٌ بالمعْرُوفِ صدقةٌ، ونَهْىٌ عنِ المُنْكر صدقةٌ، وفي بُضْعِ أحدِكُمْ صدقةٌ” قالوا: يا رسولَ اللَّهِ أيأتي أحدُنَا شَهْوَتَه، ويكُونُ لَه فيها أجْر؟ قال: “أرأيْتُمْ لو وضَعهَا في حرامٍ أَكَانَ عليهِ وِزْرٌ ؟ فكذلكَ إذا وضَعهَا في الحلاَلِ كانَ لَهُ أجْرٌ”(78).

ففي قوله : “وفي بضع أحدكم صدقة” غرابة تثير حوارا، وهذا بالفعل ما حدث فالصحابة  لم يستطيعوا السكوت على هذه المعلومة، لأنّ الذي وقر في أذهانهم أنّ الأجر إنّما يكون على الواجبات التي يتحمل المسلم في أدائها شيئا من المشقة، أمّا الشهوات التي يمارس فيها الإنسان غريزته فكيف يكون له فيها أجر إن أتاها؟ فإتيانه  بهذه الجملة أثار حوارا حرّك السامعين وجعلهم أكثر تجاوبا معه.

ولعل مما زاد في إثارة ذهن الصحابة  تركيب الجملة ومجيئها على خلاف تركيب الجمل التي سبقتها، فتبدوا أنها غير معطوفة على ما قبلها وإنّما هي مستأنفة، وقدم فيها الجار والمجرور وحقه التأخير، وأسهم في ذلك أيضا تأخير الجملة إلى آخر الحديث ليتوقف عندها.

وقد يرد أسلوب الاستفهام بغرض التلطف في العرض، ومن ذلك حديث علي بن أبي طالب  أنّ النبي  طرقه وفاطمة ليلا فقال: “ألاَ تُصلِّيَان؟”(79).

في هذا الحديث تصدّرت جملة الاستفهام أداة تحضيض˝ألا˝، وهي كما سبق وأن ذكرنا تشكل مع فعلها فعلا كلاميا يفيد معنى العرض، وهذا التلطف في العرض الغرض منه عدم إشعار المتلقيّان وهما علي بن أبي طالب وفاطمة (رضي اللَّه عنْهُما) بأنّ الأمر مفروض عليهما فالابتعاد عن استعمال الخطاب الذي يدل على الطلب المباشر، وعدم الإلحاح على الأمر يؤثر على النتيجة المترتبة عن الخطاب.

ونجد في بعض الأحاديث ورود أسلوب الاستفهام الحقيقي أي الذي يقصد منه طلب معرفة أمرا نجهله، ولكننا إذا تأملنا جيدا نجد غرضا آخر مضافا إلى الغرض الظاهر من الاستفهام ومثل ذلك ما ورد َعنِ ابنِ عبَّاسٍ  أَنَّ النبي  لَقِيَ رَكْباً بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: “منِ القَوْمُ ؟” قَالُوا: المسلِمُونَ، قَالُوا: منْ أَنتَ؟ قَالَ: “رسولُ اللَّهِ”، فَرَفَعَت امْرَأَةٌ صَبِياً فَقَالتْ: ألهَذا حجٌّ؟ قَالَ: “ نَعَمْ ولكِ أَجرٌ”(80).

ومن أمثلة ذلك أيضا قوله: “من هذه؟” حين سأل عائشة (رضي اللَّه عنْهُا) عن امرأة كانت عندها(81)، فالرسول  في هذا المقام يسأل من باب العناية بالمخاطب فكان  يتعرف على من يلتقي به أو من يقصده وافدا أو طالبا للفتوى.

نظرت التداولية إلى أسلوب الاستفهام على أنه فعل كلامي يرمي إلى التأثير في المخاطب بدعوته إلى ترك أو فعل أو تقرير أو نفي وغيرها من المعاني، كما تضمّنت الأفعال الكلامية الواردة في الأحاديث النبوية الطابع النفعي، والذي يقصد من خلاله التواصل بغية تحقيق منفعة، وتحقيق الفائدة من الرسالة هو غاية المرسـل فالأفعال الكلامية الواردة في الأحاديث النبوية تحمل شحنة دلالية، مما جعلها وسيلة للتأثير وتغيير السلوكيات الإنسانية، كما أن ورود الأفعال الكلامية بأسلوب الاستفهام أسهم في تقبل المتلقين لها لأنها جاءت بأسلوب مقنع بعيد عن الإكراه والتكليف، كما استعمل الرسول  كل من الاستراتيجية التوجيهية والاستراتيجية التضامنية لإنجاز عملية التواصل وذلك بإيصال الرسالة إلى المتلقين، وتغيير مفاهيمهم العقيدية وتصحيحها وإرشاد الناس إلى المبادئ التي يسيرون عليها لتحقيق الهدف الأسمى الذي هو رضا الله ودخول الجنة، وبالتالي فالتداولية هي آليات وإجراءات تساعد على فهم نص الحديث النبوي، والكشف عن خباياه وقصديته ومدى تأثيره في الآخر، كما قد تسمح لنا بإعادة قراءة جديدة للحديث النبوي تزيد من فهمنا له.

  الهوامش

1- محمد أديوان، “نظرية المقاصد بين حازم القرطاجني ونظرية الأفعال اللغوية المعاصرة”، مجلة الوصل

معهد اللغة العربية وآدابها، تلمسان: 1994م، ع1، ص 41، ص42.

2- ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، ط1. ليبيا: 2004م، دار الكتاب الجديد       المتحدة, ص123.

3- الجيلالي دلاش، مدخل إلى اللسانيات التداولية، تر: محمد يحياتن، د ط. الجزائر: 1992م، ديوان المطبوعات الجامعية ، ص34.

4- محمود أحمد نحلة، آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، د ط. الإسكندرية: 2002 م ، دار المعرفة الجامعية، ص35.

5- أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، ط1. الدار البيضاء: 1986م، دار الثقافة، ص95.

6- آن روبول وجاك موشلار، التداولية اليوم، تر: سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، ط1. بيروت: 2003م ، دار الطليعة ، ص61.

7- ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص197.

8- ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص139.

9- السيوطي جلال الدين: الإتقان في علوم القرآن، ط1. مصر: 1979م، المطبعة الأزهرية ، ج1، ص79.

10- عمر بلخير، “التناول التداولي للخطاب الأدبي”، مجلة القصة، 1999 م، ع2، ص70.

11- أبو زكريا محي الدين يحي بن شرف النووي، رياض الصالحين، تخ: أبو عبد الرحمن عادل ابن سعد، د ط. باب الواد الجزائر: د ت، دار الرشيد للكتاب. ص55.

12- خليفة بوجادي، في اللسانيات التداولية، مع محاولة تأصيلية في الدرس العربي القديم ط1. الجزائر: 2009م، بيت الحكمة ، ص180.

13 – رياض الصالحين، ص195.

14- المصدر نفسه، ص104.

15- يوسف بن محمد بن علي السكاكي، مفتاح العلوم، تح: عبد الحميد هنداوي، د ط. بيروت: 1420هـ- 2000م، دار الكتب العلمية ، ص152.

16- رياض الصالحين، ص55.

17- ابن علي ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط2. بيروت: 1997م، دار الكتب العلمية ، ج3، ص4.

18- رياض الصالحين، ص87.

19      p 47., – Quand dr c’s far, J Ausn.L.

20-رياض الصالحين، ص344.

21- المصدر نفسه، ص419.

 22-

Collcon savor- scncs. .Ducro,Dr  n pas dr, Prncp sémanqu- lngusqu, O ém Édon, Hrmann dur d scnc  ds ars, Paris : 1991, p 93.   

 23- أبو زكريا محي الدين يحي بن شرف النووي، المنهاج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج ط1. عمان: 2002 م، دار ابن حزم، ج9، ص 176.

24- ابن حجر، فتح الباري، ج10، ص ص229- 630.

25- رياض الصالحين، 108.

26- فتحي عبد الفتاح الدجني، الإعجاز النحوي في القرآن الكريم مكتبة الفلاح، الكويت: 1984م، ص130.

27- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن،ج2، ص 86.

28- ذهبية حمو الحاج، لسانيات التلفظ وتداولية الخطاب، ط1. منشورات مخبر تحليل الخطاب، تيزي وزو: 2005م، دار الأمل للنشر، ص127.

29- بوجمعة شتوان، بلاغة النقد وعلم الشعر في التراث النقدي، ط1. منشورات مخبر تحليل الخطاب، تيزي وزو: 2007م، دار الأمل للنشر والتوزيع، ص306.

30- رياض الصالحين، ص119.

31- ظافر الشهري، استرتيجيات الخطاب، ص261.

32- المرجع نفسه، ص 323.

33- آمنة بلعلى، “الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار، نماذج من القرآن والحديث”، مجلة التراث العربي دمشق: مارس: 2003م، ع89، ص216.

34- السكاكي، مفتاح العلوم، ص77.

35- رياض الصالحين، ص367.

36- ينظر: ابن حجر، فتح الباري، ج1، ص227.

37- آمنة بلعلى، “الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار”، ص 214.

38- ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص240.

39- رياض الصالحين، ص295.

40- المرجع نفسه، ص270.

41- ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص 360.

42- أحمد المتوكل، الوظائف التداولية في اللغة العربية، ط1. المغرب: 1985 م، دار الثقافة، الدار البيضاء ص 161.

43- ظافر الشهري، المرجع السابق، ص 352.

44- آمنة بلعلى، “الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار”، ص 233.

45- أحمد محمود نحلة ، آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، د ط. مصـر: 2002 م دار المعرفة    الجامعية الإسكندرية ، ص54.

46- فان دايك، النص والسياق، ص277.

47- رياض الصالحين، ص134.

48- بدر الدين محمد الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ط3. القاهرة: 1980م، دار الفكر للطباعة والنشر ، ج2، ص328.

49- شفيع السيد، البحث البلاغي عند العرب، تأصيل وتقييم، ط1. مصر: د ت، دار الفكر العربي القاهرة، ص185 ص186.

50- ظافر الشهري، استرتيجيات الخطاب، ص ص43- 44.

51- رياض الصاحين، ص273.

52- قطبي الطاهر: الاستفهام البلاغي، د ط. الجزائر: 1992م، ديوان المطبوعات الجامعية ، ص42.

53- رياض الصالحين، ص275.

54- عمر بلخير، تحليل الخطاب المسرحي، ص181.

55- ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص485.

56- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

57- رياض الصالحين، ص188.

58- المصدر نفسه، ص183.

59- ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص 338.

60- رياض الصالحين، ص349.

61- آمنة بلعلى، “الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار”، ص20.

62- عباس فضل حسن، البلاغة العربية فنونها وأفنانها، علم المعاني، ط4. الأردن: دت دار الفرقان، ص 487.

63-رياض الصالحين، ص162.

64- آمنة بلعلى، “الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار”، ص216.

65-رياض الصالحين، ص165.

66- رياض الصالحين، ص123.

67- عباس فضل حسن، البلاغة العربية فنونها وأفنانها، ص194.

68- النووي، المنهاج شرح مسلم ابن الحجاج، ص195.

69- ذهبية حمو الحاج، لسانيات التلفظ وتداولية الخطاب، ص126.

70- رياض الصالحين، ص108.

71- عباس محمود عبد الواحد، قراءة النص وجماليات التلقي بين المذاهب الغربية الحديثة وتراثنا النقدي، دراسة مقارنة ط1. القاهرة: 1996م، دار الفكر العربي، ص120.

72- آمنة بلعلى، “الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار”، ص225.

73- الزمخشري، الكشاف، ج2، ص244.

74- رياض الصالحين، ص240.

75- ابن حجر، فتح الباري، ج11، ص42.

76- رياض الصالحين، ص269.

77- خالد ميلاد، الإنشاء في العربية بين التركيب والدلالة، دراسة نحوية تداولية، ط1. تونس: 2001م، المؤسسة العربية للتوزيع، ص16.

78- رياض الصالحين، ص 50.

79- المصدر نفسه، ص295.

80- رياض الصالحين، ص197.

81- المصدر نفسه، ص240.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *