سردية البادية في الرواية المغربية: رواية “لا أحد يقفز فوق ظله” لشعيب حليفي أنموذجا

نورة الصديق

ملخص :

    من خلال هذا المقال العلمي الموسوم ب”سردية البادية في الرواية المغربية، رواية “لا أحد يقفز فوق ظله” لشعيب حليفي أنموذجا” ترصد أهم مظاهر البداوة في الرواية وتجليات التحول التي عرفتها البادية على مستوى الشخصية والفضاء والمكان، بدأ بالتمهيد وتقديم مفهوم البادية والبداوة، إثر ذلك تم إبراز أهم مظاهر البداوة، على مستوى الفضاء والهوية والشخصيات والتراث، وكشف تجليات التحولات التي شهدتها البادية، من خلال تقديم أسباب وتفسير هذه التحولات كالتعليم وسيادة القانون وتمرد البدوي في البادية، وإعادة خصائص البدو في أماكن أخرى وتأصيل الهوية البدوية، من خلال العلاقات التواصلية للسارد، وتطور الأحداث سلط الضوء على بواطن العقل البدوي…

الكلمات المفتاحية: رواية لا أحد يقفز فوق ظله، البداوة، البادية، البدوي، مظاهر البداوة، التحولات…

Summary:

Through this scientific article tagged “Narrative of the Seditious in the Moroccan Novel, the novel” Nobody Jumps Above its Shadow “by Shoaib Halifi” monitors the most important manifestations of the primacy in the novel and the manifestations of the transformation that the Seditious knew at the level of personality, space and place, he began to pave and present the concept of Badida and nomads ,Following this, the most important manifestations of primacy were highlighted, at the level of space, identity, personalities and heritage, and the manifestations of the transformations in village, by providing reasons and explanation for such transformations as education, the rule of law, the Bedouin rebellion in village , the re-characterization of Bedouin elsewhere and the rooting of nomadic identity, through the communicative relationships of the narratif, the evolution of events highlighted the Bedouin mind…

Keywords: the novel of no one jumps above his shadow, nomads, village, important manifestations of nomads, transformations.

مقدمة:

     تتجدد رؤية الباحث المغربي حول نظريات الأجناس الأدبية التي تهتم بالنص، الذي يحفل بموضوعة البادية، بوصفه تيمة من التيمات التي يتناولها كل باحث التي يزخر بها أي نص أدبي كيفما كان نوعه، وقليل من الدراسات من التفتت إلى أهمية نوع سرد البادية في الدراسات النقدية لتأطيره جنسيا ونوعيا، والنظر إلى موقعه ضمن باقي أجناس الكلام وأنواعه، لتحديد نوعيته وتصنيفه على مستوى الطبيعة والوظيفة، وإبراز خصوصيته بالمقارنة مع المواضيع أو الموضوعات الأخرى، التي يهتم بها الباحث في الرواية العربية والمغربية خاصة ويركز بعمق على الأطر المرجعيّة التي أدّت إلى تشكيل ظاهرة البداوة في مجموعة من الروايات العربيّة، التي تهتم بالبادية دون أن تنفرد بتصور محدد للتمييز بين الخطابات الروائية، إذ لا فرق لديها بين أنواعها، وبين طولها وقصرها، وخطاباتها المتعددة ومتونها الكثيرة التي تعطي لموضوعة البادية خصوصيته وطبيعته المتميزة…  

    لعبت البداوة دورا فعالا في تشكيل النظام الاجتماعي وتشكل نمطا الحياة في المنطقة العربية الممتدة، إلا أنها تتعرّض عبر الأزمنة إلى العديد من التحوّلات والتغيرات والظروف التي تدفع بها للخروج من حالتها البدويّة والدخول في الحالة الحضرية والتماهي معها، ويحظى عالم البادية بحظ كبير في الكتابة عنه من خلال فن الرواية المغربية، التي تتناول البيئة البدوية وما تتضمنه من تجليّات اجتماعيّة وثقافيّة وفنيّة، ومن مفاهيم قيميّة واجتماعيّة، والتي تختلف من كاتب إلى أخر، من خلال الكتابة على ما طرأ على البداوة والشخصيّة البدويّة على مستوى واقعها المعيش وتصوّراتها القيمية من تحوّلات واختلافات بعد دخولها في المجتمعات المدنية الحديثة.

     ونظرا لقلة الدراسات الأدبية التي عالجت موضوعة البداوة وتحوّلاتها في الروايات العربية التي جعلت من التحوّلات موضوعًا لها، والاهتمام بالمدينة وقضاياها، مما حفّز هذه الدراسة على تناول مظاهر وتحوّلات البداوة في الرواية المغربية بالدرس والتحليل، باعتماد المنهج  الوصفي التحليلي الذي يساعد على فهم متون النص الروائي.

     لقد توزع موضوع البادية أو البداوة في بعض الدراسات التي كتبت في الموضوع من الأدباء المغاربة حسب موضوع التناول وحسب زوايا نظرهم ورؤاهم وهو ما حاولنا ملامسته في رواية “لا أحد يقفز فوق ظله”[1] لشعيب حليفي، تم اختيارها لاحتوائها على تيمة البادية، كصورة للواقع البدوي المغربي، وتعمل هذه الدراسة على الإجابة عن الإشكالية التالية: ما مدى حضور وتأثير البداوة في صياغة الرواية المغربية؟ وما مدى ملاءمة الرواية للتعبير عن البادية وقضايا القبيلة؟ هل يمكن أن تكون سجل حياة القبيلة والمعبر عن هويتها؟ وماهي مظاهر البداوة فيها؟ وما هي تجليات التحول على مستوى الشخصية والمكان في الرواية؟ وما هو أثر توجهات الكاتب في صناعة سردية الرواية ورؤيتها.

    وتسعى هذه الورقة إلى بيان تجليات البداوة في الرواية المغربية، واستكناه جمال البداوة، لكون الروائي اختار الوسط القروي/البدور، وهو المهيمن في فضاء الرواية استدعاها الكاتب لتكون مسرحا لأحداثها، من تفاصيل اجتماعية لحبكها في صور ومواضيع وأسماء ولغة، والرواية أغلب فصولها تدل على الجغرافيا والغطاء النباتي واللباس والطقوس الاجتماعية والألعاب…. كما تسعى إلى إبراز شخصية البدوي الفرد بوصفه تمثيلا لمنظومة الأخلاق والقيم التي توصف بها البادية، وإلى دراسة التحولات التي طرأت على البداوة نتيجة تعرضها لصدمة الحداثة والمظاهر المتفرعة عنها كما رصدتها الرواية..

إضاءة مفهوم البادية والبداوة

     لغة: في لسان العرب  ورد “بدا” بمعنى “ظَهَرَ “، و”بداوة الأمر: أول ما يظهر منه…وبادي الرأي : ظاهره… والبدو والبداة والبداوة : خلاف الحضر، والنسب إليه بدوي … وبدا القوم اي خرجوا إلى باديتهم… وقيل للبادية : بادية لبروزها وظهورها …وقال الليث: البادية اسم للأرض التي لا حضر فيها …وتبدى الرجل: أقام بالبادية، وتبادى : تشبه بأهل البادية”[2]، البداوة خلاف الحَضَر، وتعريف البداوة نسبة إلى المكان تعني الإقامة في البادية، لكنه يعود ويعرّف البادية بأنها خلاف الحضارة، فالبادية” هي المكان الخالي من الحضر… وإذا خرج الناس من الحضر إلى المراعي في الصحاري قيل: قد بدوا” أي أن الحضري إذا نزل البادية، ورحل مع البدو فهو بدوي، وقد استخدم ابن خلدون – في المقدمة- مصطلح “عرب” بمعنى البدو والأعراب”[3]، ويمزج بين مفهومي البدو بوصفهم “هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم”، يقابلهم الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم”[4]، فالبدو هم الذين يسكنون ضواحي المدن والقرى ويقطنون الصحراء بحثا عن المراعي والماء، ويعيشون على الرعي وتربية الماشية والخيل والإبل، ويمتازون بقيم وأخلاق وعادات وطقوس معينة مخالفة كالكرم وحسن الضيافة، ويتميزون عن الحضر بالشجاعة وشدّة البأس والفتك بالأعداء…

     وما يكتب عن البدو والبداوة يسمى بأدب البدو، والكاتب الذي يكتب عن البادية وواقعها وأهلها وطقوسها يسمى أديب البادية، أي “كل أديب يعيش داخل الفطرة في سلوكه وثقافته وتفكيره وتصوراته، بحيث ينسجم انسجاما تاما مع ما تحفل به الأرض التي يدرج عليها”[5]، إلا أن معيار التصنيف هو ثقافة الكاتب وما يصدر عنه من رأي وتصور، وما تشربه من وفي بيئته، ليعكس بذلك الأدب تفاصيل البيئة انطلاقا من مقولة “الإنسان ابن بيئته”، وبالتالي يكون الأدب مرآة ما أبدعه الأدباء على اختلاف الألوان الأدبية….

ظلال الرواية وكتابة الذات:

    شعيب حليفي كاتب روائي وناقد مغربي وأكاديمي مغربي، ولد في سطات عام1964، درس بكلية الآداب في الدار البيضاء وحصل على الإجازة سنة 1987، وحصل على جائزة المغرب للرواية سنة 2020، من روايته: مساء الشوق 1992، زمن الشاوية سنة1994، رواية لا تنس ما تقول، رائحة الجنة…وله مجموعة من الكتب في البحث العلمي…

    وصدر له ضمن منشورات دار الثقافة بالدار البيضاء نص إبداعي يحمل عنوان “لا أحد يقفز فوق ظله”، مذيل بعنوان فرعي: الاحتمالات العشر لكتابة رواية واحدة، وتقع في 231 صفحة بغلاف أنجزه الفنان التشكيلي بوشعيب خلدون، وهي عبارة عن سيرة ذاتية يترجم فيها السارد حكاية جيل تنبض بالتخييل الذاتي، تواكب انشغالات الكاتب الاجتماعية والثقافية وعلاقته بالعالم والكتابة والحياة، وعلاقته بالعائلة والأصدقاء والزعماء والمدن والبوادي.

   يسرد فيها تفاصيل حياة الراوي/ الكاتب، وينقل مسار تاريخ البنى الاجتماعية والثقافية وسير الشخصيات وعلاقات مختلفة، يدوّن ما يخالج ذهنه وما يفكر فيه، ما يظنه، وما يفعله، ويكتبه وينشره، يكتب أحيانا عن أحداث بسيطة، ومواقف عادية وساخرة، وأحيانا يكتب عن أحداث وطنية تاريخية ودولية، فهو يرسم تاريخا حقيقيا لوطننا وواقعنا، بشخوصه وأبطاله، يبوح بمواقفه الذاتية والفكرية والسياسية والأخلاقية، ليجد المتلقي نفسه أمام رواية تجمع بين الذاتي والرواية، حيث يفصح عن مكنونات الذات ويسرد تاريخ ومشاوير يومياته، وتتعدد فيها الاحتمالات كما جاء في العنوان الفرعي أسفل العنوان الرئيسي “الاحتمالات العشر لكتابة رواية واحدة”… 

     إن عنوان الرواية “لا أحد يقفز فوق ظله” أحسن الكاتب اختياره، لملاءمته للسيرة ذاتية هذه، لأن الذات/ السارد لا يمكن أن يقفز على ظله، فهو دائما مع علاقته به، كتب عن أعماله، أطفاله، بيته، والديه، مدينته، أصدقائه، أجداده، نسبه، انتمائه، أرض الشاوية بسطات التي أنجبته، جمهوريته وقمريه زينب ومريم، قوس الأموي، واقعه المغربي، تمرده، غضبه، أحلامه… فالكاتب استحضر ظلال الشخصيات والفضاءات والأحداث والتاريخ، استدعى ظلال فكره، فلسفته، هواجسه، كتابته رصدها الكاتب بشكل ملفت ومكثف، والتي أصبحت هوسا لديه” الكتابة وظيفة وجدانية لا يمارسها إلا المطهرون…إذا أنا لم أكتب عمن أحس بهم وأحبّهم فعمن أكتب وأتحدث؟ الكتابة لا تطلع إلا من قلب طاهر أو فكر منشغل بالطهر”[6]وفي موضع آخر يقول: “أحب الكتابة مثل رسالة سماوية خص الله بها بعضا من عباده دون الآخرين”[7]

   إن الكتابة عند الكاتب شعيب حليفي سلاح للتغيير في مختلف البنى الاجتماعية والثقافية، الكتابة تاريخ، ذاكرة، وثيقة ذاتية، “هي جزء من الحياة التي نتنفسها… مهنة أزلية…هي المجال الأسمى للصراع الحقيقي…”[8]

   تحكي الرواية عن يوميات الراوي بين ضواحي مدينة سطات ومدينة الدار البيضاء، وهو ممسك بمرايا يومية تعكس أفعال أفراد في علاقات متشابكة مع الكاتب، ينقل صورتها أو يعيد تنصيبها في تخييل استعاري يحتار المتلقي في تجنيس نصه الذي يتميز بتعدد طبقاته وتنوع فضاءاته، وغنى أساليبه، وبنفس روائي وسردي في شكل يوميات كتبها على مدار سنة، تعد بمثابة مغامرة من أجل إبداع صيغة جديدة وأسلوب متنوع للسرد، حبلى بالدلالات والمعاني المتعددة الأبعاد، تفرض على المتلقي الحصيف سبر أغوارها بعمق القراءة ودقة التأويل…إذ لا يجد القارئ في السيرة رواية  شعيب حليفي “لا أحد يقفز على ظله” ملمحا من ملامح الكتابة الروائية التقليدية من بداية مشوقة وعقدة مثيرة ونهاية، أو كالسرد الخطي، والترابط السببي للأحداث، والحبكة التقليدية، وإنما سيجد نفسه أمام بنية سردية يطبعها التفكيك والتقطيع والتشظي، ومحكيات سيرية عن شخصيات عديدة وقصص ويوميات متنوعة، متفرقة في الزمن والمكان، وهذا ما يسميه سعيد يقطين بالسرد المحكم ” تمييزًا له عن السرد المتقطع أو السرد المرسل، وهو السرد الذي يميز روايتنا”[9]، إذ ينتقل السارد من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، إلى المخاطب، مع ما ينتج عن ذلك من تنوع صيغ السرد، والانتقال من سرد موضوعي، إلى البوح وإلى مسرود ذاتي، إلى الاسترجاع والتذكر…

مظاهر البداوة في الرواية:

     تعمل الرواية على توظيف واقع البادية، وتشخيص حيوات الشخصيات التي تعيش في فضاء البادية وما تعاني من أزمات (جفاف، غلاء الأسعار، تراجع المحاصيل الزراعية، صراعات قبلية، نزاعات عائلية…)، وتنبثق من قرية بضواحي سطات تعيش على الأنشطة الفلاحية والترقب وانتظار الحصول على المنتوجات الزراعية، وتحفل بمجموعة من المظاهر البدوية منها:

– فضاء البادية: تشكل البادية في أغلب فصول الرواية أو السيرة الروائية الفضاء العام الذي تجري فيه أحداث الرواية، يتميز بجغرافية متنوعة وتضاريس مختلفة ونباتات وأشجار متعددة، يتوغل الراوي إلى ثنايا البادية لينسج خيوط يومياته متتبعا مساره وهو نفسه الكاتب الذي ينتمي إلى الطبقة المثقفة، يحبل نصه الروائي بمعلومات جغرافية وبشرية لحياة البدو والبادية، يوثق لشكل الحياة في الأماكن المفتوحة(السوق، الضيعة الشوارع، المركز الثقافي) أو المغلقة  (المنزل، الضيعة)، يطوف الراوي بالقارئ من الدار البيضاء إلى مدينة سطات  أو العكس، ويصحبه بين البحر والجامعة، وبين سوق السبت الأسبوعي والمقاهي، والحقول والضيعات والملاهي.. في رحلة أدبية يصف فيها سلوك الشخوص وتنقلهم بين الأمكنة والأفضية المتنوعة، يرسم لوحة فنية تترسخ فيه عائلة، تحمي حكاية حياته، أمه الأمازيغية، جده، أبوه، أبنائه، أصدقائه…حكايات جرفتها الحياة في مغارة تشوبها صراعات زائفة طغت عليها المصالح الخاصة والأنانية… حكايات أثرت على الراوي بنقاء، ولونت حياته بكدره اليومي، نقتطف من الرواية مقاطع نجلو منها ما يلي: 

ـ “سطات، عاصمة بلاد الشاوية، وروحها الحية، مدينة صغيرة كانت قبل بداية القرن الماضي عبارة عن تجمعات سكنية هنا وهناك، يطلق عليها النزالة حيث ينزل أفراد وعائلات من دواوير وقبائل الشاوية، جاءوا للاستقرار قرب عيون المياه العذبة… “[10]

ـ “كانت سطات عبارة عن عراصي ونواويل “[11]

ـ مشينا وسط رحبة الأبقار وهو يشدّ بيده اليمنى بيسراي، وبيده الأخرى عكازته”[12]

ـ “الشاوية هي الجنة أبويا”[13]

طقس الشاي: إن البادية كما هو متعارف عليه، أول كلمة يستقبل بها البدوي ضيوفه:” تْشْرْب معنا كوِيْيسْ دْ أتاي” أي يدعو لشرب الشاي، إذ لا تحلو الجلسة إلا بكؤوس وفناجين الشاي، وهي من الأمور التي تلازم البدوي، في فترات يومه، لا يمكن أن يحظى بوقت راحة أو فترات بين عمله دون شربه الشاي، وهو طقس له عاداته ومقادير وأفعال ومراحل يتبعها لإعداده بدقة عالية، ونذكر بعض التعابير الواردة في ثنايا الرواية منها:

ـ “إلى جانب والدي محمد بن عبد السلام، نحتسي الشاي ساخنا وفي أيدنا كسرات خبز محشو ببيض”[14]

ـ وضعوا ثلاث صينيات الشاي ببراريد كبيرة مع كل المعدات الأخرى أمام شيخ من الشيوخ الحاضرين، والذي هم بأشغال صناعته حيث يبدو أنه مدرب عليها جيدا”[15]

ـ “وشربنا الشاي أو إلى كلامنا الذي هو حوار طويل”[16] 

ـ “بمقهي بوشتى، أخذنا موقعنا على الكراسي الخارجية كما تعودنا، نحتسي الشاي ونتحدث”[17]

     إن الكاتب يُعدّ الشاي طقسًا مهماً ومركزيًا في ثقافة البدوي، وثقافة البادية، وظّفه في بناء الرواية كقيمة من القيم الجميلة التي ترمز إلى الكرم لدى البدو، وهي مناسبة يومية أو طقس معتاد يتكرر عدة مرات في اليوم أو في مناسبات مختلفة، على إيقاع رشفات يرمون الوحشة ويستمتعون بلذته ونكهاته المتعددة باختلاف الأعشاب المُنَسِّمة لمذاقه اللذيذ ونكهته التي لا تقاوم، هو طقس لاجتماع الأسرة أو العائلة لتدبير شؤونها، ولحظة التقاء الأحباب والأصدقاء لتبادل الآراء والأخبار المستجدة في البيئة…

-وصفات التطبيب: وظّف الكاتب شعيب حليفي قاموسًا بدويًا متداولاً في مجموعة من المجالات الحياتية في البادية، ويتعلق الأمر بمجموعة من الوصفات التي يستعملها البدو في بعض الحالات المرضية التي يصابون بها مثل: 

ـ “جاءتني زوجتي ببعض الملح، غطست فيه رجلي لبضع دقائق” [18]

ـ “هيأت لي ضمادتين من الكتان في حجم قطع طماطم مشطورة بحجم العين محشوتين ببعض البابونج وورق الشاي الأخضر، وبعد تدفئتهما بالبخار، مررت على عيني مرودا خشبيا عتيقا من عود الكركاع، بعدما غمسته في كحل دمناتي أصيل”[19]

– “بقيت بالبيت، وقد تحولت إلى طفل هادئ في نظر زوجتي التي تجلب لي بين الحين والآخر أكلة خفيفة أو مشروبا من عصير يخفف عني الحرارة، ولا تتوقف عن لف رأسي بضمادات تحشو تحتها قطع الليمون والخيار والمخينسة[20].

-التراث المحلي: استثمر الكاتب في روايته التراث المحلي البدوي لوعيه بأهمية التراث المغربي وتراث الشاوية خاصة، من خلال استحضار النص التراثي السردي وآليات تناصه في قوالب فنية تربط الماضي بالحاضر، وجعل الرواية ملتقى كل الفنون من شعر وأغنية شعبية وحكاية وتاريخ وأنثروبولوجيا…ينهل من هذه الموارد والمرجعيات من أجل إصلاح حال الشاوية… من نماذج ذلك:

ـ الأغاني الشعبية: “يصف لنا إلمام البدوي بالطرب الشعبي وولعه بالشيخات اللواتي سماهن السارد بالهوانم، يقول: أربع فنانات هوانم استقدمن من مدينة خريبكة يتوسطن شيخ كمنجة في متوسط العمر… “[21] ، وفي موضع آخر يقول:  يسمع السارد إلى الأغنية الشعبية وهو في الحافلة من الدار البيضاء إلى سطات، إلى المغني الفنان ميلودي المغاري: ” أ وليدي يا وليدي الدايم ربي/تعالى لمكاني تشوف حالي/ الطير الحر ما يخرج فركو.. “[22]

 ـ وعند اصطياد خربوش للكلاب، يغني الأطفال هذه الأغنية كلما قتل كلبا، “رميت السلبا وجري الكلب ياخربوشا” [23]

ـ الرقص البدوي: يصف كيف يرقص البدوي في المناسبة، حيث يقول: “ولم أدر متى وقف على قدميه من داخلي واحد يُشبهني (لم يلتفتْ إليَّ أو يستأذن من وهمي) فرقصَ رقصاً بدويا ورجوليا، مثلما راقص المجموعة عامتها رقصا رومانسيا طاهرا ومُعبرا.. لا نعت وصور أو سرد أو حديث فيه..لا غير الروحانية والمُجاهدة حتى تقطعت عباءة الفقيه – وأنا مشدوهٌ وساهٍ في فِعْلِهِ الغَريب – رقَصَ كمن ينتقم من شيء .كمن جاءته بشارة من السماء، كمن رأى الجنة ودخلها .هو لهو وخشوع في صورة رقص.. كمن يَدُكُّ الأرض على هذه النظريات والسرديات والندوات والكتابات والروايات والمناقشات والمزايدات والمناقصات وكل شيء خارج الحياة والممات.. دَكًّا دَكًّا حتى أحس بطقطقات عظامها الرميم، وبأبخرة جسده وأمطار جارفة العرق تنهمر… فسقطتُ الأرضَ مثل فرد من الثوار، سقطتُ في أحدث معاركنا والتي كان فيها النصر يخفي الهزيمة ثم قمتُ وجلستُ مرتميا وسط ابتهالات العيطات التي لا تنْفذ، أحسست بأنني تطهَّرتُ وعدتُ مثلما كنتُ بريئا طُهرانيا”[24]

ـ الأكلات الشعبية: تتميز لبادية بأكلات تقليدي شعبية، يحبها أي مغربي بدويا كان أو حضاري، ومن نماذجها:

ـ تناولنا وجبة الكسكس من القمح الخالص[25]

ـ ” وفي الواحدة كان غذاؤنا الرْفيسة، بناء على طلب جماعي”[26]

ـ ” جيء لنا بقصعة كسكس قبل العصر بساعة، أكلنا في صمت وبنهم”[27]

ـ فاجأتنا ربة البيت المصونة بأكلة متكون من رأس مبخر…وأكلة أخرى هيأتها من قبل من الكبد والطحال المحشي… “[28]

الحكاية الشعبية:ـ علمتني أمي من خلال معجمها النهاري الذي كله أمثلة وحكم تفسر التدبير اليومي للحياة داخل البيت.. وبالليل تروي لنا عن والدي مما سمعته من عماتي ونساء كثيرات وصلن إلى أخباره…أما الشق الآخر من الحكايات فهي حكايات تعود إلى المتخيل الأمازيغي والشاوي…[29] فمن خلال استماعه إلى الحكايات المختلفة، تعلم هذه المهارة من جدته وأمه بوصفها عنصرا من التراث اللامادي الذي يتميز البدوي بالتمكن منه وبحفظه وحكيه لصيانته، يقول: بدأت أجرب الحكي ليلا لإخوتي مما سمعته من أمي ومما قراته ومن خيالي، محرفا ومضيفا…[30]

ـ الحرف التقليدية: أشار السارد إلى مجموعة من الحرف البدوية التي لا تزال تزاول في البادية رغم زحف الدولة إليها والخضوع لقوانينها، ورغم التطور والتحضر المزدهر الذي عرفته المدينة في زمن الثورة التكنولوجية والعولمة، ومن هذه الحرف التي ذكرها الكاتب نجد:

ـ الفلاح: وصلنا إلى مقهى بوشتى.. وعددا قليلا من رواد هذا المقهى المحبب لشرب الشاي المعتق ، فلاحين بالأساس وبعض باعة السوق والشناقة[31]

ـ مهنة الكي: هناك سباعي مختص بالكي.. يدخله في كل السبوت والآحاد فيخصص صباح السبت لمداواة البهائم، وبعد الزوال يشرع في كي الرجال، أما زوال يوم الأحد فيخصصه للنساء والأطفال الرضع[32]

ـ مهنة الخبازات والخبازون: يبيعون خبزهم اليومي مثلما صارت نساء وفتيات يبعن البغرير والمسمن[33]

ـ الحجام: وقف لسنوات ضْريسة بشكارته السوداء، يحمل كلابه الحديدي، باحثا عن علة الفم للانقضاض عليها ، وداخل محفظته تلك أضراس شتى تؤرخ لمسيرته الطويلة في تلك الحرفة، وأوراق عدلية وأخرى عرفية يقول إنها دليل ملكيته لحائط كبير بحوانيته[34]

ـ اللباس التقليدي: 

ـ يجلس بجلبابه والبوردو ونظراته الثاقبة[35]

ـ لبستُ التشامير الأبيض[36]

ـ أحب في البيت أن أكون لابسا الفرجية والتشامير والكندورة، ولدي أشكال كثيرة، لكل واحد فصله…كما أحب الجلابة والسلهام داخل البيت في فصل الشتاء[37]

ـ ارتديت جلبابي الصوفي وجواربي[38]

ـ المقاهي الشعبية: تنتشر في الأحياء الشعبية وفي لأسواق الأسبوعية، وهي فضاء للقاء الرجال، من أجل التفاوض ومناقشة القضايا التهم البادية، وكذا الأمور المستجدة في المنطقة، كما تعتبر مأوى للغرباء” المقاهي الصغرى التي تأوي المنفيين، وهي لا تختلف أبدا عن الرصيف الذي كان يأوي الحصادين بالمناجل.. “[39]

ـ أسماء الأعلام في القبيلة: وظف الكاتب مجموعة من الأسماء الفاعلة في الأحداث التي لها وزن بالقبيلة، ولها دور في البادية حسب تفاعلها مع سكان المنطقة، ينتقل في حديثه عن الأحداث من عمق البادية إلى المدينة، مستعرضا شخصيات كبيرة وأنماط بشرية متباينة يلتقيها ويواجهها الراوي في مشاويره، يذكرها في أغلب فصول الرواية وفروعها وفقراته، وهي من الآليات التي اعتمدها في بناء أحداث روايته من خلال سرد سيرها ونبذة عن حياتها، يقول: “أنا أحب هذه المدينة مثلما أحب أهلها وتاريخها الذي يأسرني، رواية مفتوحة تتجدد فصولها كل يوم، أبطالها من البسطاء الذين يتحولون إلى ملاحم وأساطير وأغان…أسماء أختار منها بعض ما أتذكره في كل السنوات السابقة، وقد غابت وبقيت نسيا موشوما في الرياح التي تهب على المدينة كل يوم”[40]، ومن هذه الأعلام:

ـ عبد السلام: “عاش جدي عمرا مديدا يحتفظ في ذاكرته الثرية، بما عاشه من أزمان في طفولته…وإلى جانب الطاهر، وأخيرا قائد للرحى في طاحونة المقاومة”[41] ويقول كذلك: “هو الآن ومنذ عقود، بويا الأمين، كما يدعوه الجميع، والأب الأكبر كما تحسه الخاصة، أمين الفلاحين بالشاوية، وتجار البهائم بأكبر أسواقها، عراب نبيل يحتكم إليه ويستظلون بحكمته التي في عقله وقلبه وحدوسه”[42]

ـ “فاطنة الحمرية، الشريفة، المباركة، ابنة السماء جدتي، وحيدة والدها الطاهر زعيم المقاومين على شريط ساحل بلاد وقبائل أحمر…الحمراء بما انهرق من دماء حلال نهاية ق19 وفي العقدين الفاتحين من القرن العشرين”[43]

ـ “محمد نوبير الأموي…الذي هو مدرسة مفتوحة على الحياة، على العفة والصدق والإيثار على النفس والدفاع عن الحق والحرية بدون حساب.. “[44]

ـ نمط العيش في البادية: في الرواية يسرد الكاتب نمط اليوميات السعيدة والشعبية التي تنطوي تحت لواء السيرة الذاتية، حيث ينبش فيها الذاكرة الشخصية البطل/الروائي، ويستعرض الأنشطة اليومية وظروف العمل في وضع مأزوم على الصعيد المحلي والوطني والدولي وفي جميع المستويات، الأمر الذي يدفع الذات السارد إلى الهروب إلى أحضان الأجداد باستنطاق الذاكرة، واسترجاع أعلام تاريخية وأحداث ماضية، واستلهام أحداث من التاريخ والتراث الوطني والمحلي، بهدف ترسيخ قيم الأسلاف وسط شظف العيش وتأزم المجتمعات… ومن الأنشطة البدوية التي يمارسها البدوي/الراوي الحصاد، عندما اتصل به أحمد سائق آلة الحصاد ليخبره ببلاد النويلة لحصاد أزيد من عشرين هكتارا من الشعير: “اليوم كله قضيته وسط حرارة صيف مستعر وغبار الشعير الحارق…اشتغلت كما تعودنا منذ الصغر في حمل الأكياس والتبن، أمر أعتبره جزءا من حبي للأرض وتعبيرا عن الذوبان الحقيقي في الصيرورة”[45]

العادات والتقاليد: تؤسس الرواية لنموذج شامل يتضمن الأعراف والثقافات المختلفة في إطار من الوحدة المتمثلة في الدولة، منها مناسبة الزواج التي تتميز البادية بتمسكها بعادات اجتماعية وطقوس طيلة العرس، منها يقول الراوي:

ـ “انطلقت تلاوة القرآن مع سبعة فقهاء كانوا جالسين قبالتي.. كانت قراءاتهم مغربية عن طريق التلاوة الجهرية التي تتوقف عند كلمات ملومة ومسجوعة بصوت عال”[46]

ـ صخب وضجيج بدأ يتعالى من الجهة التي خصصت لدخلة العريس على عريسه، أنها الشرارة الأولى…[47]

ـ  الهوية القبلية البدوية: يهتم الكاتب بهوية البادية، أو هويته الشخصية أو القبلية والجمعية، تناول في روايته هويات مهمشة عبّر عنها، وعما تعرصت له من تهميش من الدولة ومن صراع الجماعات على هويتها ودورها في النظام الجديد،  ويشي ذلك بالحنين من طرف الأطر الفكرية لما بعد الحداثة لمجتمع الماضي، وما يحفل به من قيم وأخلاق وصور الإنسان فيه، من خلال حوارات عمدها الراوي في قالب قصصي يسترعي انتباه القارئ، ويشدّه نحو الإمتاع والتشويق، وقد اقترح الكاتب مقولة الانتماء بشكل كبير، انتماء الذات للعروبية بقبائل الشاوية ودكالة المتشبعة بالقيم البدوية الأصيلة مثل التسامح والتضامن والاجتهاد والكرم والمواطنة وخدمة المجتمع، ومن العبارات التي أوردها الكاتب في غضون روايته يحضر فيها سؤال الانتماء وينتصر للانتساب وللهوية الثقافية والمحلية: 

ـ أحس بأن دمي نهر شاوي جارف يجري بلا توقف، ترفده بقوة دماء صحراوية وأخرى أمازيغية.. تنوع وحياة في لقاء بويا بن عبد السلام بأمي بنت الحاج راعا خلال زواجهما.[48]

ـ هوية الدم في العائلة التي لها عراب واحد هو بويا، كما ندعوه جميعا…له صفات القائد والحكيم والأمين، من صفاته القسوة والعفو..[49]

ـ فحياتنا بالمغرب، من كل النواحي هي مثل الأقرع، في أي مكان تضربه يسيل دمه[50]

ـ ومثلي يحج إلى شاويته التي لا يعتبرها أرضا وإنما هي وحي حوله الله إلى تراب وأحجار ومياه وخلق، ونحن فيها في حج أزلي لا نجوع أو نظمأ، ولا نشبع أو نرتوي، لا نصدق أو نكذب…إنما نجمع من الطيب ونقيضه[51]

    عمل الكاتب على تصوير القلق الذي عاشه الراوي بين عشقه للمدينة (السكن والعمل)، وبين تعلقه بالبادية بوصفه ابنًا أنجبته أحضانها وكسب قوانينها وقيمها وطقوسها، أثناء حديثه مع أبنائه يتضح من هذه العبارات تيمة الانتماء القبلي والانتساب، فالبدو يعتزون ببلدهم الأصلي ويفتخرون بالانتماء إليه، وهو أمر مقصود من الكاتب من خلال حديث النفس والحديث مع الآخر، يعرض ما يضمر وما يبطن في جانب النسب والانتماء القبلي، يقول: “بين هوية العائلة وهوية المكان تختلف ثقافات شتى، عروبية وأمازيغية وإفريقية، تعبر عن أنظمة وأنساق دائمة الشكل، …يكفيني فقط أنني سليل أنبياء هذه الأرض وأوليائها وثوارها، ومفوض للدفاع عن رسالاتهم وأحلامهم.. “[52]

ـ اللغة الفصحى والعامية: تعد اللغة أهم علامات ارتباط الكاتب ببيئته البدوية، يمزج بين اللغة العربية والدارجة في السرد رغبة في إيضاح معاني وعادات وتقاليد وطريقة معيشة البدو في ذلك الوقت، حيث يلتقط الراوي شريان البادية، ويرصد بواطنها، ويغزل ما عايش من لحظات ومراحل حياته، من حكايات يومية بين ضاحية مدينة سطات والدار البيضاء، بوصفها لبنات بنى بها بناء مدهشا عن بيئة تلفظه نحو المدينة بظروف العمل ومسؤولية الأبناء، لكن لشدة حنينه وتعلقه بأبيه، يغدو ويروح، وينقل يومياته من خلالها يكبِل القارئ، ليكتسبه ويجذبه لمواصلة القراءة ببساطة اللغة وجماليتها، إذ تمتزج باللغة العامية والأمثلة الشعبية والأغاني والعادات والطقوس اليومية والمناسبات في عالم البدو والبادية… ويوظف لهجته الدارجة بخفتها ونبرتها المتميزة وتنغيمها المتفرد، وقد استعملها في بعض حواراته، وفي تصويره لحياة البدو وطرائقهم في التواصل، وترجمته ومشاركته لهواجسهم وآمالهم، من خلالها قدّم السارد تحليلا عميقا لشخصية المجتمع البدوي، أفكارا أنشطة، إشكالات وصراعات نمَتْ مع الأحداث نسجها حرفيا وبصدق من أرض الواقع البدوي المغربي، ومن العبارات والتراكيب التي تضمنتها الرواية وتصب في هذا المنحى نجد:

-“وفينْ السيف دْيالْ جدْنا سيدي علي”[53].

-” مزيان تبارك الله، كوني تحشمي، سيري لتواليت”[54].

-“كن رجل فحل”[55].

ـ آسي الأستاذ، خصنا نْديرو ليك كل سمانا سهرة[56]

ـ تربية الحيوانات: من الأنشطة التي يزاولها البدو هي تربيتهم للحيوانات الأليفة لتوفير اللحوم ولبيعها لقضاء حاجياتهم وشراء كل ما يلزمهم من الأسواق الأسبوعية المجاورة، والكاتب/ الراوي عمد إلى ذكر الحيوانات التي تشاركهم حياتهم في البادية، فعند زيارته لأبيه في البادية أعطاه مجموعة من الحيوانات كهدايا لحفيته، يقول: يوم الأربعاء حملني والدي أمانة إلى مريم، أرنب وديك ودجاجة وبطة وحمامتان، رفضت، لكنه ألح لأن مريم أخبرته آخر مرة بأنها تريد كل ما في الضيعة[57]

ـ النباتات والأشجار: تضمنت الرواية الكثير من التعابير منها: “تلعبين وسط الخبيزى والكلكاز وأعراس شقائق النعمان وأنواع برية مألوفة، احذري الحريقة[58] ، وفي موضع آخر يصف حديقته، بها عدد من الأغراس وشجرة سفرجل…وجرة الليمون…[59]

ـ حب الفارس للفرس: تقوم حياة البدوي على ما توفّره البيئة، ويمثّل الآخر لهم مصدرا للصراع ومجالا لإظهار الفروسيّة والشجاعة، يصور حياته ويعيشها كما باقي أجداده، يقول الراوي: “كان طموحي دائما أن أكون كاتبا…أو بالأحرى واحدا من جنود القبيلة…بيتي على ظهر فرسي، صيفا وشتاء”[60]

ـ عمل البدوي: يمتلك الأب الهكتارات من الأراضي في ضيعات بمدينة سطات، بوصفه أمين عام مكلف بفك النزاعات، يعمل على شراء الأراضي وتوسيع ثروته، وهذا ما غرسه في الابن الراوي الذي اتصلت به أمي فاطنة للاتفاق معها على بيع أرضها، وقام بما يقوم به الأب…

   يحافظ الابن على طبعه وعاداته وممتلكاته، وهو كبدوي يمتلك الأراضي، لكن لا يعمل بنفسه، وإنما يعمل فيها عمال وفلاحون مستخدمون، فالراوي يقدم لنا تصورا واضحا عن نظرة البدوي للعمل، ذلك أن البدوي يحتقر العمل بسبب “طبيعة شخصيته القائمة على الاستحواذ، في مقابل شخصية الحضري القائمة على الإنتاج”[61] ويرى ابن خلدون” أن البدو أشد بأساً من الحضر، وأن أهل الحضر عيال عليهم لا يملكون فهم شيء من أمرهم”[62]

    في البداوة تكرر الأشياء ذاتها، تتكرر الأخلاق لدى الأبناء، تتواتر العصبية، الشجاعة، السلوك، الطقوس…فالبدوي “يسعى إلى تكرار حياة سابقية وأجداده”[63]، أي أن البادية تنتج نفسها بنفسها في نفس المكان، يكرر زمانه: “علاقة معقدة، ناتجة بالتأكيد عن نظام سلالي يربطنا بأجدادنا وبالأحداث التي عاشوها، وأعيد اليوم تأويلها[64]

   فالراوي رغم استقراره بالمدينة بحكم العمل والابناء يدرسون بالمدارس الخلصة، فيعد نموذج البدوي الذي يعيش ضمن نطاق الزمن الدائري، فهو يحاول تكرار حياة جده وأبيه رغم تشبعه بقيم ومنظومات تحضر المدينة، فهو لا يستطيع العيش خارج البادية، يتمسّك بزمنها وكل ما يتعلق بها رغم مغريات المدينة في الزمن الجديد، فهو يتوق إلى التنفس بين أنواع الاشجار والحقول، يشارك الطيور الصادحة نشْوَتها في الصباح والمساء، يقول: ” مع تعاقب الأيام صرت مساعدا لبويا وخزينة أسراره، أساهم إلى جواره في ترتيب القرارات، أمي تقول إني نسخة منه في شكل جديد[65]، فهو يعيش زمننيْن ومكانين في الوقت نفسه، في المدينة وهو زمن من الحاضر، وزمن البادية وهو الماضي، يتمتع بكل خصائصهما، ويمارس أخلاقها وطقوسها رغم تغير العواصف واختلاف الاهتمامات وكثرة المشاوير واللقاءات…

ـ المسيد والدين: في البادية أول فضاء يدخله الطفل هو المسيد، فيه يتعلم القراءة والكتابة، ويحفظ القرآن، ويتعلم تعاليم دينه الإسلامي، يقول الراوي:  أنا الآن أحمل في يدي خبز الشعير وبعض الزبيب، أتوجه إلى المسيد عند سيدي وفقيهي مولاي أحمد، بوجهه المشع نورا وبركة، أتمنى الآن لو كان حيا لارتميت على يديه وأقبلهما عمرا كاملا، فقيهي الأول الذي علمني القرآن الكريم على لوح خشبي طلي بالصلصال وكتب بالسمق”[66]

مظاهر تحول البدوي في الرواية:

    لقد طرأت تحوّلات كبيرة في مجال البادية على منظومة الأخلاق البدوية وما ينتج عنها من أفعال مثل الشجاعة والقوّة والأنفة، لم تعد البادية أو القبيلة مصدرا للرزق للظروف القاسية كالجفاف والاستعمار، والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، مما دفع البدو إلى البحث عن العمل والمهن والوظائف، والدخول في الجيش والخضوع المكوّنات الاجتماعيّة لأمور الدولة، وقد رصدت الرواية التحوّلات التي طرأت على البداوة نتيجة إخضاع الدولة الحديثة لهم والقدرة على الوصول إلى فضائهم في البادية، وإخضاعهم لقانونها، الرواية الجديدة تناسب التعبير عن العودة إلى المهمّشين والجماعات القائمة على هُويات خاصة، وهذا يتوافق مع الأطر الفكريّة التي تتضمن الحنين لمجتمع الماضي وقيمه وصورة الإنسان فيه…

تحوّلات الإنسان البدوي:

    إن الراوية من خلال أحداثها تدل على أنّها ذات قيمة رمزيّة، إذ يقدّم الكاتب صورة الشخصيّات التي تتشابه أفعالهم، فينظر الابن إلى أبيه على أنّه تمثيل متكرر، كنموذج للشخصية البدوية المتميزة، وقيمها الأخلاقيّة المثاليّة والسلوكيّة الواقعيّة قبل التحوّل إلى حياة المدينة وبعده، وطبيعة نظرتها إلى المكان البدوي الذي يتمسك به ويدافع عنه، يقوا الراوي: “وقد تعلمت كثيرا إلى جانب والدي محمد ين عبد السلام، مدرستي الرمزية الأولى، بمدينتي، وتشبعت بأحلام فرساننا، وفي السوق رأيت كيف يتم بماء لغة لا علاقة لها بلغة اليومي الذي نعيشه في البيت وخارجه، كما كانت الحقول امتدادا لأوراقي الخاصة أكتب عليها ما أشاء”[67]، إن دخول البدوي المدرسة وتعليمه غيرت من تفكيره ونمت مهارات معرفية لديه، واكتساب قيم ورؤى ومشاعر جديدة، و”كان طموحي دائما أن أكون كاتبا أو أي شيء يجعلني أحمل المعرفة”[68]، التي تجعله يميل إلى كفّة الثوار، يقول: “أنا متشبّث بشكل عاطفي كبير إلى نوايا ثوار وهم يجوبون الأرض بحثا عن معارك مصيرية لفهم الهوية، إنهم ثوار قبائلنا الذين كانوا…في تقسيمهم لزمنهم الدائري إلى مراحل يكونون فيها فلاحين وفقهاء ثم ثوارا..[69] كذلك انفتاح البدوي على العالم الخارجي، واتصاله بأبناء المدينة علمه مبادئ وأخلاق وقيم وطنية إيجابية، وما تقرب السارد إلى المناضل محمد نوبير الأموي إلا دليل على ذلك، يقول في شأنه: علمني كيف أكون محاربا في معارك أحبها” [70]

   فالراوي يحاول التمسّك بروح البداوة وقيمها أكثر من التعبير عن قبولها للمدينة الحديثة، نظرا تعلقه بها وزيارته لها في كل أوقات فراغه، يقول: الحرية مثل العقل والوجدان، لا يمكن أن توجد خارجا الكائن، وأنا حر قفي شعوري بالتحرر من الاستعباد للوجبات السريعة في حياتنا، وأقول دائما لنفسي إن أسوأ شيء يمكن أن نحياه هو التكرار أو نكون بدون عواطف، فتتحول مع الزمن إلى شخصيات ورقية[71] حتى الأبناء غرس فيهم حب البادية وشغفهم بأجوائها وحقولها وحيواناتها… 

    يميّز الكاتب بين طبيعة الشخصيّة البدويّة في بيئتها الأصليّة في البادية، يرسم صورة مكتملة للشخصية البدوية قبل التحول، من خلال وصف الوضع في البلاد بعد تأجج الأوضاع يقول: كل يوم يمر تزداد ضراوة العبث في اللوحة دهشة، فالسعار حول السلطة فاض في مجاري لاهبة، والتصفيات اشتعلت في الرطب واليابس، في الزمن والعباد، في المكان والحقيقة والأحلام والرماد[72]، تتغير طبائع البدوي حسب ما يجري داخل الوطن وخارجه، يقول: انتهت سنة أخرى… مرت هذه المرة بمفاجآت على غير العادة…والهجوم على أهالينا خلال ثلاثة أسابيع وافي في قطاع غزة بفلسطين، كما عرفت بلادنا زيادات في عدد من أسعار النقل والبنزين والحليب ومواد أخرى أساسية، وشكوى الفنانين من ركود سوق الفن بالمغرب أمشي فوق أرض محترقة، لم تعد حياتنا طبيعية وروتينية مثلما كانت، كما أصبحت عنيفا، سريع الغضب…لا أملك غير الغضب والغضب..[73]

      وكيف تظهر معالم تلك الصورة الأصليّة في المدينة الحديثة، وكيف تتصوّر ذاتها وماضيها في سياق التحضّر والتمدّن، ويظهر الصورة الجديدة للبدوي وهي مناقضة للصورة الأولى، يقول: نحن في جزيرة لا تشببه أطلنتيس، ولكنها غارقة في هوائها، واربح الوادي لم يعد يعرف كتابة اسمه، فتحول إلى أسماء مستعارة تاه بداخلها ولم يقدر على الخروج من دوائرها، فاختار علم الموضة والكلمات المتقاطعة والأبراج ثم سباق الكلاب والخيول والبوكر… وفي النهاية اكتشف أنه لم يكن سوى بطل من ورق[74]

تمرد البدوي وتعنت السلطة

     تتأرجح العلاقة بين البدو والسلطة بين مدّ وجزر، يتحالف معها في أمور تخص الجماعة والشعب، ويعارض عندما تعتدي على أملاكه وتقتحم خصوصياته وتمس مصالحه، فيُظهر قوته ويكشّر عن أنيابه، فعند تعيين ولي على الشاوية رفض هذا التعيين ” قال لهم وهو منتش بعبقريته بأنه يرفض التسلطن على البدو”[75]

     فمن حالة الهدوء والحرية التي نالها بعد الاستقلال، تحولت طبائعه إلى يأس وغضب وإحباط بعد أحداث متوالية كسرت الأرواح وخلخلت الموازين… وإعلان ثورته وتمرده، فهذه فرقة موسيقية ألّفت كلمات ثورية بألحان صادقة ألهبت الوجدان الشعبي مما جعل السلطات السلطة الحاكمة تطارد أعضاءها بالاعتقال والنفي والتضييق…ولما لم تستطع اجتثاثهم قتلت المايسترو، كما قتلت غيره من الفنانين والمبدعين، وتعرض الباقون لكل أنواع التعذيب والتنكيل…[76] وكان رد فعلهم الدفاع عن الحداثة وتطوير الفن بآلات موسيقية، لتتحول الفرقة إلى تيار يطالب بأغاني غربية مصحوبة بالرقص وقلة الحياء، مبرزة ذلك أنها موضة التي يرضى عنها الحاكمون، وقد اشتد الدفاع عن هذه القيم في التسعينات من القرن الماضي، كما برزت ظاهرة غريبة تسمى بالحريكْ إلى مدينة الرباط… [77]

  وبعد مجموعة من التراكمات التي فرضت الدولة وتمهيداتها العنيفة، سيصبح الوعي مرتبا داخل الجامعة والعمل والصحفي والثقافي والجمعوي، وستظهر أوراش كبرى، منها العمل النقابي والاجتماعي، وظهور مركزية نقابية عمالية مغربية سميت بالكونفدرالية الدمقراطية للشغل، والتي استطاعت…أن تحول مسار الفكر التقليدي…[78] وقد صدق الراوي حين قال: “فنحن البريون نعشق السباحة في التراب والصهد، ونتعايش مع كل الرياح”[79]، يجد ضالته في التعبير عن ما يعانيه، خاصة بعد الهجوم على غزة، ” فاستمرت المظاهرات والأمطار والزيادات في الأسعار والخلافات القاتلة … “[80]

ـ المرأة البدوية:

   كانت المرأة في البادية مضطهدة وضعيفة وتحت سلطة الرجال، ينظرون إلى المرأة كأنها آلة للإنجاب فقط، وهذا يعطي للمتلقي صورة عن تعامل البدوي مع المرأة ككائن سلبي عليه التنفيذ والطاعة ليس إلا، وهي أيضا ضحية خيانة الأرض، إذ بعد شراسة البدو والمخزن في غدر الطاهر بطل الغزوات الكبرى وأخيه، حمل عبد السلام جد السارد فاطنة والعودة بها إلى موطنه الأصلي بسهول الشاوية لتضع من رحمها محمد وفاطمة، ثم تموت بعد أن ترى وشك حروب الاجتثاث …[81]

    فكانت المرأة ضحية الغدر والفتك، لكنها تمردت على الواقع المزري، وأصبحت أكثر تحررا، وبدأت تفرض نفسها في المجتمع، وفرّت من الظروف الصعبة التي أجبرتها على العمل في كل الميادين وفي كل الحرف، كما أصبحت مسؤولة عن إعالة أسرتها ورعايتها واهتمامها بممتلكاتها وابنائها، “منذ أن وعيت تقول لي أمي، لي وحجي دون إخوتي السبعة، بأن الله يحرسني من شياطين الأرض وأنه خص ملاكا بي[82]

    وفي موضع من الرواية نجد المرأة البدوية قوية وقادرة على المشاركة و التأثير، مجدة مكافحة متحدية كل الصعاب من أجل أبنائها، ” أما العميان الثلاثة الذين لم يجدوا نيتهم في عكازهم بل في امرأة تقودهم برغبة عمياء نحو أقدارهم اليومية … “[83]

  تقوم المرأة البدوية بمجموعة من الأنشطة اليومية من تدبير شؤون البيت والعمل في الحقول، ومساعدة الرجل في أعماله، وأحيانا تقوم بمهام الرجل حاضرا أو غائبا، كما تقوم كذلك بممارسة حرف تقليدي تدرّ عليها الدخل، وأحيانا تزاول مجموعة من الحرف مثل فاطنة الجلايدية التي تبيع جلود الأغنام والبطاين، يقول: رغم خط الوشم الظاهر عموديا على ذقنها، يروى أن أخاها.. سرق حقها، فاختارت أن تتحول إلى رجل…[84]

التدين وتناقض الأخلاق

     إن الحديث عن الأخلاق عند البدوي يرنو إلى تبيّن صورة أخلاقية مضطربة له، فهو من ناحية يقوم بالقتل والنهب والسلب، ومن ناحية أخرى نجده كريما شهمًا وفيًا لا يعرف الغدر لكنهم متشبثون بدينهم، فهذا أحد الفلاحين ورثة بلمعطي يهدد بويا أب الراوي بالقتل، يقول: قد جاء إلى المقهى وهدده بالقتل، وبعد يومين …جاءت زوجة نفس الرجل الذي هدد والدي، فسبتني أمام الجميع ثم هددتني بأنها ستستأجر اثنين…يقوما بتصفيتي… “[85]ونجد السارد عند حضوره إلى عشاء ميت، يقول: “شباب يرتلون القرآن الكريم، بطريقة تختلفن أسلوب الفقهاء الذي يروق لي…يكفينا كلام الله الموشوم في قلوبنا”[86]

     فالبدوي تجبره ظروف خارجية مختلفة لتغيير أفكاره وسلوكه، وتحول سلوكه من السلبي إلى الإيجابي أو العكس، وهو تناقض واضح في شخصية رابح التي يرسمها الراوي في روايته، يقول: “يئس السيد رابح من عزلته وتنكره الاختياري، وأحس أنه شبيه بروبنسون كرزوي، في نسخة رديئة ومشوهة وذات نهاية غامضة غرقا…بعد أقل من أسبوع أصبح مسئولا إداريا…الآن أحس السيد رابح أنه وجد نفسه وعادت إليه الحياة التي لم يعشها عقود راشية ومستعارة خلت…صار يلبس لكل يوم لباسه وبطقوسه، ويحتل الصفوف الأمامية بمسجد أهل فاس كل يوم جمعة…لا يفوت عليه صلاة الفجر”[87]

انكسار الأحلام وروح الوطنية:

    بعد تحقيق نصر الاستقلال والحرية، يتهافت المقاومين والثوار من أجل نيل السلطة، كحلقة في مرحلة تصفيات عدمية تحركها الأهواء والزعامات والحسابات البسيطة والمعقدة بفعل ذاتي وسلطوي، فشعر الجميع بالكآبة لاستحواذ بعض الفئات على الأماكن بالسلطة، يقول عن فارس الذي استغرب لما آلت إليه الأوضاع: “شعر فارس أن بنبركة قد فهم حركات واختلالات المرحلة، لذلك كان يحضر كافة محاضراته بالبيضاء… كان مأخوذا به وبديناميته وصدقه ورغبته الصريحة في بناء الحلم الجماعي الذي صار يتهدم يوما بعد يوم”[88]

      بين انهيارات القيم وشلل الحركة وبين غضب الشعب، تدفن أحلام البدوي والحضري، وأمام هذا الواقع، يتساءل الراوي: “تغيير الأحلام أم تغيير الواقع؟ هذا وهم أول…وبعد انتهائي من روايتي الخامسة، هل أساهم فعلا في التأسيس لأحلام جديدة أم أنني أكرس عكسها، كيف لم أستطع التمييز بين الحلم والوهم؟”[89]

ـتحوّلات المكان

   يحلل المحور الثاني علاقة البدوي الجديدة بالمكان، بتحولاتها ونتائجها، أي دراسة البدوي وفعله في المكان، ومن معالمها في الرواية:

علاقة البداوة بالمكان

    إن مفهوم الوطن ينمو في الشخص بدرجات متفاوتة حسب الانتساب والانتماء، وقد عالجت الرواية هذا التحول في الانتماء من خلال عدة شخصيات، فهذا الحسين استقر في دمنات وتزوج هناك جدة الراوي، ولما تمادت الإقامة الفرنسية العامة في استعباد الأهالي، باع الحسين اثني قنطارا من القمح وبقرتين، ثم حمل ما خف من أثاث على حمار وشق الطريق من دمنات في اتجاه مراكش ثم واصل السير إلى مدينة تسمى سطات[90]

    يفكر البدوي في مغادرة المكان بعد انتهاك حرمات البادية والقبائل المجاورة التي تعد جزءا من المدينة، بوصفها مكان ذو هواء صحي ومحاط بأجود الأراضي، لكن يتحسر لما آلت إليه الأوضاع الآن، يقول: بقدر ما أنا فخور بالانتماء إلى مدينتي، أنا حزين لما آلت إليه: بناء طارئ لا يليق بحضارتنا، تدمير الوادي وغياب إرادة حقيقية تفهم أن سطات هي تاريخ وحضارة وإرث جماعي يمكن الاعتناء به[91]

    ويقارن الكاتب بين البادية والمدينة، وينتصر لها، يقول: ” سطات مدينتي التي أنتسب إلى ترابها وروحها وتاريخها، كل شيء فيها يحتمل التناسل والخصوبة بدءا من إنتاج القمح والشعير إلى توليد الحكايات وإلباسها للتاريخ المحلي الحافل بكل أنواع البطولات والكرامات.. [92]

   فالسارد يرغب في العيش في المدينة واستقر فيها، وأصبح ينتمي للناس الذين يسكنون بالمدينة، وهذا يعني أن البدوي يغير علاقته بالمكان، وينتمي إلى البادية ويسعى إلى الاستقرار في المدينة، لينتمي إليها، إذ بعد تخرجه، يعمل، يجد نفسه مجبرا وعلى الاستقرار في المدينة، وفي نفس الوقت يحرث ويزرع ويحصد في البادية، وظل طول حياته عاشقا للمدينة وشغوفا بالبادية، وهذه القيم المتمثلة في الانتماء والهوية والوطنية يغرسها في الأبناء الذين يتعلقون بالمدينة، فابنته مريم تطلب منه كل ما رأته زيارتها لجده،

    أصبح الراوي/ البدوي يدافع عن البادية، ويهتم بقضاياها، وكل ما حدث مشكلا إلا ويتدخل فيه لإيجاد حل له مع أبيه، كما يدافع عن الوطن من خلال التعبير عن رأيه في الحكومات المتناوبة في المغرب، وهنا يحمل قبعة السياسي، وينتمي إلى حزب سياسي مدافعا عن الوطن بكلماته وكتابته في قضايا مختطفة كصحفي، “بدوري كنت من المتحمسين لأفكار رابح الوادي، وتمنيت مثل جيلي ممن كانوا في ساحة الكتابة والصحافة أن يكون نموذجا منه”[93].

   تنتج البادية أبناء يدافعون عن الوطن والموت في سبيله، عمل الراوي على كتابة الرد على خبر تعيبن والي على الشاوية، يقول: “غضبت وقمت إلى مكتبي، اغلقت الباب ثم شرعت في كتابة تحقيق صحفي عن مدينة سطات والشاوية، أبرزت فيه ثلاث محاور تهم الأرض…وكتبت عن تاريخ الثوار والمجاهدين عبر قرون… ورصدت فيه العلوم والفنون بالشاوية”[94].

    وتتضح علاقة الأرض بالبدوي، بلجوء السارد إلى البادية في موسم الحرث والحصاد لمشاركة والده نشاط الحصاد، فرغم تشبعه بالحضارة، يتوق إلى الأرض، ويقوي من علاقاته بها، من خلال حرثها وزرعها، وزيارتها والعمل فيها من أجل الاستفادة من المحصول المزارع وثرواتها الغنية، يعبّر عن انتمائه إلى ضيعته وضيعة أبيه، يقولفي حوار مع جده وهو يحكي لأبنائه عنه: لا أستطيع العيش دون سلالتي وأنت من أعطيتنا سببا كي نحيا ونموت بفخر وعزة.. بل أنت من جعلتنا حقيقة بعد أن طمرتنا الشياطين، ونحن عنا في جنتنا التي تركناها بالشاوية[95]

    إن الراويمندمج في الأجواء الحضرية، وفي الوقت نفسه يعود إلى البادية، ومن معالم علاقة البدوي بالمكان، في سهرة مع أصدقائه، يحكي عن صالح صديقه الذي دعاه إلى السهرة، يقول: ” مع صالح أحس دوما في خاطري بالرغبة في أن أكونه، فلاحا فقك، أعيش الماضي والحاضر، بل أعيش زمن كافة أجدادي المنعمين، وربما أنا فيه الآن هو شكل آخر لما أحلم به”[96].

    كما أن دخول الراوي في زمن التحضر لم يمنعه من تكرار أخلاب البداوة، فهو يشارك في كل السهرات مع رفاقه بالضيعات في البادية، “كنت مدعوا لسهرة خاصة من طرف صالح الوراقي…وهو الآن من كبار الفلاحين الشباب، له خبرة كبيرة بالفلاحة، فضلا عن امتلاكه لعدد كبير من الأراضي السقوية والبورية، من خصوصياته…”[97]

خاتمة
      من خلال ما تقدم من محاور هذه الدراسة، التي حاول هذا المقال بيان مظاهر البداوة وتحولات البادية في الرواية، ينتهي إلى جملة الخلاصات والاستنتاجات:

إن الرواية محاولة وتجريب جديد لإنشاء جنس إبداعي جديد، يطرح أزمة الذات المثقفة في بلد تحكمه العصبيات واللوبيات على المستوى الثقافي، تختزل قيما أدبية وفنية وفلسفية وجمالية، وتتضمن قيما تاريخية ترصد أحداثا منسية لمسارات الشخوص والأفضية.

ـ تعبّر عن واقع البداوة أمام سطوة المدينة وتظهر تحوّل البدو إلى التمدن، وتؤسس لنموذج كليّ وشامل يتضمّن خلاله الأعراف والثقافات المختلفة في إطار من الوحدة،

ـ إن أدب الكاتب شعيب حليفي وسيلة حقيقية تصور ثقافة الأديب التي تشربها في بيئته البدوية، وتحقق لها التأثير المنشود، وحبالتها بمظاهر البداوة الجميلة في اللباس والجغرافيا، سؤال النسب والانتماء القبلي، والتراث وبعض الطقوس البدوية مثل طقس الشاي والأعراس، وفي أسماء الأعلام، وهذا يشي بأن الراوي/ الكاتب ملهم بعقلية المجتمع البدوي.

ـ إن لغة الكاتب تدل على أن ألفاظه تنم عن الجذور اللغوية العربية ومزجها بالعامية المغربية، تضيف للمعجم لمسة خاصة وتشكيلا جديدا، ساهم في نقل أحاسيس عفوية ومشاهد محكية وبلاغية واستعارية، وترجمة مواقف متعددة، توحي بنمط العيش البدوي وبتقارب لغته العامية إلى الفصحى.

تغيير التحوّلات التي طرأت على الشخصية البدويّة في خصال وفكر وعقلية الشخصية البدوية، وعلى مستوى المكان، وهذا رهين بدور المظاهر التي رافقت تمكين هذه الدولة مثل انتشار التعليم وسيادة القانون على الجميع مما يدل على تكرار البدوي حياة أجداده.

الرواية تعيد صورة في شخصية الراوي الذي حافظ على اللاوعي البدوي لديه والحنين إلى الأرض وخصوصيات البداوة في البادية، وإعادة خصائص البدوي في أماكن أخرى رغم إخضاعه لقوانين الدولة وفتنته بمغريات العصر الحديث.

المصادر والمراجع:

  • أساليب السرد الروائي العربي، الرواية العربية، يقطن سعيد، ممكنات السرد، أعمال الندوة  الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، 11 – 13 دجنبر 2004، سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت، ع 359، يناير 2009 .
  • .
  • العصبية والحكمة، سعيد الغانمي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2006.
  • الأدب العربي بين البادية والحضر، إبراهيم عوضين، مطبعة السعادة، 1983.
  • لا أحد يقفز فوق ظله، شعيب حليفي، دار الهلال، 2012    ـ
  • لسان العرب، ابن منظور، بيروت: دار صادر، مادة “بدا”  
  • مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، ج 2، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنّشر والتوزيع،  2006
  • الأدب العربي بين البادية والحضر، إبراهيم عوضين، مطبعة السعادة.
  • أساليب السرد الروائي العربي مقال في التركيب ضمن: الرواية العربية، يقطن سعيد، ممكنات السرد، أعمال الندوة  الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، 11 – 13 دجنبر 2004 ، سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت، ع 359، يناير 2009
  • دراسة في طبيعة المجتمع العراقي: محاولة تمهيدية لدراسة المجتمع العربي الأكبر في ضوء علم الاجتماع الحديث، علي الوردي، لندن، دار الوراق، ط2، 2009.
  • العصبية والحكمة، سعيد الغانمي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2006.

List of Sources and References:

  • la ‘ahad yaqfiz fawq zilihi, shueayb halifi, dar alhilali, 2012
  • lisan alearabi, abn manzuri, bayrut: dar sadir, mada “bda”
  • muqadimat aibn khaldun, aibn khaldun, j 2, tahqiqu: eali eabd alwahid wafi, alqahirati: nahdat misr liltibaeat walnnshr waltawzie
  • al’adab alearabiu bayn albadiat walhadara, ‘iibrahim eiwdayni, matbaeat alsaeadati.
  • ‘asalib alsard alriwayiyi alearabii maqal fi altarkib damna: alriwayat alearabiati, yaqtun saeida, mumkinat alsarda, ‘aemal alnadwat alrayiysiat limahrajan alqarayn althaqafii alhadi eashr, 11 – 13 dajanbar 2004 , silsilat kutub ealam almaerifati, alkuayti, e 359, yanayir 2009
  • dirasat fi tabieat almujtamae aleiraqii: muhawalat tamhidiatan lidirasat almujtamae alearabii al’akbar fi daw’ eilm alaijtimae alhadithi, eali alwardii, landan, dar alwaraqi, ta2, 2009.
  • aleasabiat walhikmatu, saeid alghanimi, bayrut, almuasasat alearabiat lildirasat w alnashri,2006.

هوامش:


 [1] لا أحد يقفز فوق ظله، شعيب حليفي، دار الهلال، 2012   

[2] لسان العرب، ابن منظور، بيروت: دار صادر، مادة “بدا”  

 ، ص 508 2006 مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، ج 2، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنّشر والتوزيع،  [3]

 [4] مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، ج 2، ص 472

الأدب العربي بين البادية والحضر، إبراهيم عوضين، مطبعة السعادة، 1983م، ص.81 [5]

المرجع نفسه، ص21. [6]

  المرجع نفسه، ص87. [7]

 [8] المرجع نفسه، ص 89.

[9] أساليب السرد الروائي العربي مقال في التركيب ضمن: الرواية العربية، يقطن سعيد، ممكنات السرد، أعمال الندوة  الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، 11 – 13 دجنبر 2004 ، سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت، ع 359، يناير 2009 ، من ص 131 ، إلى ص 151

[10] المرجع نفسه، ص 37  

المرجع نفسه، ص 48 [11]

 [12] المرجع نفسه، ص134

[13]  المرجع نفسه، ص179

[14]  المرجع نفسه، ص 10

  المرجع نفسه، ص 58 [15]

 المرجع نفسه، ص  134 [16]

[17]  المرجع نفسه، ص94

المرجع نفسه، ص 36 [18]

[19]  المرجع نفسه، ص36.

 [20] المرجع نفسه، ص 44

[21]  المرجع نفسه، ص31

[22]  المرجع نفسه، ص56

 [23] المرجع نفسه، ص 93

[24] المرجع نفسه، ص 32

[25] المرجع نفسه، ص95

[26] المرجع نفسه، ص 8

[27]  المرجع نفسه، ص10

[28] المرجع نفسه، ص34

[29]  المرجع نفسه، ص118

[30] المرجع نفسه، ص 119

[31]  المرجع نفسه، ص11

[32]  المرجع نفسه، ص92

[33]  المرجع نفسه، ص 85

[34]  المرجع نفسه، ص86

[35]  المرجع نفسه، ص 23

[36]  المرجع نفسه، ص25

[37]  المرجع نفسه، ص26

[38]  المرجع نفسه، ص120

[39]  المرجع نفسه، ص84

[40] المرجع نفسه، ص83

[41]  المرجع نفسه، ص22

[42]  المرجع نفسه، ص 22

[43]  المرجع نفسه، ص21

[44] المرجع نفسه، ص 98

[45]  المرجع نفسه، ص10

[46]  المرجع نفسه، ص 59

[47]  المرجع نفسه، ص 61

[48]  المرجع نفسه، ص48

[49] المرجع نفسه، ص 53

[50]  المرجع نفسه، ص138

[51]  المرجع نفسه، ص149

[52]  المرجع نفسه، ص54

المرجع نفسه، ص137.   [53]

المرجع نفسه، ص144 [54]

المرجع نفسه، ص 134 [55]

[56]  المرجع نفسه، ص36

[57]  المرجع نفسه، ص139.

[58] المرجع نفسه، ص 144

[59]  المرجع نفسه، ص64

[60]  المرجع نفسه، ص 66

[61] ـ  دراسة في طبيعة المجتمع العراقي: محاولة تمهيدية لدراسة المجتمع العربي الأكبر في ضوء علم الاجتماع الحديث، علي الوردي، لندن، دار الوراق، ط2، 2009، ص23

[62]  مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، ج2، ص476.477

[63]  العصبية والحكمة، سعيد الغانمي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات و النشر،2006، ص154

[64]  المرجع نفسه، ص54

[65]  المرجع نفسه، ص53

[66]  المرجع نفسه، ص119.

[67]  المرجع نفسه، ص97

[68]  المرجع نفسه، ص66

[69]  المرجع نفسه، ص 153

[70] المرجع نفسه، ص98

[71]  المرجع نفسه، ص 146

[72]  المرجع نفسه، ص 112

[73]  المرجع نفسه، ص115

[74]  المرجع نفسه، ص157

[75]  المرجع نفسه، ص151

[76] المرجع نفسه، ص 127

[77]  المرجع نفسه، ص128

[78] المرجع نفسه، ص99

[79] المرجع نفسه، ص56

[80]  المرجع نفسه، ص122

[81]  المرجع نفسه، ص22

[82] المرجع نفسه، ص41

[83]  المرجع نفسه، ص90

[84] المرجع نفسه، ص 91

[85]  المرجع نفسه، ص38

[86]  المرجع نفسه، ص142

[87]  المرجع نفسه، ص157

[88] المرجع نفسه، ص 112

[89]  المرجع نفسه، ص76

[90]  المرجع نفسه، ص48

[91]  المرجع نفسه، ص83

[92]  المرجع نفسه، ص81

[93]  المرجع نفسه، ص148

[94]  المرجع نفسه، ص151.

[95]  المرجع نفسه، ص 177

[96] المرجع نفسه، ص 31

[97] . المرجع نفسه، ص29.