موقع الاستعارة في فضاءات الاستعارة

د.  خولة الزلزولي  

د.  خولة الزلزولي  – باحثة في اللغة والأدب – مغرب

يهدف المقال إلى دراسة وتحليل كتاب فضاءات الاستعارة للدكتور محمد الولي؛ حيث سيركز البحث على دراسة المقال الأخير من الكتاب، وهذا يعود إلى عدة أسباب من بينها: أنه لم يلق دراسة وافية. كما أن المقال  قام بالبحث والكشف عن الاستعارة في الكتاب. كما يؤكد المقال أن نفوذ الاستعارة قوي حسب محمد الولي؛ لأنها حاضرة في كل الأجناس الادبية وغير الادبية.

ويركز المقال على مسالة تجديد البلاغة، إذ سيبين أن الولي خرج بنتيجة مفادها أن البلاغة القديمة أساس البلاغة الحديثة، كما أن هذه الأخيرة تستمد قوتها من البلاغة القديمة

الكلمات المفتاحية: الاستعارة- فضاءات الاستعارة- محمد الولي.

مدخل

يتأطر منهجيا كتاب الدكتور محمد الولي ضمن القراءة الابستمولوجية للبلاغة العربية عامة والاستعارة بشكل خاص، طالما أن الحديث عن مصطلح القراءة يفيد في مقام أول لملمة العناصر المتناثرة التي شكلت تشكيلة خطابية انطلقت منها الاستعارة، ويومئ في مقام ثان إلى أن هذا الكتاب فسحة علمية تقارب المتباعد، وتباعد المتقارب، بما يعني الكشف عن المنطق الداخلي للاستعارة.

صدر كتاب فضاءات الاستعارة وتشكلاتها في الشعر والخطابة، والعلم والفلسفة، والتاريخ والسياسة للدكتور محمد الولي عن دار فالية للنشر بالمغرب، عام 2020. ويضم الكتاب إضافة إلى التقديم وكلمة المؤلف أحد عشر مقالا كلها سبق لمحمد الولي أن نشرها في مجلات متخصصة في البلاغة وتحليل الخطاب،

وقد انبثق كتاب محمد الولي من رحم تجربة طويلة للكاتب راكمها في ميدان البحث العلمي، منها أطروحتان جامعيتان وكتب في الترجمة لأهم الكتب الرائدة في مجال البلاغة:

الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي.

الاستعارة في ثلاث محطات، يونانية وعربية وغربية.

ترجمة كتاب: الاستعارة الحية لبول ريكور.

الشيء الذي أسعف الباحث في توسيع مجال البحث والتعرف أكثر على الاستعارة في أبعادها النقدية والبلاغية والإقناعية والمعرفية.

تدشن أطروحة محمد الولي الراهنة مجموعة من المسالك القويمة للبحث يتعين متابعتها والاستمرار فيها.  وتطمح القراءة الراهنة إلى دراسة نسق الاستعارة في الكتاب، حيث ستركز على دراسة المقال الأخير من الكتاب، وهذا يعود إلى عدة أسباب من بينها: أنه لم يلق دراسة وافية.  وهو ما يتيح الانخراط في تحليله بكيفية تفصيلية في حدود الإمكان. مع ضرورة التنبيه على أن القراءة المقترحة ليست نهائية ولا تدعي القول الفصل أو امتلاك الــ “حقيقة”، طالما هي واحدة ضمن قراءات أخرى ممكنة.

موقع الاستعارة في فضاءات الاستعارة

تعتبر الاستعارة بحر ساحلها البيان، وقد شغل هذا البحر-الذي يحتاج خبرة للسباحة فيه، ومواجهة أخطاره- المفكرين على مر العصور والأزمنة، بدءا من الإغريق وصولا إلى الفكر العربي الحديث. ويكشف شيوع الاستعارة وذيوعها في النقد المكانة التي منحت لها، لدرجة صارت مهيمنة على سلم الجهاز المفهومي لمعظم التوجهات النقدية؛ بل أكثر من ذلك، شكلت منطلق وأفق جميع الخطابات النقدية، وضمنها الخطاب النقدي العربي في ساحاته المختلفة.

تنتشر الاستعارة حسب محمد الولي بشكل كبير في الجنسين الخطابيين الخطابة والشعر، وليس في الشعر فقط. “للاستعارة مكانة خاصة في الجنسين الخطابيين الأكثر انتشارا في الحقول الأدبية، أقصد الخطابة والشعر”[1] مؤكدا أن هذا الأمر لا يعدو أن يكون مجرد وهم أسهمت في تعميقه البلاغة المحسناتية باعتبارها بلاغة شاملة وحدودها واضحة وفعالة. ولذلك تم الاستفادة منها في العمل داخل البلاغة الجديدة.

ويرى أن نفوذ الاستعارة قوي؛ لأنها حاضرة بقوة في كل الأجناس الخطابية بما في ذلك الخطاب العلمي الرياضي. ومن هذا المنطلق استحضر قول جان مولينو:”إن الاستعارة (…)من الأدوات المشتركة بين الفكر المتوحش وبين اللغة الحرفية واللغة المجازية”، ومن ثم فالباحث يؤكد أن الاستعارة تفرض نفوذها في جميع الحقول المعرفية والعلمية والفضاءات والمعاملات الاجتماعية، فالاستعارة نعيش ونحيا بها، فأينما وليت وجهك وتفكيرك فثمة الاستعارة بمختلف أوجهها وتجلياتها فوق هذا العالم الأرضي الذي نتنفس فيه الهواء واللغة والبيان في الوقت نفسه فهي ملازمة لنا، ولا يمكن تجنب الاستعارة في أي مجال من هذه المجالات، وقد استحضر الباحث للدلالة على اختراق الاستعارة للمجالات العلمية مثالا للتحليل النفسي عند فرويد من خلال المثال الآتي: “يقارن التوقف المؤقت لصيرورة النمو…. بجيش تعرض للإخفاق خلال أسابيع بفضل مقاومة العدو في مجال ثم اجتيازه بسرعة زمن استتباب الأمن(…) ليعلق على هذا المثال بقوله:” وهذه حزمة استعارات جديرة بالشعراء الكبار”[2].

فضلا عن إيراده لمثال كرة القدم للدلالة على حضور الاستعارة في الممارسات الاجتماعية إذ كل مصطلحات وطقوس هذه اللعبة مستعارة من ميدان الحرب. بل ذهب إلى أن لغة الحالم استعارية تحلل بلغة علمية استعارية أيضا، وأورد للدلالة على ذلك استعارات فرويد في هذا الشأن، مؤكدا بذلك أن حضور الاستعارة هو حضور مطلق.

ذهب الباحث إلى أن لاستغناء عن الاستعارة قد يؤدي إلى انعدام كيان اللغة؛ لأن جوهر اللغة الأصلي يكمن في الاستعارة “التخلي عنها يعني الكف عن تأمل وفهم الوقائع الجديدة والإحساس بها، كما يمنع من التعبير وتنظيم الأشياء التي هي مأنوسة عندنا”.[3]

على هذا الأساس يؤكد محمد الولي ويبين أن الاستعارة ليست من ممتلكات الأدب وحدثا عرضيا في الممارسة اللغوية، وأنها ليست مقصورة على الشعراء والمبدعين، بل إنها أمر من الأمور التي نحيا بها، كالهواء والماء وتعلو شتى مجالات الحياة اليومية كالسياسة والاقتصاد وغيرها… وتبسط نفوذها على كل المجالات الخطابية: لغة التداول اليومي والخطاب التربوي والعلمي والوعظ الديني والإشهار والدعاية السياسية[4].

وفي موقع آخر ينبه على أن الاستعارة ممارسة كانت حاضرة في جميع أنواع كلام العرب: الاستعارة تبسط نفوذها أيضا على المعرفة التاريخية باعتبارها علما من العلوم الإنسانية شأنها في ذلك شأن العلوم التجريبية والتطبيقية مثل: الكيمياء أو العلوم النظرية مثل الرياضيات. كما بين الباحث أن المؤرخ الذي لا يتوفر على حظوظ التجربة والبرهنة المنطقية يمكن أن يغرق في بحر البلاغة، الشيء الذي يجعل من هذا الاتكاء على مقومات البلاغة العتيقة يؤدي بالمؤرخ إلى المتح من ينابيع البلاغة القديمة وعدم التخلص من ربطتها، ولتوضيح هذا الأمر وتأكيده أورد الباحث نصوصا وأمثلة عن استعارات ابن خلدون التي تجاوزت وتخطت الاستخدام الأسلوبي للاستعارة لكي يضطلع بدور حجاجي إقناعي[5].وأن عالم الإنسانيات يمتح بغير شعور من ينابيع البلاغة العتيقة.

وأشار الولي أيضا إلى قضية الأداء والأسلوب ورأى أن أرسطو لم يورده إلا في المقالة الثالثة من كتابه الخطابة، وقد استشف الباحث من ذلك أن أرسطو لا يهتم بالأسلوب لأن الخطيب يجب أن يعالج الأمور إما بالوقائع وحدها أو البرهان، ولذلك افترض أن أرسطو استشعر في قرار نفسه أن الأسلوب شر لا بد منه؛ “الأسلوب وركيزته الأساسية، أي الاستعارة، غائبين في هذا التقطيع لمجال الخطابة. كأني بأرسطو، وهو يقدم هذه الخطاطة، غيرُ مهتمٍّ بمسألة الأسلوب وبروحه الخلاقة، أي الاستعارة. إلا أن أرسطو يطلَع علينا في الكتاب الثالث من الخطابة بافتتاح قلما توقف عنده الدارسون وحللوه بما يستحق”[6].

أما عن مسألة الاستعارة فقد أشار الباحث إلى أن أرسطو نصح الخطيب بعدم الإكثار منها لكي لا تؤدي إلى عامل برود أسلوبي؛[7] إذ لها وظيفة معرفية هامة باعتبار أنها حجية وموضحة، ومن ثم فلها دور تعليمي مقارنة مع التشبيه الذي يأتي في مرتبة أدنى منها، فضلا عن التقابل والتناسب والتقديم الحي الذي هو جنس من الاستعارة.

يؤكد الباحث أن أرسطو ينص على الدور الوظيفي التعليمي للاستعارة، فقيامها على تشابه العلاقات يقوي إمكانياتها الإقناعية والحجاجية والمعرفية أو الابتكارية، حيث يتم الكشف عن علاقات غير معهودة، وهي العلاقات التي تكشف في النهاية عن طريق الاستعارة الدهشة المعرفية وتولد إحساسا جماليا لا تولده باقي تلك المقومات.

وقد انتهى إلى أن أرسطو لم يكن يقصد إلى وضع مصنف في موضوع الاستعارة، وإنما كان قصده أن يضع كتابا في الخطابة وآخر في الشعر. وكان واعيا بأن مقاربته للاستعارة ستكون محايثة لكلا الجنسين؛ إذ الجوهر في الخطابة هو البرهان والحجة وهو في الشعر ترتيب الأحداث أو الحبكة[8].

كما عرض الولي رؤية بن رشد للاستعارة والتي تستمد أصولها من أمور فلسفية ولاهوتية ومدنية”ونحن نقترب من كتاب تمثيلات واستعارات ابن رشد الذي يخوض في مجمله في أمور فلسفية ولاهوتية ومدنية”[9]. ولذلك فإنه يؤكد أن الأداة الأساسية للحديث عن كل ما يتصل بالحياة الدينية إنما هو الاستعارة والتمثيل، وهو جنس من الاستعارة. ثم يبرز أهم الأفكار الواردة في كتاب ابن رشد، ومنها:

*مسألة القيمة العلمية للتمثيل والاستعارة.

*الاستعارة والتمثيل بين الإثبات والإنكار.

*الاستعارة وتمثيلاتها الغذائية عند الفيلسوف.

*الاستعارة وتمثيل الشريعة بالطب.

لينتهي إلى إيراد ملاحظاته حول التمثيل[10] وأهمها:

*أنه يتطلب التعبير عن شيء ملموس وليس مجردا؛ لأن التجريد يتنافى مع الطبيعة الاستعارية.

*أن له دوران: أحدهما توضيحي، والأخر استكشافي أو ابتكاري.

*أن له واجهة شعرية.

*أنه كائن حي حينما نتلقاه فور ابتكاره وننتشي بجماله.

*أنه متعدد يتفاعل مع الواقع الإنساني بمختلف وجوه تعدده.

حاول الولي أن يدرس خطاب حركة 15 ماي 2011 الإسبانية، متسلحا بالبلاغة وبالاستعارة على وجه الخصوص، ومن خلال ما تم إنتاجه من خطابات وشعارات وبيانات ورسومات ومدونات من قبل هذه الحركة التي تدل على إنشاء رؤية محددة للعالم، وامتلاك ولاء المواطن للمشروع السياسي الخاص وإحداث تغييرات فعلية في المؤسسات[11]. ومن ثم فكل هذه الإنتاجات تشبه الأجناس البسيطة من قبيل الحكم والأمثال السائرة. لذلك حاول الباحث أن يتناولها من زاوية بلاغية، وذلك انطلاقا من قول أوليفير وبول: “إن أي شعار هو بلاغي” بسبب بسيط وهو أنه يسعى إلى التأثير في اختيارات الناس، بالاستعانة بمجموعة من المقومات اللفظية خاصة منها: المشترك اللفظي والاستعارة والتوازي والتناص.[12]

كما تضامن بالرأي مع العالمة اللغوية جوئيل تامين التي تؤكد أن التحليل التفاعلي أسعف من خلال مراعاته للبعد المركب للصورة على الكشف عن مقام الاستعارة في علاقاتها بالمجازات الأخرى.

مكانة الاستعارة الحية لبول ريكور في تاريخ الدراسات الاستعارية

تحدث الولي عن مكانة وموقع كتاب الاستعارة الحية لبول ريكور في تاريخ الدراسات الاستعارية وبين أن معظم الدارسين احتفظوا بالخطوط العريضة نفسها التي وضعها أرسطو منذ أزيد من أربعة وعشرين قرنا[13]. إلا أن بول ريكور قد حاول أن يضع مشروعا جديدا لدراسة الاستعارة بالانطلاق من المشروع الأرسطي، حيث يشدد ريكورعلى الملامح النصية والدلالية والخطابية والمعرفية  للاستعارة. وبعبارة مختصرة يمكن التأكيد أن مشروع ريكور هو بشكل مختزل دحض للتصور المحسناتي للاستعارة[14].

مساهمة في تحرير البلاغة العربية… قراءة في الأفكار والمضامين.

يظهر من خلال العنوان الذي اختاره المؤلف لمقاله: “مساهمة في تحرير البلاغة العربية” أنه سينبري للمرافعة عنها، مساهما في فكَّ رقبتها وتخليصها من قبضة تُضَيِّقُ عليها الخناق. ويتأكد هذا بالنظر في موضوع الكتاب ككل الذي انعقد لواءً من الألوية الرامية إلى تجديد البلاغة العربية.

كما يجيء العنوان الفرعي الذي افتتح به محمد الولي المقال، ليخصص الموضوع أكثر، ويحدد حدوده ويضبط فواصله، حيث وسمه بــــ”البيان تحت سلطة المعاني“.    

وكخطوة منهجية يفتتح الكاتب المقال بفتح القارئ على إطار تاريخي عام يبين فيه كيف أنَّ البلاغة المدرسية المختزلة في ثلاثة علوم، وهي المعاني والبيان والبديع، قد هيمنت أزيد من ثمانية (08) قرون، منذ الحقبة التي دشنها السكاكي، ومن بعده الشروحات والمطولات، وهي مرحلة توصم بالانحطاط. ومن بعد هؤلاء جاء محدثون اكتفوا بِلَوْكِ ما صنفه ورتبه الأقدمون.

يُعزي المؤلف السبب في هذه الهيمنة إلى التعالق بين علم المعاني، وهو رأس البلاغة التقليدية، والدراسات الإعجازية. ويشير إلى أن التقسيم الثلاثي ذاك، أكسبه معسكر المحافظين القداسة، ومنعوا كل مساس به أو طرح أسئلة نقدية تناقشه؛ فعندهم أن المساس به، مساس بالقران.

وفي مقابل  هذه الهيمنة طال التهميش، مؤلِّفين أَكِفَّاء ومؤلفات هامة (كنقد الشعر لقدامة بن جعفر، والعمدة لابن رشيق، والمنهاج للقرطاجني. ص 193. كما أن شروح الفلاسفة العرب (ابن سينا وابن رشد) لشعرية أرسطو وخطابته لم تنل ما تستحق من العناية. والجهل بالقيمة العلمية لهذه الأعمال كان السبب في هذا الإهمال والإقصاء المتعمد على حد تعبير المؤلِّف[15].

ما الجدوى من التقسيمات الثلاثة؟

يطرح المؤلف سؤالا يحاور به التقسيم الثلاثي، وتيار المحافظين الذين أحاطوه بهالة القداسة، مفاده:  ما الجدوى من تلك التقسيمات وما مناسبتها للخطاب الشعري الجمالي؟ ثم أليس تنصيب علم المعاني حكما على البيان والبديع تنقيصا ظالما من نظرية الشعر التي تتخذهما عِمَادين لها؟ فحتى ترتيب تلك العلوم الثلاثة (معاني بيان بديع) يشي بأولوية وأسبقية علم المعاني، وبالتالي أسبقية الكلام النثري على الكلام الشعري؛ إذ البيان إلى جانب البديع، هما أنسب العلوم لتناول الإنتاج الشعري بالتحليل[16].

التعريف بالعلوم الثلاثة.

ينتقل المؤلف إلى التعريف بموضوعات العلوم الثلاثة حتى يتبين القارئ كلا منها:

  • فموضوع علم المعاني، هو: تخير اللفظ المناسب للمعنى بحسب المقام.
  • وموضوع البيان: هو المعاني الطارئة (التشبيه والاستعارة والكناية)، وذاك هو معدن الشعر الحق وجوهره الدائم في كل الثقافات التي نعرفها[17]
  • أما موضوع البديع، فكل أشكال التكرار الصوتي والتوازي اللفظي، والمعنوي. وهي العمدة الثانية للشعر.

ليخصص الكاتب حديثه عن البيان تماشيا مع موضوع المقال الذي ساقه آنفا: “البيان تحت سلطة المعاني”، وإيفاء مباحثه الثلاثة قسطا وافرا من الدراسة والمناقشة

فعلم البيان إذن، هو: كيفية التعبير عن المعنى لفظا وعقلا. فنكون بصدد الحديث عن “الاستعارة” إذا عوض المعنى الإضافي (العقلي أو المجازي) كلمة واحدة من سلسلة العبارة. وإذا عوض عبارة نكون بصدد الحديث عن معنى “استعارة تمثيلية”. أما إذا كان التعويض متعلقا بجزء ممتد من العبارة، فنكون ساعتها بصدد الحديث عن “الاستعارة الترشيحية”[18] فنكون بالتالي إزاء تعدد دلالي، (المعنى الأول والمعاني الثاني)، ومقومات ذلك: التشبيه والاستعارة والكناية.

إن هذه المقومات ليست تَرَفِيَّة يمكن الاستغناء عنها كما قد يتوهم البلاغيون، أو أنها للزينة فقط لا دور لها في توليد المعاني. بل إن المعنى المتولد عن الاستعارة جديد تماما، وكل حذف لها يترتب عنه تقويض كامل للمعنى الجديد الذي أتت من أجل توليده. وقد أكد عدد من البلاغيين المحدثين والمفكرين المعاصرين على أن الاستعارة والصورة بصفة عامة، لها دور حاسم في التعبير عن الأشياء ونقلها إلى المتلقي[19]. ومن أولئك “ميرسيا إلياد” الذي عبر عن أن الصورة بوصفها حزمة معاني، هي وحدها المؤهلة للإمساك به حينما تعجز المفاهيم عن اجتراح ذلك.

إن للبيان الذي أحد أقاسمه الاستعارة وجودٌ مستقل، وليس وجوده مشروطا بوجود المعاني أو أنه مُتمم وتَبَعٌ له كما يتوهم ذلك البلاغيون القدامى وعلى رأسهم السكاكي الذي يقول: “إن البيان شعبة من علم المعاني لا تنفصل عنه إلا بزيادة اعتبار، جرى منه مجرى المركب من المفرد، لا جرم آثرنا تأخيره”[20].

ففي هذا الكلام إشارة إلى أن “المقومات البيانية مجرد أدوات مساعدة أو تَرَفِيَّةٍ أو تحسينية، لتحقيق توصيل المعاني”[21].  وهو إنكار للدور التميزي الذي يلعبه البيان، ليس في تزيين العبارة فحسب، بل في امتلاك الواقع والنفاذ إليه عبر مسالك لا تكون متاحة إلا له. فتنصيب علم المعاني على رأس العلوم ومنحه السيادة عليها وعلى البيان فيه تقريب الخطاب الشعري من الخطاب النثري.

تسطير حدود علم البيان

أو تجديد حدوده على حد تعبير الولي الذي أشار إلى أن موضوع علم البيان هو إحلال معنى ما مكان معنى شبيه أو مجاور، أو الانتقال من معنى إلى معنى المعنى، وهو ما تسميه البلاغة الغربية علم المجاز.

يطرح هذا التعريف مشاكل يتفرغ الولي لمناقشتها واحدة واحدة. وأولها التشبيه الذي يتداخل مع الاستعارة إلى حد كبير في البلاغتين العربية والغربية. فالاستعارة هي بتعريف أغلب البلاغيين في الشرق والغرب، تشبيه يقوم على حذف أحد طرفيه. فلا يدرس التشبيه في البيان إلا باعتباره تمهيدا للاستعارة، والسبب أن الدلالة لا تتغير في التشبيه. والتشبيه مبعد نظريا من علم البيان[22].  

أدرجت البلاغة الغربية التشبيه ضمن محسنات الأفكار، وأدرجت الاستعارة ضمن محسنات الكلمات أو المعنى. أما البلاغة العربية فتدرج التشبيه في دائرة البيان؛ لأنه أصل الاستعارة. ومن الباحثين من يرى أن بين التشبيه والاستعارة قواسم مشتركة. فهما يقومان على علاقة المشابهة أو التناسب بين شيئين، ويجتمعان معا تحت اسم جنسٍ هو الصورة[23].

والصورة بهذا المفهوم إذن، هي تطابق وتقريب بين شيئين منتميين إلى مجالين متباعدين قليلا أو كثيرا. وهناك محسنات أخرى يمكن تسميتها صورا تقوم على علاقة المجاورة وهي المجاز المرسل والكناية بنوعيها: الكناية عن موصوف، كأن نكني عن الإنسان بعبارة (حي). والكناية عن نسبة.

وباعتبار صور البيان هاته، فإنه بلا شك ذو قيمة جمالية تتأتى بفضل انتهاك الاستعمال المتداول للغة والفكر. والاستعارة من بين المقومات أعلى شأنا في تأدية ذلك، فإذا ما قورنت بالمجاز المرسل فإنها تفضله بقدرتها على إتاحة فرص لا نهائية لإشعال فتائل المفاجئات الابتكارية حسب تعبير فيكتور شلوفسكي، أو التغريبية حسب القرطاجني. كما تفتح طرقا وتقصِرُ المسافات لتيسير الحس السريع بالأشياء المعهودة جدا إذا ما قورنت بالكناية. أو حسب تعبير جوفوري دوفينسوف: “إن الاستعارة بين كل المجازات هي الأجدر لجعل الكلمات تسافر”.

من خلال هذا الاختلاف بين الاستعارة والكناية والمجاز المرسل، يرى الولي أن أول طعن يجب أن يوجه للبلاغة العربية هو جمعها بين كيانات متنافرة، منها ما هو من أرومة شعرية جمالية، كالاستعارة والتشبيه والكناية عن صفة بالخصوص، ومنها ما هو من أرومة معجمية أو دلالية لا يربطها بالقيم الجمالية رابط مثل المجاز المرسل. ثم إن أكثر ما يلام عليه البلاغيون ولا عذر لهم فيه حسب الولي، هو إقحامهم لمشاكل متعلقة بالمجاز العقلي في الدوائر البيانية والشعرية[24].

يرى الولي أن التأثير الشعري للمجاز المرسل والمجاز العقلي والكناية بما تقوم عليه من علاقات تجاور، ضعيف وغير لافت. وكل مقوم كي يكون شعريا ينبغي أن يكون مثيرا وباعثا على الالتذاذ؛ لذلك كان المجاز بنوعيه والكناية أعلق بالنثر. والاستعارة والتشبيه أعلق بجوهر الشعر لقيامهما على علاقات التشابه.

يضرب الولي أمثلة يستدل بها على خلو كثير من الكنايات والمجازات المرسلة والعقلية من التأثير الشعري، مثال: ألقي كلمة، والقصد: خطبة. وتناول كأسا، والمراد محتوى الكأس. وهنا يتساءل. ما التأثير الذي يمكن أن تجده في تلك العبارات؟ ويضيف على سبيل الاستغراب أنه إذا كانت الاستعارات وهي المقوم الشعري الذي لا يُضاهى، ومع ذلك تميل إلى تحولها إلى كلام عادي نثري وتفقد قوتها الشعرية، وتصير بالية أو ميتة، مثل قولنا: السلم الإداري، ورأس السنة، والزمن الماضي… فما بالك، أو كيف يكون الحال بالمجازات المرسلة أو العقلية والكنايات.

إن للتشبيه والاستعارة مكانة رفيعة في التراثين العربي والغربي، وحتى يعود لهما الاعتبار الذي فقداه بفعل الخلط بينهما وبين المقومات الأخرى يجب الاستعانة بمفهوم التصويرية الذي بإمكانه أن يعيد التشبيه إلى مملكة البيان.

إن التشبيه والاستعارة رؤية مغايرة غير معهودة، ووصف جديد للأشياء والعالم. ففي مقدورهما أن ينزعا عن الواقع قشرة العادة والعنف حتى يبدو وكأنه قد ولد لأول مرة، وهو ما لا يستطيعه المجاز المرسل ولا الكناية.

الاستعارة المكنية، نقد الحدود

 يعرض الولي لحالة أخرى تشوش وضع الحدود الدقيقة لعلم البيان، وهي الاستعارة المكنية. ويسرد تعريف السكاكي الذي يقول: “أن تذكر المشبه وتريد المشبه به دالا على ذلك بنصب قرينة تنصبها، وهي أن تنسب إليه وتضيف شيئا من لوازم المشبه به المساوية”. ويضرب لذلك بمثال: “مخالب المنية نشبت بفلان” حيث ذكر المشبه (المنية)، وحذف المشبه به (الأسد) وأبقي على القرينة الدالة عليه (مخالب نشبت).

يعترض الولي على هذا ويقول، إن السكاكي يتمادى حينما يرى أن “مخالب نشبت” في  المثال هي القرينة،  ويؤكد في الآن نفسه أنه استعارة تخييلية. ويستغرب كيف “يمكن أن تجتمع القرينة والاستعارية التخييلية في نفس العبارة”[25].  ويرى أن الصواب في أنه مادمنا نعتبر المنية هي المشبَّه، فإن الاستعارة قائمة في “مخالب نشبت” ولا مجال لوصفها أنها قرينة. فما يعتبره السكاكي قرينة هو في الحقيقة استعارة؛ “لأنه هو الجزء من الكلام الذي انزاح عن المتوالية المعنوية أو الغرضية”[26]. ويضيف أنه من غير الممكن مع اعتبار “المنية” مشبها واستعارة مكنية، أن تسند إليها استعارة أخرى، وهي الاستعارة التخييلية.

انتهاك الحدود بين البيان والمعاني

المجاز العقلي عند اغلب البلاغيين أحد موضوعات علم المعاني، أما السكاكي فيدرجه في علم البيان، وهو ما من شأنه أن يثير هنا ضجة أخرى في نظر الكاتب. والمجاز اللغوي عندهم تغيير يطرأ في الكلمة المفردة من جهة المعنى. أما المجاز العقلي فيطرأ في الإسناد (إسناد كلمة إلى أخرى) لا في معنى الكلمة.

والسكاكي لم يكتف كما يعبر الولي عن حشر المجاز العقلي في علم البيان بعدما انتزعه من علم المعاني، بل جعله من المجاز اللغوي. ولو أنه أدرجه في المجاز المرسل لكان الضرر أخف. وانطلاقا من كلام للسكاكي يتضح ذلك، كما يتضح اعتباره المجاز العقلي استعارة مكنية. يقول السكاكي:”هذا كله تقرير للكلام في هذا الفصل بحسب رأي الأصحاب، من تقسيم للمجاز إلى لغوي وعقلي، وإلا فالذي عندي  هو نظم هذا النوع في سلك الاستعارة بالكناية، بجعل الربيع [في المثال أنبت الربيع البقل] استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه”[27].

يؤكد الولي على فكرة أن كلاًّ من المجاز العقلي والمجاز المرسل والكناية، يقوم على علاقات التجاور، وهي علاقات لا تزدهر إلا في الكتابة النثرية. في حين إن كل ما له علاقة بالمشابهة يزدهر في حقول الشعر والأدب والفن عموما، ويتعلق الأمر بالتشبيه والاستعارة والرمز.

وآخر حلقة ضمن هذه السلسلة يناقش الولي قضية الكناية التي تطرح في نظره عدة تساؤلات. فإذا كانت الكناية تقوم على الانتقال من اللازم إلى الملزوم، وهي أقسام ثلاثة:

  • طلب نفس الموصوف، ومنه الكناية عن الإنسان بالقول: “حي، مستوٍ..”
  • طلب نفس الصفة، نحو “طويل النجاد”، وأنت تقصد إلى طول القامة وبالتالي الشجاعة.
  • تخصيص الصفة بالموصوف، وهي الكناية عن نسبة: نسبة صفة ما إلى ما له علاقة بالمقصود بالحديث.

 يرى الولي أن النوع الأول لا تغير دلالي فيه. فلا يتم فيه إلا استبدال الحد أو اللفظ بتعريفه. وهو مجرد ضرب من الترادف أو التعريف أو الشرح لا غير.

أما النوع الثاني فيؤكد أنه متى حُمِّلت العبارة دلالة حرفية وكفى، فلا تكون هناك كناية؛ إذ “الكناية لا تتحقق إلا عندما نلاحظ وراء المعنى الظاهر معنى خفيا”[28]. ولذلك فعبارة “طويل النجاد” لا كناية فيها؛ لأنها تدل حقا في الخارج على طول النجاد، فهي خالية من أي عدول أو تجوُّز.

والكنائية تَمْثُلُ حقيقة في عدول مرجعي، أي في الانتقال من المرجع الأول مثل (كثرة الرماد) إلى المرجع الثاني المجاور (الكرم). ففي هذا الموضع يلاحظ أن هناك انزلاقا مرجعيا. أما مع أحادية المرجع فتنتفي الكنائية وتتحقق العبارة الحرفية؛ فلو أن (كثير الرماد) منعَ السياق من تأوليه واكتُفي بالمرجع الأول (أي مجرد الإخبار عن كثرة رماد الشخص المقصود) لما كانت هناك كناية. 

يبين هذا أن الكناية قد تستغني عن القرينة اللفظية لكنها لا تستغني البتة عن القرينة المقامية أو الحالية. “إنها تقوم على تشغيل كفاءة المتلقي في حين أن قرينة المجاز تكون لفظية.. وقد تكون مقامية[29]. ويشير الولي من باب التوضيح أن في الاستعارات التمثيلية أو النصية أو الرمزية أو الحكائية الخرافية، تكون القرينة مقامية بالأساس. ويضيف أن مسألة المرجع والمقام بصفة عامة من الأدوات الأساسية لتحليل وتحديد بعض المقومات البيانية ومنها الاستعارة والكناية والمثل.

ويؤكد في الأخير على ما للمتشابهات والمتنافرات من تأثير جمالي كما للاستعارة التمثيلية، وهو ما ليس للتجاورات والتلازمات والمقترنات. ويستدل على ما للاستعارة التمثيلية من جمال، بالمثال الآتي: “إذا جلست في الطريق فأدر ظهرك للمسافة التي قطعتها وسرِّح بصرك نحو المسافة التي ينتظرك قطعها”[30]. حيث يُعَقِّبُ أن المقصود ليس الطريق بل شريط العمر.  والنصيحة هي غض البصر عن الماضي، والنظر نحو المستقبل.

يخلص الولي في الختام إلى شرعية ما حاجج عليه في هذا المقال، وهو المطالبة بتحرير البيان من صور العلاقات الكنائية المتمثلة في المجاز العقلي والمرسل والكناية عن موصوف وعن نسبة، وتحرير البيان منها تمهيدا لتحرير البلاغة العربية عامة من تعسفات السكاكي التي حولت البيان على حد تعبيره إلى “حَارَةٍ” في إمبراطورية علم المعاني ، بل وتحرير كل فروع البلاغة العربية من السلطة الجائرة التي فرضها علم المعاني (ذو المساعي النثرية والتركيبية والتداولية) على باقي العلوم وعلى رأسها البيان (ذو المساعي الشعرية) والبديع والعروض.

ثنائية التراث والحداثة في كتاب محمد الولي

يطفو الزوج المفهومي التراث والحداثة في سطح كتاب الاستعارة للدكتور الولي، في عدة مواقع من الكتاب،  وتمايز القضايا السابقة بشكل ناصع، غير أن قوام وحدتها يقوم تحديدا فيما تومئ إليه: أنها تضع البلاغة العربية والغربية وجها لوجه أمام أزمة البلاغة العربية الناتجة عن صعوبة تشغيلها ضمن إطار نظري منسجم ومتماسك.

وإذا كان الخطاب النقدي بمختلف تلاوينه قد أقر بركود البلاغة العربية وعدم استجابتها لمتطلبات العصر الحديث، فقد ظل ضنينا فيما يخص الوسائل المساعدة على تطوير البلاغة العربية واستجلاء هذا الركود.

 قد قام جيل من البلاغيين الجدد، من أدعياء البلاغة الحديثة، باقتراح نهج جديد للقراءة، محاولين فهم وتحليل النظرية البلاغية القديمة بالموازاة مع المقولات اللسانية الحديثة”المحاولات التجديدية الجادة.”[31]،إيمانا منهم أن القراءة التقليدية لم تعد ذات جدوى في فهم العقل البلاغي العربي.

يبدو جليا في هذا المقترح أنَّ إشكالية البلاغة العربية–في شقها المنهجي- تطرح ضمن إشكالية عامة، وأنه يكفي لحل هذه الإشكالية التمثل النقدي لما هو قائم من مناهج في المستودع الثقافي الغربي ومراعاة خصوصيات المعطيات المحلية، بل إن ذلك يكفي لتفسير أزمة البلاغة، ويكفي لتجاوزها كذلك، وهذا على النقيض من التفسيرات الأخرى التي إن اعترفت بالأزمة، التمست أسبابها في سوء الاستيعاب.

 الواقع أن الأخذ من ينابيع غربية هو ما يطلق عليه اليوم مفهوم المثاقفة أو التثاقف؛ الذي ابتدعه الأمريكي ميلفن سكوفيتش للدلالة على التزاوج الثقافي بين المجتمعات والأمم المختلفة بوصفه جوهر العلاقات الإنسانية، يقوم على عملية تبادلية، وتفاعلية تسوده المشاركة في صياغة الراهن المؤسس للمستقبل.[32]

ويمتلك المفهوم هذا « غواية(…) شديدة في إيحائها بأن لكلٍّ مجتمع نصيبه في هذه الصياغة، وبأن لكل إبداع فرصته للإسهام في بناء عالم واحد تشترك كل الثقافات في تشييده. لكن هذه الغواية خادعة عندما يغطي إيحاؤها حقائق الواقع العالمي، فيحجب طبيعة العلاقات السائدة والمتوقعة بحديث عن تفاعل وتبادل وتزاوج، كواقع قائم أو طموح متاح بينما تستشري جائحة تيار جارف أحادي الاتجاه أسماه سدَنته: العولمة» [33]

إذا سلمنا جدلا أن البلاغة العربية لم تواكب التطور، فهل البلاغة تتطور لوحدها؟ بل أبناءها من يطورونها، ومن الضروري تأصيل المفاهيم والمصطلحات بأصولها في مرجعياتها المستمدة من الفكر البلاغي التراثي،  ومن المطلوب حقا في التعامل مع رأس المال هذا تمثله واستيعابه بما يتواءم مع الخصوصيات المحلية، دون ادعاء كونية زائفة وشائهة، لكن المطلوب فوق ذلك تميزه؛ ذلك أن تميز المفاهيم هو شرط وضرورة تخطي الاستلاب والتقليد والاجترار الطافح في شكل من النقد يتوسل بها اللغة لستر الخواء، في حين أن بهاء اللغة لا يعلن إلا عن غُربتها واغترابها في المفاهيم التي تحملها، منفصلة بذلك عن شكل الفكر الذي يستعملها، وعاكسة الأطروحة التي مقتضاها أن شكل الفكر هو شكل اللغة ليصير شكل اللغة هو شكل الفكر، ويبدو هذا القلب مكشوفا في لغة الخطاب «المتعالم» غير المتوائمة مع شكل الفكر الحامل للخطاب.

يقول الولي: “هذه الإشارات النقدية قد تكون مدعاة لإثارة معسكر المحافظين الذي نصبوا أنفسهم حماة للتراث. فكأن كل من سولت له نفسه أن يطرح سؤالاً بصدد مسألة من مسائل البلاغة يمس بقدسية القرآن.” [34] والواقع أن مشكلة البلاغة ليست إثارة معسكر المحافظين، وليس في طرح السؤال، وإنما في الوصل والفصل بالقران الكريم. “إن البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلئ بلا نظام”[35].ويبقى السؤال مطروحا هل البلاغة الحديثة المستمدة من الغرب يمكن أن تدرس فعلا النص الديني المقدس؟.

ليس القصد من هذا السؤال الدعوة إلى الانغلاق الشوفيني ومقاطعة الفكر الكوني، وهو ما يستحيل عقلا ومنطقا وتاريخا، إنما القصد مُجددا تمييز المفاهيم وأدوات إنتاج المعرفة وممارستها بكيفية عملية على معطيات ومواد السياق التاريخي العربي بما يضمن من جهة أولى إنتاجها بلغة مفهومية تعترف بالقارئ العربي وتحترمه، لا بلغة طلسمية منخلعة عن التاريخ، وبما يكفل من جهة ثانية إنتاج ثقافة منغرسة في السلسلة الثقافية المشروطة بالزمن العربي.

إذا زعم بأن السكاكي والقزويني والتفتازاني هم من حصروا علم البيان وحرصوا على تقسيمه، فلا ذنب لهم في ذلك، سوى خوفهم على البلاغة العربية، وكذلك تقنينها وجعلها علما قائما بذاته، والأمر الثاني الذي يمكن الإشارة والحرص عليه هو الإشادة بجهودهم البلاغية؛ لأن همهم الأول كان هو إلحاق كل فرع بأصوله، والتقليل من نفور الناشئة تجاه البلاغة العربية عن طريق هذه التقسيمات.

 والأمر الذي وجب تميزه أن هذا التقسيم ليس وليد البلاغة المدرسية،  بل كان للأوائل السبق في تقسيم البلاغة، وأشاروا إليه ضمن برامجهم المتداخلة في حقول العلوم الانسانية. حيث نجد الخليل بن أحمد الفراهيدي تحدث في الكتاب عن مباحث البيان من قبيل التشبيه والاستعارة والكناية بما أطلق عليه باتساع في الكلام[36]، والايجاز والاختصار لعلم المخاطب بالمعنى[37].

قد ذهب كل من طه حسين وشوقي ضيف بأن الجاحظ هو المؤسس الحقيقي لعلم البيان العربي[38].وهو المنحى نفسه الذي سار فيهالجرجاني إذ خصص كتابه “أسرار البلاغة” لعلم البيان مستثنيا الكناية التي أفرد لها بحثا مفصلا في “دلائل الإعجاز”.

وعليه، فالبلاغة والدرس البلاغي هو مسار امتداد، البعض يكمل البعض الآخر، والبلاغة القديمة أساس البلاغة الحديثة، كما أن هذه الأخيرة تدين بالكثير للبلاغة القديمة.  ولا وجود لجديد أو حديث بدون أساس قديم إذ هما متلازمان.

على سبيل الختام

يمكن القول إجمالا، وبصرف النظر عن سابق الملاحظات العابرة، إن محمد الولي استطاع استخلاص الكثير من البنيات والآليات التي أطرت مسار الإنتاج البلاغي والاستعاري، والكتاب يبرز غاية واحدة ووحيدة هي: التجديد والتأسيس للبلاغة العربية. وأن الاستعارة من وجهة نظره هي الأداة التي يستنجد بها الجميع.

 إن كل ما تم عرضه يعد حسب الولي أهم المفاصل الضعيفة في بيان السكاكي، وهو كاف للوقوف على  تصدع نظريته في البيان، والوثوق بضرورة هجرها، واستبدالها بصيغ أبسط وأكثر انسجاما، لعلها تسعف في لجم سلطة علم المعاني ورفع حجره ووصايته عن علم البيان؛ إذ للأول غايات شعرية وللثاني غايات نثرية تركيبية تداولية وإلى حد ما أسلوبية.

 الهوامش:


[1]  محمد الولي، فضاءات الاستعارة وتشكلاتها في الشعر والخطابة، والعلم والفلسفة، والتاريخ والسياسة، فالية  للطباعة والنشر والتوزيع، بني ملال، المغرب، ط1، 2020، ص 10. نفسه، ص 9.

[2]نفسه، ص 9.

[3] نفسه، ص11.

[4]نفسه، ص 110.

[5]نفسه، ص 136. 

[6]نفسه، ص 14.

[7] نفسه، ص 18.

[8] نفسه، ص 34.

[9]نفسه، ص 97.

[10] نفسه، ص ص 108- 109.

[11] نفسه، ص 141.

[12] نفسه، ص ص 141-142.

[13] نفسه، ص 71.

[14]نفسه، ص 72.

[15] نفسه، ص 193. 

[16]  نفسه، ص 194.

[17] نفسه، ص 194.

[18] نفسه،  ص 195.

[19]  نفسه، ص 196.

[20] نفسه، ص198.

[21]  نفسه، ص 198.

[22]  نفسه، ص 201.

[23]  نفسه، ص 202.

[24]  نفسه، ص 205.

[25]  نفسه، ص 208.

 [26]  نفسه، ص208.

[27]  نفسه، ص 210.

[28]  نفسه، ص213.

[29]  نفسه،ص 213.

[30]  نفسه، ص 214.

[31] نفسه، ص 192.

[32]. خير الدين عبد الرحمن، حقيقة فرصة التثاقف في مجتمع المعلومات الكوني، ضمن الفيصل، مجلة ثقافية شهرية- السعودية، ع284، ماي- يونيو 2000،صص: 21-23.

[33]. نفسه.

[34]محمد الولي، فضاءات الاستعارة وتشكلاتها، مذكور، ص 192.

[35] ينظر أبو هلال العسكري، الصناعتين.

[36] عبد القادر حسين، أثر النحاة في البحث البلاغي، ص 100.

[37] ينظر سيبويه، الكتاب، ج1.

[38] ينظر مقدمة نقد النثر لطه حسين، والبلاغة تطور وتاريخ لشوقي ضيف.

قائمة المصادر والمراجع:

  • أبو هلال العسكري، الصناعتين، تحقيق علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الفكر العربي، ط1.
  • خير الدين عبد الرحمن، حقيقة فرصة التثاقف في مجتمع المعلومات الكوني، ضمن الفيصل، مجلة ثقافية شهرية- السعودية، ع284، ماي- يونيو.
  • سيبويه، الكتاب، تحقيق محمد كاظم البكاء، دار الرسالة العالمية
  • عبد القادر حسين، أثر النحاة في البحث البلاغي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1998
  • محمد الولي، فضاءات الاستعارة وتشكلاتها في الشعر والخطابة، والعلم والفلسفة، والتاريخ والسياسة، فالية  للطباعة والنشر والتوزيع، بني ملال، المغرب، ط1، 2020.

List of sources and references

  1. Abdalqadir housayn, ‘athar alnuhat fi albahth albalaghi, dar gharib liltibaeat walnashr waltawzie, alqahirati, ta1, 1998
  2. Abu hilal aleaskarii, alsinaeatayni, tahqiq ali  mohamad albajawi, mohamad ‘abu alfadl ‘iibrahim , dar alfikr alearabii, ta1.
  3. Khqyreddine abderrahmane,haqiqat fursat altathaquf fi mujtamae almaelumat alkuni, dimn alfaysali, majalat thaqafiat shahriatun- alsaeudiat, ea284, may- yuniu.
  4. Mohamad el ouali, fada’at aliastiearat watashakulatuha fi alshier walkhataabati, waleilm walfalsafati, waltaarikh walsiyasati, faliat liltibaeat walnashr waltawzie, bani malali, almaghribi, ta1, 2020.
  5. Sibwyhi alkitabi, tahqiq muhamad kazim albaka’i, dar alrisalat alealamia