معارك محمود محمد شاكر الأدبية وأثرها على الحركة الثقافية في مصر

 د.أبوبكر اي كي 

   كانت المعارك والخصومات في الأدب العربي قديمةً جدًاً، ولعل بدايتها كانت في المتنافرات والمفاخرات التي وقعت في العصر الجاهلي، ونمكن ان نقول بان النقائض كانت صورةً من صور الصراع والمعارك الأدبية، ومنها تلك الأشعار التي نظمها الشعراء المشركون في هجاء الإسلام والنبي صلى الله عليه وآله، والردود التي نظمها الشعراء المسلمون. صارت المعارك النقدية في أدبنا العربي المعاصر قطاعا حيا من قطاعات حياتنا الفكرية، له خُطورَته وأهميته في مجالات النثر والشعر واللغة العربية ومفاهيم الثقافة. نشأ في مصر تياران في الأدب هما تيار المحافظة وتيار التجديد، وقد تأثر الفكر والأدب والنقد بهما، وبدأت المعارك الأدبية والفكرية والسياسية بين كل من أصحاب هذين المدرستين.

دعا المحافظون إلى حماية اللغة العربية القديمة الفصحى، ودعا أصحاب التجديد الى التغريب، وجعلوا الثقافة العربية متأثرة بالثقافة اليونانية، ودعوا إلى الكتابة العربية بالحروف اللاتينية. وصارع المحافظون ضد هذه الدعوات وأقاموا المعارك الأدبية من أجل الدفاع عن اللغة العربية واعطاء الفضْل للغة العربية على الحضارة الغربية. ولقد حملت الصحافة لواء النقد وأفسحت له المجال وأتاحت الفرصة للقراء لمتابعة المعارك وموالاتها. ومن أهم المعارك الأدبية التي وقعت في عالم العرب في العصر الجديد معارك في اللغة العامية واللغة العربية الفصحى، وقد تواترت المعارك حول هذه القضية فترات. ومعاركٌ في مفهوم الادب والنقد والشعر. وكان محمود شاكر باحثا له منهج خاص في فهم النص وعلاجها وإدراك مراميه وعلاقاته الخفية، واستنباط مفاهيمه وافكاره البعيدة. ومؤلفاتُه كانت أوضحَ ادلة على قدرته المعرفية وعلى وصفه باحثا الذي يملك الرؤية الناضجة والأداة الماهرة والمنهج المتميز.

ولنجد اسم محمود محمد شاكر في كتاب “المعارك الأدبية” للأستاذ أنور الجندي في أربع معارك اثنتين منها في مواجهة الدكتور طه حسين وفى كتابه “مع المتنبي”. والثالثة كانت بعنوان مذهبان “في الادب” وكانت تلك بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد. واما الرابعة فقد تهدى فيها لعضو بارز في المجمع اللغوي.

وكان الأستاذ شاكر معروفا لمعركتين ضخمتين اللتين كانتا من أبرز معالم حياته الأدبية والفكرية، (وهناك بعض من المعارك ما يمكن ان نسميه بمعارك صغيرة او محاور فرعية للصراع) الاولي معركته كانت مع طه حسين والثاني مع لويس عوض. وقد بدأت هاتين المعركتين عظيمتين بسبب شاعرين من أكبر الشعراء العربية، المتنبي وأبو العلاء المعري. وشارك فيهما عدد كثير من الادباء والكتاب المعاصرين، واما في الاولي مثل سعيد الأفغاني ومصفى صادق الرافعي وعبد الوهاب عزام وعباس محمود العقاد بطريق مباشر وغير مباشرة، وفى الثاني من طرف لويس عوض محمد مندور، ومحمد عودة ومجلة “روز اليوسف اليسارية” وكتاب من “الاهرام” و”الجمهورية”، وسامي داود، ومحي الدين محمد وغابي شكري وغيرهم، ومن طرف الأستاذ شاكر مجلتي “الرسالة” و”الثقافة” وكتابهما من أمثال عبده بدوي، وعباس حضر، محمد جلال كشك وعامر بحيري وغيرهم.

معركته مع طه حسين

وكان سيد بن على المرصفى إمام العربية في زمان محمود محمد شاكر، وكان الأستاذ شاكر يزوره ويقرأ على شيخه. ومما يقرأه على المرصفى ما يكتبه الدكتور طه حسين في صحيفة السياسة بعنوان “حديث الأربعاء”. فجاء يوما في لسان الأستاذ شاكر اسم طه حسين في حضرة المرصفى، فعرف من الشيخ انه (طه حسين) كان يقرأ على المرصفى بعض ما كان يقرأه هو عليه، ومن هذا النسب القريب اشتاقت نفسه الى معرفة الدكتور طه. ثم لقي الأستاذ بطه حسين في الجامعة حين كان طالبا هناك، وسهّل طه حسين له الدخول في الجامعة بكلية الآداب بعد حصوله على البكالوريا في القسم العلمي، لأن طه حسين يعرف عن الطالب وادراكه القوي لعبقرية اللغة.[1]

وعندما التحق الأستاذ شاكر بالجامعة سمع محاضرات طه حسين في الشعر الجاهلي، كان طه حسين يردد طعنا وتشكيكا في الشعر الجاهلي. وعرف الأستاذ شاكر بان استاذه اخذ منهجه من مقالة مرجليوث، وتعجب لعدم ذكر طه اسم مرجليوث ولو مرة واحدة، فأخذته الحيرة حتى لم تدع له ولا لقلبه سكينة. لأنه كان من اسرة خدمت اللغة والآدب، خاصةً الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام والعصر الاموي. وجد نفسه يقف مجادلا للدكتور طه في حقيقة “منهج الشك”، وحاول ان يرد رأي أستاذه الى مصدره الأصلي.

عرف محمود شاكر بان طه حسين قد سطا سطوا مجردًا على مقالة مرجليوث التي نشرت في مجلة الملكية الآسيوية عدد يوليو 1925م تحت عنوان “نشأة الشعر العربي” وتستغرق هذه المقالة نحو اثنتين وثلاثين صفحة من صفحات المجلة. وفيها يشك مرجليوث في صحة الشعر الجاهلي، ويراه شعرا إسلاميا وضعه الرواة المسلمون في الإسلام ونسبوه الى اهل الجاهلية.

وكان لا يستطيع ان يناظره كفاحا وجها لوجه، وكل ما يقول هو عنه انما يقوله في غيبته لأنه كان له على محمود شاكر حق الهيبة، لان الطالب محمود شاكر في السابعة عشرة من عمره والدكتور في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخيه الأكبر. يوما طلب من استاذه الدكتور طه ان يأذن له في الحديث، وبدأ حديثه عن هذا الأسلوب الذي سماه “منهجا” وعن هذا “الشك” الذي اصطنعه هو، ما هو؟ وكيف هو؟، يُدلِّل في حديثه على ان الذي يقوله عن المنهج وعن الشك غامض يخالف مخالف لما يقوله ديكارت[2]. وفوجئ الطلاب بكلام شاكر لأستاذهم، وما كاد الطالب شاكر يفرغ من كلامه حتى انتهره الأستاذ واسكته، وخرج الجميع من القاعة مستنكرين غاضبين على العلامة شاكر. أرسل طه حسين ينادى تلميذه شاكر يوما الى حجرته وعاتبه بالقسوة حينا والرفق حينا آخر. فلم يجد شاكر أحدا من زملائه يؤيده فيما يقول، بل تفرقوا من حوله خوفا من سطوة الدكتور طه او جهلا بفحوى كلام الفتى الصغير، ولم يجد من يشد أزره الا الطالب محمود الخضري، ولكنه لم يكن من زملائه في القسم العربي بل من قسم الفلسفة، فلا سطوة الدكتور طه عليه.[3]

ولم يستطع الأستاذ شاكر مخالفة استاذه طه حسين في الجامعة لصغر سنه وضعف صلاحيته، ولم يستطع ان يكاشفه، ولكنه كان على يقين بان استاذه طه يعلم بان تلميذه شاكر يعلم بهذه الحقيقة، وطال الصراع بينه وبين استاذه حتى جاء اليوم الذي عزم فيه الأستاذ شاكر على ان يفارق مصر كلها لا الجامعة وحدها، غير مبال بإتمام دراسته الجامعية، وهاجر الى الحجاز وجاهد هناك في مطالعة الشعر القديم، الجاهلية والإسلامية، مطالعا وحافظا حتى يستبين له وجه الحق في “قضية الشعر الجاهلي”. ثم رجع الأستاذ الى مصر بعد سنتين وانعمق في مطالعة الكتب خصوصا الشعر الجاهلي والإسلامي، ولم يتألف في هذه الفترة الا بعض قصائده ومقالته، ولم يدخل في أي معركة أدبية.

وقد ظهر الكتاب “الشعر الجاهلي” في أواخر سنة 1926م، جمع فيه المحاضرات طه حسين في الشعر الجاهلي، وعندما نشرت فصول منه في الصحف والمجلات صُدرت مؤلفات عديدة في الرد على الكتاب بأقلام محمد فريد وجدي ومحمد لطفي جمعة، وشكيب أرسلان، ومحمد عبد المطلب وعبد ربه مفتاح، ومصطفى صادق الرافعي، واغلبهم كانوا أصدقاء لأستاذ شاكر. وقد حدثت الحوادث في مصر متعلقة بكتاب “الشعر الجاهلي”، وكان الأستاذ شاكر موجودا في مصر ولكنه لم يتقلم فيه.

مرت الأيام والليالي والسنون ما بين سنة 1968م وسنة 1936م أي السنة التي نشر فيها كتابه  “المتنبي”، وكان همه مصروفا الى قضية الشعر الجاهلي لا الى معارضة لاحد من الناس.[4] حتى جاء أسبوع الاحتفال بمرور ألف سنة على وفاة ابي الطيب، بدار الجمعية الجغرافية في النصف الثاني من سنة 1936م، فلقي الأستاذ شاكر طه حسين هناك مرتين، ولنسمع الى قوله فيه: فقابلني بالحفاوة والبشاشة، ثم أخبرني انه قرأ كتابي كله، وجاء بثناء لم أكن أتوقعه، وأطال وأفاض (على مشهد من جميع أساتذتي في الجامعة) وغمرني ثناؤه حتى ساخت بي الأرض، ومات لساني في فمي، وهو آخذ بيدي لا يرسلها، الى ان ركب وافترقنا‘‘[5]

كتب محمود شاكر اثنتي عشرة مقالة في صحيفة البلاغ بعنوان “بيني وبين طه حسين”، وواجه فيها الدكتور طه بثلاث حقائق:

1.    ان طه في أكثر اعماله “يسطو” على اعمال الناس سطوًا عريانا أحيانا او سطوا متلفِّعا بالتَّذاكي والاستعلاء والعجب أحيانا أخرى.

2.    انه لا بصر له بالشعر، ولا يحسن تذوقه على الوجه الذي يتيح للكاتب

3.    ان منطقه في كلامه كله مختل، وأنه يستره بالتكرار والترداد والثرثرة

ومن اهم القضايا التي ينتقد بها الأستاذ شاكر على طه حسين، قولُ الدكتور طه في ان المتنبي كان لا يعرف اباه وأمه، وشكوكه في نسب المتنبي وفى علويته، وخطأ الدكتور طه في فهم شعر المتنبي متعلقا بعلويته. وأبطل الأستاذ شاكر في مقالاته الحجج التي أدت به طه حسين الى القول بان المتنبي “لقيط” وبين هناك تناقض رأيه في اثبات ما يزعمه ان المتنبي “قرمطية”. ثم انتقد فيها ما قال طه في اشعار المتنبي ورفض منهج طه في دراسة اشعار المتنبي واثبت منهج الأستاذ شاكر “التذوق”. واشار الأستاذ شاكر تلك المقالات الى مواضع التحريف من طه حسين في الاخبار المروية عن المتنبي. واثبت سطو طه حسين على المستشرق “بلاشير” في قوله على قرمطية المتنبي.[6]

كان لا يجد بدًا من معركته مع طه حسين لأنه في يوم فارق الجامعة فارقها مع ذل العجز على مواجهته برأي في تفاصيل السطو الذي يتهم به طه حسين. ولأنه يخاف وجود “السطو” عنده مع انه على خلاف ذلك، ولأن طه حسين هدم نفسه هدما وفجر ادبه (المتنبي) تفجيرا، وهذه الأمور ترك في ضميره غصة تأبى ان تزول. ومع ان كل من كتب بعدُ في نقد كتاب “في الشعر الجاهلي” قد واجه الدكتور بهذا “السطو” مواجهة مكشوفة علانيةً، وكان محمود شاكر عاجزا في مواجهته حين كان طالبا في الجامعة، والآن حصل منهج خير من منهج طه في دراسة الشعر العربي. ولأن طه نشر كتابه “في الأدب الجاهلي” نفس كتاب “في الشعر الجاهلي” بتغير عنوانه وحذف بعض فصول واضافة بعض فصول. وكان ذلك زيادة في الادعاء بانه قد امتلك ما سطا عليه امتلاكا لا ريب فيه، وذلك دليل على ان طه حسين لا يبالي اقل مبالاة ما سمعه من انه سطا على مقالة مرجليوث. كان طه حسين في رأي محمود شاكر يسن سنة متلفة مفسدة للحياة الأدبية والحياة العقلية والحياة النفسية في الجيل البائس الذي كان محمود محمد شاكر منه. [7]

معركته مع لويس عوض

وكانت معركته مع لويس عوض معركة تمس كيان الامة العربية واقعها ومستقبلها، ولم تكن هذه القضية منحصرة في ميدان الادب والنقد بل كانت قضية حضارية تخوضها الأصالة ضدَ استباحة الامة، وهيمنة طلائع الثقافة الغربية على مقدرات الثقافة العربية في منتصف الستينيات. وفى عبارة آخر نقول بان سياسة التغريب هي التي دعت المحقق العظيم إلى الدخول في هذه المعركة.

وقد بدأت معركته مع لويس عوض -المستشار الثقافي للأهرام -عندما نشرت بحوثه التسعة في مجلة “الاهرام” بين 16 أكتوبر و11 ديسمبر 1964م ثم جمعت هذه البحوث في كتاب “على هامش الغفران”. ومن زعمه أن فكر أبى العلاء المعرى وفلسفته ليست أصيلة عنده، وإنما هي مأخوذة عن فكر أجنبي يوناني. ويحاول ان يثبت بان العبقرية العربية ليست عبقرية خلاّقة وإنما هي عبقرية تابعة وناقلة، وهكذا نجد آرائه كثيرةً في كتبه من الادعاءات ضد العربية والإسلام، ومحمود شاكر يردد تلك الادعاءات في مقالاته. وكتب محمود شاكر مقالته ردا له في مجلة “الرسالة” ثم جمعت هذه المقالات في كتابه “أباطيل وأسمار: الجزءان الأول والثاني” سنة 1972م، من مطبعة المدني في القاهرة. وكانت معركة الأستاذ شاكر مع لويس عوض ليست في آرائه القبيحة في شيخ المعرة وحدها بل في جهود لويس عوض ان يبدل كتابة العربية من فصاحتها الى العامية.

وذهب لويس عوض في مقالته إلى تأثر المعري باليونانيات، كما ألمح إلى أثر الأساطير اليونانية في الحديث النبوي، وهذا ما دفع الأستاذ شاكر إلى العودة الكتابة والمعارك بعد عزلة التي اختارها على نفسه، كتب مقالته لبيان خطأ لويس عوض ومنهجه نجد محمود شاكر في معركته مع لويس عوض ينتقل من الصراع الادبي الي بحوثه عن الفكر والثقافة في العالم العربي والإسلامي وما طرأ عليها من غزو فكري غربي.

مقالات لويس عوض كانت عند محمود محمد شاكر ملأت بالخلط والتدليس والتزوير، وهذا الأخطاء المقصودة وغيرها تدل على ان لويس عوض يفتقد ابسط مبادئ الأمانة العلمية ويفتقر الى منهج البحث العلمي الدقيق.

ومن قول الأستاذ شاكر بعد بيان أخطاء لويس عوض العلمية والفكرية، ان هذا الرجل (لويس عوض) يزعم بان له منهجا خاصا كالأساتذة الجامعين في دراسة تاريخ شيخ المعرة، ولكنه بقي الي اليوم لا يدري ما هو؟ ولا كيف يكون. ويوضح الأستاذ شاكر في ردوده انه يجهل المناهج الدراسية الأدبية جهلا تاما.

نرى أن محمود شاكر يشن هجوما على صحيفة الاهرام التي فيها نشر مقالات لويس عوض، وهي مسؤولة عن نشر مقالته، وما نشر في الصحيفة الأهرام عبث عابث لا يحسن شيئا، وهو ليس من المعرى ومن اللغة العربية في شيء. وعلى الاهرام ان تبرأ مما كتبه لويس عوض عن رسالة الغفران وشيخ المعرة.[8]

كتب محمد مندور (وهو زميل الأستاذ شاكر في الجامعة) حول معارك الأدبية في مجلة “روز اليوسف”، وقال “ان هناك معركتين احداهما حول الشعر والثانية حول ابي العلاء وتراثنا القومي كله”، ولكن الأستاذ شاكر اظهر في مقالته انه ينكر ان يصف هذا الذي يكتب هو معركةً ، وفى رأيه فان الذي يكتبه ليس معركة بل هو كشف عن تزيف انسان يحمل لقبا، لا يدري كيف حمله، وهو ممخرق عظيم المخرقة على الناس، ويقول ان محمد مندور لم يقرأ حرفا مما كتبه الأستاذ شاكر في مجلة الرسالة، بل لم يقرأ حرفا مما كتب لويس عوض لأنه لو كان قرأه لما أنشأ هذه الكلمات.[9]

ويعارض الأستاذ شاكر على لويس عوض بانه لا يملك أي إحساس ادبي في أي نص يكتبه، ولو ظل يكتب في الادب عشرات المجلدات، انه يبين جهل هذه الرجل ببرهان فاصل من نص كتبه. يدل الأستاذ شاكر على جهله وعدم فهمه بتراكيب اللغة العربية واساليبها[10]، ومن قوله:

’’ فكان بينا عندي، وينبغي ان يكون كان بينا عند القارئ، انى لم اكتب ما كتبت لا أناقش عالما او اديبا او مثقفا، بل العكس هو الصحيح، اذ كان هذا الانسان عندي ليس بعالم ولا اديب ولا مثقف، بل هو كان عندي دعيا قد اتخذ هذه الصفات بشكل ما، وسيلة لنشر خبائث يكتم حقيقتها عن الناس، ويدسها في تضاعيف كلامه كما يفعل كل داعية يبتغي الفتنة‘‘[11]

نعلم أن أهمية هذه المعركة من عدد المقالات الأستاذ شاكر في تلك القضية، كتب خمس وعشرين مقالات نشرت في مجلة الرسالة، ويوما قد دخل الناقد محمد مندور عند محمود شاكر وطلب منه ان يوقف مقالاته دون جدوى، وأصاب لويس عوض الذُعْر والهَلَع من مقالات محمود شاكر التي فضحته بين أوساط المثقفين، وكشفت عن ضعف ثقافته حتى في تخصصه في الأدب الإنجليزي حين كشف شاكر عن فساد ترجمته العربية لمسرحية «الضفادع» لأرسطوفان، وراح لويس عوض يطوف على المجلات والصحف يستنصرهم ضد شاكر ويزعم أن المعركة بينهما معركة دينية، ولكن العلامة شاكر لم يتوقف عند كتابة مقالاته حتى أغلقت مجلة الرسالة نفسها، وألقي به في غياهب السجن سنتين وأربعة أشهر من آخر شهر أغسطس سنة (1965م) حتى آخر شهر ديسمبر سنة (1967م).

ولقد وقف الى جانب محمود شاكر عدد كبير من الأدباء وخاصة في مجلتي الرسالة والثقافة، وأسهموا في كشف أخطاء لويس عوض وخطاياه. وحاول لويس عوض ان يحول هذه المعركة الأدبية الثقافية سياسيةً بين الرجعية والتقدمية او بين أعداء النظام من الرجعيين (يمثلهم الأستاذ شاكر ومن معه) وبين مؤيدي النظام الاشتراكيين التقدميين ومن هؤلاء محمد مندور ومحمد عودة ومحي الدين محمد وغالي شكري، وكتاب مجلة “روز اليوسف” وصحيفتي الاهرام والجمهورية. حاول لويس عوض ان يسمى من يكتب ضده بالرجعيين، دون ان يشير أدني إشارة الى خطأ واحد او خطيئة واحدة مما اقترفه في كتابه.

وقام لويس عوض بعد ما دخل العلامة شاكر واصحابه في السجن، بإعلان بهجته واحتفائه بما يسميه” معجزة صيف 1965م” وطالب من الكتاب والفنانين والمفكرين بمقاتلة الرجعية وافكارها بعدما اتهمهم بالتقصير. وقال لويس عوض في “على هامش الغفران” (مجموعة المقالات التي كتبها في الأهرام عن المعرى)، لولا شدة الأستاذ محمود شاكر في مناقشته لأفاد من علمه وتحقيقه كثيراً. ‏وظاهر أن الدكتور لويس عوض يعيب وسيلة محمود شاكر في نقده ولا يعيب علمه ولا تحقيقه ولا منهجه في الكتابة.

وقامت أقلام كثيرة من الادباء الجيل المعاصر دفاعا عن لويس عوض بعد مراجعة ما كتبه الأستاذ شاكر، ومنهم نسيم مجلي وكتابيه “صدام الأصالة والمعاصرة بين محمود شاكر ولويس عوض” الذي نشر سنة 1998، و”لويس عوض ومعاركه الأدبية” سنة 1998م. ومن الأسف انا لا نجد كاتبا واحدا يؤازر محمود شاكر مع انه كان صادقا تماما.

معركته مع سيد قطب

كانت للأستاذ شاكر معركتان مع سيد قطب، الأولى في الدفاع عن مصطفى صادق الرافعي في معركته مع العقاد، والثاني في قضية حرمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

كانت حياة الرافعي ممتلئة بسلسلة من المعارك، فما يكاد ينتهي من معركة إلا ليبدأ في معركة جديدة، لكن يتفق النقاد والأدباء على أن معركته مع عباس محمود العقاد كانت من أعنف المعارك التي خاضها الرافعي في حياته، بل تعد أعنف معركة في ميدان الأدب بوجه عام، ذلك لأن العقاد كان معروفا في الدفاع عن الرموز الإسلامية، والثقافة الإسلامية الأصيلة، وكان له في مجال الشعر قصائدٌ ودواوينٌ ومواقفٌ وآراءٌ لا يستهان بها. ولقد كان الرافعي رفيع الذوق فعلاً لا ترضيه كتابات الأدباء، وكان غير مبال بأدب هذا الزمن ولا بأدبائه، كان أديب إسلامي قائم لإعادة الملامح الإسلامية في الآداب والفنون.

وكان سيد قطب أحد تلاميذ وأتباع العقاد، وكان يعتبر العقادَ أكبر الشعراء دون منازعة ويضعه في مكان ومكانة لا تدانيها مكانة أخرى. وبعد وفاة مصطفي صادق الرافعي بعام أَشْعل سيد قطب معركة أدبية على صفحات الرسالة سنة 1938م، اندفع إليها بحماس الشباب دون روية، ومتأثرا بحبه الشديد وإعجابه الجامح بالعقاد، فهاجم على أدب الرافعي وجرده من الإنسانية والشاعرية واتهمه بالجمود والانغلاق، فثار محبو الرافعي على هذا الهجوم الفاضح، وقاد الأستاذ شاكر الدفاع عن شيخه وفنّد ما يزعمه سيد قطب، ودخل معه في معركة حامية لم يستطع الشهيد سيد قطب أن يصمد فيها. وكتب سلسلة من خمس مقالات في الدفاع عن الرافعي بعنوان “بين الرافعى والعقاد” ونشرها في مجلة الرسالة سنة 1938م في عددها 254 -257.

أما المعركة الثانية فعندما نشر سيد قطب كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” وفيه تكفيره وسبه للصحابة رضوان الله عليهم، ومن قوله فيه “ان الإسلام لم يحكم به الا في عهد ابي بكر الصديق وعمر بن الخطاب”.

ولنخلص فقرات سيد قطب في كتابه هكذا: هذا التّصوّر لحقيقة الحكم قد تغيّر شيئًا في عهد عثمان رضي الله عنه، ومن ورائه مروان بن الحكم يصرّف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام، كما أنّ طبيعة عثمان الرّخيّة، وحدبه الشّديد على أهله. يوما منح عثمانُ من بيت المال زوجَ ابنته الحارث بن الحكم يوم عرسه مئتي ألف درهم. والأمثلة كثيرة في سيرة عثمان على هذه التّوسعات؛ فقد منح الزّبير ذات يوم ستمائة ألف، ومنح طلحة مائتي ألف، ونفّل مروان بن الحكم خمس خراج إفريقية، ولقد عاتبه في ذلك ناس من الصّحابة على رأسهم علي بن أبي طالب، فأجاب: “إنّ لي قرابة ورحمًا”، فأنكروا عليه وسألوه: “فما كان لأبي بكر وعمر قرابة ورحم؟” فقال: “إنّ أبا بكر وعمر كان يحتسبان في منع قرابتهما، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي”، فقاموا عنه غاضبين يقولون: “فهديهما والله أحبُّ إلينا من هديك”.[12]

وكانت الولايات تغدق على الولاة من قرابة عثمان، وفيهم معاوية الّذي وسع عليه في الملك، ومهد له بعد ذلك أن يطلب الملك في خلافة علي كرم الله وجهه وقد جمع المال والأجناد، وفيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله الّذي آواه عثمان وجعل ابنه مروان بن الحكم وزيره المتصرّف، وفيهم عبد الله بن سعد بن أبي السّرح أخوه من الرّضاعة.[13]

جاء علي كرّم الله وجهه، لم يكن من اليسر أن يرد الأمر إلى نصابه في هوادة، وقد علم المستنفعون من أمية أن عليًّا لن يسكت عليهم، فانحازوا بطبيعتهم إلى معاوية، وبمصالحهم إلى معاوية، جاء علي ليرد التصور الإسلامي للحكم إلى نفوس الحكام ونفوس الناس. وقدر لعمار بن ياسر حين ولاه الكوفة ستمائة درهم في الشهر له ولمساعديه، كما قدر لعبد الله بن مسعود مئة درهم وربع شاة لتعليمه الناس بالكوفة وقيامه على بيت المال فيها، ولعثمان بن حنيف مائة وخمسين درهمًا وربع شاة في اليوم مع عطائه السنوي وهو خمسة آلاف درهم. ما يصنع عليّ بنفسه ما صنع وهو يجهل هذا كله، إنما كان يعلم أن الحاكم مظنّة وقدوة، مظنّة التبحبح بالمال العام إذ كان تحت سلطانه؛ وقدوة الولاة والرعيّة في التحرج والتعفف.[14]

وقد ردّ الأستاذ شاكر رحمه الله على سيد قطب، في أول مرة في مجلة “المسلمون” التابعة للإخوان، في أربع  مقالات في أعداد منها على التوالي:

1.    “حكم بلا بيّنة”، العدد 1 من مجلة “المسلمون”، سنة 1371هـ/1951م ص:43 -48

2.    “تاريخ بلا إيمان”، العدد 2 من مجلة “المسلمون” سنة 1371هـ /1951م ص:138 -145

3.    “لا تسبُّوا أصحابي”، العدد 3 من مجلة “المسلمون”، سنة 1371هـ/1952م، ص:246 -255

4.    “ألسنة المفترين”، العدد 4 من مجلة “المسلمون”، سنة 1371هـ/1952م، ص:351 -359

ومقالته “لا تسبوا أصحابي” اهم مقالة، وهي تشتمل على مقدمة متضمنة لآيات وأحاديث تبين فضل الصحابة –رضي الله عنهم، ثم عبارات سيد قطب في الطعن في معاوية بن أبي سفيان وأبيه وأمه وبني أمية وعمرو بن العاص وتلك العبارات وردت في كتب سيد قطب المنشورةً، وتشتمل هذه المقالة على أحاديث في فضل كل من (معاوية بن أبي سفيان وأبيه وأمه هند وعمرو بن العاص) رضوان الله عليهم أجمعين ومقارنتها بطعون سيد قطب فيهم، ثم تشتمل على كلام بعض السلف الصالحين وهم النووي والقاضي وبعض المالكية، في حكم سب الصحابة، وأخيرًا تشتمل على  نصيحة صادقة من الأستاذ محمود شاكر لسيد قطب.

’’وأسدي النصيحة لمن كتب هذا وشبهه أن يبرأ إلى الله علانية مما كتب، وأن يتوب توبة المؤمنين مما فرط منه، وأن ينزه لسانه ويعصم نفسه ويطهر قلبه، وأن يدعو بدعاء أهل الإيمان” رَبَّنا اغفِرْ لَنا ولإخوانِنا الَذينَ سَبَقُونا بالإيمانِ ولا تَجعَل في قُلوبِنا غِلا للذينَ آمَنُوا رَبّنا إنَكَ رَؤوفٌ رحِيمٌ)[15]

ولم يردّ سيد قطب مقالة على نقد الأستاذ شاكر، ولكن رد عليه الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي مدافعا عن سيد قطب، في مجلة “الرسالة”، العدد 973، فبراير 1952.

فردّ عليه الأستاذ شاكر بمقالة عنوانها “ذو العقل يشقى”، في مجلة “الرسالة”، العدد 974، مارس 1952.

فردّ محمد رجب البيومي علي الأستاذ شاكر بمقالة مرة ثانية، في مجلة “الرسالة”، العدد 975، بمقالة عنوانها “أجل ذو العقل يشقى”، سنة 1952.

ردّ عليه الأستاذ شاكر ثانية في مقالة “أعتذر إليك”، في مجلة الرسالة”، العدد 976، مارس 1952.

فكتب سيد قطب مقالته لأول مرة ردا على الشيخ شاكر في مجلة “الرسالة”، العدد 977، سنة 1952، وفي تلك الرسالة أعلن سيد قطب رفضه نصيحة محمود شاكر وأعلن تمسكه بما كتبه من سب وتكفير للصحابة ثم وجه سيد قطب سبا وشتما للشيخ الأستاذ محمود شاكر، وكان مما قاله سيد قطب في تلك الرسالة:

إلى أخي الأستاذ: رجب البيومي …السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: فإنني لم أرد أن أدخل بينك وبين الأستاذ شاكر فيما شجر بينكما من خلاف حتى ينتهي إلى نهاية كما انتهى، ذلك أنني كنت حريصا على أن أدعك ورأيك، وألا أبدأ تعارفي بك في زحمة الجدل.

ثم كتبَ الشيخُ الأديب السّوري على الطنطاوي مقالته ردّا فيه على الأستاذ شاكر ودفاع عن سيد قطب، في مجلة “الرسالة”، العدد 978، 1952.

فردّ الأستاذ شاكر علي الطنطاوي في مقالته: “كلمة تقال”، في الرسالة، العدد 979، أفريل 1952.

فاعتذار الشيخ علي الطنطاوي إلى العلامة شاكر، في “الرسالة”، العدد 981، 1952 بقوله: صدقتَ والله، إني لم أقرأ ما كتبتَ في (المسلمون)، ولقد فهمتُ مما قرأتُ في الرسالة أنّ الخلافَ على دولة بني أمية، فقلتُ الكلمةَ التي لا أزال أراها حقا، وأنا أعتذر إنْ كنتُ قد أخطأتُ الفهمَ، أو أسرعتُ في الحكمِ، والسّلام عليكَ ورحمة الله وبركاته”.

سعيد الأفغاني ومحمود شاكر

وكانت “قضية نبوة المتنبي” أو ادعائه النبوة مثار معركة اشترك فيها الأستاذ شاكر مع سعيد الأفغاني الذي لم يقتنع بنفي النبوة عن المتنبي في كتاب “المتنبي” للأستاذ شاكر. في الواقع أنّ مسألة ادّعاء المتنبي النبوةَ هي مسألة خلافية بين الباحثين والمؤرخين في العصر الحديث والقديم. فمنهم من ينفي خبر ادعائه النبوة جملةً وتفصيلا ً ومنهم من يقول انه ادعى النبوة. وممن نفى ذلك أبو العلاء المعري، وأبو علي الفارسي ومحمود محمد شاكر والدكتور عبد الوهاب عزام. وأما خبر ادعائه النبوة فقد أورده الثعالبي في “يتيمة الدهر” والبديعي صاحب كتاب “الصبح المنبي عن حيثية المتنبي” في كتابه، والدكتور طه حسين في كتابه “مع المتنبي”.

كتب سعيد الأفغاني مقالتين في مجلة “الرسالة” (العددين ـ 161 -162) سنة 1936، يرد فيهما ما ذهب إليه الأستاذ شاكر من نفي ادعاء النبوة. ومما كتبه سعيد الأفغاني:

’’ فما ظنكم بفتى دون العشرين من عمره، يتوقد الذكاء، ويتفجر فصاحة، طماح مغامر، يعشق السيادة، وينشد المجد بكل قوته، التفت حوله فما رأى إلا جماهير بلا عقل، تتبع كل ناعق، عليهم رؤساء جهال، لا علم لهم ولا فضل ولا أدب، ما فهم على كثرتهم من يقاربه في ذكائه ومواهبه وعظم نفسه، ثم أبصر سوق الدعوات رائجة كل الرواج‘‘.[16]

وقد رد عليه الأستاذ شاكر في مجلة “الرسالة”، ويقول هذا النقد الذي رماني به أخي الأستاذ سعيد ليس مما يثيرني ويغريني بحمل السلاح والاستعداد للمعركة. ولست أقول هذا استصغارا لما يقول، او استكبار لما قلت، بل هو حكمي عليه مجردا من كل ما يجعل الحكم قاصرا او باغيا[17].

أن أكثر ما روى أستاذ الأفغاني لإثبات ادعاء النبوة في رأي الأستاذ شاكر إنما كان من الأحاديث التي تتناقلها مجالس الأدباء، ولا يراد بها التحقيق، ولا ينظر فيها إلى صدق الرواية وسياق التاريخ وما إلى ذلك، ولا يستحق الخبر صفة الصدق إلا بالدليل الذي يدلّ على صدقه، فإذا لم تجد الدليل فلا يؤخذ به ولا يعتمد عليه، أن سعيد لا يجد دليلاً على صحة هذه الروايات فيما يزعم إلا أنه قد رواها فلانٌ وفلانٌ.

فرد الافغاني مقالةً في مجلة الرسالة في عددها 170، وكتب الأستاذ شاكر مقالتين في رد الأفغاني في العدد 171و 172. وكتب سعيد الافغاني في رد الأستاذ مقالة في في عدد الرسالة 174. وفيه:

’’ وما أنا بعائد إليه لأن الحقيقة لم تفد شيئاً بخوض هذا البحث معه، ولن أجاري أخي في طريقه التي سلكها فما هي لي بطريق، ولا أرب لي بتعسف المتاهات، ولولا أن يظن العجول من القراء أن نظرية الإقحام وتأويل النبوة بالعلوية التي رماني بها الأستاذ على عجلة وخطأ هي نظريتي وفكرتي لما خططت حرفاً من كلمتي هذه. وبعد، فليس عندي لأخي الأستاذ على أقواله في غير السلام‘‘[18]

معركته في تحقيق كتاب طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجُمحِي

ومن المعارك الأدبية التي وقعت في حياة الأدبية للأستاذ محمود محمد شاكر معركة في تحقيق كتاب ابن السلام الجمحي، وقعت المعركتان بين الأستاذ شاكر والعلامة المحقق اللغوي الأديب السيد أحمد صقر وبين الأستاذ شاكر وعلى جواد الطاهر في قضية تحقيق كتاب طبقات فحول الشعراء.

ومعركة الالي التي بينه وبين الأستاذ احمد صقر بدأت حين طبع تحقيق “طبقات فحول الشعراء” سنة 1952م. كتب احمد صقر مقالته ردودا على محمود شاكر في مجلة “الكتاب” المجلد الثاني عشر، سنة 1953م، صفحة 379، انتقد فيها جوانب من عمله في تحقيق كتاب “طبقات فحول الشعراء”، ومن اهم نقود احمد صقر كانت في نقل الأستاذ شاكر كل ما رآه مرويا عن ابن سلام من الأخبار والأشعار التي تتعلق بالشعراء الذين ذكروا في الطبقات. واتهم احمد صقر الأستاذ شاكر انه عمد الى الأغاني، والي الموشح للمرزباني، والي أمالي للزجاجي، والي الشعر والشعراء في تكميل نقص “كتاب الطبقات”. ونقل عنهم نحو من أربعين نصا. وأدخل شاكر هذه النقول في ثنايا الكتاب وأدمجها في تضاعيفه وقد وضعها في أماكنها بظنه واجتهاده، وصرح بذلك في اثني عشر موضعًا. واحمد صقر لا يؤمن بأنها من نص طبقات الشعراء اذ ليس هناك دليل على انها من نصها.[19]

وكذلك قول احمد صقر في تغيير الاستاذ شاكر لاسم الكتاب الذي عرف به وهو “طبقات الشعراء” لا “طبقات فحول الشعراء”، وليس في قول ابن سلام: فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعرًا دلالة على الاسم الذي اختاره الشارح، (يقصد شاكرًا)، لأنه قال أيضًا: (ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين، فنزلناهم منازلهم واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة)، ومن قوله:

 ’’ولو اتخذنا فضفضة اسم الكتاب ذريعة الى تغيير اسمه لبدلنا كثيرا من أسماء الكتب فإن أكثرها لا يطابق اسمه موضوعه، وهل يطابق اسم (الكامل) للمبرد موضوع كتابه؟ كلا‘‘[20]

وقد عقب الأستاذ شاكر على هذا المقال في نفس المجلة من العام نفسه، وعنوان مقالته “صدى النقد طبقات فحول الشعراء”. أوضح فيها أن أحمد صقر اسرف في نقده بكتاب طبقات فحول الشعراء ولم يصف عمله وصفًا دقيقًا، وقال الأستاذ شاكر في نقده انه لم يقل في مقدمة الكتاب انه يريد تكميل كتاب الطبقات كما يقوله احمد صقر، هذا إفراط شديد ولفظ جائر. لم يقل الأستاذ شاكر هذا ولا بعضه ولم يكتبه في مقدمته. والذي قاله شاكر في المقدمة هو انه جمع أسانيد ابى الفرج في الأغاني الى ابن سلام، فكانت عدتها أربعة وخمسين إسنادًا، ولم ينقل شيئا الى الطبقات، الا ما رواه أبو الفرج عن ابن سلام بإسناده عن ابى خليفة الفضل بن الحباب، عن محمد بن سلام. ويقول مثله عن الموشح للمرزبانى، ولم ينقل منها غير اسناد واحد هو إبراهيم بن شهاب العطار، عن ابى خليفة، عن محمد بن سلام. وبمثل هذا السياق من الاستدلال فعل فيما جاء في أمالى للزجاجى، وما جاء في الشعر والشعراء لبن قطيبة.

يقول فيما يتعلق باسم الكتاب، أن الناقد (احمد صقر) قد فرط في الإبانة عن حجته في تسمية الكتاب، وقال الأستاذ شاكر:

’’ انى ذكرت في هذا الموضوع من المقدمة نصين عن ابى الفرج إغفلهما الأستاذ في نقده. أحدهما في ترجمة المخبل السعدى، اذ يقول: “ذكره ابن سلام في الطبقة الخامسة من فحول الشعراء”. والآخر في ترجمة عبيد بن الأبرص، اذ يقول:” وجعله ابن سلام في الطبقة الرابعة من فحول المشهورين على أربعين شاعرًا” كان بينا لمن يستبين، ان ابن سلام لم يؤلف كتابه الا لذكر طبقات “فحول الشعراء” في الجاهلية والإسلام، واقتصر عليهم‘‘[21]

والمعركة الثانية في هذه القضية معركته مع على جواد الطاهر، كتب على جواد مقالته “طبقات الشعراء مخطوطا ومطبوعا” ردا على محمود شاكر سنة 1964م نقدا لكتاب “طبقات فحول الشعراء”  الذى نشرت سنة 1952م، وعلي جواد الطاهر نشر مقالته في مجلة “المورد”[22] في عددها الثالث سنة 1979م بعد ما طبع الطبقات الطبعة الثانية سنة 1974م. وفى مقالته انه يرجه ان أبا الفرج الأصبهاني لا ينقل من كتاب طبقات الشعراء مباشرة، ويقول ان الأستاذ شاكر لم يكن دقيقا في تحقيقه، وربما كان غير دقيق كذلك في نسخة الأول للمخطوطة، وان الأستاذ شاكر يزيد كلمات وينقص كلمات ويزج بكلمة “فحول” زجا.[23]

رد الأستاذ شاكر على جواد الطاهر في كتابه “برنامج طبقات فحول الشعراء”، كان في الأصل رسالة موجهة الى مجلة “المورد”، ولكن الأستاذ شاكر لم يرد ان يكلف على المجلة ما لا تطيق. فانه أضاف هذا الكتاب الى طبقات فحول الشعراء وجعلها الديباجة او الفاتحة لها. خالف الأستاذ في البرنامج آراء علي جواد انه (شاكر) نشر كتاب الطبقات في سنة 1974 نشرة مخالفة كل المخالفة لنشر سنة 1952م، فلا حاجة اذن ان يشير الناقد الى الشارد والوارد والغرائب بعد ما صححه الأستاذ شاكر في الطبعة الثانية. بل ادخل على جواد في اقوال شاكر ما لم يقله الأستاذ. ولقد اشرت الى اوجهه في تغيره اسم الكتاب وفى حقيقة عمله في دراسة اسانيد الكتب والأدبية، كالأغاني وكالموشح.

قال الأستاذ شاكر: ’’ ومن العجب ان يأتي آت لم يتمرس بما تمرست به حتى وضعت منهجي وطبقته تطبيقا مبثوثا في كل كتبي، يأتي هذا الآتي، وعليه طيلسان، فيأخذ كتبي فيقرأها بلا فهم ولا عناية ولا مراجعة ولا تثبت، فيظن في نفسه الظنون فينقد ما كتبت‘‘[24]

معاركه مع دعاة العامية

الدعوة الى العامية هي الدعوة الى اتخاذ العامية أداةَ التعبير الأدبي واحلالها محل العربية الفصحى. وقد انبعثت الدعوة إلى العامية في مصر بفضل جملة من العوامل، منها الجو الفكري الديمقراطي الذي عاشته مصر، والنهضة العلمية والصناعية المصرية القائمةُ على تَفوّق العامية على الفصحى، والأفكار الداروينية التي فتنت الباحثين في مسألة حياة اللغات وموتها، واختلاف الباحثين العرب والغربيين في النظر إلى صلة اللغة بالدين. وكثير من الباحثين العرب يقول بأن الانجليز كانوا وراء الدعوة إلى العامية. وكان محمود محمد شاكر واحد منهم.[25]

الدعوة الى العامية في رأي الأستاذ شاكر تهدف الى اقصاء القرآن بالقضاء على لغته، لان القرآن يجمع بين الأمة الإسلامية تحت راية اللغة العربية، وهم من مختلف الأجناس والألوان والألسنة تتلو كتابا واحدا، وإذا جهلت العربية الفصحى انغلق القرآن والحديث النبوي عن المفاهيم.[26] لذلك ان هذه الدعوة مرتبطة بأحداث سياسية واجتماعية ظاهرة او خفية. ولذلك شارك الأستاذ شاكر في معركة مع دعاة العامية. ومنهم لويس عوض (ولقد اشرت اليها) وأحمد لطفي سيد وتوفيق الحكيم.

كان لطفي احمد السيد ممن عكفوا على قراءة ما كتبه المصلحون الغربيون في شئون التربية القومية وفى الحقوق السياسية، كان ينقل ذلك في مقالاته السياسية. وكذلك كان يجاهد للاستقلال المصري، ونمكن ان نراه في مقالاته التي جمعت في “المنتخبات” و”التأملات” يدعو الى تقريب اللغة العربية من اللغة العامية، حتى تكوّن لغة مصرية مستقلة، انه دعا الى التقريب بين العامية وبين العربية الفصحى، ولم يجد حرجا في ان تدخل من العامية بعض الألفاظ في أساليبنا الأدبية واستعمالها في الكتابة، كان يجاهد ان تؤسس حياة مصر العقلية على أصول غربية، ولذلك بذل جهده في ترجمة فلسفة أرسطاطليس الى العربية.[27]

يعتبر الأستاذ شاكر هذا الرجلَ رجلٌ فيه شديد التناقض. نجد له أقوالا متناقضا واعمالا تناقض أقواله إذا درس تاريخ نشأته وتفاصيل حياته. ثم يبين الأستاذ شاكر كيف يأتي التناقض في أقواله، نجد لطفي السيد في مقالاته يصف غنى العربية فيما يتناول المعاني والمسميات القديمة، ثم يصف فورا في فقر اللغة العربية في المعاني الجديدة والمصطلحات العلمية. ثم يقول الأستاذ شاكر ان لطفي السيد يحاول في الصلح بين العامية والفصحى، ويحاول على احياء العربية باستعمال العامية، كان في رأي الأستاذ شاكر غير قادر ان يرى العرب أمةً واحدة، ذات لسان واحد وعقيدة واحدة. وهكذا نجد الأستاذ شاكر ينقد مقالة لطفي سيد بعنوان “في إنكلترا أيضا” التي نشرت في صحيفته “الجريدة” سنة 1909م. بان لطفي السيد يمدح الشاعر الإنجليزي شكسبير لاستخدامه أساليب خافية على كثير من العامة، ويثني على ابى العلاء المعري لاستعماله من غريب اللغة، ثم يمدح العامية، هذا تناقض شديد عند محمود شاكر. [28]

وهكذا نجد الأستاذ شاكر يصارع توفيق الحكيم، ويردد آراءه عن العامية في مقالته “لغة المسرحية” التي نشرت في صحيفة الأهرام، ثم ضم توفيق الحكيم هذه المقالة الى مسرحيته “الورطة”. يقول توفيق الحكيم في مقالته ان وجود لغتين لامة واحدة يأدي الى الفوارق بين طبقاتها. وان لغة الكلام العادي قد ارتفعت الى المستوى الفصيح، وان أكثر ما نسميه لغة عامية ما هو عامية ما هو الا اختزالات اقتضتها سرعة الكلام والخطاب. واما الكلمات التي شاعت استعمالها عامية وهي في حقيقتها صحيحة. ومن قوله:  ’’ انى ارفض الاعتراف بوجود لغة منفصلة مستقلة اسمها “العامية” نترجم اليها العربية، كما لو كانت العربية لغة اجنبية في حين ان الموجود هو مجرد لهجة تخاطب عربية استخدم فيها بعض الرخص والاختزالات والاستبدالات، شطر اللغة الواحدة شطرين وجعلها لغتين قسم الشعب شعبين ‘‘[29]

وردّ الأستاذ شاكر ان راي توفيق الحكيم في رفض وجود لغة منفصلة مستقلة اسمها العامية هو نفس آراء المبشرون منذ أكثر من خمسين سنة. ويجيب الأستاذ شاكر لكل دعواه ردا بعد رد بالتفصيل، ويسأل ان الكلام الذي تقلب الذال فيه دالا، وتجعل “الذي” “اللى”، وتقول فيه “ليه” مكان لماذا، وتجعل الثاء مرة، تاء ومرة سينا، كيف نقول بكل ذلك فصيحا، وان جرى ذلك في الخطاب والحوار كيف يصلح للكتابة؟ وكيف نقول لاحد أنك أخطأت قوانين النحو والبلاغة؟، ويلزم من ذلك ان يتكلم المصري غير ما يتكلمه الشامي، وغير ما يتكلمه العراقي واهل الجزيرة، وهلم جرا. وكلهم فصيحا ولا شك في فصاحته لأنهم جميعا عربٌ.[30]

إن المعارك الأدبية التي خاضها محمود شاكر كانت صراعا بين حضارتين وليست مجرد سجال بين كاتبين او أكثر في قضية أدبية او فكرية تنتهي بالفراغ من كتابتهم. وليس من المستغرب ان يقف الفريق الموالي للغرب من وراء طه حسين ولويس عوض وان تقف الامة المسلمة وراء محمود شاكر، لانه بالنسبة لها رمز الاستقلال والحرية والامل مهما ادلهمت الظلمات وتكاثرت النكبات واشتدت المحن.

الهوامش


[1] “المتنبي ليتني ما عرفته”، جمهرة المقالات الأستاذ شاكر، ص: 1102، والمتنبي، ص: 15

[2] رينيه ديكارت (31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650)، فيلسوف، ورياضي، وفيزيائي فرنسي، يلقب بـ”أبو الفلسفة الحديثة”، وكثير من الأطروحات الفلسفية الغربية التي جاءت بعده، هي انعكاسات لأطروحاته، والتي ما زالت تدرس حتى اليوم، خصوصا كتاب (تأملات في الفلسفة الأولى-1641 م) الذي ما زال يشكل النص القياسي لمعظم كليات الفلسفة.

[3] المتنبي، ص: 14 -16

[4] . ولم يكن كتابه “المتنبي” اول دراسة في المتنبي، وقد كثرت الدراسات عن هذا الشاعر العظيم في القديم والحديث، ومنه دراسة الأستاذ العقاد للمتنبي في ثماني مقالات بين سنتي 1923، 1924م، ثم يأتي كتاب “المتنبي” للأستاذ شاكر، ثم كتاب “ذكرى ابي الطيب بعد ألف عام” لعبد الوهاب عزام، ثم كتاب “مع المتنبي” لطه حسين. اثبت الأستاذ شاكر في كتابه مع الدلال الوافية في طبعته الثانية ان كتابين (لعبد الوهاب عزام ولطه حسين) سطو واجتراء وقارئ كتابه وكتابيهما قادر على ان يراه.

[5] جمهرة المقالات، ص: 1111، المتنبي، ص: 100 -101

[6] المتنبي، ص: 527 -530

[7] المتنبي، ص: 18 و105

[8] اباطيل واسمار، ص:107 -122، 146

[9] اباطيل واسمار، ص: 162

[10] أباطيل واسمار، ص: 143-145، 155 -157، 342 -345

[11] اباطيل واسمار، ص: 145

[12] سيد قطب، “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة عشرة، 1993م، ص: 159

[13] نفس المصدر

[14] المرجع نفسه، ص: 161-162

[15] جمهرة المقالات، ص: 999

[16] مجلة الرسالة، العدد 161، سنة 1936م.

[17] الرسالة، العدد 167، والمتنبي، ص: 534

[18] الرسالة، العدد 174، الاثنين 17 من شعبان سنة 1355هـ / نوفمبر سنة 1936

[19] السيد أحمد صقر، “مقالات العلامة المحقق اللغوي الأدبي السيد أحمد صقر (1915 -1989م)”، جمع وإعداد أحمد بن موسى الحازمي، دار التوحيد للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 2009م، ص: 377 -387

[20] نفسه، ص: 379 -380

[21] جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر، ص: 902

[22]  هذه المجلة صدر من العراق تحت وزارة الاعلام والثقافة، وتولى تحريرها الأستاذان عبد الحميد العلوجي، وحارث طه الراوي.

[23] مجلة المورد، المجلد 8، العدد 3، سنة 1979، ص: 25 -46.

[24] “برنامج الطبقات”، طبقات فحول الشعراء، ص: 11

[25] انظر د. نفوسة زكريا سعيد، “تاريخ الدعوة الى العامية وآثارها في مصر”، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، الطبعة الأولى، 1964م.

[26]  أباطيل وأسمار، ص: 157 -159

[27] الادب العربي المعاصر في مصر، ص: 258 -260

[28] أباطيل وأسمار، ص:208 -211

[29] توفيق الحكيم، “الورطة”، مكتبة مصر، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1988م، ص: 173 -183.

[30]  اباطيل واسمار، ص: 279 289.

المصادر والمراجع

  1. شاكر محمود محمد، اباطيل وأسمار الجزءان، الأول والثاني، الطبعة الثاني، مكتبة الخانجى بالقاهرة، 1982م
  2. شاكر محمود محمد، المتنبي، المطبعة المدنى/ دار المدني بجدة، 1407هـ/1987م
  3. شاكر محمود محمد، جمهرة المقالات، جمعها وقرأها وقدم لها الدكتور عادل سليمان جمال، الطبعة الأولى، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2003
  4. شاكر محمود محمد، رسالة في الطريق الى ثقافتنا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر،1997م
  5. شاكر محمود محمد، نمط صعب ونمط مخيف، الطبعة الأولى، المطبعة المدني، مصر، 1416هـ/ 1996م
  6. توفيق الحكيم، “الورطة”، مكتبة مصر، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1988م.
  7. د. نفوسة زكريا سعيد، “تاريخ الدعوة الى العامية وآثارها في مصر”، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، الطبعة الأولى، 1964م.
  8. د. شوقي ضيف، “الأدب العربي المعاصر في مصر”، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة عشرة، 2005م.
  9. مجلة “المورد (مجلة تراثية فصلية)”، وزارة الثقافة والإعلام، دار الجاحظ، بغداد، المجلد الثامن، العدد الثالث، 1979م
  10. الجُمحي محمد بن سلام، “طبقات فحول الشعراء”، قرأه وشرحه، محمود محمد شاكر، مطبعة الخانجى، القاهرة، 1984م
  11. السيد أحمد صقر، “مقالات العلامة المحقق اللغوي الأدبي السيد أحمد صقر (1915 -1989م)”، جمع وإعداد أحمد بن موسى الحازمي، دار التوحيد للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 2009م
  12. سيد قطب، “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة عشرة، 1993م.
  13. مجلة الثقافة، العدد 60 سبتمبر 1978، والعدد 61، أكتوبر 1978، والعدد 63، ديسمبر 1978
  14. طه حسين، “مع المتنبي”، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة عشرة، 1986م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *