السخرية في روايات يوسف السباعي: رواية (أرض النفاق) أنموذجا

د. محمد صباح الوتودي

ملخص:   

 حاولت من خلال هذا البحث العلمي الموسوم “السخرية في روايات يوسف السباعي: رواية (أرض النفاق) أنموذجا” أن أعبر عن الاتجاهات السخرية ليوسف السباعي من خلال رواياته واكتفيت برواية أرض النفاق أنموذجا. ابتدأت بتقديم عن الموضوع، مذكرور عن اتجاهين في الأعمال السخرية عنده، هما السخرية الناقدة والسخرية الفلسفية. ثم ذكرت عن مفهوم السخرية في اللغة والأدب وبعد ذلك انتقلت إلى رواية أرض النفاق وما فيها من السخرية الانتقادية والفلسفية. وهذه الرواية تتضمن سبعة عشر فصلا، وكل من هذه الفصول تتميز بالنقد الحاد بكلماته من الاستهزاء والسخرية عن الحقائق والحوادث المرة التي وقعت نتيجة عن فساد الأفراد وعامة الناس.

الكلمات المفتاحية: يوسف السباعي، رواية أرض النفاق، السخرية، السخرية الانتقادية، السخرية الفلسفية

Summary:

I tried, through this academic research entitled “Irony in the novels of Youssef Al-Sibai: The Novel (Ard al nifaaq) as an example” to express the ironic trends of Youssef Al-Sibai through his novels. I began by an introduction on the subject, mentioning two trends in his satire: critical irony and philosophical irony. Then I mentioned the concept of irony in language and literature, and then I moved to the novel, ard al nifaaq, and its critical and philosophical irony. This novel includes seventeen chapters, and each of these chapters is characterized by sharp criticism of his words of mockery and ridicule about the bitter facts and incidents that occurred as a result of the corruption of individuals and the public.

Keywords: Youssef Al-Sibai, ard al nifaaq, irony, critical irony, philosophical irony

تقديم:

الكاتب المصري يوسف السباعي من روّاد الساخر في الأعمال الأدبية والذي استخدم هذه السخرية في أعماله للتعبير عن القضايا الاجتماعية التي كانت تستولى على مجتمعه الذي عاش فيه وللتوضيح عن الأنواع البشرية المتعددة التي كان يتعامل معها في حياته اليومية. فاجتهد يوسف السباعي بأعماله الساخرة أن يعبر المعايب الاجتماعية والمشاكل السياسية الشائعة في ذلك العصر وأن يسدّ الثغرات الاجتماعية المتكونة من تلك المعايب، وكان يجمع بين مرارة حقائق الحياة الاجتماعية وبين عذوبتها الأخيلة. فمن الواضح إذا اطلعنا على أعماله أن هناك اتجاهين في الأعمال السخرية عنده، هما السخرية الناقدة والسخرية الفلسفية. فيتخذ موقفه السخرية الناقدة لما يكون في هدف تمثيل شعبه المصريّ وتقييم أخلاقهم في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ويتخذ موقف السخرية الفلسفية حين يكون أمام بعض القوى كالموت التي لا طاقة له بها. وأكتفي في هذه الدراسة بعمل مهم له في هذا النوع نموذجا وهو رواية أرض النفاق.

ويقول لنا يوسف السباعى نفسه عن طبيعته الساخرة المتأصلة فى نفسه: “إنى رجل يحب المزاح، وأننى أرى أن المرء لا يربح من حياته إلا ساعات الضحك، واذا علمت أيضا ان الإنسان بطبيعته مخلوق مهرج، وانه لا يغريه شئ كالهزل والتهريج، وأنك إذا أردت أن يستمع أحدٌ إليك فاضحكه أولاً ثم قل له ما تريد”[1].

فمن تحليل أعمال يوسف السباعي الأدبية والفكرية يتكشف لنا أنه كان يطبّق نظرياته هذه، فيجعلنا ضاحكين أولا ثمّ يقودنا إلى الفكرة العميقة فيما يريد أن يقول. فمن أعماله الساخرة المشهورة “من حياتي” (مقالات) و”صور طبق الأصل“(قصص قصيرة) و”يا أمة ضحكت” (قصص قصيرة) التى صدرت سنة 1948 و”أم رتيبة” (مسرحية) و”جمعية قتل الزوجات” (مسرحية) وروايته نائب عزرائيل التى صدرت عام 1947 و”أرض النفاق” (رواية)، هذه هي المؤلفات التي تتصوّر فيها الحياة الشعبية وما يتعلق بها، بأخيلة فياضة بسخرية كاشفة عن الخلل في المواصفات الاجتماعية.

مفهوم السخرية:

هناك الأصول والجذور للسخرية الأدبية سواء كان في اللغة العربية أو باللغات الأخرى خصوصاً الإيطالية والفرنسية والإنجليزية. يقول الكاتب نعمان أمين طه في كتابه على عنوان السخرية في الأدب العربي: “السخرية في الأدب هي توليفة من النقد والهجاء والتهكم والدعابة يستخدمها الأديب طريقا لتعبيره عن القضايا التي تدعو إلى الانتقاد في المجتمعات بلغة ساخرة ملؤها الضحك والمزاح. فهذا الفن من الأدب هو مرآة سحريّة تعكّس الحقائق المرّة في المجتمع بصورة عذبة تجذب قلوب القارئين، تُضحكهم أولا ثم تحثّهم على التفكّر والتدبّر والاعتبار ثانيا. ومن هذا المنطلق يدافع الأديب الساخر عن القيم الإنسانية إذ يدافع عن المعنويات في عصره ذائدا عنها عدم استقرارها حاثا المشاعر الانسانية ضد الفساد والإنحطاط الأخلاقي في المجتمع، مشيرا إلى مواضع الظلم ومحفزا على الفهم، كما أنه يوجّه أحاسيس الإنسان نحو الآلام واكتشاف مواضعها مكرّما تقوى الضمير”[2].

وفى العصر الحديث كان عبد الله النديم يعتبر أديبا ساخرا وله دور بارز فى الأعمال الساخرة ومنها ما صدر بعنوان “التنكيت والتبكيت”، فبعده صدر العديد من القصص القصيرة والروايات التى اختلطت فيها الكوميديا بالسخرية، ونجدها في أعمال طه حسين خاصة فى قصة “نادى الشياطين”[3] حيث نستشعر فيها نقده بلسان ساخر لمملكة إبليس. ثم نجدها في أعمال إبراهيم عبد القادر المازنى الذى اشتهر بسخريته[4]. ثم نجدها عند نجيب محفوظ نراه ساخراً فى مجموعته القصصية “همس الجنون“ بنظرته الفلسفية الساخرة الكوميديا[5].

السخرية في رواية أرض النفاق:

ننتقل إلى الرواية، وهي من أهم الروايات التي ألّفها السباعي، إذا ما حللناها تحليلا واقعيا، لرأينا أنها ليست واقعية فحسب، بل تنتمي أيضا إلى نوع من السخرية. “ويمكن تفسير ذلك، بأن الخيال قد أوحي للمؤلف، بأنه يمكن أن تكون هناك حبوب لمنع النفاق، وهذا بالطبع شيء مسبعد في الواقع، ويمكن تعاطي هذه الحبوب، لإصلاح فساد النفوس والمجتمع وهذا كله من نسج الخيال والميل إلى المثالية التي ينشدها في إصلاح المجتمع، وهذه المثالية هي طلب المستحيل في أرض هي أرض النفاق، ومن ثم بجمع ما بين الواقعية والرومانسية”[6].

“أرض النفاق” رواية ليوسف السباعي ألفها في أسلوب ساخر، مستوحيا من الأوضاع الاجتماعية المأساوية الشائعة في الحياة الاجتماعية المصرية خاصة وفي الحياة العربية عامة في منتصف القرن العشرين. لقد صدر هذا الكتاب في 1949م وهو في 32 من عمره. فيوضّح الأديب في هذه الرواية عن معظم أشكال الفساد الاجتماعي والسياسي في ذلك الزمن حيث كان الاحتلال الاسرائيلي على أرض فلسطين في بدايته والمجتمع العربي كان على حالة اضطراب داخلي. فهذه الرواية تتكلم عن النفاق كما يشير إليه عنوانها، فيصوّر لنا تصورات خياليّة من الأوضاع الواقعية مدارها الكذب والنفاق اللذان قد شاعا في المجتمع. يقول الأديب في هذه الرواية أنّ النفاق نعمة من نعم الخالق بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية للإنسان المعاصر لأنه النفاق قد صار محور هذا العالم في كل مجالاته، بحيث تتحرّك الأحوال الاجتماعية والموازنة الشعبية بنزع هذا الشعور من قلوب الناس. فهذه الرواية تتناول على نقد حادّ وسخرية مرّة نحو الأوضاع الشائعة في المجتمع، وهي لم تدع أي مجال اجتماعي في سخريتها فتحتوي على الأوضاع الدينية والثقافية والسياسية والبيوروقراطية فيبيّن ما فيه من سيطرة المنافقين وسوء أخلاقهم. فلم تنج فيها طبقة من طبقات المجتمع من طبقة الوزراء إلى طبقة الشحاذ على الشوارع إلا أصيبت بسهام لسخرية هذه الرواية ليوسف السباعي.

يكتب علاء الدين وحيد عن الرواية “عندما عمد د. لويس عوض منذ سنوات إلى اختيار خمسين كتاباً من فكرنا المعاصر، رآها جديرة باستيعاب التطور الثقافى والأدبى الذى حققته الشخصية المصرية منذ بدء النهضة والجديرة بالترجمة إلى اللغات العالمية.. لم يستطع إلا أن تشمل هذه الكتب واحداً ليوسف السباعى، رغم الخلاف الكبير أو العداء الشديد بين الأول والثانى.. هو روايته “أرض النفاق”. وقد كانت هذه الرواية أحد الأعمال النضالية الشجاعة المعدودة، التى شارك بها الأدباء المصريون ضد القوى الغاشمة التى تسيطر على الحياة المصرية فى كافة مجالاتها، قبل 23 يوليه سنة 1952.. والتى أشاعت من جهة أخرى فى هذه الحياة القيم الهابطة، التى بدأت تستشرى فى مفاهيم الناس ومعاملاتهم اليومية”[7].

فهذا النوع الساخر لهذه الرواية يبدأ منذ أول ما كتبه في الرواية فهو الإهداء، فيهدي الرواية قائلا :” الإهداء إلى خير من استحق الأهداء، إلى أحب الناس إلى نفسي وأقربهم إلى قلبي، إلى يوسف السباعي، ولو قلت غير هذا لكنت شيخ المنافقين من أرض النفاق”[8]. وهذا يدل على دقته في التعبير وهذا شاهد على مهارته في سرد الأعمال بالأسلوب الساخر حتى في كلمات الإهداء ينتقد فيها الناس. هنا يقول الكاتب أن المؤلفين تعودوا على إهداء كتبهم إلى أحب الناس وأولاهم فيهدي إليهم وإليه بنفسه لأن لا يكون في محض المنافقين في الإهداء، لأنه هو نفسه كان أحب وأولا إليه. في هذا الإهداء يريد الكاتب أن يقول إنه ليس من صفوف المنافقين في الحياة.

رواية أرض النفاق تتضمن سبعة عشر فصلا وكل من هذه الفصول تتميز بالنقد الحاد بكلماته من الاستهزاء والسخرية عن الحقائق والحوادث المرة التي هي نتيجة عن فساد الأفراد المجتمع العام. ويحكي لنا هذه القصة بصيغة المتكلم، وميزة هذه القصة هي أنها رؤية رآها في النوم وقت الظهر بعد غداءه. فيقول في خاتمة الرواية عن هذا : “ولقد كنت أنوي أن اختمها كما يختم كتاب القصة عادة قصصهم الخيالية، على أنها حلم، وعلى أني فتحت عيني فوجدت نفسي راقدا على الأريكة في الدار. ولكن يخيل إليّ أن ما بها من حقائق قد طغى على ما بها من خيال، حتى بت أن أربأ بها – وهي صيحة خالصة منطلقة من أعماق صدري – أن تكون مجرد حلم”[9].

يكتب يوسف السباعي في الفصل الأول من رواية “أرض النفاق” عن تاجر غريب في نوعه، فيذكر أنه هو تاجر الأخلاق. رآه الكاتب يوسف في حانوت في منطقة خالية التي ما تعود الناس بالمرو بها. ومن الأمر الغريب أنه كان هناك لوح الذي كتب فيه “تاجر أخلاق بالجملة والقطاعى.. المحل له فروع في جميع أنحاء العالم”[10].

ومن هنا يبدأ الكاتب أن يتكلم مع الشيخ التاجر في الحانوت فيعرف أن ما في الحانوت من السلع البضائع هي الأخلاق نفسها. في هذه الرواية يصوّر الكاتب عن الحوار الذي جرى بينه وبين الشيخ التاجر بأسلوبه الساخر. يذكر التاجر بأن تجارته بائرة حيث لا يأتي إليه الزبائن لأنهم لا يحتيجون إلى البضاعة الموجودة في حانوته. وعنده بعض البضاعة، هي: محاسن الأخلاق والصبر والشجاعة والصدق ونحوها. ولكن لا يحتاج إليها الجيل الجديد “وليست هذه البضائع من متطلباتهم وهو يقول:” فأصبحت هذه البضائع عتيقة بالية..لقد أضحت مودة قديمة لا تلائم نفوس هذه الأجيال..ولا تصلح لزعمائهم..ولا يقبل عليها إلا كل مجنون فقد عقله”[11]. ويتصور الكاتب في تلك الحالة رجلا ذا كل أخلاق حسنة، حتى كانت تصوره عن المجتمع الذي ممتلئ بمثل هولاء الناس وهو يقول على لسان التاجر: ” وليس عليك يا سيدي لكي تعلم حالتي وقد ذاك إلا أن تتصور رجلا يعيش بين الناس، ولا يكذب، ولا ينافق ولا يداهن، رجلا يصارح كل إنسان برأيه فيه..رجلا شجاعا لا يهاب أحدا..رجلا كريما يعطى البائسين ماله حتى يصير منهم..رجلا ذا مروؤة وتضحية يخلع ملابسه في الطريق ليقي بها طفلا عاريا أضر به البرد..هو مجنون بلا شك. وهكذا كنت أنا..لقد فررت من الناس بعد أن برموا بي وضجوا من أفعالي..لقد هربت من الدنيا بعد أن دفعتنى مروءتي إلى أن أطعم المتضورين جوعا..حتى تضورت أنا من الجوع.. وكسوت العريا حتى عريت..دون أن يحس بي إنسان، أو يرد جميلي أحد. وأخيرا يا سيدي عدت إلى حانوتي لأقبع بين أكايس البضاعة الخاسرة التي لا تسمن في هذا الزمن وال تغنى من جوع”[12]. في هذه الكلمات ليوسف السباعي نجد المشاكل التي يواجه المجتمع المصري في تلك الزمن والمشاكل التي يواجه البؤساء والضعفاء في المجتمع. ونجد فيه آراءه لإصلاح المجتمع من الأحوال المتأسفة ولإخراجهم من تلك المشاكل حيث يرى أن المجتمع وأفراده لا بد أن يتخذ ويتحسن بالأخلاق المذكورة هنا حتى لا يوجد نفاق ولا كذب في الحياة الفردية والاجتماعية ويوجد الشجاعة والمروءة والتضحية والتعاون بين الناس في حالات المجاعة والفقر.

لما وصل الحوار بينه وبين التاجر هنا يسأل الكاتب من ذلك الشيخ سؤالا عن عدم استخدام تلك الأدوية الأخلاقية الحسنة المحمودة لنفسه حتى يصبح سيّد المجتمع وزعيمهم، يجيبه عنه التاجر بأن مؤهلات قادة القوم وزعماءهم قد تغيرت الآن، وهو يقول: ” اسمعي يا سيدي.. إني أتوسم فيك الخير..وأشعر أنه حق علي أن أخلص لك النصح..وأصدقك القول..سأحدثك كصديق..لا كتاجر..سأحدثك حديث صديق مخلص مجرب، لقد تناولت من كل هذه البضاعة التي حولك. الشجاعة والعفة والمروءة والتضحية..الخ.. أوتظن أن هذا هو ما يدفع بالمرء إلى مرتبة الزعماء في هذا الزمن؟ هل تظن أن زعماء هذا الزمن يجب أن تتوفر فيهم هذه المزايا والأخلاق؟!”[13].

الكاتب يوسف السباعي ينقد في كل باب من أبواب الرواية فرقة من فرق مختلفة في الحياة الاجتماعية من العلماء والزعماء والبيروقراطيين والوزراء والتجار وحتى المتسولين. ينتقد أيضا من المؤسسات الاجتماعية من المحكمة الحكومة والصحافة والعلاقات الأسرية بأسلوبه الساخر. بعد مطالعة هذه الرواية من الممكن أن نقول أن الكاتب يوسف السباعي ليس كاتباً في مجال الكتابة النقدية والسخرية فحسب، بل هو كان فيلسوفا وكاتبا في تحليل سياسي واجتماعي، فما اكتفى بكتابة الرواية والقصص القصيرة كأي قصاص بل يتفاعل مع أعماله الأدبية ويحلل الموقف من أكثر من زاوية، فالأحداث التي يحكى عنها من بداية الكتاب إلى آخره من الممكن أن نفهمها من بعد أخلاقي اجتماعي، ولكن الروائي يوسف قد استعان بالتحاليل الاجتماعية السياسية والفلسفية في هذا الرواية ليخرج للقارئ نصًا كاملا من كل أبعادها.

يقول الكاتب عن الشجاعة وكيفية خوف البعض منها التي لو عمل أحد منهم بها لإصلاح النظام السياسي والاجتماعي. نجد الكاتب خلال محاورة له مع التاجر يأخذ بعضا من أدوية الشجاعة مرة ومن أدوية المروؤة مرة أخرى من حانوت الأخلاق. ولكنه يواجه من المشاكل والمعقدات بسبب أخلاقه المأخوذة من التاجر وهي الشجاعة والمروؤة. هنا يؤكد الكاتب ما له من المعتقدات عن المجتمع العام وعن رد أفعالهم من أخلاق الكاتب الجديدة ولو كانت من الأخلاق المحمودة. يؤكد أن هذه الحسنات من الأخلاق المحمودة لا يوفق مع عاداتهم وأفعالهم حتى سئموا في أخلاقه ويسخرون من أعماله وعاداته الجديدة التي لم يكن يروها فيه من قبل. حقا إن الكاتب كان ينتقد المجتمع بهذه الكلمات الحادة. فبعده ينتقد المجتمع بلسان الشيخ التاجر لما يقول التاجر للكاتب عن حانوت أخرى كانت بضعتها النفاق وكل الناس يطلبه ” واشتد الزحام حتى قتل من الناس خلق كثير. وأخيرا أصدر الحاكم أمره بإغلاق الحانوت، وبالاستيلاء على كل ما به من نفاق، وأضحى النفاق بذلك بضاعة حكومية، ووضعت الحكومة نظاما لتوزيعه بالبطاقات. ولكن المحسوبية تدخلت في الأمر ففاز الأنصار والمحاسيب بنصيب الأسد، وحرم سائر أفراد الشعب الذي ليسوا بالأنصار والمحاسب. وأخيرا ضج الشعب المحروم من النفاق، وطلب أن يأخذ نصيبه منه، ولكن البضاعة الباقية كانت من الضالة بحيث يستحيل توزيعها على الشعب، ففكر الحاكم في خير طريقة يوزعون بها الكمية الباقية بحيث يعطي كل إنسان نصيبه من النفاق. وانتهى بهم الأمر إلى حل معقول، وهو أن يقذفوا بكمية النفاق الباقية في النهر.فيلوثوا بها المياه وبذلك يحصل كل إنسان على شيء من النفاق، مهما قل فهو خير من لاشئ. وهكذا جرت مياههم بالنفاق، وسرى منها إلى كل شيء..سرى في النفوس التي لا غنى لأجسامها عن شرب مياه النفاق، وسرى إلى أراضيهم التي لا بد لها من السقيا بمياه النفاق”[14]. وهكذا قام في كل باب من أبواب الرواية بتحليل فني سياسي واجتماعي فلسفي لأحداث الرواية الخيالية أشخاصا ومواقفا ولكن كلها واقعية أحداثا لزمنه.

فقد تعرضت كل طبقات من الناس لانتقاداته في أعماله الأدبية، حتى المستضعفين من الناس مثلا الشحاد. يقول عن التساؤل بأن الجمهور من المتسولين قد اتخذوا الشحاذة عملا يوميا كالأعمال الأخرى للتكسب لا على فقرهم في الحياة أو عجزهم عن أعمال أخرى. فيصور الكاتب الشحاذة فنّا كسائر الفنون. يقول:” وأكد لي أن المسألة ليست سهلة كما أظن.. بل إنه يستطيع أن يجزم أن التسوّل هو الشيء الوحيد الذي يقوم في مصر على أساس متين لا ارتجال فيه.. وهو من أنجح المشروعات المصرية كافة”[15]. وأيضا يقول :” إن من الخطأ أن نسميهم شحادين لأنهم شركة مساهمة”[16]. تعتبر هذه الكلمات انتقادات حادة تجاه الشحاذ. وما نسي الكاتب أن يذكر عن الجانب الأخرى من المستضعفين فيرى هؤلاء من يستحقون المساعدات المالية من قبل المجتمع أكثر ممن لا يستحقونها وهم المنافقون من المتسولين. يقول الكاتب : “إن هناك الملايين، ممن يستحقون العون، ولا يجسرون على أن يمدوا أيديهم للسؤال..أولئك الذين فقدوا كل شيء..إلا ماء وجوههم..والذين أضاعوا كل ما يملكون..إلا كرامتهم”[17]. لا شك أن آراء يوسف السباعي عن الحياة الاجتماعية هي حادة وفلسفية ونقدية يتعرض فيه كل ما حوله من الناس والمواضيع التي تتعلق بالحياة الاجتماعية العامة.

بعد هذه الفصول الأولى للرواية يصور الكاتب عن سلبيات القوم من قلوبهم النفاق بعد أن شربوا ماء النيل الذي يخلط فيه مسحوق “داء الأخلاق”- الذي كان من بضائع في حانوت تاجر الأخلاق. فهنا يبين الكاتب بكلماته الساخرة حال الفرق المتعددة في المجتمع لما يتبن النفاق في كلامهم. فمثلا كلام الخطيب في اليوم الجمعة، والمرشح في احتفال الانتخابات, والصحيفة عند خطاب القرآء وغيرها.

يبين الكاتب عن حال امرأة التي كانت تعبر عن فرحها في وفاة شريكها وأيضا تعبر فرحها في العثور على أمواله. فهذا حدثت بسبب شربها من ماء الأخلاق من النيل. يقول الكاتب هذا بأسلوب ساخر لتوضيح العلاقات الأسرية الغير الخالصة. فبعد هذا يكتب عن الخطيب الذي كان يخطب في يوم الجمعة بلسان حادّ إلى المخاطبين الذين شربوا ماء الأخلاق من النيل. يقول السباعي بلسان الخطيب:” هل تصدقون أن هذه الخطبة التي ألقيتها عليكم قد نقلتها عن خطبة قلتها قبل ذلك خمس مرات..؟! لا تلوموني.. فأنا منكم.. منافق بين منافقين.. أو هكذا كنت، حتى أحسست فجأة بعد أن انتهيت من خطبتي أن كل ما بي من نفاق قد تطاير وتبدّد. عباد الله..إن في عمامتي وفي صدري..فصوصا من السخائم سأقذف بها قبل أن أقيم الصلاة”[18]. قد حاول السباعي هنا أن يوضح عن عدم الالتزام بالإخلاص في العبادات الدينية بدون الخشوع وعدم استعادتهم ليكونوا ربانيين في الحياة الدنيا. خلال هذه الحروف يقول السباعي أن للدين دورا هاما في إصلاح المجتمع أو في بناء مجتمع صحيح.

يوضح الكاتب يوسف عن الخطب للمرشحين أمام المجتمع في حفلاتهم الانتخابية، وهؤلاء المرشحين كانوا ممن أصيبوا بداء الأخلاق. فبسبب هذا أظهروا ما في قلوبهم من النفاق والخيانة والخداع أمام الناس. يقول الكاتب في كلماته الساخر بلسان مرشح منهم: “أنا رجل جاهل، ولا أدعي قط علما بالسياسة..ولكني مع ذلك أعرف أن أبسط طرق الوحدة أو الاتحاد بين فردين أو جماعتين… إن هدفي الأول من دخول مجلس النواب هو أن أصبح نائبا محترما، وأن يقال لي حضرة النائب المحترم… أيها الناخبون الكرام، أنتم كرام حتى تنتخبوني.. فإذا ما فزت في المعركة فأنتم أوغاد لئام.. يا كلاب.. يا أولاد الكلاب لا من لي من تملقكم وخطب ودكم ومجاملتكم ورشوتكم بالطعام والنقود والخطب والوعود حتي تجعلوني نائباً… فإذا ما جعلتموني… فاغربوا عن وجهي فما عادت بي إليكم حاجة… إياكم أن تكونوا حسني النية فتسألوني الوفاء بالوعود… إياكم أن تطلبوا مني التوسط في قضاء حاجتكم فإني أؤكد لكم أني لن أجد من وقتي فُسحه لسماع سخافاتكم. أيها الرعاع الحوش… لقد ذبحت لكم عجلاً… أنزله الله في جوفكم بالسم الهاري… وأطعمتكم “فتة” جعلها الله في بطونكم ناراً كاوية… أنتم قوم لا تتحركون إلا للمنفعة… منفعة الجيوب أو البطون.أيها الناخبون اللئام…لِمَ نضحك علي بعضنا ؟؟! لِمَ لا نكون صُرحاء فنكُف عن هذا الخداع ؟ أنتم سفلة, وأنا أشد منكم سفالة. أنتم خُبثاء أشرار, وأنا أكثر منكم خُبثاً وشراً… أنتم نفعيون, وأنا بلا مبادئ… ما الداعي إذن لأن نتشدق بهذه الخُطب الرنانة, وبوحدة وادي النيل, ورفع مستوي المعيشة, وغير ذلك من الأقوال البرّاقة الخدّاعة !؟ أنا أُريد أن أكون نائباً , وأنتم تستيطعون أن تعطوني ما أريد… المسألة لا تزيد عن أن تكون مُجرد صفقة”[19].

يقول الكاتب عن الأحوال السياسية الاجتماعية لتلك الفترة. كان السياسيون في أسوء الحال ويخفئون خيانتهم وطبائعم ويظهرون ما في ظواهرهم بأقوالهم وأعمالهم. فلما تذوق السياسيون ماء النيل المختلط بالماء المسحوق من داء الأخلاق بدأوا يظهرون ما أخفوا على الناس من أخلاقهم الأصلية. هنا يسخر الكاتب من النظام السياسي في تلك الفترة.

وفي آخر فصل من الرواية يبين عن النفاق في مجال الصحافة في أسلوب ساخر وينعكس النفاق في رأيهم حين يتحدث مع القرآء في مقدمة صحيفة :” “أيها القراء المخدوعون.. إن هدف الصحيفة الأول، أية صحيفة، ليس الوطنية ولا الثقافة ولا خدمة الشعب ولا حرّية الرأي…… ولا شيء أبدا من كل هذه الخزعبلات، إن هدف الصحيفة الأول هو بيع الصحيفة هو المكسب، هو أكل العيش”[20].

خاتمة:

فبالجملة، كان أعمال يوسف السباعي الأبية قد عالجت القضايا الاجتماعية والسياسية بذكر شامل عن مختلف طبقات المجتمع أحولها وذكر عن أمراض المجتمع ومشاكلها وبشكل ساخر، وكان رواية أرض النفاق من أجمل الإبداعات ليوسف لسباعي سردا وأحسنها علاجا للمشاكل المجتمع. في كل باب من أبواب هذا العمل الأدبي يقدم الكاتب أيا من الموضوعات الاجتماعية التي لا بد من سخرية منها خلال الألفاظ والسطور.

References:

1. Emad El-Din, Issa, Youssef El-Sebaei – The Philosophy of a Pen and Life, 1st Edition – 1999 AD, Book Authority, Cairo

2. Amin Taha, Numan: Irony in Arabic Literature, Dar Al Tawfiqia, Cairo, 1979

3. The Devils Club – Taha Hussein – Al-Azhar Magazine – Muharram Issue 1428 AH – February 2007 – Part 1

4. Whisper of Madness – Naguib Mahfouz – a collection of short stories – 1938 – Cairo – Egypt.

5. Yaqoub Lucy, Youssef Al Sibai Fares Romance and Realism

6. Wahid, Aladdin, Youssef El Sebaei, Days and Nights

7. Sibai, Youssef, Land of Hypocrisyاله

الهوامش والإحالات


[1]. عماد الدين، عيسى ، يوسف السباعى- فلسفة قلم وحياة ، ط1ـ 1999م ، هيئة الكتاب ، القاهرة ، ص 87

[2]. أمين طه، نعمان: السخرية في الأدب العربي، دار التوفيقية، القاهرة، 1979، ص 14

[3]. نادى الشياطين – طه حسين – مجلة الأزهر – عدد المحرم 1428 هـ – فبراير 2007 – جزء 1 السنة (80) – (صـ 120، – صـ 123).

[4]. إبراهيم عبد القادر المازنى (1989 – 1949) كاتب ساخر من مؤلفاته صندوق الدنيا، خيوط العنكبوت، وحصاد الهشيم، وعود على بدء.

[5]. همس الجنون – نجيب محفوظ – مجموعة قصص قصيرة – 1938 – القاهرة – مصر.

[6] . يعقوب لوسي ، يوسف السباعي فارس الرومانسية والواقعية ، مرجع سابق ، ص 66

[7] . وحيد، علاء الدين ، يوسف السباعي الأيام والليالي، مرجع سابق ، ص 246

[8]. السباعي، يوسف ، أرض النفاق، مرجع سابق، ص6

[9]. المرجع السابق ، ص283

[10]. المرجع السابق، ص14

[11]. المرجع السابق، ص22

[12]. المرجع السابق، ص23

[13]. المرجع السابق، ص 22

[14]. المرجع السابق، ص24

[15]. المرجع السابق، ص21

[16]. المرجع السابق، ص132

[17]. المرجع السابق، ص136

[18]. المرجع السابق ، ص226، 227

[19]. المرجع السابق، ص223، 224

[20]. المرجع السابق، ص252

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *