الدكتور نصرالدين الشيخ بوهني
تقديم
تلعب اللغة دورا فعالا في حياة الفرد والجماعة، فهي أداة التواصل والتفاهم بين الأفراد، وهي روح الشعب ونبض حياته، كما أنها تراث ثقافي يعمل على تحويل الإنسان إلى كائن اجتماعي، فتحفظ تقاليده وتصون تاريخه،ذلك أنها خزان لتراث الأفراد والمجتمعات، ووعاء لثقافة المجتمع، تعرب عما يفكر فيه الشخص، وتجعله مميزا عن غيره من المخلوقات.
واللغة العربية كسائر اللغات، إلا أنها تعد الرابط الأساسي بعد ديننا الحنيف الذي يربط بين المسلمين في أنحاء المعمورة ككل، وذلك لتجذرها في التاريخ ولخصائصها التي تتباين عن اللغات الأخرى، وسهولة انتشارها في جل الأصقاع.
لقد سادت العربية وانتشرت مع انتشار الإسلام، ودخلت بيوتا لا عماد لها فوطدت أركانها، وزاد إقبال الناس على تعلمها، فانصهروا في بوتقتها، ولم يتمكن الإنسان أن يقرأ القرآن أو يتفقه في الدين إلا إذا أخذ قسطا وافرا منها (لقد كانت الفتوحات الإسلامية مصباحا ينير العالم فيزعزع الظلم وينشر العدل، الشيء الذي جعل أمما تقبله وترحب به، فتدخله ديارها ليضيء لها النور الذي كانت تحتاج إليه منذ أمد بعيد، وتسكنه وطنها حبا فيه وفيما كان يحمله من صدق وإخلاص، فتعلموا لغته وتفقهوا فيه)[1].
وقبل أن أعرج على ذلك الانتشار الذي عرفته الثقافة العربية في إفريقيا السوداء، يجدر بي أن أقدم تعريفا موجزا حول مفهوم الثقافة وعلاقتها باللغة العربية.
مفهوم الثقافة وعلاقتها باللغة العربية:
ليس بمقدورنا أن نعطي مفهوما واسعا لكلمة “ثقافة”، فهي في نظري موضوع شاسع، وحتى وإن حاولنا معالجة مثل هذه المواضيع فإننا نجد أنفسنا ( أمام مشكلة لغوية تاريخية)[2]. إن الثقافة كلمة قصيرة اللفظ طويلة المعنى تحمل في طياتها بعدا حضاريا، لا كما يفهمه البعض على أنها موسيقى وغناء ومسرح وتمثيل، بل هي أوسع من ذلك وأشمل، فالثقافة في معناها اللغوي من الفعل ثقف ثقفا أي أدرك إدراكا، لقوله تعالى ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم)[3] أي ظفرتم بهم، تقول ( ثقف الشيء إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة، ورجل ثقف سريع الأخذ لأقرانه، قال الشاعر:
فإما تثقفوني فاقتلوني فمن أثقف فليس إلى خلود[4]
وتقول ثقف الرمح أي قومه، وثقف القناة، وعض بها الثقاف، وطلبناه فثقفناه في مكان كذا أي أدركناه، يقول الشاعر:
إذا عض الثقاف بها اشمأزت وولته عشوزنة زبونا
عشوزنة إذا غمزت أرنت تشج قفا المثقف والجبينا [5]
فالثقاف هي الحديدة التي يقوّم بها الرمح، وقد ثقفته أي قومته وهذبته، ومن المجاز أدبه وثقفه، ولولا تثقيفك وتوفيقك لما كنت شيئا، وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك.
ويفهم من خلال هذا أن معنى كلمة مثقف هي مهذب ومقوم، وقد نجد كثيرين يسيئون فهم هذه الكلمة، فمنهم من يرى أنها تطلق على الإنسان المتخرج من الجامعة، ومنهم من يرى أن المثقف هو ذلك الشخص الذي يملك معلومات لا يملكها غيره، ولكني أرى أن هذه الكلمة واسعة المفهوم تنطبق على من يدرك ما يحيط به ويعمل على التوسع نحو الآفاق جاهدا على تأدية مهامه نحو ربه ومجتمعه ونفسه، لأنه يعتبر صاحب ضمير حي يحارب الظلم ولا يرضاه لأحد، ولذا لا يمكننا أن نجعل الثقافة محدودة بالقراءة أو المطالعة، ولا بالشهادة الجامعية، وإنما هي( ذلك النسيج الكلي المعقد من الأفكار والمعتقدات، والعادات والتقاليد، وأساليب التفكير والعمل وأنماط السلوك، وكل ما ينبني عليها من تجديدات وابتكارات أو وسائل في حياة الناس مما ينشأ في ظله كل عضو من أعضاء المجتمع.[6]
إذن فالثقافة تعبير حسي عن صلة الشخص بمجتمعه لا يمكن الانفصال عنه، ( فالفرد إذا ما فقد صلته بالمجال الحيوي قررنا أنه مات موتا ماديا، وكذلك الأمر إذا فقد صلته بالمجال الثقافي فإنه يموت موتا ثقافيا)[7]، وهي تراث ومخزون يملكه أي شعب من شعوب الأرض، فبه يعرف وبدونه يتخلف، فقد تعرفنا على أمم سادت ثم بادت بما تركته كآثار ورموز في الكهوف وعلى الصخور، على شكل رسومات تدل على ذلك المخزون الثقافي الذي تكون لديهم، ثم انتقل إلى أجيال أخرى حسب تعبير المفكر الألماني هاردلي:( إن لغة الآباء والأجداد، مخزن لكل ما للشعب من ذخائر الفكر والتقاليد، والتاريخ والفلسفة والدين)[8].
من هنا نستخلص أن الثقافة تراكمات أنتجتها الإنسانية منذ فجر تاريخها، ومعالم لظواهر اجتماعية حافظت عليها اللغة ومازالت كبوتقة تحفظ الثقافة وتسهم في تطور الحضارة، وهو ما يجعلنا نجزم بأن هناك علاقة وطيدة بين اللغة والثقافة والحضارة، حيث ( إن العمل الفكري والثقافي لا يحمل جنسية سياسية، وإنما يحمل جنسية حضارية ينتسب إلى اللغة التي أنتج لها، وإلى المناخ الثقافي لتلك اللغة، وهي ليست شكلا وحده، ولكنها كذلك مضمون متلازم متكامل معه، فالإنسان يفكر بالنمط الحضاري للغة التي يفكر بها)[9] ، وهل ينهض شعب ما إلا بالمحافظة على ثقافته والتمسك بها، لأنه إذا صانها صان تاريخه.
ومن هنا يخلص بنا المطاف إلى أن الفرد يتفاعل مع أخيه بوساطة اللغة التي تحمل في طياتها إيديولوجية وثقافة محددتين، تجعلانه يتميز عن غيره في المجتمعات الأخرى، وهو ما جعل العربية تضرب في الصميم وفي كل مكان، لأنها تتميز عن غيرها بمزايا تساعد على التطور والرقي، الشيء الذي جعل المستعمر يترصد لها حتى لا تقوى شوكتها وتذوب اللغات الأخرى في بوتقتها.
وبما أننا بصدد الحديث عن الثقافة العربية الإفريقية، فإنه يجدر بنا ألا ننسى تلك الصلة التي تربط بين الأمة الإفريقية والأمة العربية، وهي صلة قديمة قدم الأمتين، حيث كانت لإفريقيا علاقة متينة بالجزيرة العربية وبحضارة العرب منذ قرون بعيدة، وبخاصة تلك القوافل التجارية التي كانت تعبر البحر الأحمر متجهة إلى ربوع إفريقيا، وبعدها هجرة المسلمين إليها.
وكثير من الحقائق التاريخية الدالة على وجود حضارة عربية عريقة في إفريقيا السوداء، يجب أن نسلط عليها الضوء لمعرفة ما إذا كانت هذه الحضارة العربية الإفريقية تعود للإسلام أم ما قبل الإسلام؟
لقد ظلت إفريقيا مرتبطة ارتباطا قديما بحضارة العرب قبل الإسلام، وهو ما ذكرناه سالفا عبر المواكب والقوافل التجارية المنطلقة من شبه الجزيرة العربية عن طريق البحر الأحمر مرورا بالسودان والحبشة، ( وبعد انهيار سد مأرب، هاجرت قبائل عربية من الجزيرة العربية عبر باب المندب إلى شرق إفريقيا، واتجهت مجموعات منها عبر رحلة طويلة مرورا بالحبشة والسودان الشرقي وفزان واستقرت بغرب إفريقيا)[10] ، ولكن هذه الهجرات والرحلات لم تتدعم إلا بانتشار الإسلام في هذه المنطقة، وقد أثر سكانها تأثيرا قويا بعد أن ولجها الإسلام، و( قوة هذا التأثير وفعاليته تدعمت بعد انتشار الإسلام واللغة العربية في بعض مناطق ما وراء الصحراء الكبرى)[11].
عوامل انتشار الثقافة العربية
لقد سادت العربية وانتشرت مع انتشار الإسلام، ودخلت بيوتا لا عماد لها، فوطدت أركانها، وزاد إقبال الناس على تعلمها، فانصهروا في بوتقتها ولم يتمكن الإفريقي أن يقرأ القرآن أو يتفقه في الدين، إلا إذا أخذ قسطا وافرا من اللغة العربية، ويبقى انتشار العربية بهذا القطر من إفريقيا السوداء معللا بعوامل عدة تجلت كالآتي:
- العامل الديني: هذا العامل الذي كان سببا في نشر الثقافة العربية في إفريقيا، لا يعتبر وحده كافيا في هذا الانتشار، بل هناك دوافع وعوامل أخرى تندرج تحته ساعدت العربية على التوسع في أرجاء إفريقيا، حيث إن القرآن الكريم ظل يقرأ ويرتل بلغته التي أنزل بها، ولم يكن يسمح بترجمته وكتابته بغير العربية خوفا من الخروج عن معناه، وكذا عدم جواز قراءته بغير العربية في الصلاة، مما جعل الأفارقة يجتهدون في حفظ القرآن الكريم باللغة العربية والكتابة بها، وهناك عوامل أخرى ومتعددة رأينا أن ندرجها ضمن هذا العامل لأن لها علاقة به، وقد تمثلت في تلك المجموعات والطوائف التي دخلت إفريقيا ومنها:
- الفاتحون: دخلت هذه الطائفة غرب إفريقيا آتية من شبه الجزيرة العربية، وعلى رأسها عقبة بن نافع الفهري الذي كان واليا على شمال إفريقيا، والتي كانت مركزا لانطلاق دعوته، فدخل من الجنوب قاصدا بلاد السودان حيث أسلمت على يديه عدة قبائل إفريقية: غانا، غينيا وتكرور، ويعتبر عقبة أول قائد إسلامي استشهد في إفريقيا، ثم توالت بعده الفتوحات من المرابطين وغيرهم من الفاتحين( وشهد اعتناق الإسلام ازديادا كبيرا بعد استيلاء المرابطين بقيادة أبي بكر بن عمر على القسم الأكبر من إمبراطورية غانا، وإسقاطهم عاصمتها عام 1076 الميلادي، وأسلم ملوك غانا وعرف أهلها بعدئذ بحماسهم للإسلام والدعوة له في غرب إفريقيا)[12].
- الصوفية: لعبت الطرق الصوفية دورا مهما في نشر التعاليم الإسلامية في غرب إفريقيا، فشيّدت المساجد والزوايا والمدارس القرآنية، ودعت إلى التسامح مع الأديان الأخرى كالمسيحية، واستعملت في دعوتها أسلوب الترغيب، كما قامت شراء العبيد وعلمتهم المبادئ الإسلامية ثم حررتهم وأوفدتهم إلى عدة مناطق من إفريقيا لنشر الدعوة الإسلامية بالطريقة القادرية والتيجانية والسنوسية.[13]
- ج. القوافل التجارية: هذه الطائفة من التجار كان لها الباع الطويل في نشر الثقافة العربية الإسلامية، فكانت أينما حلت تركت بصماتها، فقد أنشأت مراسي لسفنها و مراكز تجارية، ( واستطاعت هذه المراكز التجارية أن تنقل الدين الإسلامي إلى مملكة غانا الوثنية التي قاومت في البداية هذا التوسع الإسلامي، ولكنها لم تستطع أن تصمد أمام التيار الإسلامي الذي بدأ منذ القرن الأول الهجري ( السابع الميلادي) عقب حملات عقبة بن نافع، الذي دخل إلى غرب القارة ووصل إلى بلاد التكرور وإلى غانا التي ضمت جالية إسلامية في عام 60 هـجري)[14]، ( وكونوا لأنفسهم جاليات إسلامية تقيم إقامة دائمة بالبلاد التي ينزلون بها… فشيدوا المساجد، ولا يزال بعضها باقيا حتى الآن، وكانوا يفتحون المدارس القرآنية في هذه الأماكن، ويتبادلون الأفكار مع السكان والملوك والرؤساء، وقد وجدت الأفكار الإسلامية السمحة تقبلا واستجابة من النفوس الطيبة)[15].
- د. العلماء والدعاة: تعتبر هذه الطائفة مكملة لطائفة الفاتحين، تتعقبها أينما حلّت، فتدعو الناس إلى الإسلام ( وقد نجح الرواد المسلمون الأوائل في دخول الناس في دين الله أفواجا، وقد أدى هذا إلى تكوين دولة إسلامية في مناطق كثيرة من القارة وبخاصة في غربها، وذلك على أنقاض دولة وثنية)[16].
- العامل اللغوي: كما أن العربية قريبة من اللغات السامية الأخرى في كثير من خصائصها، ( ويعلل بعض الباحثين انتشار العربية في إفريقيا السوداء بالقرابة التي توجد بينها وبين اللغات السامية الأخرى في كثير من المظاهر الصوتية واللفظية والنحوية، زيادة على ذلك أن هناك إجماع بين علماء اللغات على التشابه الموجود بين اللغات السامية والحامية)[17]، أضف إلى أن السامية والحامية من أب واحد نسبة إلى أبناء نوح عليه السلام سام وحام، فلقد ثبت ( أن هناك دراسات حديثة عربية وأوربية تثبت إثباتا قاطعا خطأ استعمال المصطلحين “سامي” و”حامي” وتصر على استبدالهما بـ”عربي”، لأنه في نظر هؤلاء الباحثين، أصل الساميين والحاميين واحد منبثق من أصل واحد الذي هو الأصل العربي)[18].
- العامل الحضاري: وهذا العامل لا يقل أهمية عن العوامل الأخرى في نشر الثقافة العربية، فقد كان له دور أساسي وبارز في توطيد العربية، وقر أركانها،( لأن قصر اللغات المحلية في إفريقيا قبل وصول الإسلام عن استيعاب المفاهيم الحضارية المختلفة كان من بين الأسباب الهامة التي فتحت الطريق أمام انتشار العربية في القارة)[19]، وقد ساهمت العربية في كتابة اللغات الإفريقية مما ساعد على انتشارها في ربوع إفريقيا، واعتنى بها ملوك وأباطرة البلدان الإفريقية، وأتاحوا لها الوسائل المادية والمعنوية لنشرها بين المتعلمين، حتى أصبحت العربية لسان هاته الملوك والأباطرة، وكانت لغة الثقافة والإدارة معا، كما كان استعمالها شائعا بين الناس[20]. لقد اهتم المسلمون الأفارقة بنشر التعليم العربي على كل المستويات، فأسسوا المدارس بمختلف أنواعها، وشيّدوا المساجد الشيء الذي ساعد على انتشار العربية في هذه المنطقة، وهذا جدول يبين العدد الهائل لتلاميذ المدارس العربية في إفريقيا الغربية.
Archives : S.O.M. Paris. Dossier Senegal n° 10 [21]
ومن هنا يتضح أن الإسلام لعب دورا فعالا في نشر تعاليمه ومبادئه، وفي ظله بدأت تظهر إلى العلن مرحلة مهمة، قامت بتوطيد الروابط الإسلامية والثقافة العربية، حيث ( أسست مدينة تنبكتو في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وكان الليبيون من المؤسسين الرئسين لهذه المدينة، وكان حي الغدامسية أشهر أحيائها، ووفد إليها العلماء من المغرب والأندلس ومصر وطرابلس، وبني فيها مسجدا)[22] ، حتى أصبحت حاضرة الثقافة العربية في غرب إفريقيا.
التحديات والرهانات التي عرفها غرب إفريقيا
لا يمكن وفي هذا المقام بالذات أن نسرد كل تلك الأحداث التي شهدتها منطقة الغرب الإفريقي، فقد رأينا أن نشير ولو إشارة موجزة إلى المشاكل التي واجهها المسلمون وما زالوا يواجهونها في غرب إفريقيا.
لقد أدّى انتشار العربية في أصقاع غرب إفريقيا إلى تأسيس دول مزدهرة اتسعت وبلغت ذروة في النفوذ والثروة والعظمة، حتى وصلت إلى أبعد الحدود، فقد( تأسست دولة مالي على يد شعب الماندنجو، وبدأت في الإزدهار منذ أوائل القرن 13 الميلادي، وبلغت أقصى ازدهارها في عهد السلطان كنكن موسى (1312-1337)، فهو أعظم سلاطين مالي على الإطلاق لما بلغته مالي في عهده من عظمة وقوة واتساع وثروة ونفوذ، وامتدت الدولة في عهده من بلاد التكرور غربا عند شاطئ المحيط الأطلسي إلى منطقة دندي ومناجم النحاس في تكدة-مراكز القوافل- شرقا (شرقي النيجر)، ومن مناجم الملح في تفازة شمالا إلى فولتا جالون ومناجم الذهب في ونقارة جنوبا، وحاذت الحدود الجنوبية لمنطقة الغابات الاستوائية، أي أنها ضمت داخل حدودها مناجم الذهب والنحاس والملح وتحكمت في طرق القوافل بين هذه المناجم شمالا وجنوبا)[23].
إلا أن هذا الانتشار الذي عرفته إفريقيا السوداء، جعل المحتل الأجنبي وعلى رأسهم فرنسا يتخوف تخوف الحذر من أن ينتج عن ذلك (تثقيف الأفارقة الزنوج ثقافة عربية، قد لا تكون لصالحها، بل اعتبرت قضية تثقيف الشباب الإفريقي ثقافة عربية من أكبر المصائب بالنسبة إليها)[24] ، فاتخذت عدة قرارات ومواقف تعرقل مسار انتشار الثقافة العربية، ومحاولة إحلال اللغة الفرنسية، ذلك أن الأفارقة تمسكوا بالعربية وأقبلوا عليها وعلى ما حملته معها من ألوان الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فدرسوا الثقافة العربية دراسة معمقة، وكونوا علاقات ثقافية وتجارية وسياسية بين دول المغرب العربي، ودول عربية أخرى كمصر، (كما وفد تجار مصر على مالي ورحل تجار مالي إلى القاهرة، واستقرت طوائف من مالي بالقاهرة لتشتغل بالتجارة أو العلم أو التصوف، ويؤكد استمرار العلاقات الودية بين مصر ومالي حي(بولاق التكرور) بمصر وينسب إلى أحد صلحاء التكاررة )[25].
كل هذا جعل الإدارة الفرنسية تقف موقف المضاد لما يحدث في غرب إفريقيا، فأصدرت قرارات مناوئة للثقافة العربية لا لشيء، بل لتجسيد فكرة الولاء لها وللاستعمار الغربي، ولوقف الزحف الحضاري العربي الذي حصد إفريقيا بل القارة الإفريقية، واستعملوا كل ما في وسعهم لإبعاد الأفارقة وبخاصة الزنوج عن تعلم العربية، فقد (كتب فيديرب حاكم السنغال (1854-1865) إلى وزير المستعمرات الفرنسية يقول له بالحرف الواحد ما يلي:”…إن الرغبة التي يبديها الزنوج في تعلم العربية هي مصيبة بالنسبة إلينا، ويجب علينا أن نحذر من ذلك، بل يجب علينا أن لا ننمي هذه الرغبة بأي حال من الأحوال، فاللغة الفرنسية هي التي يجب علينا أن نعلمهم إياها، وذلك لمصلحتنا الخاصة، وإلى حد الآن لم نجعل أي وسيلة في متناول السنغاليين لتعلم لغتنا …؟ “[26]
ولم تتوقف فرنسا عن محاربة العربية في غرب إفريقيا، بل عملت المستحيل لدحضها وإبراز ثقافتها الفرنسية، فمرة تلجأ إلى الإغراء والترغيب، ومرة أخرى إلى التهديد والتنديد والردع والزجر.
ولتعويض العربية بلغتها لجأت إلى إصدار قانون (جوان 1906) مفاده ( أنه باستطاعة كل معلم من معلمي اللغة العربية في السنغال أن يرجع سنويا مبلغا مقداره 300 فرنكا فرنسيا، شريطة أن يعلم تلاميذه اللغة الفرنسية ساعتان أسبوعيا ….ولكن الطريف في الأمر هو أنه لم يترشح ولو معلم واحد من بين آلاف معلمي اللغة العربية في المنطقة لهذا العمل الذي عرضته الإدارة الفرنسية عليهم)[27]، أفلا يعتبر هذا تحديا من تحديات الأفارقة للاستعمار الغربي .
لقد واجه غرب إفريقيا منذ ولوج الاستعمار إلى يومنا هذا، مضايقات في كيانه وثقافته التي فتحت له مجالا واسعا في التقدم والرقي، ولم يكن الاستعمار الغربي ليرضى بذلك {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ }[28]، لأنه رأى أن زواله مرهون بتقدم ورقي اللغة العربية، وأن الخطر يأتي من خلال انتشارها في النواحي الإفريقية، ولقد علم أن الثقافة العربية الإسلامية لاءمت تقاليد الأفارقة الموروثة، وأنهم لم يتأثروا في حياتهم بأي حضارة أخرى مثل تأثرهم وولوعهم بالحضارة العربية الإسلامية، فاتخذوها جزءا من ثقافتهم والتي نتج عنها امتزاج الثقافة العربية بالثقافات المختلفة للأفارقة، ممّا أدى إلى ظهور ثقافة عربية إفريقية.
ويقودنا الكلام إلى أن نذكر ولو بإيجاز بعض المشاكل التي يواجهها المسلمون في غرب إفريقيا معرجين على غانا التي شهدت تغلغل النفوذ الصهيوني، ومختلف الفرق الضالة، كالماسونية والقاديانية، والبعثات التنصيرية والتي أوقعت مجزرة رهيبة راح ضحيتها عدد كبير من مسلمي غانا، وحدث هذا يوم 02 فبراير 1994، وقد ركزت هذه الحملة التنصيرية وبصفة خاصة على حرق وهدم المساجد على المصلين، كما قامت بإتلاف المحاصيل الزراعية وتشريد حوالي عشرين ألفا، ومع هذا فقد تحرك المسلمون في إنشاء هيئات إسلامية للوقوف ضد هذه الحملة الشرسة التي تبغي زعزعة الأفارقة وإبعادهم عن حضارتهم وثقافتهم العربية الإسلامية، وتجهيل السكان ونهب خيرات إفريقيا، وبسط الولاء للمستعمر، فقامت بتقديم المساعدات المادية والمعنوية، وما حدث لغانا فقد حدث لجارتها من غرب إفريقيا.
وتشير الحقائق والدلائل التاريخية أن الثقافة العربية الإفريقية، تعرضت لأحداث أليمة وخطوب صعاب من قبل الاستعمار وبمختلف وسائله، إلا أن هذا جعل الأفارقة يراهنون على تحدّيه وعدم الاستسلام والخضوع الكلي له، فقد بقيت من مظاهر الحضارة العربية الإفريقية الإسلامية عدة أمور تدل على أن الأفارقة تحدوا الصعاب، وعملوا على أن يبقى أثر الحضارة والثقافة العربية ممثلا في ذلك الفن المعماري العربي الإسلامي، وخير دليل على ذلك بناء المساجد والقصور، كما تبدو معالم الثقافة العربية في الحياة الاجتماعية كالزواج والطلاق، وارتداء الزي العربي المغربي، والاحتفالات ببعض المناسبات والأعياد الدينية، ( ولكن أكبر مظهر عربي في إفريقيا هو ذلك الحرف العربي الذي كتب به التراث الإفريقي في كل محتواه، وقد لعب هذا الحرف ولايزال يلعب أكبر دور في احتفاظ اللغات الإفريقية الأخرى بكيانها، إذ به تمت ترجمة أفكار ومعارف هذه اللغات، وهناك نحو من ثلاثين لغة إفريقية مكتوبة بالحرف العربي، وبقي كل ذلك بجهد الإفريقيين أنفسهم، وبإيمانهم وإصرارهم وبانتمائهم إلى العروبة والإسلام، على الرغم مما تعرضوا له من قهر وإكراه وضغوط سياسية واقتصادية تمارس عليهم في حياتهم اليومية)[29]
ويجب أن نقر اعترافا ونعترف إقرارا بأن للثقافة العربية الإفريقية جذورا لا تنفذ ولا تنقطع، ذلك أنها ( ترتبط بأصالة التاريخ والدين الإسلامي، فأجدادنا تفانوا في بناء التراث الاجتماعي المتميز)[30] ، ولما لم يستطع الاستعمار الغربي أن يسلخ الأفارقة من هويتهم العربية الإسلامية، استعمل شتى السبل، منها تدمير إفريقيا تدميرا اقتصاديا، وبث النزعات بين القبائل مما أدّى إلى ظهور فتن وحروب أهلية، واستنزاف خيرات الأفارقة، وهو ما جعل الأفارقة يعيشون أوضاعا اجتماعية وصحية واقتصادية متدهورة ختامها التخلف الاقتصادي الإفريقي.
ومن المؤسف أن دور المسلمين في مساعدة إخوانهم الأفارقة يبدو بالكاد قليلا، مقتصرا على بعض الهيئات والمنظمات الإغاثية التي أعطت جهدا مبذولا، لكنه في الواقع قليل جدا.
الخاتمة: طبعا من خلال ما سلف، وصل الباحث إلى أن العربية سافرت مع الفاتحين والدعاة والتجار، واستقرت معهم، وقبلها أهل الدار ورضوا بأن يكونوا مع أصحابها، لأنها فتحت لهم أفاقا لم تفتحها لهم أي لغة أخرى، ومع هذا ظلت العربية تحارب في هذه الأقطار لا لأنها لغة التواصل والعلم بل لأنها لغة القرآن والعبادة التي توحد الناس في دين واحد وإله واحد لا إلا هو.
ابهوامش
[1] نصرالدين الشيخ بوهني، التعريب بين التطبيق والتعليق، مذكرة تخرج ماجستير 2005، جامعة بوردو فرنسا ص 09.
[2] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، ط4، 1984، ص 19.
[3] سورة البقرة، آية 191.
[4] محمد على الصابوني، صفوة التفاسير، الجزء الأول، شركة الشهاب، الجزائر، 1990، ص 125.
[5] من معلقة عمرو بن كلثوم، جواهر الأدب، أحمد الهاشمي، الجزء الثاني، مؤسسة المعارف، بيروت، د.ت ص 46.
[6] جار الله الزمخشري، أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفةللطباعة والنشر، بيروت، ص 46.
[7] مالك بن نبي، المرجع السابق، ص 50.
[8] أحمد بن نعمان،التعريب بين المبدإ والتطبيق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ص 87.
[9] عبد الهادي بوطالب، بين القومية العربية والجامعة الاسلامية، دار الكتاب، الدار البيضاء، د.ت، ص 103.
[10] أحمد بن خليفة الصنهاجي، عروبة السنغال وإسلامه، محاضرات الموسم الثقافي، م/ ج/ اللبيين للدراسات التاريخية،(1989/1990)، ص 60
[11] انظر مجلة كلية الآداب جامعة الفاتح، طرابلس،العدد 08/2008، رجب نصير الأبيض، علاقات العرب بالسودان الغربي، ص61
[12] رجب نصير الأبيض، المصدر السابق، ص 65
[13] أنظر عبدالله عبدالرزاق، انتشار الإسلام في غرب إفريقيا، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006، ص 6.
[14] عبدالله عبدالرزاق إبراهيم وشوقي الجمل، دراسات في تاريخ غرب إفريقيا، مكتبة الإسكندرية، القاهرة 1998، ص 6
[15] محمد عبدالقادر أحمد، المسلمون في غينيا، ط1، القاهرة، 1986، ص 26-27- عبد الله عبدالرزاق، المصدر السابق، ص 10.
[16] عبدالله عبدالرزاق، م.س، ص 10
[17] أنظر مقال عمار هلال، موقف الاحتلال الفرنسي من العربية في إفريقيا ،م/الثقافة، الجزائر،ع/60، نوفمبر 1980، ص:52.
[18] المرجع نفسه، ص: 53.
[19] عمار هلال، م.س، ص 53.
[20] المرجع نفسه، ص: 53.
[21] أنظر عمار هلال، م.س، ص 55
[22] رجب نصير الأبيض، م.س، ص66
[23] رجب نصير الأبيض، م.س، ص66
[26] عمار هلال، م.س، ص 56.(
[27] عمار هلال م.ن، س، 59-60.
[28] سورة البقرة، آية 160.
[29] محمد عبدالرحمن الباشا، من محاضرة” السمات المشتركة بين الثقافة العربية والإفريقية، جامعة عمر المختار، ليبيا، 08/07/2007
[30] عمار هلال، المصدر السابق.
قائمة المراجع
1- أحمد بن خليفة الصنهاجي، عروبة السنغال وإسلامه، محاضرات الموسم الثقافي، م/ ج/ اللبيين للدراسات التاريخية،(1989/1990)،
2- أحمد بن نعمان،التعريب بين المبدإ والتطبيق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.
3- أحمد الهاشمي، جواهر الأدب، الجزء الثاني، مؤسسة المعارف، بيروت، د.ت.
4- تركي رابح، التربية والشخصية الوطنية، المجلة الجزائرية للتربية، وزارة التربية الوطنية، ع1، السنة الأولى، نوفمبر 1994.
5- جار الله الزمخشري، أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
6- رجب نصير الأبيض، علاقات العرب بالسودان الغربي، مجلة كلية الآداب جامعة الفاتح، طرابلس،العدد 08/2008.
7- عبدالله عبدالرزاق إبراهيم وشوقي الجمل، دراسات في تاريخ غرب إفريقيا، مكتبة الإسكندرية، القاهرة 1998.
8-عبدالله عبدالرزاق، انتشار الإسلام في غرب إفريقيا، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006.
9- عبد الهادي بوطالب، بين القومية العربية والجامعة الاسلامية، دار الكتاب، الدار البيضاء، د.ت.
10- عمار هلال، موقف الاحتلال الفرنسي من العربية في إفريقيا ،م/الثقافة، الجزائر،ع/60.
11- مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، ط4، 1984.
12- محمد عبدالرحمن الباشا، من محاضرة” السمات المشتركة بين الثقافة العربية والإفريقية، جامعة عمر المختار، ليبيا، 08/07/2007.
13- محمد عبدالقادر أحمد، المسلمون في غينيا، ط1، القاهرة، 1986.
14- نصرالدين الشيخ بوهني، التعريب بين التطبيق والتعليق، مذكرة تخرج ماجستير 2005، جامعة بوردو فرنسا.
15-محمد على الصابوني، صفوة التفاسير، الجزء الأول، شركة الشهاب، الجزائر، 1990.