قضايا المرأة السورية ومعاناتها في رواية “دمشق يا بسمة الحزن” لألفة الإدلبي

محمد عبد الرب

ملخص البحث

تهدف هذه الدراسة إلى التعرف على القضايا الاجتماعية في رواية “دمشق يا بسمة الحزن” لألفة الإدلبي وتعالج هذه الرواية كثيرا من المشاكل والهموم  والقضايا الاجتماعية بدأً من تعليم البنات والزواج  والعنوسة، وتعدد الزوجات، وتزويج الرجال كبار السن من فتيات صغيرات  في السن دونما إعتبار لمشاعر المرأة ورغباتها، ومعاناة المرأة المثقفة  وغلاء المهور وعدم التكافؤ العمري والمعيشي والثقافي بين الزوجين، وتمرد المرأة على العادات والتقاليد الاجتماعية ذات السلطة الذكورية، والتفريق الجنسي والعنصري والطبقي، ومشكلة الإرهاب وغيرها الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية التي كانت موجودة في ذلك الزمن ولاتزال باقية حتى يومنا هذا  في المجتمع السوري.

كلمات مفتاحية: ألفة الإدلبي، دمشق يا بسمة الحزن، القضايا الاجتماعية، المجتمع السوري.

Abstract:

This study aims to identify the social issues in the novel “Dimashq Ya Basmat Al-Huzn” by Ulfa Al-Idlibi.

This novel deals with many problems, concerns and social issues, starting with girls’ education, marriage and spinsterhood, polygamy, the marriage of older men to young girls without regard to women’s feelings and desires, the suffering of educated women, high dowries, age, living and cultural inequality between spouses, and women’s rebellion against Social customs and traditions with patriarchal authority, sexual, racial and class distinctions, the problem of terrorism and many other aspects of social life that existed at that time and still remain to this day in Syrian society.

مقدمة:

تُعتبر ألفة الإدلبي من أبرز الروائيات العربيات اللواتي سعين لإعطاء حقوق المرأة وتحريرها من القيود والأغلال التي كانت في المجتمع السوري. فكانت تحاول دائما أن تعطي للمرأة حقها وحريتها من الاهتمام والتقدير، وكانت تظهر آثارها في الحياة العامة والقضايا العربية والسورية. ومن ثم، أسندت الكاتبة والروائية بطولة روايتها إلى نماذج نسوية متعددة منتشرة في أوساط المجتمع فقد ركزتها في صور متعددة.

عالجت الأديبة في روايتها دمشق يا بسمة الحزن هموم المرأة ومعاناتها ظاهرا وباطنا، وكثيرا من المشاكل الاجتماعية كالتخلف، والظلم والاحتقار. وكانت “صبرية”في هذه الرواية شخصية رئيسة وبطلة الرواية، التي قامت بمقاومة الإنجليز والفرنسيين، فهي إمرأة عانت الرفض من مجتمعها ومن تقاليدها وعاداتها ومن عائلتها، فكأنها فقدت كل حقوقها وحريتها في حياتها كإمرأة لا كيان لها ولا شخصية لها.

إنها كانت دائما مهمشة ومستبعدة. وهذا انعكاس لواقع المجتمع في مرحلة من المراحل، حيث كان المجتمع يرفض أي نوع من أنواع المشاركة والحضور للمرأة في واقع الحياة. فتواجه المرأة السورية كثيرا من الضغوطات والمشاكل بسبب العادات والتقاليد التي هي تعسفية في حقها غالبا، وكذلك بسبب عيشتها في مجتمع ذكوري يكون فيه الرجل سيد الموقف حتى في الأمور التي تتعلق بها وبمسار حياتها اليومية.

لقد عرضت الأديبة دراسة معظم الجوانب الاجتماعية والعاطفية والنفسية والأسرية، التي تعاني وتقاسيها المرأة في مجتمع ذكوري يستند إلى عادات عنيدة وتقاليد بالية. وكان ينظر إلى المرأة بازدراء واحتقار في المجتمع.

نبذة عن حياة الأديبة:

لقد أنجبت سوريا كثيرا من الشخصيات العباقرة والنوابغ الذين أدوا دوراً بارزاً   في تطوير اللغة العربية وآدابها في سوريا نثراً وشعراً وقصةً ومسرحيةً وروايةً. ومن هؤلاء الأدباء والشعراء والروائيين  والروائييات والمحققين ومن الأعلام البارزين  في تاريخ الأدب العربي الحديث الذين تفتخر بهم سوريا الحديثة هي ألفت عمر باشا الإدلبي اسمها الكامل ألفت عمر باشا الإدلبي[1]“.” ولدت في حي الصالحية بمدينة “دمشق” في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1912م هجري موافق 1331 هـ [2]”  من أبوين دمشقيين وهما السيد أبو الخير عمر باشا المنحدر من جبل قاسيون، ونجيبة الداغستاني  ، وفي أحضان البيئة الدمشقية الأصلية، وفى أسرة كريمة وكبيرة، وفى بيت يهتم بالأدب واللغة والثقافة، حيث نشأت وترعرعت وتربت فيها فعشقت أرضها واحترمت تراثها وقدست حضارتها. و كانت البنت الوحيدة بين خمسة اخوة. وقد طبقت شهرتها الآفاق في البلدان العربية عامة وفى سوريا خاصة واشتهر اسمها أيضا بأدب ما يسمي”الأدب النسائ” [3]. و بدأت حياتها الدراسية في مسقط رأسها فاستهلت تعليمها في البيت مع أمها في وقت مبكر من الطفولة. فقد كانت مغرمة بالأدب واللغة، وشغوفة بالقرأة والدراسة والمطالعة، ومولعة بالبحث والإطلاع، ومحبة للكتابة والتأليف. وكانت تدرس في مدرسة العفيف الإبتدائية. ثم التحقت  بدار المعلمات. كما ذكرت في روايتها المهمة “دمشق يا بسمة الحزن” “لأن  مدرسة دار المعلمات هى المدرسة الثانوية الوحيدة للبنات في سوريا كلها”[4]. “وتوفيت الأديبة اللامعة ألفة عمر الباشا الإدلبي بتاريخ 22/3/2007 في يوم الخميس عن عمر يناهز السادسة والتسعين عاما في العاصمة الفرنسية باريس حيث مكثت في بيت ابنها ياسر”[5]. قد ارتفعت روحها إلى السماء مطمئنة. وتركت المؤلفة وراءها كماً لا بأس به من  القصص والروايات والبحوث والمقالات ومجموعة محاضرات وغيرها. إن هذا الإرث الثقافي من الدراسات الأدبية والثقافية والروايات الاجتماعية والقصص القصيرة المهمة يتميز بالواقعية ويركز على الحياة الشرقية. وبسبب ذلك تعد واحدة من أكبر الأديبات المعاصرات السوريات.

معاناة المرأة  المطروحة في الرواية:

لا تخلو الحياة الإنسانية من وجود مشاكل ومصائب سواء تكون هذه المشاكل والمصائب والمتاعب في المنزل، أو السوق، أو في المدرسة والكلية والجامعة أو في مكان العمل. ويعاني كل مجتمع من العديد من القضايا الاجتماعية التي تؤثر عليه ونذكر بعضا منها: الأمية والعبودية، والفقر والبطالة، وعمالة الأطفال، والزواج المبكر، وترويج المخدرات وغيرها.

إن الموضوعات التي عالجتها الكاتبة في هذه الرواية القيمة هي القضايا الاجتماعية وهموم  المرأة  العربية ومعاناتها خاصة المرأة السورية من حيث الزواج، والطلاق، والحب، والفراق، والوجد، والشوق، والحرمان، والخيانة والشعور بالغربة. ذكرت الأديبة هذه الأحاسيس كلها بجرأة نادرة وبصراحة بالغة. وتتميز هذه الرواية بالجدة والجدية في تناول الموضوعات الاجتماعة ولاسيما تلك المتعلقة بالمرآة السورية في قالب فني رائع.

لقد تناولت الروائية في هذه الرواية “دمشق يا بسمة الحزن” المعاناة الشديدة التي تعاني منها بطلة الرواية “صبرية” في الحياة اليومية وتعيش محبوسة في البيت. كما أولت الكاتبة اهتماما كبيراً بقضايا المرأة السورية ومعاناتها وبؤسها وهمومها في المجتمع السوري الذكوري من خلال كتاباتها القصصية والروايات، وعالجت فيها كثيرا من مشاكل المرأة اليومية بدقة ورؤية واعية متأنية، وقدمت دعما كبيراً لحقوق المرأة لكي تقوم المرأة السورية بدورها الفعال في كل مجال من مجالات الحياة، حيث لا تشعر بحاجة إلى الرجال لحل مشاكلها الذاتية والنفسية. كما حثت المرأةَ العربية السورية عن طريق كتاباتها أن تكسر الأغلال والأصفاد والقيود وتذلل الصعوبات التي تواجهها في المجتمع. الآن أسلط الضوء هناعلى أهم القضايا الاجتماعية التي صورتها الكاتبة في الرواية وذلك بشكل موجز:

 (1) استسلام المرأة للقيام بدورها التقليدي:

إن رواية “دمشق يا بسمة الحزن” تطرح موضوعا هاما هنا، وهو التنشئة الاجتماعية وتأثيرها على دور الأنثى في المستقبل. فأمّا صبرية فحرمت من إكمال تعليمها وحبست في المنزل وقامت بممارسة الأعمال المنزلية، وهي كانت عاقلة وحاذقة بصناعتها. واستمرت في القيام بهذا الدور في المنزل طول حياتها. فقد تعلمت من أمها كل المهارات من نسج، وغسل، وطبخ، وحلب، وجلب المياه، وتنظيف البيوت في المواسم المختلفة من الصيف والشتاء، وظلت تقوم بهذه الأدوار حتى وفاتها. وتتم تربية الفتاة على العيب والحرام، في مجتمعنا، وعلى الخدمة للذكر، والاحترام والطاعة  للأب والأخ والزوج.

كما أوضحت لنا الأديبة هذه المسألة “كانت أمي توقظني كل يوم قبل شروق الشمس لأعينها على تنظيف البيت وتحضير طعام الإفطار. في بلادنا يدربون البنت على خدمة الرجل منذ أن يتفتح وعيها، أبا كان أو أخا، زوجا أوابنا، حتى إذا كبرت شعرت أن خدمته أمر بدهي”[6].

تقضي المرأة أوقاتها كلها في القيام بالأعمال المنزلية أي النظافة وترتيب البيت بأجمل صورة، منذ نعومة أظفارها إلى نهاية الحياة، ولو كان أثاث البيت متواضعا والعكس بالعكس. وعندما يرجع الزوج والأولاد من أعمالهم ودراستهم يجدون بيتا نظيفا فيخف عنهم العناء والإرهاق والعكس بالعكس، ويشعرون بالراحة والاطمئنان. وإذا لم تقم المرأة بالأعمال المنزلية فمن الذي يقوم بها؟ ومع ذلك، ينكر كثير من الرجال دور المرأة في حياتها العملية. 

(2) محاولة حرمان المرأة من الميراث:

إن حرمان المرأة من الميراث قضية كبيرة من القضايا الاجتماعية، لأن المرأة تحرم من الميراث، فتعاني من المشكلة النفسية من القلق والتوتر الدائمين، وفقدان احترام الذات، وانخفاض مستوى الشعور بقيمة الذات، وفقدان الثقة بالنفس.

وينافي حرمان المرأة من الميراث للدين الحفيف، بل هذا أمر غير شرعي. ومن يقترفون بهذا الأمر الغير الشرعي فهم الجاهلون، والبعيدون عن تعاليم الإسلام وأحكام الكتاب والسنة. وكان أصبح حرمان المرأة من الميراث ظاهرة خطيرة تفشت في المجتمع السوري، نتيجة للموروث الثقافي والسيطرة الذكورية أن المراة لا قيمة لها ولا أهمية في المجتمع، ولا حق لها في الميراث. فإن المرأة لا تطالب بحقها في الميراث لعدة وجوه، ومن أهمها: الخوف من الظلم الذي يأتي في شكل التهديد المباشر أو الغير المباشر من الإخوة أوالمجتمع.

يحاول أخوا صبرية محمود وراغب إجبارها على التنازل عن الميراث، فلم يمض على موت أبيهم سوى عشرة أيام إلا وهم كانوا يتشاورون في غرفتهم حول بيع بيتهم بعد مرور أربعين يوما على وفاة أبيهم.

ولم تكن صبرية موجودة معهم وقت التشاورلأنها كانت ذهبت إلى المقبرة لتزور قبر أبيها. واغتنم الإخوة الفرصة لبيع البيت، واعتبروا الإسراع ببيع البيت أمرا ضروريا لأن أسعار الأملاك مرتفعة. قال محمود إذا بعنا البيت أين ستسكن أختي صبرية ؟ قال راغب ملاطفا زوجته لاتقلقي ولا تنزعجي سنستأجرلها بيتا صغيرا وتسكنها وحدها، فقالت زوجته ما شاء الله، ولكن برأي يليس من المناسب أن تسكن أختكما العانس وحدها في بيت مستأجر. فقال راغب إنها فكرة لا بأس بها، لكن أبانا خصص ثروته كلها لأبنائه الذكور. ولهذا السبب لن ترث صبرية من أبيها الثري شيئا، فأرادت زوجة راغب أيضا إخراجها من البيت الآن.

 كما ظهر في الرواية أنها قالت بلهجة قاطعة: “يوم تدخل أختك بيتنا سأخرج منه أنا[7]“. وترفض صبرية أن تتنازل عن حقها في الإرث وتقف أمام أخيها وزوجة أخيها بصلابة “لن يستطيعوا أن يخرجوني من بيتي هذا إلاّ جثة هامدة”[8].

وفي ضوء الإسلام، إن حرمان المرأة من الميراث حرام وظلم كبير، لأن دين الإسلام هو دين العدالة والمساواة، دين الإسلام الذي أنصف إلى  المرأة وأعطاها نصيبها وحقوقها. ولقد حدد الله سبحانه وتعالى نصيبها من الميراث، كما جاء في سورة النساء، “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف إلخ”[9].

وكما ورد في الحديث النبوي “قال النبي صلى الله عليه وسلم من فر من ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة”[10]، فإن حرمان المرأة من الميراث هو عمل الجاهلية. لما جاء الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن جور الإديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، حرّر المرأة من وأدها ومن حرمانها من الميراث، وبسط لها يد المساعدة وأحاطها بهالة من الاحترام، وأعطى لها حقوقها وحريتها، وساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، ولم يجعل بينهما تمييزا على أساس الجنس. أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاملة النساء بالمودة والرحمة والخير، ولكن بسبب الاختلاط بين الأمم فقدت المرأة هذه المكانة العظيمة وحرمت من عزتها وكرامتها وشرفها.

(3). قسوة المجتمع على المرأة العقيم:

إن قسوة المجتمع على المرأة العقيم هو اضطراب خطير في المجتمع، لأن جميع الناس يريدون أن يكون لهم ابن أو بنت في حياتهم. فإذا لم تكن تنجب المرأة بعد الزواج ابنا أوبنتا، نظر المجتمع إليها نظرة دنيئة وحقيرة، كأنها فقدت كرامتها وإنسانيتها. ويعتبر الرجل أن المرأة لم تُخلق إلا للإنجاب فقط. و قد أثبتت الدراسات الطبية عقم كل من الرجال والنساء، فليس من الضروري أن العقم خاص بالمرأة.

 وكم من امرأة عقيم تعاني معاناة شديدة! وتتحمل شدة اللوم والتهم من قبل العائلة والمجتمع. فهذه طبيعة النفس البشرية أن الإنسان ينظر إلى عيوب المرأة ويعاقبها  دون النظر إلى عيوب نفسه. فالمرأة العقيم  التي لاتنجب أولادا تظل تعيش تحت ضغوط نفسية، وتقاوم أفكارا سوداء وإحساسا شديد القسوة بأنه لم يعد أي مبرر لوجودها. كما تعيش ضغوطا مجتمعية كثيرة في داخل البيت وخارجه أوفي عملها، حتى تعيش أسرتها في جحيم  بكثرة الهمز واللمز وكأن الأمر بيدها. هكذا تقضي المرأة العاقر أيامها بألم الحرمان من الأمومة، وقسوة نظرة المجتمع.

كما أوضحت وصرحت الكاتبة في الرواية بعبارات حلوة بأنه حينما تزوج محمود فتاة ولم ترزق  لهما أولاد على مدى خمس سنوات، تعرضت للمضايقات من قبل محمود وعائلته حتى من قبل أهل القرية أن زوجة محمود لم تتمكن من الإنجاب بعد مرور خمس سنوات على زواجها، ولم تدع خلال هذه الفترة طبيبا إلا زارته للتداوي. وأم صبرية وهى مريضة تتأسف وتلوم حظها حيث تقول لنفسها  سيُدفن اسم أسرتنا وتنتهي سلسلة عائلتنا بعد موتنا.

“ما أسوأ حظنا. . . . . . سينطفيء اسم أسرتنا. . . محمود تزوج من امراة عاقر، وراغب تزوج من امرأة  مشبوهة، والمشبوهات قلما ينجببن”[11].

هكذا تعيش المرأة العاقر في مجتمعنا العربي والسوري منكسرة الجناح مع شعورها بمركب النقص، لا يمكنها أن تعيش بعزة وكرامة وحب واحترام إلا إذا كانت تنجب أولادا.

(4) عدم اعتراف المجتمع بعمل المرأة الشاق وتهميشها في الحياة:

رأينا أن عددا كبيرا من الرجال يعتبرون قيام المرأة بالأعمال المنزلية مسؤوليةً تعود على عاتقها منذ الصغر، ويشعرون بالعار والخزي في مساعدتهم على أعمالها المنزلية، وإن كانت هذه الأعمال التي تقوم بها المرأة متشابهة لعمل الرجل. ولا تزال هذه الصورة النمطية سائدة في مجتمعنا. فإن إعداد الطعام وتنظيف المنزل وغسل الثياب والفراش وغيرها، هي أعمال تقوم بها المرأة دون الرجل إلاّ ما ندر، فتقوم المرأة بعمل شاق داخل البيت وخارجه، وتعمل بجد وكد و مشقة ومهنة كبيرة، وعلى الرغم من ذلك فإن الرجال لا ينظرون إلى أعمالها بتقدير واحترام.

“كنت لا أفتر عن الحركة لحظة واحدة، أستيقظ مع شروق الشمس، أنظف أبي، أغيّر ملابسه وملاءات سريره، أطعمه، أسقيه الدواء، أشطف أرض الديار، أرتب البيت، أغسل، أطبخ، أغلي القهوة للضيوف،أفتح الباب الذي كان يطرق في كل لحظة[12]“.

هذه هي الأعمال اليومية التي تعملها المرأة، فلا نجد سوى الظلم والاضطهاد للمرأة واحتقارها والاستهانة بها في المجتمع. وتتجلى النظرة الدونية للمرأة في الممارسات المعتاد عليها في الولائم والأفراح، حيث لا تأكل المرأة إلا بعد أن ينتهي الرجال من تناول الطعام، ولا تسمح لها بالذهاب إلى حفلة. وهذه هي المشكلات التي أشارت إليها الأديبة بصورة جيدة “كان لم يسبق لي أن حضرت حفلات المآتم، لأن العادات المتبعة آنذاك في بلادي كانت لا تسمح للصبايا الصغيرات مثيلاتي اللواتي لم يتخطين الخامسة عشرة بعد بحضور ولائم المآتم إلا إذا كن متزوجات أو كان المتوفى من الأقرباء الأقربين، فلو لم يكن المتوفى جدي لا سمح لي بالمجيء”[13]. فلا تسمح لفتاة وصبية غير متزوجة بالحضور في حفلة المأتم، إلا إذا مات فرد من أقرباءها والأقربين. وإذا كانت تشارك فيها إحداهن ألقى المجتمع اللوم عليها لوما شديدا، وعاتبها وذمها، حتى يضرب المجتمع هذا المثل لها: “بنت تهنئ، وبنت تعزي، وبنت تساهر المطالق، أي اللواتي داهمن الطلق”[14].

(5). عدم المساواة وغياب الحرية:

مما لا شك فيه أن قضية عدم المساواة وفقدان الحرية هما قضيتان عظيمتان و قديمتان. وهذه القضايا المضطربة كانت عمت وفشت في المجتمع العربي والسوري في القرن التاسع عشر الميلادي إلى حد كبير. فكان الناس يرتكبون هذه الجريمة القبيحة والشنيعة ويتورطون فيها لتحقيق بعض أمانيهم وأحلامهم.

وكانت قضية عدم المساواة وعدم الحرية من القضايا الاجتماعية  التي تناولتها الأديبة في روايتها وعبرت عن حقائقها وأسباب تفشي هذه الظاهرة في المجتمع السوري، “ظللت ابنته وحدي مدة مرضه كلها، عشر سنوات كاملة، حين كنت لا أراكم إلاّ خطفا، كالضيوف الأغرب تماما، وكنت وحدي المسؤولة عن كل شيء، كأن لا أولاد له غيري، فمن حقّي إذن أن أظل ابنته وحدي بعد موته أيضا”[15].

تشيرهذه العبارة المقتبسة إلى أن صبرية كانت تخدم أبيها منذ عشر سنوات كاملة حين أصيب أبوها بالفالج. وإنها قدمت خدمات عظيمة كتنظيف البيوت، وتنظيف أبيها وتغسيل ملابسه وإعطائه الدواء وطبخ الطعام للضيوف وتحضيرها. ولم يساعد أخواها راغب ومحمو دفي خدمة أبيهم، ولا يأتيان لزيارة أبيهما إلاّ في أسبوع كالضيوف الأغراب، كأن المسؤولية عن كل شيء تعود على عاتق صبرية وحدها. وبهذا السبب كانت صبرية تشعر بضيق شديد دائما. كما ظهر في الرواية، “تارة تشبه نفسها بكلبة جموح مربوطة من عنقها بسلسلة مشدودة إلى وتد مغروس في هذا البيت العتيق”[16]، وتتمنى الموت لتجد فيها الراحة والسكون. وأشارت صبرية إلى زميلاتها  أنهن قد أصبحن مدرسات ومديرات المدرسة أو موظفات مرموقات، وهي أمضت عمرها بخدمة أبيها المفلوج.

أشارت الكاتبة إلى فقدان الحرية للفتاة، “ألم تخلق المرأة في هذه البلاد إلاّ للهم والدرد ؟. . . . . . . شيء لا يطاق…. لا أستطيع أن أغفل عنه لحظة واحدة أو أخرج من البيت، أنا مدفونة في هذا البيت وأنا حية، منذ عشر سنين، طول الليل والنهار يصرخ: صبرية. . . . صبرية. . . متى يأخذ الله صبرية ويريحها من هذا العذاب؟”[17].

 كانت تشعر بفقدان الحرية عندما كانت تخدم أباها وحدها. وليست عندها أية فرصة لتخرج من البيت ولو للحظة واحدة، كأنها مدفونة في تلك الغرفة وهي حية.وفي صفحة أخرى أيضا، وصفت الروائية فقدان الحرية، “رحت أدور في هذه الممرات الضيقة كحيوان محبوس في قفص”[18]، أي أنها كانت محبوسة كما تحبس الحيوانات في القفص.

لقد أوضحت الأديبة هذه القضية الاجتماعية بشكل جيد”أشعر أحيانا أننى كلبة جموح، مربوطة من عنقها بسلسلة مشدودة إلى وتد مغروس في هذا البيت العتيق، وكلما حاولت الكلبة الجموح الإفلات من قيدها ازدادت السلسلة انطباقا عليها حتى انغرزت في لحمها، فكانت كلما تحركت يسيل دمها ويشتد ألمها.عقلى يرفض هذا النمط من العبودية ولكنني لا أستطيع التحرر منه”[19].

يتضح من هذا الاقتباس بأن صبرية وهي البطلة الرئيسة في هذه الرواية ، كانت تعاني من غياب تام للحرية في حياتها اليومية، حيث تشعر بأنها كلبة جموح كانت مربوطة من عنقها بسلسلة مشدودة في الوتد القوي. وكانت صبرية تريد التخلص والتحرر منها، لكنها لم تقدر على خروجها من هذه العبودية. فإنها كانت مظلومة عند أخيها الكبير راغب، لأنه ظلمها ظلما شديدا حتى أراد أن يسجنها في داخل البيت حتى لا تخرج إلى الخارج ولو للذهاب إلى المدرسة.

كما أوضحت الكاتبة: “يردون أن يخرجوني من المدرسة قبل أن أنال شهادتي بسنة واحدة ! يريدون أن يسجنونى في البيت !. . . . ويتفجر صراخ مجنون من أعماقي وينطفىء في حلقي كحشرجة حيوان جريح في غابة موشحة”[20].

يتضح من المقتبس أن عائلتها استبدت وعنفت عليها عنفا شديدا، حتى لم تعطها حقها ولم تمنحها حريتها. فكانت صبرية تعاني من عدم المساواة وغياب الحرية منذ نعومة أظفارها، حيث تقول لأخيها راغب “أنت حرمتني حقي في الحياة، قتلتني مرتين. . . يوم رحت تلفق عني الأكاذيب لأبي حتى أقنعته أن يخرجنى من المدرسة قبل أن أنال شهادتي بسنة واحدة. فعلت هذا كله لأنك تغار مني، كنت أنا متوفقة بدراستي وكنت أنت فاشلا. . . . . . وقتلتني يوم حرمتني من الزواج بمن أحب؟”[21].

لما وقعت صبرية في حب عادل وهو كان رجلا شريفا ونبيلا وكريما وممتازا في الدراسة، بدأ راغب يظلمها ظلما شديدا. وكان عادل ابن الخباز ويبيع نفسه الخبز. عندما أرسل عادل أمه إلى أهل صبرية لخطبتها طرد راغب هذه الخطبة وأهانها إهانة بالغة، بسبب تواجد التفاوت الطبقي بين العائلتين، حيث كانت عائلة صبرية غنيةً، بينما كانت عائلة عادل فقيرةً.

كما ظهر في الرواية بصراحة “أرسلت اليوم أمي إلى أهلك لتخطبك لي، لأنقذك مما أنت فيه، فطردها أخوك راغب، وأهانها إهانة بالغة، قال لها: نحن لا نزوج أولاد الخبازين”[22]. وفي صفحة أخري، عبّرت الكاتبة عن هذه الإهانة بعبارة ملموسة “جاء ابن الكلب الآن ينتهك شرفنا. . . . أنا أعرف شغلي معه، نحن دائما نسير مرفوعي الرأس. . . . . . جاء ابن الخباز الآن ينكس رأسنا أمام الناس”[23].

قال راغب إنه لا يمكن الزواج بين عادل وصبرية، في حين كانت صبرية تريد أن تتزوج مع عادل. ولما علم راغب بأن صبرية تريد الزواج مع عادل ولن تتزوج مع غيره قتله راغب في الطريق بوحشية.

وأما أخوها راغب فقد تزوج نفسه من فتاة عاهرة حيث كان وقع في حبها وغرامها، “أنا أحب هذه المرأة. . . مالكم ومالي ؟ سأتزوجها على سنة الله ورسوله وقد جئت بها إلى هنا لأعرفكم عليها قبل أن نتزوج. قال أبي باستغراب: تتزوج إمراة عاهرة ؟ ابني أنا يتزوج عاهرة ؟؟؟”[24].

كانت صبرية تبكين على عادل دائما، حتى انفجرت دموعها طول حياتها كلها.  وكانت تتأسف على نفسها وتقول: “لم يعد أحد يشعر بمأساتي حتي أبي وأمي. . . . لقد اعتادوا كلهم صمتي وكآبتي وذهولي”[25]. وتضيف صبرية”أما نحن النساء فكل شيء مغلق أمامنا في هذا البلد”[26].

فتعكس هذه الاقتباسات المذكورة قضيةَ عدم المساواة وعدم الحرية التي  كانت عمت وفشت في المجتمع السوري إلى أتم درجاتها في القرن التاسع عشر الميلادي.

لابد لنا أن نلتزم بالحرية لأن الحرية ضرورية بالنسبة لكل فرد كالماء والهواء والغذاء والنار. وأما الحرية فهي التحرر والتخلص من القيود والأغلال والضغوط المفروضة التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجاته سواء كانت قيودا مادية أو معنوية. لقد حثت الأديبة الشعب السوري على التعليم والتثقيف لكي يقوموا بإزالة عدم المساواة وعدم الحرية من المجتمع.

خاتمة البحث:

وأخيرا أن أقول لكم أن هذه الروائية الشهيرة قامت من خلال أعمالها الروايات المهمة بتصوير مأساة المرأة السورية الريفية وتعقيدات حياة النساء بأسلوب بارع. وحاولت الأديبة محاولة جادة من خلال أعمالها الروائية وخصوصاً من خلال روايتها دمشق يا بسمة الحزن إثارة القضايا والمشاكل الاجتماعية وإصلاحها من جذورها، ودعت الناس في الدول العربية وخارجها إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ورفض الظلم والطغيان والعدوان وترك التقاليد والعادات البالية والجائرة، واحترام حقوق الإنسان سواء كان مسلما أوغير مسلم، ذكرا كان أو أنثي، أبيض كان أو أسود، عربيا كان أو عجميا، فإنها جاهدت جهدا كبيرا لإصلاح المجتمع والإرتقاء به.

قائمة المصادر والمراجع

  1. ألفة الإدلبي، رواية دمشق يا بسمة الحزن، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1980م.
  2. ألفة الإدلبي، المنوليا في دمشق، دار الثقافة والنشر التوزيع، 1964 م.
  3. ألفة الإدلبي، قصة الحقد الكبير، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، دمشق، 1963 م.
  4. الدكتور عبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية الحديثة ، دارالمعارف فى مصر الطبعة الخامسة .
  5. رياض عصمت، حداثة وأصالة، من إصدار دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2010 م.  
  6. كامل توفيق كتب ماهر حسن، تاريخ النشر 22/ 03 / 2014 م. 
  7. سحر شبيب، رحلة ألفة الإدلبي مع القصة السورية، الجامعة اللبنانية .
  8. ماجده حامد، الخطاب القصصي النسوي ، نماذج من سورية.
  9. صالح العود، باحث فى شئون الدين والتربية والتعليم، نجوم المساء من تراجم النساء، معجم فى تراجم النساء المعاصرات من كل اختصاص.

Bibliography

  1. Ulfat Al’idlibi, Riwaya Dimashq Ya Basmat Al-Huzn, Manshurat Wizarat Al-Thaqafat Wal’irshad Al-Qawmii, Dimashq 1980.
  2. Ulfat Al’idlibi, Almanulia Fi Dimashqa, Dar Al-Thaqafat Wal-Nashr Al-Tawzie, 1964.
  3. Ulfat Al’idlibi, Qissa Al-Hiqd Al-Kabir, Manshurat Wizarat Al-Thaqafat Wal’irshad Al-Qawmii, Dimashq, 1963.
  4. Ulfat Al’idlibi, Qissa Inhazam ‘Amam Tifli, Jamie Al-Huquq Mahfuzat Lil-Muallifah, Dimashq, Al-Tabeat Al-Thaaniah 1992.
  5. Ulfat Al’idlibi, Qissa Khayt Al-Ankabut, Jamie Al-Huquq Mahfuzat Lil-Muallifah, Dimashq, 1963.
  6. Al-Duktur Abd Al-Muhsin Taha Badr, Tatawur Al-Riwayat Al-Arabiat Al-Hadithah, Darual Ma’arif Fi Misr Al-Tabeat Al-Khamisa.
  7. Riad Eismat, Hadatha Wa’asala, Min ‘Iisdar Dar Al-Fikr Lil Tibaeat Wal-Nashr Wal Tawziei, Dimashq 2010.
  8. Salih Al-Ud, Bahith Fi Shuyuwn Al-Diyn Wal-Tarbiah Wal-Ta’limi, Nujum Al-Masa’ Min Tarajim Al-Nisa’, Mujam Fi Tarajim Al-Nisa’ Al-Muasirat Min Kulli Aikhtisas.
  9. Sahifa “Al-Thawrah” Yawmiah Siasiah, Kataba Raniya Khatib, Tasdiru An Muassasah Al-Wahdat Lil-Sahafat Wal-Tiba’at Wal’nashr, Dimashq, Suriyah, Tarikh Al-Nashr Al-Thulatha’ 05/ 06/ 2012.
  10. Katib: Sahar Shabib, Rihla ‘Ulfat Al’iidlibi Ma’ Al-Qissa Al-Suriyah, Al-Jamia Al-Lubnania.
  11. Katibah Al-Dukturah Majidah Hamid, Al-Khitab Al-Qasasi Al-Nasawi, Namazij Min Suriyah.
  12. Lil-Duktur Taha Wadi, Dirasaat Fi Naqd Al-Riwayat, Al-Tab’a Al-Thaalitha. 1994. Dar Al-Ma’arif Al-Qahira.
  13. Majala “Fikr Al-Thaqafiah” Al-Adad18, Nashr Al-Taarikh 03/ 02/ 2017. Talif Hamza Shabab, Naqid Filistini.
  14. Al-Majalla Al-Faysal Al-Adad 176 Tasduruha Dar Al-Faysal Al-Thaqafiah Al-Taabiat Li-Markaz Al-Malik Faysal Lil-Buhuth Wal-Dirasat Al-Islamia.
  15. Muallif Abd Al-Qadir Eayaash, Mu’jam Al-Muallifin Al-Suriyin Fi Al-Qarn Al-Ishrin, Al-Naashir Dar Al-Fikr Al-Mu’asir Tarikh Al-Nashr  01/01/ 1985.
  16. Al-Muallif ‘Ahmad Mukhtar Umar’ Mu’jam Al-Lughah Al-Arabiat Al-Muasirah: Al-Naashir: Alam Al-Kutub Alqahira.
  17. Muallif: Bu Ali Yasin Wa Nabil Sulayman, Al’adab Wal’aydiulujia Fi Suria.

[1]. صالح العود، باحث في شئون الدين والتربية والتعليم،  نجوم المساء من تراجم النساء، معجم في تراجم النساء المعاصرات من كل اختصاص. ص: 14.

[2]. رياض عصمت، حداثة وأصالة، من إصدار دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2010. ص: 77   

[3]. المرجع نفسه، ص: 77

[4] ألفة الادلبي، رواية دمشق يا بسمة الحزن، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1980. ص: 127

[5] صالح العود، باحث في شئون الدين والتربية والتعليم، نجوم المساء من تراجم النساء، معجم في تراجم النساء المعاصرات من كل اختصاص، ص: 14.

[6]. ألفة الإدلبي، رواية دمشق يا بسمة الحزن، ،ص : 72.

[7]. المرجع نفسه، ص :ـ14.

[8]. المرجع نفسه، ص: 16.

[9]. سورة النساء، الآية: 11.

[10].أخرجه ابن ماجه في السنن.

[11]. ألفة الإدلبي، رواية دمشق يا بسمة الحزن، ص: 241.

[12]. المرجع نفسه، ص:.256.

[13]. المرجع نفسه، ص:06.

[14]. المرجع نفسه، ص: 06.

[15]. المرجع نفسه، ص:31.

[16]. المرجع نفسه، ص: 267.

[17]. المرجع نفسه، ص: 11.

[18]. المرجع نفسه، ص: 52 .

[19]. المرجع نفسه، ص:63ــ 64.

[20]. المرجع نفسه ، ص: 206.

[21]. المرجع نفسه، ص: 034.

[22]. المرجع نفسه ، ص: 209.

[23]. المرجع نفسه، ص: 201.

[24]. المرجع نفسه، ص: 231.

[25]. المرجع نفسه، ص: 239.

[26]. المرجع نفسه، ص: 261.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *