السيـرة الذاتيـة: المصطـلـح، الــدلالــة والتجنيس

الدكتورة زكية حسني

ملخص البحث

تفرض إشكالية تعريف السيرة الذاتية، نفسها على كل مهتم بهذا الموضوع، لأن وضع حد لهذا الفن يساهم في تحديد النوع، وتصنيف النصوص، ويسهل عملية الاختيار، أي اختيار المتن المدروس، كذلك، فمعرفة أهم الدوافع الكامنة وراء كتابة السيرة الذاتية، لها علاقة مباشرة بما تطرح المقدمات والخواتم، كما تعمل على إضاءة بعض الجوانب الخفية في النصوص. أما طرح مسألة الصدق والحقيقة فسيكون بهدف مقاربة قضية أساسية مرتبطة بكل محكي ذاتي، تلعب فيه الذاكرة دورا مهما من خلال عمليات الاسترجاع، وما يفرضه عامل النسيان من إكراهات، يلجأ معها المؤلف إلى نهج نوع من اللعب السردي، حيث يتناوب مع بعض الشخصيات في سرد بعض الأحداث المرتبطة بماضيه كما قد يلجأ إلى توظيف لعبة الضمائر.

سننتقل بعد ذلك إلى عرض قضية لاحظنا أن لها أهمية في موضوعنا وهي علاقة السيرة الذاتية بالأجناس القريبة منها ، والمتمثل في تتبع أصول وتطور السيرة الذاتية في الأدب العربي عامة ، مبرزين أهم الأنواع التي أخذت منها السيرة الذاتية أثناء تكونها. ولعل تركيزنا على علاقتها بالرواية، لما يطرحه البحث في هذا الموضوع من خصوصية مرتبطة بالنوعين معا، حيث التداخل بينهما يبدو جليا وواضحا، كما أن أعظم المكونات التي ينصب عليها البحث والتمحيص في السيرة الذاتية، هي نفسها نجدها في الرواية والتي تجذب المهتم بالموضوع.

الكلمات المفتاحية: السيرة الذاتية – اللعب السردي – لعبة الضمائر – الرواية

مقدمة:

قبل التنقيب في دهاليز السيرة الذاتية في الأدب العربي، ينبغي علينا ان نتعرف أولا على أهم القضايا النظرية التي يطرحها البحث في الموضوع، والتوقف عند هذه القضايا لن يكون اعتباطيا بقدر ما يروم إلى عرض ما له علاقة بالموضوع الرئيسي والمتمثل في فحص وتتبع موضوعات ومكونات السيرة الذاتية من خلال نماذج من الأدب المغربي.

سنحاول من خلال هذا المقال إذن، كشف الغطاء عن أهم القضايا النظرية للسيرة الذاتية التي يطرحها البحث في الموضوع، مستخلصين أبرز الأسئلة التي تطرحها، واضعين بذلك فرشا نظريا لهذا الفن الادبي.

1-  تعريـــف السيــــرة الذاتيـــة

قبل أن نتحدث عن مفهوم السيرة الذاتية، تجب الإشارة أولا إلى أن الباحث في هذا الموضوع تعترضه كثير من الصعوبات، والتي تجد تفسيرا لها في عدة أسباب نذكر منها:

أ- قلة الدراسات: ذلك أن الدراسات التي أفردت لهذا الجنس الأدبي كانت قليلة بالمقارنة مع أجناس أدبية قريبة منها، بالرغم من حداثة ظهورها. وبالإضافة إلى قلتها، يجب أن يكون التعامل معها بشيء من الحذر، نظرا لأن الدراسات الأولى التي نظرت في السيرة الذاتية، لا يمكن الأخذ بها كلها، باعتبار الخلط الأجناسي الذي تسقط فيه، ولأن بعض الباحثين فيها قد تحكمهم أبعاد فلسفية ونظرية كامنة وراء البحث في الموضوع.

ب: أغلب الدراسات التي اهتمت بالموضوع لم تعالجه بما فيه الكفاية، ولا نعثر على دراسات مستفيضة إلا في مراحل لاحقة، ومن ثم تأتي صعوبة البحث والتحليل فيه.

وتجب الإشارة إلى أن أولى الدراسات الفعلية للسيرة الذاتية كانت في سنة 1954 في إنجلترا، وهي لواين شوميكر Wayne Shumaker، الذي قدم لها تحديدا، معناه أنه يتعين علينا أن نتصور تاريخا للسيرة الذاتية جامعا إذا لم يتوفر لدينا تعريف أساسي يتيح للدارس أن يدرج فيها هذا النص أو ذاك… ([1]).

نجد دراسة أخرى للسيرة الذاتية عند جورج ميش georges Mish، فهذا الناقد صرف عمره في تأليف كتاب في السيرة الذاتية سماه «تاريخ السيرة الذاتية» خص العصور القديمة وحدها بمجلدين كبيرين، ووضع أربع مجلدات أخرى عن العصر الوسيط وعصر النهضة، وتوقف عندما عالجته المنية سنة 1955، عند بداية العصور الحديثة.

لقد كتب الجزء المهم من الأدب النقدي حول السيرة الذاتية في هذه السنوات العشرين الأخيرة انطلاقا من دراسة جورج غوسدورف georges Gusdorf، بالإضافة إلى دراسة فليب لوجون Philippe Lejeune حول السيرة الذاتية، والذي وقف عند تفاصيل وجزئيات هذا المفهوم من خلال مجموعة من الدراسات.

بعد لوجون نجد اليزابيت بروس Elizabeth Bruss، التي عزفت عن فكرة الميثاق السير ذاتي الذي اقترحه لوجون، وفضلت تعريفا أقل نمطية، مداره على فعل الكتابة نفسه لا على العلاقة المفترضة بين المؤلف والقارئ المحتمل([2]).

يتجلى إذن، أن أغلب الدراسات التي كتبت عن السيرة الذاتية هي دراسات حديثة العهد. أما عند العرب فسيأتي ذكر لذلك في فصول لاحقة.

ج- من الصعوبات التي لا يمكن إغفال أهميتها مشكل التعريف، فهذه المسألة أثارت جدالا كبيرا بين النقاد الذين اهتموا بموضوع السيرة الذاتية.

ويمكن إرجاع سبب الخلاف حول تقديم تعريف دقيق للسيرة الذاتية أساسا إلى حداثة المفهوم، فهذه التسمية، كما يؤكد ذلك مجموعة من المؤرخين لها، لم تظهر في صيغتها الفرنسية إلا قبيل 1800، وغالبا ما ينسب ظهور هذه الكلمة مطبوعة للمرة الأولى إلى الشاعر الإنجليزي روبرت سونثاي Robert Sonthey، إلا أن جورج غوسدورف قد لاحظ ظهورها منذ سنة 1798 في نـص لفريدريك شليجل Frederic Chlegel وذلك فـي صيغتها الألمانيـة  «Autobiographie»([3]). وفي سنة 1800 عرف هذا المصطلح في أغلب الدراسات واللغات الأوروبية. وهناك من يظن بأن ظهور الكلمة كان بحافز من ظهور » اعترافات« جون جاك روسو Jean Jacques Rousseau (1789-1789).

وقبل أن نقدم أهم التعاريف التي حاولت مقاربة هذا الجنس تجدر الإشارة إلى أن هناك من النقاد من يرجع أصوله إلى العصور القديمة؛ فهذا باختين Mikhail Bakhtine، في كتابه (Esthétique et Théorie du Roman) يقر بأن العصور القديمة بلورت مجموعة من الأشكال السير ذاتية، والسير المشهورة مارست تأثيرا هائلا ليس فقط على السيرة والسيرة الذاتية، وإنما أيضا على الرواية الأوروبية ككل([4]).

ويعتبر بأن الوعي السير ذاتي، والسيري للإنسان، ظهر لأول مرة في العصور الكلاسيكية في الساحة العمومية. ونعرف جيدا ما هو الدور الذي لعبته الساحة العمومية في اليونان الكلاسيكية فيما يخص ظهور بذور أجناس أدبية بعينها، غير أن الأساس السيري في تلك الساحة لم تكن له حميميته وخصوصيته، إلى الحد الذي لم يكن هناك فرق جذري بين الموقف من حياة الآخر والحياة الشخصية، أو بين السيرة والسيرة الذاتية ([5]).

ويرجع أغلب النقاد البذور الأولى لظهور جنس السيرة الذاتية إلى اعترافات القديس أوغسطين Saint Augustin، ويتم الاتفاق على أنها سيرة ذاتية حقيقية، وإن كانت قد سبقت ظهور الكلمة بأربعة عشر قرنا (أي في القرن الرابع)، واستمرت فترة طويلة جدا قبل أن تظهر في أجل صورها مع “روسو” في «الاعترافات».

 غير أن هناك من يؤكد على وجود هذا الجنس في الفترة الفاصلة بين القرن الثاني عشر أو القرن الرابع عشر مع الإمبراطور شارل الرابع، أو القرن السابع مع بنيان، وروسو نفسه يعتبر أن هناك من سبقه في هذا المجال، ويذكر منهم جيروم كاردان Jeorome Gardan ([6]).

وقد لقي مؤلف روسو نجاحا باهرا منقطع النظير في أوروبا حيث يكرس بحق لظهور السيرة الذاتية، وأوجبها كتسمية موحية لمجموعة من السرود للحياة الإنسانية.

ونشير في هذا المجال إلى وجود ظروف كانت وراء النجاح الكبير الذي عرفته اعترافات روسو، تتجلى أساسا في التقدم والتطور الذي حققته الذاتية والفردانية في الآداب الأوروبية في تلك الفترة. ومن هنا يتضح ارتباط جنس السيرة الذاتية بالشروط الاجتماعية والثقافية والتاريخية والسياسية، باعتبار أنه لا يمكن أن ننتج أدبا يجعل الذات محورا له، إذا لم تتوفر شروط محيطة تدفع إلى ذلك، أو على الأقل تكرس الوعي بذلك.

وقد أكد هذا الرأي كثير من الباحثين، نجد مثلا جورج غوسدورف الذي يرى بأن الجنس الأدبي محدد في الزمان والمكان، ومن ثم يفترض بأن السيرة الذاتية لا يمكن أن تتحقق في وسط ثقافي لا يتوفر فيه الوعي بالذات، لأنها تتطلب، كما يقول، بعض الاستعدادات الميتافيزيقية. نفس الرأي سيؤكده جورج ماي في كتابه «السيرة الذاتية»، عندما يلاحظ بأن السبق في النزوع إلى كتابة السيرة الذاتية أعلق بالظروف التاريخية منه بالخصائص الفردية، ولهذا نجد أن القرون الوسطى لم تنتج أدبا سيريا متكاملا، نظرا لأن الإنسان في تلك الفترة لم يكن بإمكانه النظر إلى نفسه بدون قلق، ويورد مثالا بالاختلاف بين عصر باسكال وروسو، السبب الذي جعل هذا الأخير يكتب سيرة ذاتية والأول لا يكتبها، وكيف أن عصر الأول يؤمن بحكمة باسكال Pascal القائلة:« الأنا بغيض والأنا ممقوتة»، وعصر يردد قول روسو « أريد أن أكشف لبني جنسي إنسانا كما هو على حقيقته، وهذا الإنسان هو أنا»([7]).

ونفس الشيء سيؤكده فيليب لوجون عندما يرى بأن هناك علاقة بين تطور الأدب السير ذاتي وصعود طبقة مهيمنة جديدة هي البرجوازية، مثلما هو عليه أمر الارتباط الوثيق بين الجنس الأدبي للمذكرات، وتطور النظام الإقطاعي([8]).

وإذا ما انتقلنا إلى تجميع شتات أهم التعاريف التي قدمت للسيرة الذاتية، وإن كان هناك من يقول باستحالة تقعيد تعريف دقيق للسيرة الذاتية، باعتبار الصعوبات المذكورة، وربما أيضا لحداثة المفهوم، يجد الدارس صعوبة في القبض على تعريف دقيق للسيرة الذاتية فهناك من حاول مقاربة هذا المفهوم؛ فهذا جان ستاروبنسكي Jean Starobinski يعرف السيرة الذاتية بقوله « السيرة الذاتية هي سيرة شخص يكتبها بنفسه»([9]).

أما فليب لوجون فقد عرف السيرة الذاتية بقوله: « حكي نثري استرجاعي يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وخصوصا على تاريخ شخصيته»([10]). غير أننا نشير إلى أن هذا الباحث تراجع عن كثير من مفاهيمه وقدم لنفسه نقدا ذاتيا في كتابه « أنا أيضا» (Moi Aussi) ([11])، وهو يعطي أهمية كبيرة لرأي القارئ في هذا العمل الأدبي وفي تصنيفه له أيضا، ولذلك يقترح ما يسمى بالميثاق السير ذاتي Le Pacte Autobiographique. أما جورج ماي في كتابه« السيرة الذاتية» فقد قدم تعريفا بسيطا للسيرة الذاتية مفاده أن « السيرة الذاتية هي سيرة كتبها من كان موضوعا لها»([12]). ونلاحظ أن هذا التعريف يقترب من التعريف الذي قدمه ستاروبنكسي. وقبل هذا وفي معجم لاروس لسنة 1866 نجد هذا المعنى المبثوث للسيرة الذاتية: “حياة فرد مكتوبة من طرفه([13]). أما في المعجم (العالمي) للأدب 1876 فيقول فابير بأن « السيرة الذاتية عمل أدبي، رواية، سواء كان قصيدة أو مقالة فلسفية … قصد المؤلف فيها بشكل ضمني أو صريح إلى رواية حياته وعرض أفكاره أو رسم إحساساته، وسيقرر القارئ بالطبع ما إذا كانت مقصدية المؤلف ضمنية أولا»([14]).

ويبقى أن كلمة السيرة الذاتية مشتقة من الدلالة الإغريقية لفعل كتابة الحياة والنص الذي ينتج عنها. وقد ظهر المصطلح في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر كمرادف للمذكرات.

ويظهر بأنه نظر لهذا الجنس منذ الخمسينات من طرف واين شوميكر، وباسكال وجان ستاروبيكسي، وجورج ماي، ولوجون، وبروس. وكذلك فعلت كتابات عربية -سنحددها في وقتها- مثل سعيد علوش وإدريس الناقوري وابراهيم الخطيب وعبد القادر الشاوي وعمر حلي. بالرغم من أن أغلب هؤلاء النقاد والباحثين يقرون بصعوبة تقديم تعريف دقيق للسيرة الذاتية؛ فلوجون نفسه يقر بأن محاولة تحديد تعريف دقيق للسيرة الذاتية؛ يطرح مجموعة من المشاكل؛ نظرية ومنهجية. ومع ذلك نجده يجازف ويقدم تعريفا لها، وإن قدم – كما ذكرنا- نقدا ذاتيا لذلك في كتابه «Moi Auss»، ودشن بالتالي دراسته للسيرة الذاتية في أواسط السبعينات اعتمادا على كتابات روسو وسارتر وليريس.

2- دوافــع كتابـة السـيرة الذاتيـة

وإذا ما أردنا تتبع أهم الدوافع الكامنة وراء كتابة السيرة الذاتية، فأول شيء يلفت الانتباه في أغلب السير الذاتية هو أن معظم أصحابها من ذائعي الصيت، بمعنى مشهورين ومعروفين من طرف الجمهور، ذلك أن أغلب كتاب السيرة الذاتية يعتبرون سيرهم الذاتية تتويجا لأعمالهم الماضية ولآثارهم التي سيتركونها. ففي نظر البعض لا يمكن لإنسان مغمور أن يبدأ حياته الأدبية بكتابة سيرته الذاتية، عند ذلك لن يهتم  بها أحد، لأن صاحبها غير معروف عند الجمهور وعند القراء، ولأن المؤلف « ربما لا يكون مؤلفا حقا إلا بدءا من الكتاب الثاني له، عندما يصبح اسم العلم، قاسما مشتركا، على الأقل لنصين مختلفين، فإذا كانت السيرة الذاتية  كتابا أولا ، فإن مؤلفها مجهول إذن، ولو كان يحكي نفسه بنفسه في الكتاب، إذ ينقصه في عين القارئ دليل على واقعيته الذي هو الإنتاج السابق، لنصوص أخرى (ليست سيرا ذاتية)»([15]).

ثم إن سيرهم تكون نتاج بلوغهم سن النضج، فأغلب السير الذاتية (المشهورة)، كتبها أصحابها بعد الخمسين، وهذا لا ينفي وجود بعض الاستثناءات من أمثال جورج مورGeorges Moure الشاعر والروائي الإنجليزي، الذي كتب سيرته الذاتية، أو لنقل الجزء الأول منها، وعمره ستة وثلاثون سنة([16]). نجد أكبر مثال لهذه الاستثناءات أيضا متمثلا في ميشال ليريس Michel Leiris  الذي أصدر سنة 1938 أول مؤلفاته السير ذاتية «سن الرجولة»، ولم يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره.

غير أن هذه النماذج تعتبر فقط استثناءات في باب كتابة السير الذاتية. وتبقى الخاصيتان المذكورتان سابقا هما الحالتان الأكثر وجودا وانتشارا بالنسبة لهذا الجنس الأدبي، بحيث نجد أغلب النقاد يرون بأن كتاب السيرة الذاتية يحاولون تقديم عصارة جهودهم وتجاربهم للناس لكي يستفيدوا منها، وتكون بذلك شاهدة على عصر نبغوا فيه، فلا يموت صنيعهم بموتهم وزوالهم.

وتعد سيرة هبرت سبينسر hebert Spencer نموذجا في ذلك، إذ يقول في بداية مؤلفه:«لقد بدا لي مفيدا أن أرافق الكتب التي قضيت في تأليفها الجزء الأكبر من حياتي بتاريخ طبيعي لنفسي”([17]).

وجون ستيوارت ميلJohn Stuart Mill، هو أيضا يذهب في هذا التصريح إذ نجده يستهل سيرته الذاتية بهذا التصريح:« لما كان القوم في هذا العصر قد أكثروا من البحث في التربية وتحسينها، بل إنهم قد تعمقوا فيها أكثر مما فعلوا في أي عصر آخر من عصور التاريخ في إنجلترا، رأيت أنه قد يكون من المجدي أن أقدم شهادة مكتوبة على تربية تجمع بين الروعة والطرافة »([18]).

ومن هنا يظهر جليا رغبة هؤلاء الكتاب للسيرة الذاتية في تزويد الآخرين بتجارب حياتهم، وهذا السبب يجرنا إلى آخر يرتبط أساسا بكاتب السيرة الذاتية نفسه، فهو حين يرى في حياته وتجاربه قيمة للتدوين والتأريخ والكتابة، فلأنه يحس بنوع من الغرور والكبرياء والنرجسية.

كما أن المرحلة التي ظهرت فيها السيرة الذاتية اتسمت في رأي أحد النقاد باختلاط المفاهيم الرومانسية والمفاهيم الوطنية، وقد أحس خلالها المثقفون والمتعلمون بأهميتهم، فراحوا يستكشفون ذواتهم، ويعكفون على آثارهم المتضخمة وعلى تحديد العلاقة بينهم وبين مجتمعهم المتحرك في اتجاه واحد([19]).

يوجد سبب آخر يكمن وراء كتابة السيرة الذاتية والمذكرات، وهو الرغبة في استعادة الحياة الماضية، والتلذذ بعيشها من خلال تذكرها. يقول كازانوفا Jacques Casanova، وهو كاتب لسيرته الذاتية، في هذا الشأن: «حين أذكر المناهج التي تمتعت بها، أجددها وأتمتع بها مرة أخرى»([20]). غير أن روسو يرى بأن لذة التذكر لا تكتمل إلا بمشاركة الآخر فيها، يقول: « إنني لأعلم أن ليس للقارئ حاجة كبيرة لمعرفة هذا كله، ولكنني أنا بحاجة إلى أن أحدثه بذلك»([21]).

وكل هذه التصريحات تبين أن المرء بكتابته لسيرته الذاتية يكون وكأنه يريد أن يوقف الزمن وينتصر على الموت. فهذا ” ليريس” يعترف بذلك. فيقول: «لا يحدوني إلى الكتابة غير الخوف من أن يصيبني الفناء» ([22]).

هناك دافع آخر حذا بالكثيرين إلى كتابة سيرتهم الذاتية وهو الخوف من تشويه الحقائق في حياتهم، أو تحريف صورتهم الأصلية، وبالخصوص أننا قلنا إن أعظم كتاب السيرة الذاتية يكونون مشهورين، لذلك يكونون محل متابعة ونقد من طرف جمهور عريض. فيقول روسو في بداية الطبعة الأولى من ” الاعترافات“: « قل في أهل زماني من كان اسمه مشهورا في أوروبا أكثر من اسمي، وشخصه مغمور أكثر من شخصي؛ ففي حين تجوب كتبي المدائن، يظل صاحبها يجوب الآجام؛ الكل يقرأني، الكل ينقدني، الكل يتحدث عني، ولكن لا أحد يعرف من أنا. لقد كنت بعيدا عما يقال عني، بعدي عن قائليه، لم أكن أعلن شيئا مما كان يقال عني، لقد كان روسو اثنين، أحدهما يعيش مع الناس، والآخر في عزلة عنهم، وشتان ما بين الشخصيتين» ([23]). ويضيف: «ولما كان اسمي سيكون في قائمة الخالدين، فلست أريد أن يشتهر بين الناس بأمر كاذب» ([24]).

تظهر إذن هذه الرغبة عند الإنسان في تبرير ما أتاه من أفعال وكأنه يريد أن يبعد كل ما يمكن أن يشوب شخصيته أو حياته الماضية من حقائق يحس بحاجة ملحة إلى تبرير تصرفاته، خصوصا إذا ما تعرضت لانتقاد كاذب. يورد جورج ماي قولـة ليوتمان تؤكد ذلك، حيث يقول: «.. ينبغي أن أكشف للناس حقيقتي، ليعرفوا ما أنا منه  براء، ولأقضي قضاء مبرما على هذا الشبح الذي جرى على ألسنتهم، وحل لديهم محلي»([25]).

وهنا ظهرت حاجة هذا الكاتب لإعادة الحقيقة إلى نصابها، مما قيل فيه وعنه من طرف ناقد آخر هو تشارلز كينغسلي Charles Kingsley، وهذه حاجة لا يملك الإنسان أن يقاومها ولا يلام أيضا عليها.

تكتب سير ذاتية أخرى بدافع الحاجة إلى العثور على معنى للحياة الماضية والمنقضية، يقول بيير لوتي في هذا الصدد: « لقد أردت أن أوقف الزمن، وأعيد بناء مجال وأحافظ على منازل درست، وأطيل عمر أشجار نضب نسغها، وأخلد حتى الأشياء البسيطة التي لم تجعل إلا لتكون زائلة، ولكنني وهبتها العمر الوهمي الذي للمومياء حتى أصبحت الآن تذهلني»([26]).

يتضح من خلال هذا القول أن هناك حافزا ومحاولة جادة تدفع كاتب السيرة الذاتية إلى كتابتها، وهي محاولة تحديد عمره، ونزوعه إلى الخلود. إنها محاولة البحث عن الذات من خلال تاريخها. وهذا ما يؤكده ليريس حين يعترف بأن ما يحذوه إلى كتابة سيرته الذاتية هو خوفه من أن يصيبه الفناء.

3- مسألـة الصدق والحقيقــة في السـيرة الذاتيـة

كل هذه الأسباب التي ذكرناها، والتي تشكل دوافع لكتابة السير الذاتية، تكون أيضا وراء إشكالية تعترض الباحث والدارس لهذا الجنس الأدبي، وتفرض نفسها عليه بإلحاح، وهي من أهم القضايا النقدية التي تطرح في مسألة السيرة الذاتية، إنها مسألة: مدى توفر السيرة الذاتية على الصدق.

 فالسيرة الذاتية كشكل تعبيري ونظام لغوي، تسعى إلى إعادة بناء حياة منقضية بواسطة الكتابة، وبهذا تصبح السيرة الذاتية هي الخلق، الخلق لحياة مضت وانقضت، وعملية الخلق تصبح خالقة للأنا، كما ذهب إلى ذلك جورج غوسدورف.

وعندما يكتب الكاتب اسمه على غلاف الكتاب، فهو يطالبنا بأن ننسب إليه مسؤولية تلفظ النص بكامله، بمعنى أن أغلب الكتاب أثناء كتابتهم لسيرهم الذاتية، يقرون بأن ما يكتبونه هو حقيقة وواقع، والكتابة السير ذاتية تسعى إلى بناء هوية نصية موازية لحياة ذاتية ذهبت وانقضت، ولا تنتج

 من خلال لغة الكتابة، إلا ما يضفي عليها حياة، وينفخ فيها روحا.

إن المؤلف حين يستعمل ضمير المتكلم “أنا” الذي يجعل منه ساردا وشخصيته في نفس الوقت، يوهم القارئ من خلاله بأنه القائم بهذا العمل الخلاق دون سواه.

ثم إن هناك بعض العلاقات التي تبدو جوهرية ومشتركة بين السير الذاتية، وهي ذلك الحضور المتصل لضمير الأنا -وهذا لا ينفي وجود سير ذاتية كثيرة كتبت بضمير الغائب- المتمثل في الميثاق التلفظي والذي يبدو بوضوح في إعلان الكاتب عن مقصديته من الكتابة سواء بالإحالة على تجربة معاشة في زمن محدد، أو بإحالات قد ترد في النص مضمنة أو مصرحا بها تحيل على تجربة في الحياة الواقعية للكاتب. وقد ضاع في هذا النقاش عدد من النقاد، وهم يعالجون السيرة الذاتية، ووقع خلاف بين النقاد حول هذه المسألة، وغالبيتهم تذهب إلى استحالة الالتزام بالصدق في السيرة الذاتية، وتستند على مجموعة من المحاولات في هذا المجال. فإن كانت السيرة الذاتية نابعة من تجربة الكتابة فهي تصبح عملية خلق، والخلق يعني الإبداع، والإبداع يرتبط بالتخييل، ثم إن الذات التي تتحدث أثناء كتابة السيرة الذاتية ليست هي تلك التي عاشت في الماضي، ولكنها ذات المؤلف الراهنة.

إن الدراسات التي قام بها فرويد وجاك لاكان، قلبت مجموعة من المفاهيم كانت سائدة حول السيرة الذاتية، بحيث كان هناك من يقدس ما جاء به كاتب السيرة الذاتية، ويؤمن بأمانته في نقل وقائع حياته، بالإضافة إلى أن نظرتهم للسيرة الذاتية كانت بقدر توفرها على الصدق، وإنجاحها رهين بمدى إخلاص وأمانة الكاتب في سرد حياته الماضية، فجاءت نظرية فرويد لتفند كل هذا، ولتؤكد أن كل ما يظهر على ساحة الشعور عند الكاتب ليس بالضرورة تعبيرا صادقا عن حقيقة الذات، سواء في ماضيها أو حاضرها، لأن ما يطفو على ساحة الشعور يخضع لعملية رقابة صارمة، وهكذا فإن المخزون الفعلي للحقيقة الذاتية يبقى متواريا في الشعور([27]).

وإذا أخذنا بهذا المفهوم سيصبح معنى السيرة الذاتية ليس نقلا أمينا لوقائع حياة ماضية، ولكنه إعادة بناء مسار تلك الحياة من جديد، وذلك بتصحيح أهم هفواتها، والمثول أمام الجمهور بمظهر البطل الكامل، أو العكس ستصبح محاولة لاستشفاء حقيقي من الحالة المرضية للكاتب، وذلك

 عندما تحاول السيرة الذاتية الإنزياح بالقيم المأمولة أو المفتقدة في الواقع([28]).

وحسب هذا الرأي فإن ما يمثل الذات تمثيلا دقيقا هو ما يتمركز في اللاشعور، وبذلك فكل ما يطفح إلى الشعور، عن طريق الكتابة والتعبير، هو انعكاس للاشعور المؤلف. ولهذا ليست السيرة الذاتية إعادة أمينة لكل تفاصيل حياة الكاتب، بل هي تجديد لمراحل هذه الحياة. وعندما نقول تجديدا نعني تحويلا وتغييرا([29]). وهكذا فالسيرة الذاتية على هذا النحو بعيدة كل البعد عن الصدق وعن تمثل الحقيقة.

وفي نفس الإطار يمكن أن ندرج أراء نقاد آخرين فجورج غوسدورف. يرى بأن السيرة الذاتية لا تستطيع إعادة بناء الماضي أبدا كما جرى، ولا يستطيع كاتبها إعادة خلق الماضي موضوعيا، ولذلك فإن قراءة التجربة، يمثل حجر الزاوية في الكتابة السير ذاتية. فالأنا الذي عاش في الماضي يضعف بأنانية نابعة من تجربة الكتابة.

انطلاقا من هذا الرأي يظهر أن مسألة الصدق المطلق تبقى بعيدة كل البعد عن السيرة الذاتية، بل هناك من يشكك حتى في أن يكون هناك تطابق بين ضمير المتكلم في السيرة الذاتية “أنا” مع شخص ما له وجود فعلي في الواقع (أي الكاتب). وقد تكون هذه “الأنا” بدون إحالة واقعية.

في نفس الإتجاه، نجد أندريه جيدAndré Gide، يؤكد على أن السيرة الذاتية أو المذكرات، لا يمكن أن تكون إلا نصف صادقة، ويرجع ذلك إلى أن الحقيقة أعقد من أن نذكرها ونقولها.

وبهذا تغدو قضية الحقيقة في السيرة الذاتية، قضية زائفة، لا يمكن اعتبارها شرطا لتحقق هذه الأخيرة. وقد أكدت هذا الرأي سيمون دي بوفوار Simone de Bouvoire التي كتبت هي الأخرى مذكراتها، تعترف بقولها:« هذه الحكاية الجميلة، حكاية حياتي الماضية، كلما دققت النظر في روايتها لنفسي، إزدادت زيفا»([30]).

ويظهر جليا أن هناك من كتاب السيرة الذاتية من يحاولون هم أنفسهم، وبشكل متعمد، تشويه الحقائق وتغييرها، وذلك نظرا للأسباب التي سبق ذكرها، وبهذا يصبح الذي يعترف بأنه لا يقول الصدق، هو الأقرب إلى الصدق من الذي يصر على قول الحقيقة.

وفي نفس السياق يذهب جان ستاروبنسكي، باعتباره من أكثر المهتمين بالسيرة الذاتية، وخصوصا في كتابه عن روسو حين يقول: « إن روسو إذ يحكي لنا قصة حياته إنما يريد أن يرسم صورة لروحه، ولكن ما سيستقطب اهتمامه ليس الحقيقة التاريخية، وإنما هو انفعال نفس تدع الماضي ينحبس فيها، ولئن كانت الصورة كاذبة، فإن الانفعال الراهن على الأقل  غير كاذب (…)، إن الأثر الأدبي لم يعد يهمه أن يدفع بالقارئ إلى التصديق بحقيقة قائمة “على مدة ” فاصلة بين الكاتب وجمهور قرائه، بل إن الكاتب يكشف عن نفسه بواسطة أثره، ويدعو القارئ إلى التصديق بحقيقة تجربته الذاتية»([31]).

يتضح من خلال ما استعرضناه من آراء أن أغلب النقاد يذهبون إلى انعدام الصدق والحقيقة في السيرة الذاتية، وحتى أولئك الذين لا ينفون عنها الصدق بالمرة، فإنهم يقرون بأن كل سيرة ذاتية هي متهمة من حيث هي أثر أدبي بتحريف الحقيقة المعاشة.

ونظرا لهذا التشكك الذي ينوط بمسألة الصدق في السيرة الذاتية، تحول البحث إلى مسألة أخرى تبدو أكثر أهمية وذات فائدة، بحيث انتقل الاشتغال إلى مجال آخر، فلم يعد من المهم في السيرة الذاتية صدقها ووفاؤها للماضي المعاش، لأن مسألة البحث في صدق الكاتب وأمانته في نقل وقائع حياته إذا ما كتب سيرته الذاتية لا تعكس فهما عميقا لطبيعة الكتابة عن الذات، فالذي يهم هو الصدق الفني الذي يتصف بكونه إيهامي، أي أن ما يحكيه الكاتب يبدو وكأنه قد وقع بالفعل، وهذا الصدق الأخير لا يتناقض مع عمل المخيلة، بخلاف مفهوم الصدق([32]).

فعبد المجيد بن جلون يقر بأن الطفل الذي يتحدث عنه في مؤلفه ” في الطفولة ” ليس صورة في عمله، فهو حين يكتب ماضيه، فإنه يعيد إنتاجه بطريقة لغوية في الحاضر[33].

4- علاقــــة السيـــرة الذاتيــة بالأنــواع القريبـة منهــا

لعل مسألة الصدق في السيرة الذاتية تجرنا إلى مسألة نقدية أخرى لها أهميتها الأكيدة، وهي علاقة السيرة الذاتية بالأنواع القريبة منها، وخصوصا علاقتها بالرواية، نظرا لما أثاره هذا الموضوع من نقاشات وقضايا.

وقبل الشروع في هذا الموضوع سنحاول إلقاء نظرة موجزة على باقي الأنواع القريبة من السيرة الذاتية. باعتبار أننا نفترض أن السيرة الذاتية حين استوت نوعا أدبيا مستقلا أخذت عن باقي الأجناس الأدبية التي سبقتها في الظهور، ذلك لأن الأنواع الأدبية في الواقع هي إعادة توزيع سمات شكلية كانت موجودة جزئيا من قبل في النظام السابق، وإن كانت تتمثل وظائف مختلفة فيما قبل. وإذا تم إدراك هذا التطور للأشكال، فإن بحث الجذور والاستمرارية يسمح بتوضيح عناصر اللعبة التي بنيت  منها الأنواع الجديدة([34]). يعني هذا أن الأنواع الأدبية تخضع في تكونها إلى لعبة التبادلات والتناسلات، لا يمكن أبدا أن نؤمن بظهور جنس أدبي فجأة وبدون أن يكون هناك تمهيد لذلك، وسيساهم النوع الجديد بالتالي في ظهور نوع أدبي آخر وهكذا …، وتاريخ الأدب خير شاهد على ذلك.

4.1- المذكـرات

كثيرا ما يقع الخلط بين مفهوم السيرة الذاتية والمذكرات، وبالخصوص في الفترة الأولى من ظهور مصطلح “السيرة الذاتية “.

نجد مثلا في معجم لاروس، (القرن التاسع عشر سنة 1866)، التحديد التالي للسيرة الذاتية:« إن ما ترك رجالات السياسة والأدب والفنون من قصص وذكريات تتصل بحياتهم الخاصة، كان يطلق عليه لفترة طويلة سواء في إنجلترا أو فرنسا، اسم المذكرات، ولكن بمرور الزمن دأب القوم في الدورة الأخرى (…) على استخدام كلمة السيرة الذاتية، وأطلقوها على المذكرات التي تتعلق بالرجال أنفسهم، أكثر مما تتعلق بالحوادث التي كان لهم ضلع فيها. نعم، إن السيرة الذاتية تمثل جانبا كبيرا من المذكرات، لكن لما كان الشأن في مثل هذه التواليف أن تحظى الحوادث المعاصرة، والتاريخ نفسه بأهمية أكبر بكثير مما تحظى به شخصية الكاتب، كان عنوان المذكرات أليق بها من عنوان السير الذاتية»([35]).

من خلال هذا التعريف نستخلص أن مؤلفات كثيرة كان يقع اللبس في تسميتها بحسب الموضوع الذي ينصب عليه الاهتمام، وبذلك أطلق اسم المذكرات لمدة طويلة على مؤلفات سير ذاتية، وحتى المؤلفين أنفسهم كان يغريهم استعمال هذا المصطلح، ففيرلان ساجيس           Verlaine Sagesse، في كتابه «مذكرات أرمل»Mémoires d’un veuf  يعترف قائلا: « نعم إن كتابي هذا ليس من قبيل المذكرات، إن نحن نظرنا إليه من زاوية سير ذاتية، لكن لي الحق كل الحق في أن استخدم كلمة مرنة، فضفاضة عادة للدلالة على مجموعة من الانطباعات والأفكار وغيرها»([36]).

والذي يجب أن نؤكده في هذا المجال، هو أن أغلب الكتاب الذين كتبوا عن ذواتهم قبل القرن التاسع عشر كان يغلب على مؤلفاتهم استعمال مصطلح المذكرات بدل السيرة الذاتية، إلى الحد الذي انتشر فيه استعمال هذه الأخيرة كعنوان للكتابة عن الذات، ولم يكن تداول هذه الكلمة عند المؤلفين فقط، بل والنقاد أيضا، وقد ذاعت الكلمة أيضا في عناوين كثيرة من روايات القرن التاسع عشر بفرنسا « كمذكرات مجنون» لفلوبير، و«مذكرات زوجين شابين» لبلزاك، و«مذكرات رجل نبيل ومغامراته» لبرفوست …

يظهر إذن كيف هيمن استعمال هذا المصطلح لمدة طويلة، وتجب الإشارة إلى أن الأساس الذي ارتكز عليه التعريف الوارد في معجم لاروس، وأيضا معجم الذخيرة هو الفرق بين الحديث الذي مداره ذات الكاتب والحديث الذي يدور حول الأحداث التي يرويها الكاتب، ولكن صاحب هذا التعريف نسي أنه في كلتا الحالتين يكون الحديث عن الذات مواريا لاستحضار الحديث عن الأحداث أيضا، باعتبار أن هناك علاقة جدلية بينهما، لكن يبقى الاختلاف فقط في مدى مشاركة كاتب المذكرات في الأحداث الخارجية، وإلى أي حد شارك في سرد تفاصيل حياته في أخص مظاهرها.

بهذا المعنى يصبح كاتب المذكرات أكثر التصاقا برواية ووصف الأحداث الخارجة عن ذاته، وكاتب السيرة الذاتية ألصق بالحديث عن الذات في كل متغيراتها ولعل أحسن نموذج ندرجه في هذا المجال سان سيمون في كتابه « Mémoires » وجون جاك روسو في “الاعترافات” Confessions، إذ يعتبر كل واحد منها نموذجا ورائدا في كلا المجالين: المذكرات والسيرة الذاتية وبالتالي يؤكدان التمييز الذي أوردته الموسوعة الكبرى.

ومع ذلك نعود لنؤكد بأنه لا يمكن أن يفصل الكاتب أبدا بين ذاته وبين ما يكتب، وبهذا يصبح دون أن يحس كاتبا للسيرة الذاتية، وأيضا بالنسبة للكاتب الذي يجعل ذاته موضوع كتابته، فهو أيضا يجد نفسه مجبرا للحديث عن المحيط والأحداث الخارجية، باعتبار علاقة التفاعل بين الذات والمحيط الخارجي. وبهذا يمكن الجزم بأن هناك علاقة وتداخلا بين الجنسين الأدبيين أكثر من الاختلاف، ونذهب مع القول الذي يقول:« فلما كانت السيرة الذاتية سلسلة من المذكرات، فإنها لم تحظ في الواقع إلا باستقلال ذاتي هش، لا يعدل ذلك الاستقلال الذي حظي به اسمها. إن تاريخ هذا الاسم هو بدون شك صورة لطبيعة السيرة الذاتية، ولكنه مع ذلك لا يضبط لها حدودا ولا يجعل لها قيودا »([37]).

وتبقى الإشارة إلى أن المذكرات هي التي كان لها السبق في الظهور وذلك بزمن طويل، قبل ظهور مصطلح السيرة الذاتية. وعموما فهذه الأخيرة ما تزال تحتوي في جزء منها على بقايا من جنس المذكرات الذي عنه تفرعت.

4.2 – كتـب الوقائـع والأخبـار

إن كتب الوقائع والأخبار، لفظ يمكن إطلاقه على خليط يضم أجناسا تاريخية قديمة، وعلى الصحافة الحديثة معا. وهذه الكتابة هي الأخرى تربطها بالسيرة الذاتية روابط متينة، بحيث نجد أن السيرة الذاتية ذات علاقة متميزة بطرائق هذه الكتابات، والتي تمت أيضا بصلة إلى جنس “المذكرات”.

ومنها مثلا الحديث عن النسب والسلالات، فأغلب كتاب السيرة الذاتية في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، بدؤوا مؤلفاتهم بالحديث عن نسبهم، فسارتر مثلا في” الكلمات“«les Mots » بدأ حديثه بخمسين سنة قبل ولادته. ولذلك كان التمهيد لسرد حياة الذات برواية أحداث سابقة، تقليد أخذته السيرة الذاتية عن أجناس أخرى قبلها.

تشتمل السيرة الذاتية أيضا على العديد من الحكايات الفلكلورية، وما يتصل بتاريخ اللهجات والمناطق من أخبار وحكايات، فهي بالإضافة إلى دورها الفكاهي والتنويعي داخل السيرة فهي تعمل على ترسيخ جذور الكاتب الثقافية والتاريخية، بالإضافة إلى توظيف عنصري الرسائل والحوار؛ فالحوار طريقة معتمدة أصلا في المسرح، واستعملته أغلب السير الذاتية كذلك. واعتمادها على الحوار يؤكد على أن السيرة الذاتية رغم ما تدعيه نظريا لا تطمح إلى إعادة الماضي، إعادة دقيقة بقدر ما تطمح إلى تقديم صورة لهذا الماضي موجبة، والحاصل أن السيرة الذاتية فن أكثر مما هي علم([38]).

أما الرسائل فوسيلة تستعملها السيرة الذاتية  لتستعيد لحظات الماضي، وهي تعتبر أيضا توثيقا لمجموعة من الأحداث قد توردها السيرة الذاتية.

لقد استعارت السيرة الذاتية من أدب الرحلة موضوعاته وأساليبه وطرائقه الأدبية كذلك، فوظفتها السيرة الذاتية بكثرة نظرا لشيوع أدب الرحلة بين الناس. لذلك وجدنا مقاطع من قصص الرحلات ترد ضمن نصوص سير ذاتية، خصوصا إذا كان صاحب السيرة الذاتية قد خاض مغامرات وغرائب الرحلة، فهذا يدفعه إلى حكي ووصف ما عاشه في رحلاته ومغامراته. لذلك سنعمل في فصل لاحق،  ونحن نتحدث عن جذور السيرة الذاتية في أدبنا العربي، على إبراز الدور الذي لعبته الرحلة في التأسيس لهذا الفن الأدبي.

4.3- اليـوميــات

تعتبر اليوميات من الكتابات التي وجدت منذ وقت طويل جدا، إلا أن الوعي بها لم يحصل إلا عندما ألف فيها كتاب كبار من أمثال أندريه جيد([39]) وهو نفس الأمر الذي لاحظناه فيما يتعلق بالسيرة الذاتية.

على أن للسيرة الذاتية السبق الزمني بالمقارنة مع اليوميات الخاصة، لكن يبقى على أن كلا النوعين يسيران في اتجاه واحد. وتأخذ السيرة الذاتية عن هذا النوع أيضا، بحيث نجد أن هناك تقاربا بينهما، باعتبار أن كلا منهما يسير في اتجاه زمني واحد، لأنهما يبدآن معا من مرحلة الكتابة أي من الحاضر إلى الماضي، أي من لحظة الكتابة إلى مرحلة التجربة.

تقول بياتريس ديديي (Béatrice Dédier ) في هذا الشأن:« إن المدة الفاصلة بين زمن القص وزمن الحدث هي التي تكون الفاصلة بين زمن القص وزمن الحدث، وهي التي تمكن الكاتب من أن يصور مغامراته على نحو متماسك، بعد أن يكون قد مر على حدوثها زمن، أما التدوين للأحداث يوما بعد يوم فلا يمكن أن تنظمه بنية ما»([40]).

ويبقى على أن تداخل الماضي والحاضر يؤديان أحيانا إلى أن اليوميات تصبح سيرا ذاتية، بحيث إن هناك الوصية التي تعتبر أن إعادة ترتيب الماضي هي ميزة للسيرة الذاتية، تتميز عن اليوميات في كون صاحبها يمكن أن يدخل عليها تعديلات وتغييرات، بل وقد يصل إلى حد انتقادها، عندما يريد، ويكون بصدد كتابة سيرته الذاتية. ثم إن الفترة الفاصلة بين زمن التجربة وزمن تدوينها، تكون في السيرة الذاتية أكثر منها في اليوميات الخاصة، وبهذا كثيرا ما يقع الخلط والتغيير في الذكرى مع مرور الزمن، وبذلك تصبح اليوميات أكثر دقة وصحة، أما السيرة الذاتية في المقابل، فالبعد الزمني يجعلها قارئة ومراجعة لليوميات أكثر منها، مدققة لها، وعند هذا تلعب دورا هاما وهو تنظيم هذه الأحداث وترتيبها.

4.4- السيــرة

إن القارئ أو الناظر للفظتي السيرة والسيرة الذاتية يحس بأن هناك ما يجمع بين الجنسين، لاشتراكهما في لفظ واحد تقريبا. ويعتبر البعض أن هذا الجنس الأدبي لم يوجد إلا منذ مائتين وخمسين سنة: أي قبل كلمة السيرة  الذاتية بقرن واحد فقط، بالرغم من أننا نجد أن السيرة ظهرت قبل ذلك بفترة طويلة جدا، وشاع استعمالها بين جمهور كبير من القراء والكتاب أيضا، وقد اشتقت الكلمة Biographie من الكلمة اليونانية Biographia.

وفي أدبنا العربي نجد أن الناقد محمد عبد الغني حسن في كتابه “التراجم والسير“، يؤكد أن لا فرق بين الترجمة والسيرة سوى في طول نفس كاتبها، ففي حين لا يطول نفس الكاتب فيها، فهي ترجمة، وإن طال نفسه واتسعت ترجمته، فهي سيرة([41]).

وقد كان أول استعمال للفظة السيرة في سيرة الرسول (t)، وفي القرن الثالث الهجري كتب أحمد بن يوسف بن الداية “سيرة أحمد بن طولون” وبعده ظهرت سير أخرى اشتهرت في الأدب العربي، وخصوصا سير الشعراء والأدباء والصحابة أيضا([42]).

وقد كانت هذه السير وكتابها يقرون بقدرة اللغة على خلق الحياة من جديد، وتخليد صاحبها، بذلك أضحى أصحاب المال والمشاهير يطلبون كتابة سيرهم لكي يخلدوا اسمهم عبر التاريخ.

وفي الأدب الغربي، نجد أن أندريه موروا André Maurois ، هو من أشهر كتاب السيرة في فرنسا وهو يؤكد أنه حين أخذ يكتب في هذا اللون لم يكن لهذا الجنس في الأدب الفرنسي شأن يذكر([43]). ويمكن القول إن السير انتشرت في أوروبا في فترة زمنية ليست قليلة.

وإذا ما نظرنا إلى العلاقة التي تربط السيرة والسيرة الذاتية فإن الترتيب الزمني وتسلسله ليس جامعا بينهما، باعتبار أن السيرة الذاتية لا تتقيد دائما بهذا التسلسل، غير أنهما معا يجمع بينهما هدف أساسي وهو محاولة كل منهما جعل حياة إنسان ما موضوع كتابته، وإن اختلفت طريقة كل

 منهما في التعبير عن ذلك، وتحقيق استعادة الماضي الذي مضى.

 تنفرد السيرة عن السيرة الذاتية بكونها لا تنتهي بموت الشخصية، باعتبار أن صاحب السيرة الذاتية هو كاتبها، وبالتالي لا يمكنه أن يصف لحظات موته أو شيخوخته بعكس كاتب السيرة الذي يصف كل اللحظات المأساوية التي تمر بها الشخصية موضوع الكتابة. والسيرة الذاتية بهذا المعنى هي محاولة لكشف معاني الذات وكشف النقاب عن تماسكها الخفي، وما تنطوي عليه من دلالة ووحدة([44]).

وهكذا نرى أن الموت يكون هو العنصر الحاسم بين السيرة والسيرة الذاتية. ثم إن هناك اختلافا  بين أن يكتب الإنسان سيرته الذاتية وبين أن يكتب سيرة غيره، فحساسية الذات تبقى دائما حاضرة حينما نكتب عن ذواتنا، والكاتب في السيرة يأخذ دور المؤرخ، بل ويستعمل أدواته أيضا، وهو يركز على أحداث الحياة التي يروي قصتها أكثر مما يصرف اهتمامه إلى الذات التي عاشها.

4.5 الـروايـة

تطرح العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية مجموعة من المشاكل. فالسيرة الذاتية، بعد أن استوت شكلا أدبيا مستقلا، وهو ما تحقق لها منذ زمن، ما فتئت، عند تلمسها بشكل خاص لسبل جديدة، تنظر بعين التلميذ والمنافس معا إلى جنس الرواية السائد الذي كان قد أثبت تفوقه على سائر الأجناس([45]).

فأغلب النقاد والباحثين يؤكدون التطور الذي حققته الرواية على السيرة الذاتية، باعتبار السبق الزمني أولا، ثم إن معظم السير الذاتية المنتمية إلى الفترة التي ازدهرت فيها السيرة الذاتية ثانيا، اتخذت من الرواية مثالا لها، وبذلك أخذت عنها الطرائق التي وظفت شكل الاستطراد، وكسرت التسلسل الزمني الذي يشكل ميزتها الأساسية.

وهناك أيضا طريقة القص بضمير المتكلم. فالذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن هذه التقنية مترسخة في السيرة الذاتية، ولكنها في الواقع، وجدت أول ما وجدت في المذكرات. وحين عرفتها الرواية، واستطاعت أن تستخدمها بدقة ومهارة، بعد أن هذبتها وأخضعتها بذكاء لذوق العصر، هيمنت عليها السيرة الذاتية بعد أن أصبحت جاهزة ومعروفة، واعتبرها الآخرون أسلوبها

 ووسيلتها الخاصة بها.

كما نجد أن مجموعة كبيرة من الروايات ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر، جعلت من أشخاص محور حكيها وقصها، وهو المحور الأساسي للسيرة الذاتية، وبذلك اشتركت معها في المضمون العام لها، ولا يمكن التمييز بينهما إلا بالإحالة إلى المرجع أو الواقع، وهذا يبقى دائما موضع تساؤل واستفهام. وبهذا يبدو جليا التشابه الحاصل بين القص السير ذاتي والقص الروائي، وما أكثر السير الذاتية التي تقرأ كما لو كانت رواية والعكس وارد.

إن ما يميز السيرة الذاتية عن الرواية بالنسبة للقارئ هو أن الأولى تبدو لنا بمظهر الحقيقة، والثانية بمظهر الخيال، ثم إن الصلة التي يعقدها الكاتب بين عمله وبين القارئ، هي الصلة التي أطلق عليها فليب لوجون، اسم الميثاق السير ذاتيLe Pacte Autobiographique، وقد اعتبره عنصرا ضروريا لتعريف السيرة الذاتية، وله أهمية خاصة لا تقل عن الخصائص الدخيلة للنصوص السير ذاتية، وفي تعريفه له يؤكد أنه « نمط من أنماط القراءة، مثلما أنه ضرب من ضروب الكتابة»([46]).

هذا الميثاق الذي يعقده الكاتب مع القارئ على غلاف النص، ليميز من خلاله النص الذي كتبه، عن نصوص أخرى قد تنتمي إلى أجناس أخرى مغايرة.

وفيما يخص مسألة الصدق والحقيقة، هناك من يعتبر أن الرواية ألصق بالحقيقة من السيرة الذاتية، فهذا أندريه جيد يقول: « ومهما يكن حرص الكاتب على الحقيقة كبيرا، فإن صدق المذكرات يبقى دائما منقوصا، ذلك أن الأمور تكون دائما أكثر تعقيدا من الكلام، وربما كنا في الرواية أقرب إلى الحقيقة»([47]).

إن الكاتب عندما يكتب لا يمكن أن يتنصل أبدا من ذاته، وحاضره وأيضا عن ماضيه، وتعبير الكاتب عن شخصيته ليس مقصورا على كتابته سيرته الذاتية، وإنما قد يكشف الروائي عن حقيقة نفسه بدون وعي منه، ويكون بذلك أصدق من أن يعبر عن شخصيته وذاته عن سابق إصدار وبتصريح منه.

لكن هناك من قدم بديلا عن الرأي السابق، البير كامو مثلا Albert Camus، وأيضا

نورثروب فراي الذي يرى بأن « السيرة الذاتية شكل آخر ينضم إلى الرواية من خلال مجموعة من التحولات غير المحسوسة، فأغلب السير الذاتية تكون ملهمة باندفاع إبداعي واسع الخيال، نتيجة لذلك، يدفع الكاتب إلى عدم الاحتفاظ من أحداث وتجارب حياته إلا على تلك التي يمكنها أن تدخل ضمن بناء نموذج مبنين» ([48]).

يلجأ أغلب القراء، وبعض النقاد كذلك إلى محاولة فهم وتأويل روايات كثيرة، بالاستناد إلى السير الذاتية لكتابها، بل ويحاولون إسقاط شذرات من السيرة الذاتية لهم على روايتهم، وهذه العملية تخرج الرواية من إطارها الحقيقي (الخيال)، فتزعج الروائيين أنفسهم، فيصرحون وهم يدافعون عن رواياتهم ويلحون على أن أعمالهم الروائية ليست سيرا ذاتية، بل بعيدة كل البعد عن ذلك وبالتالي عن الواقع والحقيقة. إن هذا الاندفاع إلى اعتبار شخصيات تخييلية تؤشر على أشخاص حقيقيين عملية إسقاطية، وتشويش على العمل بكامله.

وقد حاول فليب لوجون الحسم في هذا المشكل عندما اقترح مفهوم « الميثاق السير الذاتي»، يقول: « فعند ما يكتب الكاتب اسم العلم على غلاف الكتاب، فهو يطالبنا أن ننسب إليه مسؤولية تلفظ النص بكامله»([49]). لذلك يعتبر أن مشاكل السيرة الذاتية بالنسبة له ترتبط باسم العلم وبعلاقتها به، ويبقى أن الكاتب هو ذلك الشخص الذي يكتب وينشر، وربما أنه موجود خارج النص، وفي النص، فإنه يعتبر صلة بين الاثنين، ويتحدد باعتباره مسؤولا اجتماعيا ومنتجا للخطاب([50]).

وهنا تطرح إشكالية الاسم المستعار، حيث يكتب مؤلف ما باسم مستعار، وباسم غير اسمه، مدفوعا بأسباب وبواعث للكتمان، وهنا ينتفي الميثاق المنعقد بين الكاتب والقارئ وبالتالي ستدخل هذه المؤلفات في فلك الرواية بدل السيرة الذاتية. ولكن لوجون يؤكد على أن الأسماء المستعارة حقيقية كالأولى، وتشير فقط إلى الولادة الثانية التي هي الكتابة المنشودة، وبكتابة السيرة الذاتية فإن المؤلف يستخدم الاسم المستعار، ويمنح هو نفسه أصل الاسم([51]). يبقى أن الاسم المستعار وبهذا المعنى لا يمنع من أن يكون النص سيرة ذاتية بالمقارنة مع نصوص أخرى له، وبالاستناد إلى الواقع.

والاسم  المستعار يختلف عن الاسم التخيلي الممنوح للشخصية التي تحكي حياتها داخل النص، بحيث ستخرج هذه النصوص، باعتبار الميثاق الأتوبيوغرافي، عن السيرة الذاتية نظرا لاختفاء عنصر التطابق على مستوى التلفظ والملفوظ أيضا، ولذلك فهو يدرج هذه النصوص التي تكون من هذا النوع فيما يسمى بروايات السيرة الذاتية «Le Roman Autobiographique »([52]). وسيطلق هذه التسمية على كل النصوص التي يطابق فيها القارئ بين الشخصية التخيلية والكاتب.

أما بالنسبة للميثاق الروائي فيتمثل في التصريح بالتخييل من طرف الكاتب أي كتابة رواية على غلاف النص، وأيضا يتجلى في عدم التطابق الحاصل بين المؤلف والشخصية من ناحية الاسم. وإذا ما وقع خلل في التطابق، وإن كان النص سير ذاتيا فإنه يقترب من التخييل، ولو استعملت أساليب تدل على واقعيته، لأن كل الأساليب التي تستعملها السيرة الذاتية من أجل إقناعنا بواقعية محكيها، يمكن أن توظفها الرواية، وقد قلدتها فعلا في كثير من الكتابات مثل روايات القرن الثامن عشر في أوروبا.

وبالنسبة للقارئ فهو دائما يبحث عن التشابه في النص التخييلي حتى وإن لم يكن التطابق بين واقع الكاتب وبين ما يكتبه، وما يكتشفه عبر النص، بالرغم من أن الكاتب يعتقد أنه الأكثر صحة وعمقا وبذلك نشأت أسطورة الرواية الأكثر صحة من السيرة الذاتية([53]).

وإذا ما عدنا إلى مسألة الأسماء ومطابقتها (وسنرجع إلى تفصيل الحديث في هذا الموضوع في فصل لاحق)، فيمكن أن تحمل الشخصية في سيرة ذاتية اسما مختلفا عن اسم المؤلف، وعند ذلك ستبقى عند القارئ شكوك بأن ما يقرأه رواية وخيالا فقط. وبعكس ذلك يمكن لشخصية رئيسية داخل رواية، مثبت اسم رواية على غلاف النص أن تأخذ نفس اسم المؤلف، وقد يكون ذلك مجرد مصادفة لا غير، أو بقصد خلق الإيهام عند القارئ.

والسيرة الذاتية المكتوبة بضمير الغائب تطرح دائما إشكالا، وبالتالي تنتفي التمييزات المقترحة من طرف مجموعة من النقاد والتي تركز على ضمير المتكلم، باعتباره مميزا للسيرة الذاتية. فالكاتب عندما يكتب مستعملا ضمير الغائب، فكأنه يخلق مسافة بينه وبين ما يكتبه، وهنا يطرح السؤال، هل هذه النصوص نصوص سير ذاتية، أم أنها هنا تطرح نصوصا تتسم بالخيال

 والتخييل، باعتبار أنه ليس هناك حديث عن الذات بضمير لا يتناسب مع ذلك وهو ضمير المتكلم؟

وعموما، فإن الاهتمام بعلاقة السيرة الذاتية والرواية ألح كثيرا على النقاد في السنوات الأخيرة، وانكب الاهتمام على المكونات المشتركة بين الرواية والسيرة الذاتية أكثر مما يفرق بينهما. وقد جمع أغلب النقاد بين الجنسين وأكدوا على العلاقة الوثيقة بينهما وعلى تمازجهما في أعمال سردية معينة.

وبذلك رأوا أن السيرة الذاتية لا تختلف في الواقع اختلافا كبيرا عن الرواية ذاتها، باعتبار أنه ليس هناك ما يمنع من أن نراهما معا ينطلقان من التجربة الذاتية الفعلية ليبتعدا بذلك في تخوم التخييل”([54]). وبذلك فإن التعامل مـع السيرة الذاتية في هذه الحالة سوف يختلف على الإطلاق عن

 التعامل مع أي عمل قصصي مسهب يقدم صاحبه اعترافا مباشرا بأنه من إبداع المخيلة ([55]).

ربط جورج لوكاتش Georges Lukatch، هو الآخر بين الرواية وكتابة السيرة الذاتية بشكل عام. وبالنسبة له كل منهما عاجزة على أن تحقق إنجازها باستقلال عن الأخرى. فالرواية تتميز أساسا عن كل الأشكال الأدبية الأخرى بوضعية الكاتب اتجاه العالم الذي يتخيله إذ عليه أن يتجاوز وعي شخصياته وهذا التجاوز يعد مكونا جماليا في الإبداع الروائي.

وبهذا يتفق أغلب الباحثين على صعوبة التفريق بين الرواية والسيرة الذاتية، وإن حاول لوجون التمييز بين النوعين من خلال، الميثاقين: الأطوبيوغرافي والروائي، أو بالاعتماد عليهما.

)الدكتورة زكية حسني–  كلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة محمد الخامس الرباط(

المصادر والمراجع

أولا باللغة العربية

  1. ، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 23، 1983
  2.  لحمداني ، في التنظير والممارسة، دراسات في الرواية المغربية، منشورات عيون، 1986

ثانيا باللغة الفرنسية

1.     Bakhtine (Mikhail), Esthétique et Théorie du Roman, Edition Gallimard, 1978,
  • Grand Dictionnaire Universel du XIX siècle, T.I, 1866, I 979.
  •   Lejeune (Philippe), Le Pacte Autobiographique, collection poétique, Edition du seuil,  Paris, 1975.
  • Ph. Le Jeune, « Moi aussi », collection poétique, Edition du Seuil, Paris, 1986.
  • 1959 ,.

([1])  May (Georges), L’Autobiographie, Presses Universitaires de France, Paris, 1970, P. 10  نقلا عن

([2]) Bruss (Elizabeth), L’Autobiographie Considérée Comme acte Littéraire, Poétique, n° 17, Janvier 1974,     P. 14 – 26.

([3]) Gusdorf (Georges) «De l’Autobiographie Initiatique à l’Autobiographie genre Littéraire », Revue de l’histoire Littéraire de la France, 1975, n° 6, P.963.

([4])  Bakhtine (Mikhail), Esthétique et Théorie du Roman, Edition Gallimard, 1978, P. 287

([5])  Ibid, P 279-280.

([6])  G. May, l’Autobiographie, Op. cit., P.20.

([7])  Rousseau Jean-Jaques, Ouvres complètes, Edit. Bernard Gajnebin et Marcel Raymond, Paris, Gallimard.1959 ,T.I, P. 1149.

([8])   Lejeune (Philippe), Le Pacte Autobiographique, collection poétique, Edition du seuil,  Paris, 1975, P. 311.

([9]) Starobinski (Jean), Le Style de l’Autobiographie dans l’œil vivant, T.II, la relation critique, Paris, Gallimard ,1970, P. 84.

([10])   Ph. Lejeune, Le Pacte Autobiographique, Op. Cit., P. 14.

([11])  Ph. Le Jeune, « Moi aussi », collection poétique, Edition du Seuil, Paris, 1986.

([12])  G. May, l’Autobiographie, Op. Cit., P. 40.

([13])  Larousse (Pierre), Autobiographie, Grand Dictionnaire Universel du XIX siècle, T. 1, 1966, P. 979.

([14] ) نقلا عن عمر حلي في مقدمته لترجمة:السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994،      ص.10-11.

([15])    Ph. Lejeune, Le Pacte Autobiographique, Op. Cit., P. 23.

([16])   G. May, l’Autobiographie ,Op. Cit., P. 41-42.

([17]Ibid. P. 43.

([18]Ibid. P. 44

  ([19] ) أزرويل (فاطمة الزهراء)، الأسس النظرية في الرواية المغربية، نشر الفنك، الدار البيضاء، 1989، ص 100- 110.

([20])  G. May, l’Autobiographie, Op. Cit., P. 45 :نقلا عن

([21] )  Rousseau (jean jacques), ouvres complètes, Op. Cit., P. 115.

([22])  نقلا، عن جورج ماي، السيرة الذاتية، تعريب محمد القاضي، عبد الله صولة، تونس، المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات، بيت الحكمة، الطبعة الأولى، 1992، ص.62.                                                                                                                                       

([23]) Rousseau, Œuvres Complètes, Op. Cit, P.1525-1525.

([24]) Ibid  P.1153.

([25]) G. May, l’Autobiographie, Op. Cit, P. 49.

([26] ) Loti (Pierre), Prime Jeunesse, Paris, Gallimard, Leiry. 1979, P.1.

([27]) أنظر كتاب: التحليل النفسي والفن، لفرويد، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى،1979،         ص. 83-84.

[28]) )  نفسه، ص.84.

([29]  التحليل النفسي والبنيوية، لجاك ألان ميلر، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 23، 1983، ص.83. 

([30]) Beauvoir (Simone ),  Mémoire d’une Jeune Fille Rangée, Paris, Gallimard, 1972, P.442.

([31])Starobinski (Jean) : Jean Jacques Rousseau, la Transparence et L’Obstacle, Paris, Plon. 1987, p. 149.

([32]) ازرويل (فاطمة الزهراء(، مفاهيم نقد الرواية بالمغرب، مصادرها العربية والأجنبية، نشر الفنك، الدار البيضاء، ص. 103.

([33])   لحمداني حميد، في التنظير والممارسة، دراسات في الرواية المغربية، منشورات عيون، 1986، ص. 80-81.

([34]) PH. Lejeune, Le Pacte Autobiographique, Op. Cit., P. 316.

([35])  Grand Dictionnaire Universel du XIX siècle, T.I, 1866, I 979.

([36])  G. May, l’Autobiographie, Op. Cit., P .126  نقلا عن:

 ([37]  ) جورج ماي، السيرة الذاتية، م.م، ص.128.

[38] G. May, l’autobiographique, Op. Cit.,P. 133-134.

([39] ) Didier (Béatrice), le Journal Intime, Paris, Presses. universitaires de France, 1976, P.139-140.

([40]) Ibid, P. 160.

[41]  حسن (محمد عبد الغني)، التراجم والسير، دار المعارف، ط.3، 1980، ص. 28.

[42]  نفسه، ص.28.

)[43]( Mourois (André), Mémoires, Edition : Flammarion, Paris, 1970,  P. 440.

([44]) G. May, l’autobiographique, Op. Cit., P. 162-163.

([45] )  ج. ماي ، السيرة الذاتية، م.م. ص.183-184.

([46])   PH. Lejeune, Le Pacte Autobiographique, Op. Cit. , P. 45.

([47] )  Gide André, Si le Grain ne Meurt, ed. coll.« Folio », 1972,  P. 282.

([48])  PH. Lejeune, Le Pacte Autobiographique, Op. Cit.,  P. 328 نقلا عن:

([49] ) Ibid, P. 23.

([50])  Ibid, P.23.

([51]) Ibid, P. 24.

)[52](  Ibid, P.25.

)[53]  (Ibid, P. 26.

 ([54] )  لحمداني حميد، في التنظير والممارسة، دراسات في الرواية المغربية، م. م. ص. 66.

 ([55] )  نفسه، ص. 66.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *