محمد رسول الله في عيون الشعراء المسيحين: قصيدة وحي البردة للشاعر المسيحي ميخائيل ويردي نموذجا

 د.أبوبكر اي كي  

القارئ في الشعر العربي يعلم بأن المدائح النبوية قد تطورت غرضا مستقلا او فنا مستقرا عبر العصور في مراقي التطوّر كسائر العلوم والفنون الأدبية. وقد شارك في هذا التطوّر  والرقي شعراء كبار حتى لا يوجد شاعر من الشعراء المسلمين إلا وكان أحد أغراض شعره مديح النبي صلى الله عليه وسلم. وليس من الغريب العجيب أن تكون شخصية النبي صلى الله عليه وسلم محل إعجاب او تقدير للمسلمين،  لأن هذا أمر طبيعي يتعلق بعقائدهم. ولكن العجيب حقا أن نجد هذا التعظيم والتبجيل لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم لدى بعض الشعراء غير المسلمين وعند المسيحيين العرب خاصة في العصر الحديث.

شعراء نصارى العرب مدحوا محمد مصطفى صلى الله عليه وسلم في اشعارهم وقصائدهم،  انهم لم يستطيعوا كتمان الحقيقة رغم مخالفتهم لعقائده نطقوا بأحسن الكلمات في حق سيد البشر عليه الصلاة والسلام،  وعددهم غير قليل ومن أشهرهم ميخائيل ويردي وقصيدته ’’ وحي البردة ‘‘. وهي قصيدة مشهورة يعتبر اول قصيدة يعارض قصيدة البردة للإمام البوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم من شعراء النصارى العرب في العصر الجديد.

ميخائيل بن خليل خير الله ويردي شاعر سوري وموسيقى مشهور الذي عاش في الفترة ما بين (1904-1978) وقد ولد في دمشق وتوفي فيها. وهو في قصيدته يعبر عن انفعالاته ومشاعره بصدق وعفوية بعيدا عن التكلف والتزيد. وجاءت هذه القصيدة في مئة وخمسة وعشرين بيتا.

حيث يبدأ قصيدته:

 أنـوار هـادي الـورى فـي كـعـبـة الـحـــرم                 فـاضــت عـلى ذكـر جـيـران بـذي سـلـم

حتى يختم قصيدته:

صـلـى الإلــه عـلـى ذكـــــراك مـمـتـدحا          حـتـى تــــؤم صـــــــلاة الـبـعـث بـالأمـم

ومطلعها يعرض فيها مآثر العرب والإسلام وما اصطفى الله به رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق وحميد الصفات وطيب النفس وما جاء به من مبادئ إنسانية وسنن خالدة وما دعا إليه من تعاليم سمحة،  لو اتبعها الناس لما ضلوا سواء السبيل،  ثم يذكر محاسن الرسول ويعبر عن حبه له والذي يصل به إلى حد العشق ويفخر بممدوحه.

أنى في دراستي هذه أحاولُ ان أبيّن أهمية قصيدة ميخائيل ويردي في مدح أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم،  مع إلقاء النظر في أهميته وأثره على بعض الشعراء المعارضين المسيحين في قصائدهم في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. وستأدي هذه الدراسة أهمية هذه القصيدة من حيث المضمون وبنائها اللغوي ونسيجها الفني وصورها الشعرية.

الكلمات المفتاحية: ميخائيل ويردي،  نهج البردة،  وحي البردي،  المديح النبوي،  المعار الشعرية

المديح النبوي هو ذلك الشعر الذي ينصب على مدح النبي صلى الله عليه وسلم بتعداد صفاته الخلقية والخلقية وإظهار الشوق لرؤيته وزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم،  مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية ونظم سيرته شعرا والإشادة بغزواته وصفاته المثلى والصلاة عليه تقديرا وتعظيما[1]. ويُظهر الشاعر المادح في هذا النوع من الشعر الديني تقصيره في أداء واجباته الدينية والدنيوية،  ويذكر عيوبه وزلاته المشينة وكثرة ذنوبه في الدنيا،  مناجيا الله بصدق وخوف مستعطفا إياه طالبا منه التوبة والمغفرة. وينتقل بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طامعا في وساطته وشفاعته يوم القيامة. وغالبا ما يتداخل المديح النبوي مع قصائد التصوف وقصائد المولد النبوي التي تسمى بالمولديات. وتعرف المدائح النبوية كما يقول الدكتور زكي مبارك بأنها فن: “من فنون الشعر التي أذاعها التصوف،  فهي لون من التعبير عن العواطف الدينية،  وباب من الأدب الرفيع؛ لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص” [2].

ومن المعهود أن هذا المدح النبوي الخالص لا يشبه ذلك المدح الذي كان يسمى بالمدح التكسبي أو مدح التملق الموجه إلى السلاطين والأمراء والوزراء،  وإنما هذا المدح خاص بأفضل خلق ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم ويتسم بالصدق والمحبة والوفاء والإخلاص والتضحية والانغماس في التجربة العرفانية والعشق الروحاني اللدني. ومعلومٌ لدى أهل الأدب أن ما يقال بعد الوفاة يسمّى رثاء،  ولكنه في الرسول صلى الله عليه وسلم يُسمى مدحا.

لا شك في أن هذه المدائح النبوية تعد جسرًا يوصل ماضي الأدب العربي بحاضره،  فهي تلعب دورا بارزا في الاتصال بين الأدبين القديم والجديد في التراث الإسلامي والعربي،  لأنه لون أدبي يتصف دائما بالعمق في الاصالة والمعاصرة. قد طرأت على هذه المدائح تطورات كثيرة وخاصة في الأدب المعاصر،  شأنها شأن سائر الألوان الأدبية الأخرى.

وإذا كانت بدايات مديح النبوي تعود الى أوائل سنوات الهجرة،  فان هذا الفن تطور على يد عدد من الشعراء على مر العصور الإسلامية حتى أصبح اليوم فنا قائما بذاته له خصائصه وطرقه،  وغدا المديح النبوي يشكل أحد أهم الفنون في المجتمعات الإسلامية الحديثة[3].

ظهر المديح النبوي في المشرق العربي مبكرا مع مولد الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما قال عبد المطلب إبان ولادة محمد صلى الله عليه وسلم،  ثم قصيدة “طلع البدر علينا” قصيدة انشدها أهل المدينة أنها حدثت عند استكماله الهجرة قادما من مكة،  وقصائد شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم كقصيدة عينية مشهورة لحسان بن ثابت في الرد على خطيب قريش عطارد بن حاجب،  وهمزية حسان رضي الله عنه ايضا مشهورة،  وقصيدة كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير صاحب البردة المشهورة.

وقد ارتبط مدح النبي صلى الله عليه وسلم في العصر الاموي بمدح أهل البيت وتعداد مناقب بني هاشم وأبناء فاطمة كما وجدنا ذلك عند الفرزدق والشاعر الشيعي الكميت،  وأذيع بعد ذلك مع انطلاق الدعوة الإسلامية وشعر الفتوحات الإسلامية إلى أن ارتبط بالشعر الصوفي مع ابن الفارض والشريف الرضي. ولكن هذا المديح النبوي لم ينتعش ويزدهر ويترك بصماته إلا مع الشعراء المتأخرين وخاصة مع الشاعر البوصيري في القرن السابع الهجري،  كان من أهم شعراء المديح النبوي ومن المؤسسين الفعليين للقصيدة المدحية النبوية والقصيدة المولدية.

وقد عورضت[4] هذه القصيدة – “البردة للبوصيرى”،  من قبل الكثير من الشعراء القدامى والمحدثين والمعاصرين،  ومن أهم هؤلاء الشعراء ابن جابر الأندلسي وعبد الله الحموي في القرن التاسع،  وفي العصر الحديث من الشعراء البعث والإحياء والتيار الكلاسيكي محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وآخرون كثيرون،  وقد تعاقبت قوافل الشعراء الذين تشرّفوا بمدح نبي الهدى صلى الله عليه وسلم سواءً من المسلمين أو غير المسلمين من أهل الأديان الأُخرى.

ليس عجيبا أن تكون شخصية النبي صلى الله عليه وسلم محل إعجاب وتقدير من المسلمين،  لأن هذا أمر طبيعي. ولكن العجيب حقا أن نجد هذا التعظيم والتبجيل لشخص النبي لدى بعض الشعراء العرب في العصر الحديث من غير المسلمين،  اما شعراء نصارى الذين مدحوا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم يستطيعوا كتمان الحقيقة التي علموا عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم رغم مخالفتهم لها فنطقوا بأحسن الكلمات في مدح رسول،  والشعراء المسيحيون العرب من العصر الحديث الذين تناولوا في قصائدهم الإسلام ورسوله ينتمي معظمهم إلى سورية ولبنان. ولهم مؤلفات قيمة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم،  ونظموا القصائد في تمجيده كالأستاذ خليل جمعة الطوال،  والأستاذ خليل إسكندر القبري،  والدكتور نظمي لوقا،  والأستاذ وصفي الزنفلي شاعر حمص،  والأستاذ شلبي ملاّط شاعر الأرز،  والأستاذ جورج سلستي،  والشاعر اللبناني الأستاذ حليم دموس،  والأديب مشيل الله ديردي،  والدكتور شبلي شميل،  وشاعر الأقطار خليل مطران ،  وجورج صيدح،  و إلياس قنصل ،  ورشيد سليم الخوري الشاعر القروي،  ومحمود الخوري الشرتوني،  وعبدالله يوركي حلاق،  ورياض معلوف،  و إلياس فرحات،  ومارون عبود،  ونقولا فياض،  وجاك صبري شماس.  وهم الذين لم يعتنقوا دين محمد -صلى الله عليه وسلم – ولكن أنصفوا نبي الإسلام بعد أن درسوا سيرته دراسة وافية دقيقة،  وهم في الحقيقة لم ينصفوا سوى قيم الأمانة والموضوعية والحق،  وهي قيم تتطلب من رجالها أن يترفعوا عن التعصب والحقد الموروث،  هم الشعراء النصرانيون تفيض أشعارهم سماحة ومحبة عامرة قلوبهم بتقوي الله سبحانه وتعالي معبرة عن حبهم وإجلالهم وتقديرهم لخاتم الأنبياء والرسل محمد صلي الله عليه وسلم،  ونطقت على ألسنة هؤلاء الشعراء بالفكر السوي والقريحة الجيدة شهادة الحق للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يكونوا مسلمين. وهناك نجد في شعرهم تشابه في المضمون لأنهم أبدعوا قصائدهم في مدح النبي على نهج «بردة» البوصيري والبارودي وشوقي.

ويعد الشاعر السوري ميخائيل بن خليل الله ويردي أولَ شاعر مسيحي يعارض قصيدة “البردة”،  وقد فتح الباب على مصراعيه أمام شعراء مسيحيين آخرين،  ليحذوا حذوه،  ويسلكوا مسلكه،  ويسيروا على دربه وخطاه،  وهو في قصيدته يعبر عن انفعالاته ومشاعره بصدق وعفوية بعيدا عن التكلف والتزيد.

ميخائيل بن خليل خير الله ويردى شاعر سوري وموسيقى مشهور الذى عاش في الفترة ما بين (1904-1978) وقد ولد في دمشق وتوفي فيها. درس مواد التعليم الثانوي على يدي والده،  وبعد حصوله على شهادة الدراسة الثانوية بدأ حياته العملية محاسبا في المحلات التجارية،  ثم درس الحقوق،  وعين خبيرا لدى المحاكم. أتقن فن التصوير الشمسي،  وكان مولعا بتعلم اللغات الأجنبية،  لذلك كان يتقن التركية والفرنسية واليونانية والروسية،  حتى صار من كبار مثقفي عصره. وقد شارك في تأسيس النادي الموسيقي السوري،  والرابطة الموسيقية في دمشق،  وعين مستشارا موسيقيا في المعهد الموسيقي الشرقي التابع لوزارة التربية.

وقد أسهم كتابه فلسفة الموسيقي الشرقية (1947) في ابراز عدد كبير من جوانب الموسيقى الشرقية،  وقدم فيه حلولا موسيقية حول الإشكال في الموسيقى العربية الذي بحث في مؤتمر القاهرة الموسيقي الأول عام 1932 وحاز هذا المؤلف على تقدير منظمة اليونيسكو. كما رشح هذا الكتاب “فلسفة الموسيقى الشرقية” لجائزة نوبل سنة 1951،  وقد كرمت وزارة الثقافة والإرشاد القومي السورية ميخائيل ويردي بعد وفاته بتقليده وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى تقديرا لخدماته فى مجالات الأدب والموسيقى وما كتب حول أثرهما في السلام.

كما ألف في الموسيقى كتبا أخرى،  مثل كتابه: “الموسيقى في بناء السلام” الذي ترجم الى الإنجليزية والفرنسية،  و “جولة في علوم الموسيقى العربية”،  “وشيء من الموسيقى العربية”. وقد ألف عددا من الكتب في مجالات مختلفة،  مثل كتابه: “العروبة والسلام” (1951) وترجم الى الإنجليزية،  و”الأدب في بناء السلام”،  وفوق ذلك كله ديوانه الشعري “زهر الرُّبى ” الذي يحتوي على 450 قصيدة،  و3905 بيتا،  والذي طبعه بعد أن زار مسجد محمد علي بالقاهرة 1946،  وأعجب هناك بالفنون الاسلامية.

وافته المنية صباح الجمعة في 8/12/1978 عن عمر يناهز الرابعة والسبعين في منزله بحي المزرعة بدمشق،  إذ لم يعرف بموته إلا قلّة من أصحابه ومعارفه،  ودفن في مقبرة الروم الأرثوذكس- باب شرقي بدمشق.

قصيدة وحي البردة ‏

وجاءت هذه القصيدة في مئة وخمسة وعشرين بيتا مطلعها يعرض فيها مآثر العرب والإسلام وما اصطفى الله به رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق وحميد الصفات وطيب النفس وما جاء به من مبادئ إنسانية وسنن خالدة وما دعا إليه من تعاليم سمحة،  لو اتبعها الناس لما ضلوا سواء السبيل،  ثم يذكر محاسن الرسول ويعبر عن حبه له والذي يصل به إلى حد العشق ويفخر بممدوحه الذي ألهمه هذا الشعر المنزه عن أي غرض.

بنظرة سريعة إلى قصيدة (وحي البُردة) لـميخائيل ويردي نجد الشّاعر قد التزم بنهج المعارضات فى المدائح النبوية الشهيرة،  ففعل مثلما فعل أسلافه من شعراء المدائح كالبوصيري،  والبارودي،  وشوقي. فغنّى على قيثارتهم،  ونسج على منوالهم. فنراه يذكر موضع (جيران بذي سلَم) وما له من دلالة رمزية تاريخية،  فاستهلّها بقوله:

أنوارُ هادى الورى في كعبةِ الحرمِ    فاضتْ على ذِكرِ جيرانٍ بذى سَلَمٍ

ثمّ ذمّ الدنيا وزخارفها وفتنتها،  وعاتب النفس على تقصيرها ولام جنوحها إلى الهوى،  ثم دعاها للعودة إلى رشادها وهدايتها:

يا ليتَ أحلامَ عمري لم تضع بدداً      بحُبِ قصرٍ من الأوهام مُنهَدِمِ

فاربأْ بنفسكَ أنْ تنهار من ألمٍ           واربأْ بحُسْنِكَ أنْ يربدّ من سأَمِ

ثم عرض الشّاعر ما لاقاه صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم من معاداة قومه له،  عندما دعاهم إلى التوحيد،  ونبذ عبادة الأصنام فتحمّل الصبر طويلاً في سبيل تبليغ رسالة ربه،  حتى أتمّ الدين وأكمل شرائعه على أحسن صورة:

وحَّدْتَ ربّكَ لمْ تُشرِك بهِ أحداً                   ولستَ تسجدُ بالإغراءِ للصنمِ

عاديتَ أهلكَ فى تحطيمِ بدعتهم                  من ينصر اللهَ بالأصنام يصطدِمِ

وينعى الشّاعر أصحاب الحضارات المادية البائدة (كالفراعنة والبابليين والرومان) وكيف آلتْ مآثرهم إلى زوال،  وذلك بخلاف حضارة الإسلام الروحية التي مازالت حية معطاءة:

أبناءُ بابلَ أفنتهمْ مآثمها                           وآلُ فرعونَ ما شادوا سوى الهَرَمِ

وتدْمُرٌ ومغانيها غدتْ خِرَباً            والذّكرُ بالخيرِ غير الذّكر بالإرمِ

يا ليتَ من شيدوها للفناء رأوا                   عُقْبى المباني فأغنتهم عن النّدَمِ

زالوا وزالتْ مع الآثارِ عزتهم                  فإنْ تجادل سلْ التاريخَ واحتكِمِ!

والمُصطَفى خالدٌ فى الناسِ ما بَزَغَت          أُمُّ النُّجومِ ومَمدوحٌ بِكلِّ فَمِ

كذلك نراه يُلِحّ على الإشارة بإنسانيات الرسول صلى الله عليه وسلم وعاطفته نحو البشر وسائر الكائنات،  كما أفاض الشعراء السابقون في الوقوف عند هذا الجانب الإنساني العظيم،  فيخاطبه،  قائلاً:

ترعى اليتيمَ وترعى كلَّ أرملةٍ                  رعىَ الأبِ المُشْفِقِ الباكى من اليَتَمِ

كما مدح ويردي خُلُق “الرحمة” الذى هو من أوضح أخلاق النبوة،  فقال:

كأنّما قلبهُ ينبوعُ مرحمةٍ                         مستبشِرٌ فرحٌ جذلانُ بالنَسمِ

وقوله أيضا:

وَكُنتَ أَرأفَ بالمسكينِ مِن دُوَلٍ                 رَأت بِأَمثالِهِ سِرْبَاً مِن الغَنَمِ

وقوله كذلك:

فى دينكَ السمحِ لا جنسٌ ولا وطنٌ             فكل فردٍ أخٌ يشدو على عَلَم

وأبدى الشاعر إعجابه الشديد بمنهج الرسول الدعوى القائم على الموعظة الرقيقة،  والمجادلة بالتي هي أحسن،  فقال:

أحببتُ دينكَ لمَّا قلتَ أكرمكم            أتقاكمُ وتركتَ الحُكمَ للحَكَمِ

وقلتَ إنى هُدىً للعالمين ولمْ            تلجأ إلى العُنفِ بلْ أقنعتَ بالكلِمِ

وقد فطِن الشّاعر إلى سر نجاح الدعوة المُحمّدية،  بأنه يكمن في أن سيّد الدعاة وأعظمهم مُحمّد صلى الله عليه وسلم خاطب الناس على قدر عقولهم،  فأحبوه،  واتبعوه:

خاطبت كل ذكيّ حسب قدرته          ولم تكن بغبيّ القوم بالبرم

ولم ينس الشاعر ما أسداه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة من احتفاء وتكريم،  لم تشهد له الدنيا مثيلا،  ويشير الى بعض منجزات السياسة المحمدية عندما يخاطب رسول الله – صلى الله عليه وآله-بقوله

عززت كلّ فتاةٍ حين صحت بنا                ما أولد العزّ غير السادة الحشم

فأنت أولى من نادى بمأثرةٍ                      يظنها الغرب من آلاء بعضهم

كأنما الناس آلاتٌ مبعثرةٌ                        أخرجت منها جميل اللحن والنّظم

ونجد الشّاعر يطلب (الشفاعة) من الرسول صلى الله عليه وسلم فى الآخرة،  كما طلبها الآخرون من قبل:

فاجعلْ هواكَ رسولَ الله تلقَ بهِ                 يوم الحسابِ شفيعاً فائقَ الكَرَمِ

ومثلما ختم المادحون قصائدهم بالصلوات المباركات على خاتم الأنبياء،  اختتم –أيضا قصيدته بالصلوات والتسليمات على النبي الكريم،  فقال:

صلّى الإلهُ على ذِكْراكَ مُمتدِحا                 حتى تؤمّ صلاةَ البعثِ بالأُمَمِ

على جانب آخر،  انفردت قصيدة ميخائيل ويردي بقسمات واضحة،  فامتازت بميزات فريدة عن مثيلاتها فى هذا الغرض،  منها اختلاف الاستهلال،  فلمْ يلجأ الشّاعر إلى الغزل كما فعل غيره،  إنما دخل فى جوهر الغرض مباشرة،  قسّم الشّاعر قصيدته إلى مجموعة من المقاطع،  كل مقطع فيها أشبه بلوحة فنية بديعة مستقلة،  تتغنّى بجانب من جوانب الكمال والجمال المحمدي. وكلها مترابطة فى وحدة الموضوع والغرض الشريف.

وقد وجه الشاعر الخطاب في كل مقطع الى الممدوح وهو الرسول صلى الله عليه وسلم مادحا صفاته تارة،  او مذكرا بجليل افعاله ومواقفه تارة أخرى،  او مناديا له بمختلف ألقابه واسمائه،  كقوله مثلا “يا أيها المصطفى،  ويانبي الهدي،  وياهادي الفكر،  ويا ازهد الناس،  وياأجمل الخلق،  وياعبقري الوري الأمي،  ويا فخر أمتنا،  ويا سيد المصلحين العرب والعجم،  ويا نفحة من جنان الخلد” وغير ذلك كثير.

وامتازت هذه القصيدة برقّة وعذوبة لا مثيل لها،  فلمْ يلجأ الشّاعر إلى غريب الألفاظ،  بلْ جاءت تراكيبه عصرية سهلة،  لا تُحوِج القارئ أوْ المستمع إلى السؤال عنها،  كما جاء المبنى متسقا مع المعنى،  مما أضفى على القصيدة موسيقى عذبة جميلة،  خاصة أنه كان من علماء الموسيقى وعشّاقها،  وقد ظهر أثر ذلك في مخاطبته للرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله:

كأنما الناسُ آلاتٌ مبعثرةٌ                        أخرجتَ منها جميلَ اللحنِ والنُّظُمِ

ولولا بيت واحد يتيم في القصيدة،  ألمح فيه الشّاعر إلى عقيدته،  لما عرفنا أنها من إبداع شاعر نصراني. وهو البيت الذي يقول فيه:

يا أيها المسلمون الفخرُ فخركمُ                   ونحنُ إخوانكم في النُّطْقِ والعَلَمِ

ولمّا كان الإبداع عاكسا لطبيعة صاحبه ونفسيته،  فإن هذه القصيدة تكشف عن موهبة شاعرية خلاّقة،  ومهارة فنية بارعة،  وروح متشبعة بالايمان،  وعقلية منفتحة واعية،  لا ندرى ما الباعث أوْ ما الموقف الذى ساق إلى كتابة هذه القصيدة التى يبدو أنها استغرقت معه زمناً طويلا حتى خرجت على هذا النحو الفائق البديع؟!


الهوامش

[1] حمداوي،  شعر المديح النبوي في الأدب العربي،  مجلة ديوان العرب،  2007

[2]  المدائح النبوية في الأدب العربي،  ص: 17

[3] نجمة حجار،  شخصية النبي في الشعر العربي بين القديم والجديد،  مجلة نزوي،  ع 53،  2009.

[4] المعارضة في الشعر فن قائم بذاته انتشر في فترات مختلفة في العصور الادبية،  وكان مجالا للتنافس بين الشعراء لإظهار قدراتهم الإبداعية في محاكاة بعض القصائد المشهورة التي انتشرت بين الناس بسبب جودتها وتميزها. والمعارضة الشعرية هي محاكاة قصيدة لأخرى موضوعا ووزنا وقافية.

المصادر والمراجع

  1. بيومي رجب،  شعراء نصارى يمدحون محمد صلى الله عليه وسلم،  مجلة الدعوة،  عدد 14001،  1405هـ.
  2. حمداوي جميل،  مميزات الشعر الإسلامي المعاصر وخصائصه الموضوعية والفنية،
  3. حمداوي،  شعر المديح النبوي في الأدب العربي،  مجلة ديوان العرب،  2007
  4. الدامغ أحمد عبد الله،  الأدب المثمن،  مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة،  قسم الدراسات والبحوث والنشر،  الرياض،  2003م.
  5. زكي مبارك،  المدائح النبوية في الأدب العربي،  الهيئة العامة لقصور الثقافة،  مصر،  2003
  6. علي أبو المكارم عبد القادر،  موسوعة المدائح النبوية،  دار المحجة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع،  بيروت،  لبنان،  2004.
  7. علي سليمي،  محمد نبي أحمدي،  المدائح النبوية في الشعر العربي،  مجلة العلوم الإنسانية الدولية،  العدد 18.
  8. القوصي محمد عبد الشافي،  محمد صلى الله عليه وسلم في شعر النصارى العرب،  منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة،  ايسيسكو،  المملكة المغربية،  2011م.
  9. ماجد الحكواتي،  شعراء النصارى العرب والإسلام،  مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري،  القاهرة،
  10. محمد بن سعيد بن حسيني،  المعارضات في الشعر العربي،  منشورات النادي الأدبي،  الرياض،  1400 هـ.
  11. نوفل محمد محمود قاسم،  تاريخ المعارضات في الشعر العربي،  دار الفرقان،  نابلس 1989

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *