زهير اتباتو
ملخص البحث:
لقد عرف مفهوم الثقافة على امتداد التاريخ، تغيرات جذرية في المقاربة الدلالية، فأضحى في كل حلة يلبسها ذا دلالة جديدة، وفي إطار مواكبة التطور السمعي البصري، في قطاع الإعلام، يتبين جليا ارتباط الإعلام بالمفهوم الثقافة، وتهدف هذه المقالة إلى تحديد طبيعة العلاقة القائمة بين حقل الاتصال والتواصل وحقل المعرفة الثقافية، من حيث مقاربة الوفاق، ومقاربة البعد، في إطار التحيز أو فتح المجال للتعدد الثقافي بمختلف الآليات المعتمدة في ذلك، على المدى القريب والبعيد في آن واحد، وكذا فتح افق جديدة للإدراك الفكري، للوفاق الثقافي في إطار التعدد على امتداد بقاع الكر الأرضية.
الكلمات المفتاحية: الثقافة، الإعلام، التواصل، السلطة، الهيمنة.

مقدمة:
لا يختلف عاقلان على أن العالم قد شهد على امتداد التاريخ تطورات عدة، في مختلف الميادين والأصعدة، وكان ميدان الإعلام، أهم هذه المجالات التي عرفت طفرة نوعية من حيث الصناعة والإنتاج والتأثير، ومن خلالها، أصبح الإعلام (مسموعا، مكتوبا…)، ذا أدوار عدة، أهمها إعمال وتطبيق صيغ التأثير والتأثر بين البشر.
ومن هذا المنطلق يأتي الحقل الثقافي، كغيره من الحقول المعرفية، والتي تحكمها إيديولوجيات متنوعة، ليربط رهانه الحالي بالإعلام، محددا من خلال وسائل الإعلان وخصوصا الإنتاج الصحفي، مدى تأثير الإعلام في بناء الثقافة، ناظرا ومنظورا إليها.
ولكي نتحرى الدقة في تفصيلنا لهذا الموضوع، كان لزاما علينا إقامة جسر مفاهيمي للتعرف أكثر على مفهوم الثقافة ومدلولاته، فهو في كل ثوب يرتديه يتخذ حلية جديدة.
السياق الدلالي للثقافة:
قد تسمع عند عوام الناس في غالب الأحيان، أن البعض مثقف، أو حامل لثقافة كروية أو سياسية…أو ما شابه ذلك من وصف غير دقيق لتحكم الإنسان في معرفة ما، بوسيلة أو بأخرى، لكن الحقيقة أن مفهوم الثقافة أبعد تقديرا من هذه الإحاطة البسيطة.
إذ يعتبر إدوارد تايلور E -talor أول مع وضع تعريفاً للثقافة بأنها: “ذلك الكل الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والعادات وأي قدرات اكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع، وقد عرفها “كلباتريك Kilpatrick “: بأنها كل ما صنعه عقل الإنسان من أشياء ومظاهر اجتماعية في بيئته الاجتماعية أي كل ما قام باختراعه وباكتشافه الإنسان وكان له دور في مجتمعه، وقدم محمد الهادي عفيفي تعريفا شاملاً للثقافة فهي في نظره تعنى: “كل ما صنعه الإنسان في بيئته خلال تاريخه الطويل في مجتمع معين وتشمل اللغة والعادات والقيم وآداب السلوك العام والأدوات والمعرفة والمستويات الاجتماعية والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والقضائية. فهي تمثل التعبير الأصلي عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم وعن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان وقدراته وما ينبغي أن يعمل، وما لا ينبغي أن يعمل أو يأمل”1.
وعلى هذا الأساس يمكن القول، إن الثقافة في مدلولها، تنقسم إلى فرعين، الأول دال على مجمل ما توارثه الإنسان من عادات وتقاليد..، أي ذات حمولة مادية، أما الثاني، فدال على البعد الرمزي، من أفكار ومعتقدات وحمولة تاريخية وإيديولوجيا، أي أنها تتخذ منحا رمزيا.
الثقافة والصحافة أية علاقة؟!:
إذا كانت الثقافة على أساس ما سبق، مهيمنة في أبعادها على السلوك البشري، ألا يحق لنا أن نتساءل، كيف للإعلام أن يؤثر فيها؟ أهو صانعها في عصرنا أم مجرد موجهه لها؟ وما سلطته على بناء أو هدم ثقافة ما؟ أو بصيغة أخرى، هل يساهم الإعلام بفروعه في هيمنة الثقافة الواحد على الجميع، أن أنه يؤسس لمبدأ التنوع الثقافي؟
أولا وقبل الإقرار في الصيغ القيمية، يمكن أن نعتبر بشكل عام، أن الظاهرة الثقافية كغيرها من الظواهر، نسبية التعامل، وليست مطلقة، لأنها كما قلنا تلبس أزياء عدة، وثانيا، إن الإعلام، هو أداة طيعة قد تحمل حدين، المساهم في شحذهما هو الإنسان الحامل للثقافة نفسه سوا بوجه سلبي أو بآخر إيجابي.
الإعلام وسلطة الهيمنة الثقافية:
قد يكون واهما من يعتقد أن الهيمنة الحالية، هي هيمنة السلاح، أو اعتماد القوة، بل الغلبة للهيمنة الناعمة، هيمنة تستمل فيها الكلمات، سلاحا لتخدير اللاوعي، وهذا ما أبرزته تجربة العولمة، في محاولة السيطرة على مختلف الأصعدة، وفي مقدمتها الهيمنة الثقافية، فالعولمة التي يجري الحديث عنها الآن: “نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. العولمة الآن نظام عالمي، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والاتصال الخ… كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا “2.
والعولمة “تعني في معناها اللغوي: تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله. وهي تعني الآن، في المجال السياسي منظورا إليه من زاوية الجغرافيا (الجيوبولتيك)، العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلدا بعينه، هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، على بلدان العالم أجمع. ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور “التلقائي” للنظام الرأسمالي، بل إنها، أيضا، وبالدرجة الأولى دعوة إلى تبني نموذج معين. وبعبارة أخرى، فالعولمة ، إلى جانب أنها تعكس مظهرا أساسيا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضا إيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة، عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته. وقد حددت وسائلها لتحقيق ذلك في الأمور التالية:
- استعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية، في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية.
- اتخاذ السوق والمنافسة التي تجري فيها مجالا لـ”الاصطفاء”، بالمعنى الدارويني للكلمة، أي وفقا لنظرية داروين في “اصطفاء الأنواع والبقاء للأصلح”. وهذا يعني أن الدول والأمم والشعوب التي لا تقدر على “المنافسة” سيكون مصيرها ، بل يجب أن يكون، الانقراض.
- إعطاء كل الأهمية والأولوية للإعلام لإحداث التغييرات المطلوبة على الصعيد المحلي والعالمي، باعتبار أن “الجيوبوليتيك”، أو السياسة منظورا إليها من زاوية الجغرافيا، وبالتالي الهيمنة العالمية، أصبحت تعني اليوم مراقبة “السلطة اللامادية”، سلطة تكنولوجية الإعلام التي ترسم اليوم الحدود في “الفضاء السيبرنيتي”: حدود المجال الاقتصادي السياسي التي ترسمها وسائل الاتصال الإلكترونية المتطورة.
وهكذا فبدلا من الحدود الثقافية، الوطنية والقومية، تطرح إيديولوجيا العولمة “حدودا” أخرى، غير مرئية، ترسمها الشبكات العالمية قصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك والثقافة”3.
وبهذا يتبين جليا، أن وسائل الإعلام، تلعب دورا محوريا في بناء سلطة التحكم الثقافي، وتعميم النمط الواحد، وقد اختزل عالم اللسانيات والمفكر ناعوم تشومسكي، من خلال قائمة أعدها، عشر طرق تستعملها وسائل الإعلام العالمية للسيطرة على الشعوب، يمكن حصرها باختصار كالآتي:
1.”استراتيجية الإلهاء: هذه الاستراتيجية عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الهامة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية…
2.ابتكار مشاكل وتقديم الحلول: هذه الطريقة تسمى أيضا: المشكلة-ردة الفعل-الحل، في الأول نبتكر مشكلا أو موقفا متوقعا لنثير ردة فعل معينة من قبل الشعب، وحتى يطالب هذا الأخير بالإجراءات التي نريد أن يقبل بها…
3.إستراتيجية التدرج: ليقبل إجراء غير مقبول، يكفي تطبيقه بصفة تدريجية…
4.إستراتيجية المؤجل: وهي طريقة أخرى يتم الالتجاء إليها من أجل إكساب القرارات المكروهة القبول وحتى يتم تقديمها كدواء مؤلم لكنه ضروري…
5.مخاطبة المستمع كأنه طفل: مخاطبة المستمع كأنه طفل يبطل حسه النقدي…
6.استثارة العاطفة بدل الفكر: وذلك لإبطال مفعول التحليل المنطقي والتركيز على جانب اللاوعي.
7.إبقاء المخاطب في حالة من الجهل: وذلك بتمرير أفكار عامة دون التخصيص، أي تمرير صيغ إعلامية مستهلكة…
8.التشجيع على استحسان الرداءة: وذلك عبر نمط العادة والمباركة لصيغة الرداءة…
9.تعويض التمرد بالشعور بالذنب.
10.معرفة الأفراد أكثر مما يعرف نفسه”4.
وخلاصة لما سبق، فقد تبين أن الإعلام سيف ذو حدين أوله، محاولة الهيمنة والسيطرة الثقافية، والتشجيع على التوحيد بدل التعدد، وهذا فيه نوع من النفي للآخر، لكن من الجهة الثانية، لا يمكن لقارئ رصين، ولا مفكر لبيب، ولا مطالع متمحص لما بن الأسطر، أن ينكر قيمة الإعلام في الرفع من منسوب الثقافة، وتبليغ هوية الأنا إلى الآخر، والمساهمة في التلاقح الحضاري، وهذا ما سنفصل فيه في المحور المقبل:
الإعلام وسلطة التنوع الثقافي:
إن الخلق البشري، منذ بدايته، أسس على طباق مطلق، فأينما وجد الخير وجد بجانبه الشر، وأينما تأملت السماء، وجدت قبالتها الأرض، والبحر مهما امتد إلا وتراه حاضنا البر، وهكذا هو الإعلام، إن كانت له يد سوداء، فله بالمقابل يد بيضاء، ممدودة أبد الزمان منذ انطلاقته، إلى الآن، في خدمة نقل المعارف، والتعريف بالثقافات، وأشكالها، ومنطلقاتها، معتمدا كل السبل والطرق.
إن الإعلام “بوسائله الحديثة وبرامجه المتنوعة، يصدر من خلالها تصورات وأفكار ومبادئ تعمل على إحداث تغيير مقصود في المجتمع، الأمر الذي جعل وسائل الإعلام تعتبر الفرد متغيرا محوريا ضمن العملية الاتصالية، لجذبه إلى محتوياتها، وتعديل رأيه خلا الوظائف التي تؤديها في المجتمع خاصة الوظيفة الإخبارية التي تمارس من خلالها الوسيلة أنواع مختلفة من التأثيرات على البنيات المعرفية والسلوكية للأفراد، وتعتبر الصحافة المكتوبة أقوى الوسائل الإعلامية في ممارسة هذا الدور التأثيري”5.
ولهذا تعتبر وسائل الإعلام، من أهم قناطر التأثير في بناء وعي جماعي أو فردي، كما تتيح “تبادل الآراء: فإن ظهور وسائل الإعلام خلق إطارا جديدا وفضاء واسعا للتشاور بين شرائح اجتماعية واسعة وهذا ما كانت تقوم به النوادي قبل ظهور وسائل الاتصال الجماهيرية”6، كما تقدم خدمة مهمة وهي تحقيق التماسك الاجتماعي، إذ “تعزز وسائل الإعلام الروابط بين أفراد المجتمع عن طريق تقديم تفسيرات وتحاليل تدعم تشكيل رأي عام حول فكرة معينة”7.
ولكي نكون أكثر شمولية في قولنا، فإن الذي عزز أدوار الإعلام السابقة هو ظهور الإعلام الإلكتروني بمختلف خدماته، فقد امتلك اليوم “الإعلام الرقمي، في ظل التطور التكنولوجي الهائل قدرة هائلة على إعادة هندسة أشكال الأنساق الثقافية للمجتمع الحديث متجاوزا بذلك وظيفة الإعلام والإخبار، ويتحول إلى شكل من أشكال المؤثرات التي بإمكانها أن تعمل على إحداث تغيير وخلخلة في البنى الثقافية، والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعوب والدول، إذ يعتمد الأنموذج الإعلامي الجديد على الصورة الإعلامية الرقمية التي غدت في عصرنا لغة اتصالية حضارية لها حضور مهيمن في الثقافية البصرية الجماهيرية ذات دلالات، ومعنى، ورموز لها فاعليتها التواصلية في تحولات تمر بها المجتمعات البشرية من خلال قدرتها على الانتشار السريع، والتمظهر في أشكال مختلفة وإعادة صناعة الوعي، وهندسة الأنساق الثقافية بما تقتضيه المرحلة الراهنة، التي صارت تقدم الإعلام الجديد كشكل إعلامي مختلف عن الإعلام المألوف حيث وجد الجمهور نفسه في هذا الإعلام الجديد طرفا فاعلا في العملية التفاعلية من خلال تلقيه الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت تعطيه فرصة لإبداء رأيه بكل صراحة”8.
وكي لا ننساق وراء ثنائية الإعلام الجديد والقديم، فإن القصد هنا، هو الإشارة إلى التفاعلية بين حاملي الثقافات في مختلف الأماكن، من طرح أفكارهم ومعتقداتهم، والدفاع عن أيديولوجياتهم، من خلال منصات إعلامية حديثة، حيث أضحى الإعلام في عصرنا، يعتمد بشكل مباشر في عمله عل “وسال الاتصال الجماهيري عبر الوسائط المتعددة، وأهمها الصورة التي صارت تملك قدرة كبيرة جدا على التوصيل الناجح، وبتأثير أكبر بكثير من تأثير الكلمة، لأن الصورة بما تمتلكه من مقومات تؤهلها لتلامس تخوم كثير من العلوم، كعلم النفس المعرفي، والفلسفة، والمنطق، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا الثقافية، والنقد، وغيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية والتقنية، يعطيها أولوية الريادة بين الوسائل التواصلية الفعالة، فهذا المعنى أمكن للصورة أن تتوسط العالم الكامن بين الواقع والفكر أو بين الحس والعقل، ذلك أن الإنسان لا يعيش وسط عالم الأشياء بل هو يعيش وسط عالم من الصر التي تحدد رؤيته للعالم، وتحدد طبيعة علاقته الاجتماعية، والحوار الذي يتم بين طرفين إنما يتم بين صورة كل طرف في ذهن الآخر، والحروب الأهلية داخل الأوطان والصراعات الكبرى بين الدول إنما هي صورة متعارضة يصنعها الإعلام والتعليم والثقافة”9.
وبمعنى آخر “لا يمكننا اليوم الحديث عن الرأي العام العالمي دون أن نتحدث عن الفضل الكبير الذي لعبته الصورة الإعلامية كأداة خطيرة وماكينة هائلة لتحريك الجماعات عبر ما تبثه وسائل الإعلام”10، ذلك “أن الخبر المصور الذي تعرضه الفضائيات الإخبارية قد يلتبس بمفاهيم ورؤى متناقضة، ومتصارعة أحيانا، أو متآلفة ومتقاربة أحيانا أخرى، إذ يراوح الحدث المتداول بين الاتصال الإعلامي والانفصال عن الواقع، ويتقلب الخبر المنقول بين الحرية في التعبير، والرغبة في التحرير، وبين الغزارة في المعلومات والندرة في المعاني، لأن الخبر المصور هو الأساس الذي يعتمد عليه الإعلام الجديد في عمله الصحفي، حيث يتلهف الجمهور إلى معرفة ما تحمله الصورة من أحداث قد لا تتصل بدائرة اهتماماته الضيقة والموسعة، أو يمكن أن لا تكون له علاقة مباشرة بها، ومع ذلك فإن الجمهور يبذل الوقت والمال من أجل معرفة الخبر والاستقصاء الثقافي”11، إما من باب المعرفة العامة أو الفضول الشخصي.
وفي هذا السياق “لا يمكن إنكار دور الإعلام في تثقيف الناس مهما كانت انتماءاتهم، ولغاتهم ومستواهم العلمي لأنها تمثل أهم صيغة تعبيرية جمهورية في الثقافة البشرية، فهي ترفع عن الذين لا يجيدون القراءة والكتابة أميتهم، وهي تمكن الجمهور العريض–خصوصا الإعلام الحديث-بتنوعاته الثقافية المختلفة من استقبالها ببساطة، متجاوزة في ذلك جميع العوائق التي كانت تحول دون الانتشار الثقافي، لتكسر ذلك الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات، فوسعت دوائر الاستقبال، وشمل ذلك كل البشر، فتوسعت القاعدة الشعبية للثقافة وهنا الدور العظيم للإعلام”12.
وبهذا يمكن الحديث أخيرا على إعلام ثقافي، بمعنى “انتقال المعلومات والأفكار والاتجاهات والعواطف والاتجاهات والعواطف من شخص إلى جماعة، من خلال الرموز، ويوصف الإعلام بأنه ثقافي عندما يقدم مضمونا ثقافيا، أو يقدم رسالة ثقافية، أو جسرا لتلاقح الثقافات والحضارات، وإذا كان الاتصال هو نقل المعاني عن طريق الرموز، فإن الإعلام الثقافي هو نقل المضمون الثقافي عن طريق الرموز في وسائل الإعلام”13، ومن هنا ارتبط الإعلام بالثقافة ارتباطا وثيقا باعتبارهما أهم أوجه النشاط البشري وأعمقها تعبيرا على الصيرورة الاجتماعية، حيث يكاد التأريخ للحضارة الإنسانية يقوم على المتغير الإعلامي، والتي تفسر التطور الحضاري تفسيرا اتصاليا يحدد حقب التغير الثقافي التي يساهم فيها بشكل مبار الإعلامي من الحضارة الشفوية، إلى الحضارة التدوين، إلى حضارتنا الحالي، وبتداخل مجالي الإعلام والثقافة تأسست العلاقة بينهما على اعتبارات منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي، ففرضت هذا الاعتماد والتفاعل المتبادل”14.
وكخلاصة لهذه العلاقة يمكن الحديث على أن الثقافة الباحثة عن الانتشار قد “وجدت ضالتها في وسائل الإعلام للوصول إلى أوسع الجماهير، كما وجدت الثقافة الباحثة على التأثير ضالتها في وسائل الإعلام الجماهيري التي أصبحت قوية الحضور وبالغة النفوذ والتأثير في حياة الفرد والمجتمع، كما ان التكور الحاصل على المستوى الاجتماعي ، وظهور مصطلح الجماهير والإعلام الجماهيري، غير من معايير الثقافة، التي لم تعد حبيسة الكتب والإبداعات الراقية بظهور أشكال جديدة مثل الفيلم والفيديو والدراما وغيرها، وفرض أنماطا جديدة على الفعل الثقافي غيرت من أشكاله وحتى من مضامينه وأنماط تلقيه”15.
وقد حددت الدكتورة عائشة لصلح من خلال بحث أجرته، مجموعة من السمات المميزة للإعلام الثقافي، يتجلى أبرزها في النقط الآتي ذكرها”:
1.يرتبط الإعلام الثقافي ارتباطا وثيقا بالحقل الثقافي ودرجة حركيته أو جموده، فهو انعكاس للنشاط الثقافي ومرآة لصيرورة الفعل الثقافي والسياسة الثقافية القائمة.
2.مجال الإعلام الثقافي غير ملموس في جميع أحيانه، بل هو أقرب إلى التجريد والتنظير لارتباطه بالطاقة الإبداعية الإنسانية وليس بمجريات الواقع المعايش كحال باقي القطاعات الإعلامية التي ترتبط بوقائع ومجريات الأحداث.
3.الرسالة الإعلامية الثقافية مفتوحة أكثر من غيرها على قراءات وتأويلات متعددة ومختلفة، فهي تأخذ من الحقل الثقافي تعقده وغموضه.
4.تزداد أهمية المجال الثقافي في المجتمع بازدياد مستوى التطور الحضاري فيه، وفي مرحلة معينة من تطور المجتمع، تتكدس التحولات الثقافية وتتجمع تراكميا، وفي مستوى معين من تراكمها، تؤدي إلى تبدل نوعي، يحدث التغير الثقافي”16.
ولنكون أكثر دقة في نقلنا لخلاصات الدكتورة عائشة لصلح، يجب التأكيد على أن مفهوم الثقافة عندها، يتخذ منحى العلم والمعرفة والإبداع، وليس في شموليته، لكنه بشكل أو بآخر يخدم الثقافة في مطلقها.
ونفس المبدأ كان عند الشاعر الفرنسي بول فاليري في معرض حديثة، عن الثقافة العالمة، ودور الصحافة خصوصا في تلبية هذا المطلب قائلا: “لا يشك أحد في أن الغذاء العقلي للجنس البشري في الوقت الحاضر إنما يعد إعدادا تاما في مطبخ الصحف”17، ولا غرابة في ذلك “فإن الأغلبية الساحقة ممن يعرفون القراءة _وذلك في سياق زمني سابق_ لا يملكون من الوقت لهذه القراءة أكثر من ساعة واحدة في اليوم الواحد، وهذه الساعة التي تختلس اختلاسا في أثناء ركوب الحافل أو القطار أو في أثناء تناول الطعام في المطعم أو المنزل لا يمكن أن يشغلها شيء غير قراءة الصحف، ثم قال الشاعر بول فاليري في موضع آخر: معنى ذلك بصراحة تامة أن مهمة تثقيف الشعوب قد انتقلت من أيدي الفلاسفة والشعراء إلى أيدي الصحفيين”18.
وخلاصة لما سبق، إن حاجة الإنسان الثقافي للإعلام هي حاجة أساسية، باعتبار الإنسان “كيان لا يحتاج فقط إلى سلع مادية لإشباع حاجياته الجسدية، ولكن أيضا إلى سلع أو بالأحرى منتجات ثقافية تغذي فكره ووعيه وروحه وتدعم حريته”19.
خاتمة:
وآية القول، إن بين الماضي والمستقبل، بين ما هو كائن ما سيكون، تعمل الثقافة في آن واحد، كشاهد وفاعل مهم في المجتمعات تتغير باستمرار، تؤثر وتتأثر، تتفاعل وتتغير على إيقاعاته، بين التنوعات الثقافية والطفرة الإعلامية، عاشت هذه المجتمعات وما تزال، حالة التطور المستمر وتغيرت الثقافة بين الأمس واليوم، وسبل معرفتها والخوض في مدركاتها، وهذا التحول الثقافي ليس بظاهرة جديدة، بل جزء من سلسلة أبدية لا نهاية لها، ومع بداية القرن العشرين، عاشت الثقافة حلقة من هذه السلسلة وعرفت أعمق التحولات فكانت طفرة هزت قواعدها وغيرت وظائفها وتمثلاتها وأثرت على معانيها عند المجتمعات.
لقد تميز “التحول التكنولوجي الذي عرفه العالم، بظهور وسائط اتصال جديدة نسجت علاقات متميزة بين المجتمع والثقافة، وقد ساعدت وسائل الإعلام على تطوير هذا الوضع، وبشكل خاص، الإعلام الثقافي الذي تبلور بشكل واضح مع بروز قطاع الثقافة كصناعة حديثة، ذات أثر فكري كبير.
غير أن المواقف انقسمت بين متفائلين يعتبرون وسائل الإعلام أداة لدمقرطة الثقافة وإعطاء الفرصة للجميع من أجل إبراز معتقداته وأفكاره وعاداته وأيديولوجياته، وبين متشائمين يرون أنها تؤدي إلى التهجين الثقافي وتساهم في توحيد الثقافة وتنميط الوعي لصالح الجهة الأقوى إعلاميا.
لكن، غم تأرجح الرؤى بين مؤيدين ومعارضين فقد تزايد الاهتمام، في السنوات الأخيرة، بالإنتاج الثقافي كرافعة للتنمية، في العديد من دول العالم التي باتت تعي بأن طبيعة المواجهة، في زمن العولمة، لم تعد تكمن في الأسلحة والحروب، بل في المعرفة والهوية الثقافية، باعتبار أن الثقافة هي مشروع بناء الإنسان والإنسان هو محور الحضارة وصانعها، وأخذا بكل هذه الاعتبارات، فإن الإعلام الجديد بات يستهدف إعادة تشكيل عقل الإنسان وفكره وموقفه وحتى عواطفه، وأصبح يعتبر أحد الأسلحة الإستراتيجية البالغة الأهمية في بناء المجتمعات وتشكيل ملامحها”20.
وفي ظل هذا الواقع الجديد، الذي أصبحت فيه الثقافة تباع وتشترى، ترجلت هذه الأخيرة عن عرشها ونزلت من علياء لتلتحم بالجماهير ولتواجه هذا الواقع المضطرب بكل تأثيراته الإيجابية والسلبية وتبقى بذلك رهينة بين صناعة الإعلام ورغبات الجماهير.
)-الصفة العلمية: أستاذ وطالب باحث بسلك الدكتوراه –جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس-سايس.(
هوامش:
1.محمد الهادي عفيفي، في أصول التربية-الأصول الثقافية للتربية، القاهرة-مكتبة الأنجلو المصرية، 1993م، ص45.
2.محمد عابد الجابري، مجلة الجابري العدد السادس: الهوية الثقافية والعولمة، مجلة حكمة، 2015م، ص12.
3.نفس المرجع السابق.
4.نعوم تشومسكي، عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب، مركز الكاشف للمتابعة والدراسات الاستراتيجية، 2012م، ص2-3.
5.بلمداني سعد، الصحافة المكتوبة وصناعة الرأي العام –دراسة تحليلية لجريدة الخبر الجزائرية حول سياسة التقشف-، مجلة حقائق للدراسات النفسية والاجتماعية، العدد التاسع، ج2، ص: 298.
6.نفس المرجع السابق، ص:299.
7.نفس المرجع السابق والصفحة.
8.عادل روديار، أثر الصورة الإعلامية في صناعة الأنساق الثقافية في الإعلام الجديد، مجلة الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية، المجلد7، العدد2، أبريل 2022م، ص573.
9.نفس المرجع السابق، ص:580.
10.نجيب عز الدين، فصول عن ثقافة الصورة، مجلة فصول، عدد62، القاهرة-مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003م، ص:107.
11.عادل روديار، أثر الصورة الإعلامية في صناعة الأنساق الثقافية في الإعلام الجديد، مرجع سابق، ص: 580-581.
12.عبد الله الغدامي، الثقافة التلفزيونية-سقوط النخبة وبروز الشعبي، الدار البيضاء-المغرب: المركز الثقافي العربي، ط2، 2009م، ص:78
13عبد العزيز شرف، في تقديمه لكتاب البرامج التلفزيونية والإعلام الثقافي، تأليف سهير جاد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987م، ص:4.
14.أديب خضور، الإعلام الثقافي المتخصص: طبيعة العلاقة بين الإعلام والثقافة، محاضرة عامة، نقلا عن: عائشة لصلح، مقالة: الإعلام الثقافي: إشكالية المفهوم وجدل العلاقة بين الإعلام والثقافة، المجلة الجزائرية للاتصال، المجلد 24، العدد1، 2022م، ص81-82.
15.عائشة لصلح، مقالة: الإعلام الثقافي: إشكالية المفهوم وجدل العلاقة بين الإعلام والثقافة، المجلة الجزائرية للاتصال، المجلد 24، العدد1، 2022م، ص82.
16.نفس المرجع السابق، ص:86.
17.نقلا عن عبد اللطيف حمزة، مقالة: بين الثقافة والصحافة، مجلة الثقافة، العدد85، 2 مارس 1965م، ص6.
18.عبد اللطيف حمزة، مقالة: بين الثقافة والصحافة، مجلة الثقافة، مرجع سابق، ص6
19.سعد أوكيل، دور الصناعات الثقافية في تطوير التفكير العلمي والتقني في العالم العربي، ندوة القاهرة، كلية العلوم الإقتصادية وعلوم التسيير-جامعة الجزائر، ص11.
20.نور الدين تباعي، صناعة الثقافة، مجلة آفاق للعلوم، كلية علوم التربية جامعة محمد الخامس الرباط، المملكة المغربية، المجلد 5، العدد3، 2020م، ص14.
لائحة المصادر والمراجع:
1.محمد الهادي عفيفي، في أصول التربية-الأصول الثقافية للتربية، القاهرة-مكتبة الأنجلو المصرية، 1993م.
2.محمد عابد الجابري، مجلة الجابري العدد السادس: الهوية الثقافية والعولمة، مجلة حكمة، 2015م.
3.نعوم تشومسكي، عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب، مركز الكاشف للمتابعة والدراسات الاستراتيجية، 2012م.
4.بلمداني سعد، الصحافة المكتوبة وصناعة الرأي العام –دراسة تحليلية لجريدة الخبر الجزائرية حول سياسة التقشف-، مجلة حقائق للدراسات النفسية والاجتماعية، العدد التاسع، ج2.
5.عادل روديار، أثر الصورة الإعلامية في صناعة الأنساق الثقافية في الإعلام الجديد، مجلة الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية، المجلد7، العدد2، أبريل 2022م.
6.نجيب عز الدين، فصول عن ثقافة الصورة، مجلة فصول، عدد62، القاهرة-مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003م.
7.عبد الله الغدامي، الثقافة التلفزيونية-سقوط النخبة وبروز الشعبي، الدار البيضاء-المغرب: المركز الثقافي العربي، ط2، 2009م.
8.عبد العزيز شرف، في تقديمه لكتاب البرامج التلفزيونية والإعلام الثقافي، تأليف سهير جاد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987م.
9.أديب خضور، الإعلام الثقافي المتخصص: طبيعة العلاقة بين الإعلام والثقافة، محاضرة عامة، نقلا عن: عائشة لصلح، مقالة: الإعلام الثقافي: إشكالية المفهوم وجدل العلاقة بين الإعلام والثقافة، المجلة الجزائرية للاتصال، المجلد 24، العدد1، 2022م.
10.عبد اللطيف حمزة، مقالة: بين الثقافة والصحافة، مجلة الثقافة، العدد85، 2 مارس 1965م.
11.سعد أوكيل، دور الصناعات الثقافية في تطوير التفكير العلمي والتقني في العالم العربي، ندوة القاهرة، كلية العلوم الإقتصادية وعلوم التسيير-جامعة الجزائر.
12.نور الدين تباعي، صناعة الثقافة، مجلة آفاق للعلوم، كلية علوم التربية جامعة محمد الخامس الرباط، المملكة المغربية، المجلد 5، العدد3، 2020م.
