مظاهر الرومانسية في الشعر الجزائري الحديث. ديوان أوراق لمحمد أبي القاسم خمار أنموذجا

حيزية بوطغان ، و أ.د مصطفى ولد يوسف

ملخص البحث:

حاولنا في هذه الأوراق تقصي أهم سمات الرومنسية في الشعر الجزائري ومقارنتها بنظيرتها العربية والغربية على السواء، فاستطعنا أن ندرس هذه المظاهر وفق عناصر معينة، كانت هي البارزة والطاغية في ديوان أوراق لأبي القاسم خمار، فكانت روح التمرد والثورة هي البداية التي استفتح بها ديوانه، ومن ثم بات شعر الطبيعة والمرأة هاجسا في شعر كل رومنسي، ناهيك عن الثورة والوطنية التي يتميز بها الشاعر الجزائري، لنصل إلى الطابع الأسطوري الذي أعطى خصوصية دينية للشعر الجزائري.

الكلمات المفتاحية: الشعر الجزائري، الرومنطيقية، الثورة، الطبيعة، التمرد.

Abstract :  In these papers we tried to investigate the most important features of romanticism in Algerian poetry and compare it with its Arab and Western counterparts alike. Then the poetry of nature and women became an obsession in the poetry of every romantic, not to mention the revolution and patriotism that characterizes the Algerian poet, to reach the legendary character that gave a religious specificity to Algerian poetry.

Keywords: Algerian poetry, romance, revolution, nature, rebellion.

مقدمة:

لقد شهد الشعر الجزائري تطورا هاما في جانبه الفكري والفني، وظهرت فيه اتجاهات فنية مختلفة، هي بعض هذه الاتجاهات التي ظهرت في الوطن العربي أيضا، تتمثل في هذا الاتجاه الوجداني الرومانسي الذي كان مسايرا للاتجاه التقليدي المحافظ.

وإن مؤثرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية ساعدت كلها على توجيه الشعر الجزائري إلى هذه الاتجاهات. ولم يكن ذلك من وليد تقليد بقدر ما كان نابعا عن عوامل ذاتية نشأت عن المراحل التي مر بها الشعب الجزائري كله، وقد انعكس هذا الواقع في هذا الإحساس المرير بالإرهاب الاستعماري وما نتج عنه من واقع سيء، دفع الشعراء الجزائريين ليعبروا من خلال ذواتهم، دون أن ينفصلوا في ذلك عن مجتمعهم، لأنهم كانوا يعبرون عن الجماعة من خلال التعبير عن الذات.

وكان “أبو القاسم خمار” أحد هؤلاء الشعراء الذين ظهرت الخصائص الموضوعية في شعره، وهذه الخصائص مرتبطة بالنفس ذات النزوع الرومانسي ، بحيث ((تغدو تعبيرا عفويا صادقا عن أحاسيس الفرد، من خلال معايشته للحياة والناس، والشعور بالذات، والإحساس الحاد بالألم، والشوق إلى الحرية والانطلاق من القيود الاجتماعية والسياسية، والدعوة إلى التمرد والثورة وشعور مرهف بالجمال…))[1]

والواقع أنه يصعب على الدارس أن يصل لمفهوم كلي يحدد طبيعة الرؤية والتجربة الشعرية عند الشعراء الوجدانيين الجزائريين بصفة عامة، مقارنة مع نشأة الرومانسية الغربية وبداية انبعاثها في الحقل العربي.

 إذا تحدثنا عن الرومانسية فسنكون في حضرة الآخر الأوروبي، ثقافة وتاريخا، لأن الرومانسية الغربية عبارة عن مصطلحات مبتذلة معارضة للغة المثقفين والكنيسة، في العصور الوسطى، وفي القرن الثامن عشرة ارتبط مصطلح الرومانسية بالفلسفة والعقل، وبالقصيدة المعارضة للقصيدة الكلاسيكية ((حيث تكون القصيدة الرومانسية نزوعا إلى كتابة نص محمل بالانفعالات المتوقدة الخارجة عن ضوابط قاعدة التوازن والعقل))[2]

 معنى ذلك أن للرومانسية مظاهر تتجلي في القصيدة العربية كما تظهر في القصيدة الغربية، فكيف إذن تتجلى هذه الرومانسية في الشعر الجزائري؟ وهل للرومانسية الجزائرية خصوصية؟

_ إرادة القوة والتمرد:

تعتبر إرادة التمرد من مظاهر الرومانسية العربية، وبالتالي فإن نزعة الثورة وروح التمرد دخلت على استيحياء في ثنايا الأدب العربي ((على أن جزئية الثورة على المؤسسات أو انحصارها في أفراد معدودين، في طليعتهم جبران خليل جبران، ثم مريده أبو القاسم الشابي في تونس(([3]

تظهر صورة الأنا في ديوان “أبي القاسم خمار”  تتصنع القوة، متمردة وثائرة على الظلم وعلى الاحتلال؛ فيقول في قصيدة “الزحف الأصم”:

=أنا لا أهاب الحرب لا أخشى يزعزعني  لظاها.[4]

فتصنع القوة عند الشاعر الرومنطيقي، كثيرا ما يصاحبه التمرد، على الحياة، إن كان وحده، ويتمرد على الأعداء، مستمدا قوته من الشعب العربي والجزائري، لذلك استخدم الشاعر ضمير “نحن”؛ خاصة وأن الشاعر الرومانسي تميز بقدرته على الثورة في أشعاره ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر، بل تجاوز ذلك إلى تبنيه قضية فلسطين في أغلب قصائده، معلنا ثورة وانفجارا، فيقول في قصيدته (الانفجار):

نفجر شعبي… هنا القاهرة….

هجمنا …. إلى الموت ياغادرة.

هنا الشام… في كل شبر جحيم.

هنا… حن جزائرنا الثائرة.

هنا القدس… يا أمتي رددي.

هنا تل أبيب… هنا الناصرة.

زحفنا… زحفنا… فلا مدفع.

يرد خطانا… ولا طائرة.

زحفنا لدحرك يا إسرائيل.

بأقدامنا بالمدى الناصرة[5]

ينتقل الشاعر من ضمير الأنا إلى ضمير الجمع نحن، وكأنه يدعو العرب إلى الاتحاد يدا واحدة لاكتساب القوة، وإلى التمرد على الأعداء، – لا يحس الأنا الرومنطيقي عامة بالسرور ولا بالتفاؤل ولا بالثقة بالمستقبل، فهو يتألم من القطيعة بينه وبين العالم ومن نبوته المجهولة ومن خيباته في الحياة، ومن المثل العليا التي يطلبها فلا يدركها، ومن كبريائه الجريح، ومن فشله في الحب. والأنا الرومنطيقي  راض بحزنه ويجد متعة مبهمة في الشعور بالألم، باعتبار ذلك من مميزات العظماء، كما يجد لذة في تحليل مرضه.[6]

المرأة والطبيعة:

كانت الطبيعة ولا تزال مصدرا أساسيا للخيال، وأهم العناصر الفاعلة في القصيدة، فهي تمثل خلفية حية باستمرار في وعي الشاعر ولا وعيه، يتفاعل معها فتبدو كما لو أن التوتر الذي يبدو عليها هو نفسه ما في ذات الشاعر.

وبعض الشعراء يخلعون مشاعرهم على الطبيعة، محاولين بذلك تجشيم مشاعرهم، وحين يمتزج الشعر بالطبيعة تبرز إمكانية الفن.[7]

اهتمت الرومانسية العربية بالمرأة والحب، وحفلت بهذه العلاقة وأفردت لها علاقة هامة وتفننت في تصويرها وفي الحديث عنها.

وهكذا يتضح أن رؤية الشاعر الرومنسي الجزائري، في وجه من وجوهها عربية خالصة وتندرج ضمن التقاليد الأدبية الموروثة في هذا الجمال، كما أن لهذه الرؤية جملة من الخصائص التي تميزها عن التصور التقليدي للحب؛ ويتمثل ذلك في أن الرومنطيقي العرب على عكس معظم الأدباء العرب قبله، لم ينظر إلى الحب نظرة فنية ولم يتعامل معه تعاملا بلاغيا فحسب، بل كان تصوره له تصورا وجوديا وفلسفيا.

ربط الشاعر بين المرأة والطبيعة في نطاق تصوره للسعادة، فإذا كانت الطبيعة هي عالم الخير فإنه لا شيء يصلح مثلها إطارا لممارسة الحب وهو المفضي إلى السعادة، فيكتمل التصور الرومنطيقي للعالم البديل وللمنزلة الوجودية المنشودة، فتكون الطبيعة ذلك العالم ويكون الحب قيمته والسلوك الأمثل فيه. ولهذا ربط الشاعر بين الحب والطبيعة، فتستكمل النشوة، وتتحقق السعادة. وقد أشار إلى ذلك “أبو القاسم خمار” في قصيدة (وداع):

واليوم يا صديقتي هيفاء

أقولها: صديقتي حياء

لقد أفقت باسما سعيدا

وقد وجدت موطنا جديدا

حديقة زاهرة الأرجاء

حمامة: يدعونها رجاء[8]

في قصيدة (وداع) انصهر الحب مع الطبيعة، في تجربة وجودية رائعة،  لأن الشاعر الرومنطيقي في -نظرته للوجود موزعة بين التساؤل والشك والحيرة العاصفة وبين الإيمان والانسجام وعقد الأمل على عالم الخلود والسعادة الأبدية-[9]. وبذلك فإن الطبيعة في نظر الرومنطيقي هي الوجود المليء بالحيرة والشك والتفاؤل واليأس، فكانت المرأة مرآة ذلك الوجود.

في قصيدة (أقوى من الوداع) يجد الشاعر أن الحب هو حل لبؤسه الوجودي، ولئن صور لنا ممارسته لهذه العاطفة، مقرونة بالسعادة، فإن تجربة الحب عنده تمازجها الآلام والأوجاع، ويخالطها التشاؤم، فإذا بالسعادة وهم لا يدوم، ولذة يعقبها ألم وخذلان. فالشاعر واع بذلك، وهو بهذا الوعي يطلب من الحب غير الألم والوجع، فهو شبيه بالبطل الإشكالي الذي يطلب من المرأة ومن حبها اللذة والسعادة، وينتظر منها المساندة وأن تعطيه القوة حتى يحقق أحلامه.

أنا يا شاردتي أكبر من دربي ويومي

شاعر.. والشعر أرجائي وأمالي وشؤمي

والهوى موطن أوهامي وآلامي وسقمي

فلماذا حاولت عيناك أن تغتال حلمي

بعد أن حركت نار الحب في لحمي وعظمي

ولماذا؟.. ولماذا شئت يا خلجة هدمي

أنا إنسان .. ولكن فوق ضعف الناس عزمي.[10]

وان عوامل الفشل في تجربة الشاعر/ الرومنطيقي،  واضحة المعالم، إذ أن الحيرة والتساؤل تدل على رفض الشاعر لضعفه أمام المرأة، وإحساسه بالضياع يدعوه للتشاؤم وبالمقابل اعترافه بأنه إنسان ضعيف لاحول ولا قوة له، أمام إرادة الحب، على عكس الرومنسيين العرب الذين رفضوا المنزلة البشرية التي تفضي إلى الموت.

ويعتبر الفراق والشوق إحدى معالم الرومانسية العربية، ولقد تغنى الشعراء العرب بشوقهم إلى المرأة، ولكن بلغة فلسفية، فالمتخيل الشعري بين المرأة والطبيعة يصوره الشاعر مشبها المرأة بالفراشة، التي توزع البهجة والسرور على ناضريها، فكان المنتظر لهذه الفراشة يستغل الفرصة لرؤيتها، بحكم عمرها القصير الذي تستغله مرحة زاهية بالألوان. فيقول:

لا بد أن أراك يا حبيبتي

وأسرع الخطى

سوف تمر من هنا فراشتي

أسأل في حذر

خواطري تخفيني

لا بد أنها تمر الآن.[11]

يمكننا القول أن الشاعر سعى إلى تقديم رؤية جديدة للحب تندرج في إطار غيبي تقديسي، تكون فيه العلاقة بين الأحباء، وحبا سماويا وتعاملا بين الأرواح المتجانسة، وقد حرص الشاعر الرومنطيقي الجزائري على اكساب الحب دلالة وجودية، فرأى فيه قيمة أصيلة وحلا لبلوغ السعادة إلا أن الحب في الرومانسية العربية جاء مقرونا بالفشل، والمأساة والرومانسي العربي لا يسعد إلا ليشقى، وهذا يدل على تأثر الرومانسية الجزائرية بالرومانسية العربية.

كذلك يظهر الشاعر الجزائري ملتحما مع الثورة الجزائرية، وما ظهر من غيرها من الثورات كالقضية الفلسطينية، إلا أن علاقة الثورة بالمرأة كانت عذرية، متأججة عمقت وعيه بقضايا الاستعمار، وزادت في حدة إحساسه بها، ويظهر هذا الالتحام في مواساة الشاعر للمرأة الفلسطينية، التي تفقد دائما أحد أفراد عائلتها في الحرب مع اسرائيل، فيقول في قصيدة الموتورة:

وداعا فتاتي

ولا تجزعي .. ثم .. لا تجزعي

أخوك سيغدو رفيقا معي

لقد خاضها ثورة كالجحيم

إلى أن رمته سهام اليهود

فلا تجزعي

وقولي لعينيك: لا تدمعي.[12]

وفي الوقت نفسه يدعو هذه المرأة إلى الجهاد، فيقول:

ولكن إذا صاح داعي الخلود

وأشرق في الحي يوم الجهاد

فقومي لثأرك ثأر البلاد

وفكي الحداد

وحيي الذمم.[13]

وهذا التحريض من الشاعر للمرأة على القتال والثأر ماهو إلا موقف الرومانسي العربي الثائر والغيور على عرض وطنه، ويعتبر أن القدس هي وطنه ولها حرمتها، وهنا يمكن لفلسفة الوجود أن تفصل بين الطبيعة والمرأة بأن لا بد من المقاومة كي نعيش، لأن النهاية المأساوية للإنسان لا مفر منها، ولا يجب على المرأة أن تسكت على حقها، لابد من القتال والولوج إلى عالم الموت في طبيعة مليئة بالظلم والاضطهاد.

3_ الوطنية:

تعتبر الوطنية من الأغراض الهامة التي وردت ضمن المدونة الرومنطيقية العربية والجزائرية على السواء، فأساس الرؤية الوطنية في الرومانسية الجزائرية عاطفي وجداني، يتمثل فيما يكنه الشاعر من حب لموطنه و – نعني بالوطنية جملة من الخصائص المكونة لرؤية الفرد لأرض معينة وللمجموعة البشرية التي تشاركه الانتساب إليها وما يمازج تلك الرؤية من موقف عاطفي وجداني وتصورات للتعامل الايحائي مع تلك الأرض، وتلك المجموعة بما يكفل ازدهارهما ورقيهما ومناعتهما.[14]

لكن رؤية الشاعر الرومنسي للوطنية كانت مرتبطة بالشعر وبطريقة التعبير والدفاع عن وطنه بالقلم لا بالسلاح، فهو في النهاية يبقى شاعر، وله أسلوبه الخاص، فيقول أبي القاسم خمار في قصيدة العودة:

يا رياضي أما نشيد وجاءتني

القوافي تلوح من كل ثائر

نحن في الشعر ننظم البيت زلزالا

تقفيه بالدماء الخناجر

نحن شعر الرشاش لا شعر شاعر.[15]

في هذه الأبيات يفتخر الشاعر بشعره، وبقوة الكلمة ونظمه للقوافي، فتبرز وطنيته ليس بضمير الجمع فقط، بل إنه جعل  من قضية وطنه الجزائر مسألة شخصية بعد أن كانت في الأبيات الأولى مسألة عامة تخص كل عربي، فيقول في نفس القصيدة:

أين مني من أغنية لليالي

من هتاف غطى الربوع دويا

أين مني وفي الجزائر آهات

تهز القلوب هزا قويا

يا هزالي إذا رفعت مع الثوار

صوتي ولم يكن مدفعيا

يا بلادي أما لحالي مناصر.[16]

ومع ذلك لم تكن رؤية الشاعر الرومنسي للوطنية حبيسة لموقفه العاطفي المحدود، تجاه وطنه الجزائر، بل تجاوز ذلك للنظر في كبريات المشاكل والقضايا التي كانت مطروحة آنذاك، ومن ضمن هذه القضايا قضية فلسطين، التي شغلت الشعراء الرومنطيقيين العرب، وكان الشاعر أبو القاسم خمار ضمن هذه الفئة من الشعراء، فيقول في قصيدة السمسار:

عشرين دولارا فقط

عشرين

عاطفة أمضى من السلاح

أزخر من بترولنا المباح

كأنه دم مسفوح في رحاب الحرمين

في قدسنا الكئيبة

عشرين.. يا جراح

في الصخرة السليبة.[17]

عندما نتأمل أبيات هذه القصيدة، نجد أن فلسطين تعيش في ضمير وقلب الشاعر الجزائري، فعبر عنها أحسن تعبير، – وأسهموا في توعية الجماهير بها عن طريق الشعر مثلما كان الأمر بالنسبة لكتاب النثر، وقد سجلوا الأحداث التي عاشتها فلسطين قبل عام 1948م مثل ثورة 1936م، ومشروع التقسيم، وسياسة الإنجليز المعادية للعرب، وتخاذل العرب وخلافاتهم وفرقتهم إلى آخر الموضوعات التي ظهرت في قصائد الشعراء في هذه الفترة الأولى من كفاح الشعب الفلسطيني، والظروف التي أحاطت بهذه القضية‘.[18]

فكانت أغلب القصائد الشعرية التي كتبها “أبو القاسم خمار” تندد بموقف العرب المتخاذل من القضية الفلسطينية، وكأنها معروضة للبيع، في ظل هذا التخاذل، خاصة وأن فلسطين تعيش أزمة في فترة كانت هي الفترة نفسها في الجزائر فترة غليان وصراع بين الشعب الجزائري والاستعمار الفرنسي، وكانت فترة مليئة بالحركة والنشاط السياسي والإصلاحي والاجتماعي، جعلت الشعب الجزائري يعي أكثر من ذي قبل ذاته ووجوده، ويبحث عن طريق حقيقي للحرية، وفي ذات الوقت يعي بقوة قضية فلسطين، ولعل وعي الشاعر الجزائري بتخاذل العرب وبارتباط القضية الفلسطينية  بما يحدث في الجزائر آنذاك أي فترة الاستعمار الفرنسي، فإن قصيدة “الزحف الأصم” التي كتبت في 18/10/1960م تجسد رأي الشاعر:

اللاجئون تلوح من أقدامهم وصمات عار

الضائعون على كهوف الذل بين دم ونار

من “سوق اهراس” ومن “يافا” أيا لعن القفار

عشش على هامتنا حتى نعود إلى الديار

والموسرون لضعافهم لمصابهم يتنكرون

يتغافلون عن النضال كأنهم لا يشعرون

كم جنة في موطني سلبت لاتخام البطون

الويل للجبناء يوم يزلزل الشعب الحصون

أنا لا أصفق للسراب ولا أنوح على المآتم

ومرابعي للغاصبين ومغربي في الجمر عائم

والقدس والاسكندرون على جبين أبي شتائم.[19]

إن الشاعر هنا يسجل حقيقة إنسانية وتاريخية، ويلاحظ أن لهجته لهجة بسيطة، يحاول فيها العتاب على المتخاذلين عن قضية فلسطين، وعن مأساة المغرب العربي الذي بات تحت سيطرة أوروبا، وفي الوقت نفسه، يؤكد على أن قضية فلسطين هي قضية كل العرب، وسيأتي يوم وتتحرر من العدو، وستهزم إسرائيل، ويتحدث بضمير الجمع “نحن”، في مقاومة الصهاينة والتهديد بالحرب والإشادة بشجاعة الجزائريين وثورتم التي تمتد حتى إلى القدس.  ويقول في قصيدة الانفجار .

تفجر شعبي .. هنا القاهرة ..

هجمنا .. إلى الموت يا غادرة

هنا الشام .. في كل شبر جحيم

هنا .. من جزائرنا الثائرة

هنا القدس .. يا أمتي  ردّدي:

هنا تل أبيب .. هنا الناصرة

زحفنا .. زحفنا .. فلا مدفع

يرد خطانا .. ولا طائرة

زحفنا لدحرك يا إسرائيل

بأقدامنا بالمدى الناحرة

بقوتنا  .. بانتقاماتنا

بعزم إرادتنا القاهرة

هو النصر قد جاءنا خافقا

ودارت على خصمنا الدائرة

فهيا فلسطين .. هيا بنا

نبارك عودتنا الظافرة.[20]

إن الاهتمام بقضايا الوطن كان نتيجة مباشرة لخصوصية المرحلة التاريخية التي عاش الرومنطيقيون العرب في إطارها، وهي مرحلة تميزت بظهور الحركات التحريرية، وبنشأة الوعي الوطني في معظم الأقطار العربية، ومن بينها الجزائر، ولكن الانشغال بتلك القضايا والتعبير عنها كان أيضا نتيجة من نتائج تأثر أولئك الرومنطيقيين الغربية.

4_ الأسطورة:

إن ما يميز الشعر الجزائري الحديث، هو استخدامه للأسطورة، واعتماده عليها ’ويعد استغلال الأسطورة في الشعر العربي للحديث من أجرأ المواقف الثورية فيه‘.[21]ويروق للدكتور “عز الدين اسماعيل” أن يسمي الطابع المميز لهذا الشعر بالطابع الأسطوري، ويرى ’أن الشعر لم يكن في يوم من الأيام أقرب إلى روح الأسطورة منه في الوقت الحاضر‘.[22]

أما الأستاذ “جبرا إبراهيم” فلا يستطيع أن يتصور الشعر العربي اليوم من غير فعل الأسطورة، ويؤكد على دورها في إبداعنا بحيث ’أصبحت منطلقا لإمكانات هائلة من القول غيرت بدورها القصيدة شكلا ومحتوى ومدتها بقوة ونضارة مكنتا الشعر أن يكون صوتا لزمانه‘.[23]

أما أبو القاسم الشابي فيربط الأسطورة بالخيال الشعري، ويفرق بين الأساطير العربية القديمة واليونانية فيقول ورأيي في هذه الأساطير هو أن لها من وضاءة الفن وإشراق الحياة. وأبو القاسم خمار من بين الشعراء الجزائريين والعرب الذين استعانوا بالأسطورة في أسطرة قصائدهم، حيث ينطلق الشاعر من الواقع الحاضر، في زمن حرب الهند الصينية مع أمريكا، ويرى  أن  حربا ضارمة قد اشتعلت في قلب الفيتنام، ولا بد من العودة إلى الوراء والتقدم نحو الماضي/ الأسطورة، للاستغاثة والنجدة بالهندي الأحمر، لأن لعنة العدو ستحرق الفيتنام، كما حرقت السوماريين من قبل، وهذا يدل على استعارة الشاعر للأسطورة السومرية، وجعلها شاهدة على الحاضر، وفي الوقت نفسه يأسف ويبكي الهند الصينية وما تتعرض له من عدوان أمريكي، فيقول الشاعر في قصيدة (اللعنة الحمراء):

في جنب الهند الصينية

في قلب شمال الفيتنام

أشباح الهندي الأحمر

تتخطى ظل الأعوام

اللعنة حلت يا سام

لن يرفع سيزيف الصخرة

لن تلمع في سهم ريشه

أشباح الهندي الأحمر.[24]

إن ما يجلي قضية الحضور والغياب والجدل بين الماضي والحاضر، لجوء الشاعر إلى الإطار الأسطوري الذي استطاع من خلاله أن يبني قصيدته (اللعنة الحمراء) بناء ملحميا، ولا شك أن انطلاق الشاعر من الهند الصينية التي تختزن تاريخ أمة وشعب بأكمله، وتكفلت هذه الأخيرة بتفجير تاريخ شعب الهند الصينية، وفتحت المجال واسعا للتساؤل عن طبيعة النسيج النصي القائم على الصراع المستمر بين الماضي والحاضر، كما فتحت المجال للشاعر بأن يستحضر الأسطورة القديمة لشعب سام/ الماضي، مقارنة بالشعب الهندي/ الحاضر، وانفتاحهما على الزمنين  جعل منها وسيلة فنية للمقابلة بين الزمنين تارة وتواصلهما تارة أخرى.

 كذلك يظهر التشاؤم في ملحمة فقد الهندي فيها بأسه وتبخر القتال إلى أعماق الماضي السحيق، فالشاعر ينادي على شعب سام وسيزيف، والهندي الشجاع، كشهود على الحاضر، وعلى المجازر التي تحدث في حق شعبهم. والغرض من استحضار شخصيات أسطورية عربية ووثنية ويونانية، هو ’التشخيص أي أن يخلع الإنسان على ما حوله من الأشياء ثوب الحياة وينظر إليها كأرواح حية نامية تشاركه الحس والحياة.‘[25]

وقد قامت ملحمة الأسطورة، بموقعها المتوسط بين الذات والموضوع، بدور الجسر بين الشاعر ومن يتوجه إليهم بالخطاب، وربطت بين العالمين الداخلي والخارجي، في سبيل خلق نوع من التوازن بينهما، ساعده في ذلك استخدام عناصر الرومانسية العربية في النزوع الأسطوري بشقيه؛ الديني والتاريخي، إلا أن الأساطير الدينية لها حظ من الخيال الشعري، فيقول:

الهدهد “كولومبوس” ضاع

كالبومة هام بلا عودة

خلف الأطلال

ما أبعدكم عن عرش سبأ

بلقيس لم تسأل غرباء

قوما في التيه بغير نبي

بغير أمان.[26]

يتضح أن استخدام الشاعر الجزائري للمتخيل الأسطوري الديني، فيه بعد ديني قوي يتجلى في الإقتداء بالأولين الذين مهما بنوا حضارتهم إلا أن عرشهم لن يدوم بدون الخضوع للإله واتباع نبيه الكريم كما فعلت بلقيس أمام ملك سليمان، فهذا التناص الأسطوري يخلق قصيدة لا تفنى لأن الحكمة فيها واضحة، ومقابلة ومقارنة بين من يتمسك بدينه فينتصر على الأعداء، وبين من يستدعي الغرب لاحتلال البلاد.

خاتمة:

      نستنتج مما سبق أن مظاهر الرومنسية العربية قد تجلت بشكل واضح في الشعر الجزائري، وهي امتداد للرومنسية الغربية على امتداد التاريخ أو أن ميلاد شعر أبي القاسم خمار كان في فترة انتشرت فيها الرومنسية الغربية في الوطن العربي.

وما يهمنا في هذه الأوراق هو إثبات خصوصية الرومنسية الجزائرية حتى وإن كان هناك تشابه بين الأغراض الفنية العربية والغربية، إلا أن خصوصية الرومنسية الجزائرية تظهر بوضوح في التحريض على الثورة ضد الاستعمار وفي عدم القابلية للموت، حتى وإن كان التشاؤم من طبيعة الرومنسي العربي أو الغربي إلا أن الشاعر الرومنسي الجزائري لا يستسلم للموت، ويدعو العرب أن يتحدوا ويقاتلوا العدو مهما كان الثمن، لأن المجد والخلود لمن يتبع طريق الحق والأنبياء لا طريق المستعمر الغاشم.

وبالتالي فإن الرومنسية الجزائرية ترفض التقليد وفي الوقت نفسه لا ترفض كل ماهو مستحدث، لأن الحالات الجدلية قائمة دائما بين التأثير والتأثر.

قائمة المصادروالمراجع:

أ_ قائمة المصادر:

1__ محمد أبو القاسم خمار: أوراق، ديوان، ط2، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982م.

ب_ قائمة المراجع:

1_  أبو القاسم الشابي: الخيال الشعري عند العرب، (د.ط) مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، 2012م

2_ إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ط2، دار الشروق، عمان،  1992م.

3_ جبرا ابراهيم جبرا: الأسطورة وتحولاتها في القصيدة العربية المعاصرة، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1995م

4_ عبد الحميد هيمة: الصورة الفنية في الخطاب الشعري الجزائري، ط1، دار هومة، 2003م.

5_ عبد الله ركيبي: فلسطين في الأدب الجزائري الحديث، (د.ط)  دار الكتاب العربي للطباعة والنشر والتوزيع، القبة، الجزائر، 2009م.

6_ عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ط2، دار الفكر العربي، 1978م.

7_ فؤاد القرقوري: أهم مظاهر الرومنطيقية في الأدب العربي الحديث. (د.ط) الدار العربية للكتاب، تونس،  1984م.

8_ محمد بنيس: الشعر العربي الحديث – بنياته وابدالاتها- الرومانسية العربية ج2،(د.ط) دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب (د.س).

9_ محمد صالح ناصر: الشعر الجزائري من الرومانسية إلى الثورة (1925_1962)، (د.ط) المتصدر للترقية الثقافية والعلمية والإعلامية، الجزائر، 2013م.

Reference :

  1. Muhammad Saleh Nasser: Algerian Poetry from Romanticism to Revolution (1925_1962), Dr. I), the leader in cultural, scientific and media promotion, Algeria, 2013
  2. Muhammad Bennis: Modern Arabic Poetry – Its Structures and Its Replacements – Arabic Romance Part 2, (D. I) Dar Toubkal Publishing, Casablanca, Morocco (D.S).
  3. Muhammad Abu al-Qasim Khamar: Papers, Diwan, 2nd floor, National Company for Publishing and Distribution, Algeria, 1982,
  4. Fouad Al-Qarkouri: The most important manifestations of romanticism in modern Arabic literature. (Dr.) Arab Book House, Tunis, 1984
  5. Abdel Hamid Hema: The Artistic Image in the Algerian Poetic Discourse, I 1, Dar Houma,
  6. Abdullah Rakibi: Palestine in Modern Algerian Literature, (Dr.) Dar Al-Kitab Al-Arabi for Printing, Publishing and Distribution, Al-Qubba, Algeria, 2009.
  7. Ihsan Abbas: Trends in Contemporary Arab Poetry, 2nd Edition, Dar Al-Shorouk, Amman, 1992,
  8. Izz al-Din Ismail: Contemporary Arab Poetry, 2nd Edition, Dar al-Fikr al-Arabi, 1978.
  9. Jabra Ibrahim Jabra: The Myth and Its Transformations in the Contemporary Arabic Poem, 1st Edition, The Arab Foundation for Studies and Publishing, Beirut, 1995,
  10. Abu al-Qasim al-Shabi: The Poetic Imagination of the Arabs, (d.) Hindawi Foundation for Education and Culture, Egypt, 2012

[1] محمد صالح ناصر: الشعر الجزائري من الرومانسية إلى الثورة (1925_1962)، (د.ط) المتصدر للترقية الثقافية والعلمية والإعلامية، الجزائر، 2013م. ص 236، 237.

[2]  محمد بنيس: الشعر العربي الحديث – بنياته وابدالاتها- الرومانسية العربية ج2،(د.ط) دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب (د.س). ص 17.  

[3]   المرجع نفسه، ص 26.

[4] محمد أبو القاسم خمار: أوراق، ديوان، ط2، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982م، ص 18.

[5] المصدر نفسه، ص 56.

[6] فؤاد القرقوري: أهم مظاهر الرومنطيقية في الأدب العربي الحديث. (د.ط) الدار العربية للكتاب، تونس، 1984م،ص 137.

[7] عبد الحميد هيمة: الصورة الفنية في الخطاب الشعري الجزائري، ط1، دار هومة، 2003م، ص 128.

[8] محمد أبو القاسم خمار: أوراق، ص 41.

[9] فؤاد القرقوري: أهم مظاهر الرومنطيقية في الأدب العربي الحديث، ص 187. 

[10] محمد أبو القاسم خمار، ص 71.

[11] المصدر نفسه، ص 29.

[12] المصدر نفسه، ص 122.

[13] المصدر نفسه، ص 123.

[14] فؤاد القرقوري: أهم مظاهر الرومنطيقية في الأدب الحديث، ص 165.

[15] محمد أبو القاسم خمار، أوراق، ص 09.

[16] المصدر نفسه، ص 10.

[17] المصدر نفسه، ص 50.

[18] عبد الله ركيبي: فلسطين في الأدب الجزائري الحديث، (د.ط)  دار الكتاب العربي للطباعة والنشر والتوزيع، القبة، الجزائر، 2009م،  ص 43. 

[19] محمد أبو القاسم خمار، أوراق، ص 14، 15.

[20] المصدر نفسه، ص 56، 57.

[21] إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ط2، دار الشروق، عمان،  1992م، ص 128. 

[22] عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ط2، دار الفكر العربي، 1978م، ص 223. 

[23] جبرا ابراهيم جبرا: الأسطورة وتحولاتها في القصيدة العربية المعاصرة، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1995م، ص 96.  

[24] محمد أبو القاسم خمار، أوراق، ص 35.

[25] أبو القاسم الشابي: الخيال الشعري عند العرب، (د.ط) مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، 2012م، ص 20.

[26] محمد أبو القاسم خمار، أوراق، ص 36.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *